مقدمة
إذا أذن الكاتب لنفسه أنْ يتحدث إلى الناس، أو وجد الكاتب من نفسه الشجاعة على أنْ يتحدث إليهم، فمن الحق عليه لآرائه التي يذيعها، وخواطره التي يقيدها أنْ تصل هذه الآراء والخواطر إلى أضخم عدد ممكن من القراء، لا في الوقت الذي تكتب فيه فحسب، بل فيه وفيما يليه من الأوقات.
فلست أدري لِمَ أذيع الرأي في ألف ولا أذيعه في آلاف؟ ولست أدري لِمَ أعلن الرأي في بيئة دون بيئة؟ وأقدمه إلى جيل دون جيل؟ ولا سيما إذا مضت الأيام، وتعاقبت الأعوام وأنا مقيم على هذا الرأي، لم أتحول عنه ولم أستبدل به رأيًا آخر.
وإذا كنت أرى أنَّ هذا الرأي حقٌّ، أو أنَّ فيه خيرًا قليلًا أو كثيرًا فقد يصبح حقًّا عليَّ للناس أنْ أطالعهم بهذا الرأي، وأنْ أظهرهم عليه؛ لأن أول ما يجب على الكاتب أنْ يؤثر الناس بالخير، ويختصهم بما يعتقد أنَّ فيه لهم نفعًا، وإذن فلن أتردد في إذاعة هذه الفصول التي نشرت في صحف مختلفة، وفي أوقات مختلفة، وفي ظروف متباينة. نُشر بعضها في السياسة، وبعضها في الجديد، وبعضها في المقتطف، وبعضها في الهلال، ونشر أقدمها منذ عشر سنين، وأحدثها في السنة الماضية، ونشر بعضها وأنا أجاهد الشعراء وأخاصمهم، ونشر بعضها الآخر بعد أن استأثر الله بشاعرينا العظيمين حافظ وشوقي، فبطل الجهاد وزالت الخصومة، ولم يبق لهما في نفسي إلَّا المودة والذكرى والميل إلى الإنصاف.
لن أتردد في جمع هذه الفصول وإذاعتها بين الناس في كتاب، وإنْ كانت قد نشرت، وإنْ كان من الكتاب من يضيق بمثل هذه الأسفار، التي يجمع فيها أصحابها ما نشروا من فصول، ويرى أنَّ هذا النوع من الكتب أشبه بالحديث المعاد.
وقد قرأت هذه الفصول بعد وفاة حافظ وشوقي — رحمهما الله — فرأيت أني مازلت الآن عند الآراء التي أذعتها فيها على مضيِّ الوقت واختلاف الظروف، فلم أرَ بأسًا من أنْ أجمعها وأعيد إذاعتها مستعدًّا أحسن الاستعداد للنضال عنها والذود دونها، والرجوع عن بعضها إنْ تفضل بعض النقاد فأظهرني على أنَّ فيها جورًا عن القصد أو انحرافًا عن الحق.
وإذا كان الذين قرءوا هذه الفصول متفرقة يزهدون في قراءتها مجتمعة فإني أهدي هذه الفصول إلى شبابنا الذين لم يقرءوها أو لم يقرءوا أكثرها، وأرجو أنْ يجدوا في قراءتها ما قصدت إليه حين كتبتها وحين جمعتها من إثارة الميل القومي إلى درس الأدب والعناية به، وتقوية الذوق الفني وتوجيهه هذا الوجه الجديد الذي يلائم حياتنا وآمالنا ومثلنا العليا في هذا العصر الذي نعيش فيه.