في انتظار الوباء القادم
خَفَتَ الحديث عن وَباء «إيبولا» قليلًا، بعد أن ظل قُرابة العام يحصد الأرواح وينشر الرعب في أفريقيا وفي العالم الذي لم يحدَّد بعدُ كيف سينتهي: بالحروب أم بالأوبئة.
لكن «خفوت» الحديث عن «إيبولا» لا يعني انتهاء الوباء الذي تَسلَّم الراية من وباء سبقه هو «فيروس كورونا»، وسبقه «إنفلونزا الخنازير»، ومن قبله «إنفلونزا الطيور»، وقبله «جنون البقر»، وقبله «الإيدز»، وهكذا لا تسقط الراية أبدًا، بل تنتقل من فيروس إلى آخر، من وباء إلى آخر أشد فتكًا. وحسب الإحصائيات الحديثة، فإن ما يقرُب من الأربعين نوعًا من الأمراض المعدية الجديدة أطلَّت على العالم خلال الثلاثين سنة الماضية لأول مرة.
لكن يبدو أن الوباء القادم هو الأعنف، وعلى العالم أن يجهِّز نفسه له؛ ففي رسالة وجَّهها أحد كبار رجال المعلوماتية في العالم؛ مؤسس شركة مايكروسوفت بيل جيتس — قبل أيام — إلى العالم، حذَّر من الموجة القادمة من الأوبئة، ومن الكارثة التي سوف تحملها موجة عالميَّة مقبلة من العدوى؛ استنادًا إلى دروس «إيبولا».
جيتس كان شريكًا في «صندوق ميلندا وبيل جيتس»، واستنادًا إلى تجربته في هذا الصندوق قال: إن موجة «إيبولا» أثبتت أنه ما لم يتأهَّب العالم بشكل مناسب؛ فالكارثة التي تُسبِّبها عدوى ما في المستقبل ستكون فادحة تمامًا، مُذكِّرًا بأن وباء الإنفلونزا قضى على قرابة ٣٠ مليونًا بين عامي ١٩١٨ و١٩٢٠.
لكن لماذا هناك موجة جديدة من الأوبئة، رغم ما وصل إليه الطب من تقدُّم، ورغم ما وصل إليه العالم من علم وتكنولوجيا، ورغم أن أسباب الأوبئة القديمة، من انعدام الرعاية الصحية، لم تَعُدْ موجودة؟ ستجد ألف مقال وكتاب يجيبك عن هذا السؤال بأن هناك مَن يصنع الأوبئة في سباق الحرب على الثراء والسيطرة. وسواء أكنت ممَّن يؤمنون بنظرية المؤامرة أم لا، فالأمر في حاجة إلى التفكير بالفعل في الأسباب التي يُبديها من يتَّهمون أجهزة مخابرات وشركات أدوية ودولًا بخلق أجيال فيروسات جديدة، وأسلحة بيولوجية وجرثومية، مُدلِّلين — على سبيل المثال — بما تَردَّد عمَّا يسمى «الجمرة الخبيثة»، عقب أحداث ١١ سبتمبر الشهيرة، والتي كما بدأ الكلام عنها فجأةً خفَتَ فجأةً أيضًا.
لكنْ بغَضِّ النظر عن نظرية المؤامرة، وصحة هذا من عدمه، فإن ما أعتقده هو أن صناعة الأوبئة في عصرنا الحاضر هي صناعة بشرية، حتى وإن كانت بشكل غير مقصود؛ فهناك من يرى أن هناك آثارًا خطيرة للتلوُّث الصناعي، وتداعيات هائلة سبَّبَتْها الشركات الرأسمالية المتوحشة؛ لذلك فمن الطبيعي أن يحدث تلوُّث يؤدي إلى انتشار الأوبئة والأمراض الغريبة، كما أن هناك من يرى أسباب انتشار الأوبئة القديمة قد عادت مع عودة الحروب بشكلها الهمجي، وتهجير ملايين الأشخاص من بيوتهم، وما يتبع ذلك من فقر وجوع، وانهيار للنظام الصحي الكفيل برعايتهم، بل انعدامه تمامًا، وهو ما يؤدي بشكل تلقائي إلى انتشار الأوبئة. وهنا أيضًا لا يمكن أن نبرئ الأسلحة الكيماوية وما تسبِّبه.
ترتبط الأوبئة بالفقر، ويرتبط الفقر بالحروب بشكل أو بآخر، وهذا يستحضر أسباب الأوبئة الأولى مرة أخرى، ويخلق بيئة حاضنة لها. وربما ما لا يدركه «المتورطون» في صناعة الأوبئة — بإرادتهم أو من دون إرادتهم — أن الموت الناجم عن وباء لا ينتقي أحدًا؛ فيكفي أن ينتقل مريض حاضن للفيروس في طائرة من قرية فقيرة بأفريقيا إلى أحد أغنى أحياء نيويورك لينتشر الوباء. ويُذكِّر هذا برواية «الطاعون» لألبير كامو؛ حيث تنتشر الجرذان الميتة في كل مكان في مقدمة الرواية، في مشهد مخيف، وعندما يصيب الوباء «البَوَّابِينَ» يظن سكان المدينة أنه يُصيب الفقراء فقط، لكن الطاعون ينتشر ويتمدد ويقتل، ولا يفرق بين أحد.
في موسوعته المهمة «قصة الحضارة»، يشير «ويل ديورانت» تحت عنوان «الموت الأسود» إلى أن «وباء الطاعون حدثٌ مألوف في تاريخ العصور الوسطى؛ فقد أزعج أوروبا اثنتين وثلاثين سنة من القرن الرابع عشر، وإحدى وأربعين سنة من الخامس عشر، وثلاثين سنة من السادس عشر، وهكذا تعاونت الطبيعة وجهْل الإنسان.» لكن رغم تقدم الإنسان، فإنه لم يقضِ على الأوبئة، بل صار يصنعها؛ تارة بشكل مقصود، وتارة بجهله وإصراره على الدفع بالحياة إلى فوهة نهاية العالم بإشعال الحروب، وكأن هناك سباقًا مقصودًا: مَن الذي سينهي العالم أولًا؛ الحروب أم الأوبئة؟ رغم أن الإجابة واحدة: الإنسان الذي يصنعهما؛ فإحداهما صارت ناجمة عن الأخرى.