نهاية الذكريات
- مشهد (١): دَمٌ يسيل، رائحة موت في كل مكان، شخص يتسلق لافتةَ إعلانات ضخمة يُهَدِّدُ بالانتحار، بعد دقائق يترنح جسده جِيئةً وذهابًا من حبل معلَّق في اللافتة العالية. في الأسفل ترتفع عشرات الأيدي تراقب ما يحدث عَبْر شاشات الهواتف التي تُسَجِّلُ ما حدث وما يحدث بالصوت والصورة، كأن الموت الذي زكم الأنوف في عالم آخر، في زمان آخر، في مكان موازٍ، تفصله عن الزمان والمكان والعالم شاشةُ الهاتف المحمول.
- مشهد (٢): طقسٌ عائليٌّ جميلٌ، ثلاثة أبناء يتحلَّقون حول أبٍ وأمٍّ يقلِّبان ألبومًا للصور، يتذكَّران تاريخَ كلِّ صورة، مكانَ التقاطها، حكايةَ كلِّ ضحكة، نكتةً عن كل انحناءة غريبة، أسماءَ الموجودين في الصور ومصائرَهم. تتوالى اللقطات لتحكي تاريخ عائلة وأصدقاء في محطات واضحة حدَّدَتها نظرةُ الكاميرا، تتقاطرُ الحكايات مثل عربات قطارٍ ملوَّنٍ لا ينتهي، شغفٌ بلا نهاية يجعل العائلة تلتفُّ كل فترة حول الألبوم لتستعيد الحكايات والذكريات.
ما بين المشهدين؛ الأول والثاني، تقف الإنسانية عاجزةً الآن ولا تعرف ماذا تفعل؛ فلَم تَعُد الصورة ذاكرة إضافية للإنسان، تحفظ له بعض الذكريات السعيدة من النسيان، تهوِّن عليه مُرَّ الأيام كلما عاد إليها لتَذَكُّرِهَا؛ فالكاميرا التي أصبحت في كل هاتف في يَدِ كل شخص تقريبًا، امتهنت هذه الذكريات السعيدة، ليس هذا فقط، بل حوَّلت «اللَّقطة» — مع كثرتها — إلى مجرَّد حدثٍ عاديٍّ، لا يستحق الاحتفال.
قبل عشرة أعوام لم يكن الأمر هكذا، كان ثمة طقس بين الأصدقاء في المناسبات، وبين الأسرة في الأوقات التي يُراد إضافتها إلى أرشيف العائلة، يتطلَّب الذهابُ إلى «استوديو التصوير» ارتداءَ أجمل ما لديهم، الوقوفَ في وضعيات خاصة يطلبها المصوِّر، الذي يقترب كي يعدل انحناءة رقبة، أو يغيِّر اتجاه نظرة، أو يرفع خصلة شعر سقطت من مكانها، أو يضبط ياقة قميص، ثم يعود مرة أخرى إلى مكانه، يقول كلمة أو كلمتين، يرفع يده، ويضم إصبعًا، ثم الثانية، ثم الثالثة، ثم يضيء المكان بضوء الكاميرا المُبهِر. يضحك الجميع، ويبتسم المصوِّر الذي يقِف بين مظلتين، وفي يده كاميرا، كأنه صانع بهجة من نوع خاص، ومن عالم آخر.
تراجع كل ذلك، قلَّ المارُّون أمام استوديوهات التصوير، أصبحت المهنة بالنسبة للعاملين فيها «قليلة الرزق»، مجرد تصوير أفراح قليلة، وصور صغيرة للجهات الحكومية. «السيلفي» الآن في كل يد، في كل مكان، على المقهى، في الجامعة، في الحافلة، في الطريق، في السرير، في المقابر. «السيلفي» يلتهم الرُّوح، يلتهم جمال الإنسانية، لكن لا شيء يوقف «السيلفي» الذي تأتي صوره من البر والبحر والفضاء وكل مكان.
أفقدت الصورُ المتتاليةُ الكثيرةُ الناسَ الإحساسَ بالحدث، أفقدتهم الشعور بالسعادة بما يحدث؛ لأنهم يهتمون بتوثيق الصورة أكثر من اهتمامهم بالحدث نفسه، يهتمون بصورة جميلة يضعونها على «فيس بوك» تجلب الإعجابات والتعليقات أكثر من أي شيء آخر، كأنَّ كل شيء يحدث من أجل هذه الصورة ليس أكثر.
تعلَّمنا في الصحافة أنَّ الصورة أحيانًا تكون خيرًا من ألف كلمة، لكن مع هذا الكم الهائل من الصور يقول العلماء إنها تساعد على ألزهايمر، تلتهم الذاكرة؛ لأنه استعاض عن ذاكرته بذاكرة الهاتف وذاكرة الكمبيوتر.
الإشكالية الحقيقية هنا هي أنه لن نشعر بالحنين فيما بعدُ لأي شيء؛ لأن كل اللحظات تساوَتْ في الصور، لأن كل شيء أصبح متاحًا في الذاكرة الاصطناعية. الأمر لا يتعلق بالصورة فقط، بل بالفيديو الذي يحمله موقع «يوتيوب» على كتفيه، كل شيء أصبح متاحًا، لن نشعر بالحنين فيما بعدُ إلى أغنية قديمة أو جديدة، إلى برنامج عُرِضَ من عام أو عشرة، لن تكون هناك «نوستالجيا»؛ فكل شيء تحت أيدينا، بضغطة زر؛ ضغطة واحدة، ويأتي كل ما نريده. ما حاجتك إلى ذاكرتك إذن؟! ما حاجتك إلى ذكرياتك؟! ما حاجتك إلى الذهاب إلى استوديو للتصوير؟! ما حاجتك إلى جلسة عائلية حول ألبوم صور؟! ما حاجتك إلى ألبوم صور أصلًا؟! ضَعْ ما تريده في خانة البحث وجِدْ ما تريده، لكن حاذِرْ من الفوضى؛ فوضى كراكيب الذكريات، التي يلتهم بعضُها بعضًا، فماذا تفعل تفاحة فاسدة في جوال تفاحٍ طيِّبٍ؟!
تتسارع وتيرة الزمن، ويغدو ما حدث من عام — مع كثرة ما مَرَّ، مع كثرة مقاطع الفيديو والصور — كأنَّه مرَّ من زمنٍ بعيدٍ، يُضحي تاريخًا، يأكل التاريخ بعضه، ولا يتبقَّى أي شيء.
هل أنا غاضب من التكنولوجيا؟ هل أنا ناقم على الصور؟ لست غاضبًا ولا ناقمًا، لكن ما زاد عن حدِّه انقلب إلى ضدِّه. فتِّشْ عن إنسانيتك، وتمسَّكْ بها.