الأدب الجديد
لم تظهر حاجة الأدب إلى النظام في يوم من أيام هذا العصر الحديث ظهورها الآن، فقد كان الأدب العربي أول هذا العصر مطمئنًّا إلى حظه راضيًا بحاله، مؤمنًا بأنه يرضي حاجة الناس إلى الجمال الفني في الكلام، قانعًا أيضًا بما كان بينه وبين الأدب العربي المنحط من صلة، مقتنعًا بأن هذا الأدب العربي المنحط أرقى أنواع الأدب، وأدناها إلى المثل الأعلى للجمال الفني البياني.
وكان الكُتَّاب والشعراء — أول القرن الماضي وأثناءه — يرون أنهم قد أدَّوا ما عليهم من حق البيان إذا أرادوا هذه الجمل والألفاظ التي كانوا يديرونها على نحو من البديع مألوف، فيه جناس وطباق، وفيه استعارة ومجاز، وفيه إشارة ورمز إلى أنحاء من المعنى تخطر لهم، وقلَّ أنْ تخطر لغيرهم من الناس.
وكان الناس يطمئنون إلى هذا النحو من الأدب تقبل عليه الخاصة، وتنصرف عنه العامة إلى أزجالها ومواويلها، وإلى قصصها وأحاديثها، وكانت الحياة الغربية الجديدة تتخلص إلى مصر وسوريا في شيء من الرفق والدعة حينًا، وفي شيء من العنف والشدة حينًا آخر، وما هي إلَّا أنْ اجتهد هذا القرن التاسع عشر حتى كانت الحياة الغربية قد وصلت إلى طائفة من الناس، فأثرت بعض التأثير في عقولهم، وعجزت عن أنْ تؤثر في شعورهم وعواطفهم، فكانت حياة عقلية فيها شيء من الجدَّة، وفيها ميل إلى الخروج على القديم، وكان اندفاع يختلف قوة وضعفًا إلى العلم باختلاف الظروف وأطوار الحياة الفردية والاجتماعية، وأُنشئت مدارس وظهرت صحف وترجمت كتب، ولكن الأدب ظل كما هو قديمًا أو متينَ الاتصال بالقديم، وظلت لغة الشعر والنثر كما كانت، قريبة إلى العامية، متأثرة بفنون البيان والبديع؛ حين تحاول البعد عن هذه اللغة العامية، بينما كان الطب وغيره من العلوم والفنون الحديثة يتطور مسرعًا إلى التجديد.
ولكن المطبعة أخذت في هذا العصر تحدث في مصر والشرق أثرًا كالذي أحدثته في أوروبا إبَّان النهضة الأوروبية منذ قرون، فظهرت كتب قديمة في الدين والأدب واللغة والنحو وما إليها، وعرف الناس أنَّ حظ اللغة العربية من إنتاج العقل والشعور والبحث والانفعال أكثر مما كانوا يظنون، وأنَّ وراء هذه الكتب الجامدة المعدودة — التي كانوا يستظهرونها في الأزهر — كتبًا أخرى كثيرة، فيها حياة وقوة، وفيها جمال عقلي وفني لم يكن لهم به عهد من قبل، فأخذوا يقرءون، وما هي إلَّا أنْ تأثروا بما كانوا يقرءون، وما هي إلَّا أنْ ظهرت آثار هذه القراءة في طريقتين متوازيتين، ولكنهما على ذلك مختلفتان، ظهرت هذه الآثار في الأزهر حين عرفت الكتب القديمة في اللغة والدين، وفي التفسير والحديث، والكلام والفلسفة بنوع خاص؛ فاضطرب إيمان الأزهريين بالكتب القائمة والعلم المألوف، وأخذوا في ثورة — على تلك النظم وهذا العلم — لم تزل قائمة، ولم تظهر ثمرتها في الأزهر بعدُ، وظهرت بعيدًا عن الأزهر في أذواق الكُتَّاب والشعراء وطائفة من القراء، حين قرءوا طائفة من الشعر القديم جاهليِّه وأمويِّه وعباسيِّه، وحين قرءوا طائفة من كتب الأدب التي ظهرت أيام العباسيين، فرأوا في هذا كله قربًا من الطبيعة، وبعدًا من التكلف، ورأوا في هذا كله حياة للحس والعاطفة والعقل، وأحسوا بُعد ما بين هذا النحو من الأدب الحيِّ، وبين ما ألفوه من هذا الأدب الميت، كما أحسوا أنَّ هذا الأدب القديم الحي أقرب إلى نفوسهم وأقدر على تمثيل عواطفهم، وتصوير شعورهم من هذا الأدب الجديد الميت، الذي لا يمثل إلَّا قدرة أصحابه على جمع الألفاظ وتفريقها، والملاءمة بينها حسب طرائق البديع، دون أنْ تمثل هذه الألفاظ المجموعة أو المتفرقة، والملتئمة أو المختلفة حركة قلب من القلوب، أو شعور نفس من النفوس، ودون أنْ تتصل هذه الألفاظ بقلوب القراء ونفوسهم؛ إذ كانت لم تصدر عن قلوب الأدباء ولا نفوسهم.
فأخذَ الذوق يتغير، وكان تغيره قويًا؛ ظهر في مظهرين مختلفين: أحدهما إيثار اللغة العامية على لغة الأدب العصري، والآخر إيثار اللغة القديمة والأساليب القديمة على لغة هذا العصر وأساليبه، ورأينا رجلًا كعثمان جلال قد أعجبه الأدب الفرنسي، وأراد أنْ ينقل إلى قومه صورًا منه، ولم يكن من الأدب القديم على حظ قوي، ورأى أنَّ الأدب العصري أدنى إلى الموت من أنْ يحتمل هذا الأدب الفرنسي الحي فيترجم لقومه، أو قل ينقل إلى قومه تمثيل موليير في الزجل العامي لا في الشعر العربي. ورأينا شعراء يتحللون من قيود البديع، وينصرفون الانصراف كله عن الفنون التي ألِفها الشعراء في عصرهم، ثم يفترقون؛ فمنهم من يتجه إلى اللغة العامية، فإذا هو ينظم فيها الزجل والموَّال، ومنهم من يتجه إلى اللغة العربية القديمة، فإذا هو ينظم فيها الشعر متأثرًا شعراء الجاهلية والإسلام والعصر العباسي. وكان النثر يساير الشعر في هذه الحركة، ولكن تطوره كان بطيئًا؛ كان أبطأ من تطور الشعر، فكان الكُتَّاب يعتمدون على اللغة العامية، وكانوا يعتمدون على اللغة القديمة الفصحى، ولكنهم كانوا يجدون مشقة شديدة في التخلص من قيود السجع والبديع، ومن ضروب خاصة فُرضت عليهم في التعبير فرضًا، فلم يكن اطِّراحها يسيرًا عليهم.
كذلك ظهر شعر البارودي آخر القرن الماضي وأول هذا القرن؛ عربيًّا فصيحًا حرًّا طليقًا، بينما كان نثر الشيخ محمد عبده مضطربًا بين فصاحة النثر القديم ورِكَّة النثر الحديث، مترددًا بين حرية القدماء ورق المحدثين، ورأينا المتأخرين المحافظين في النثر قد عمَّروا حتى أول هذا القرن، ولم يخلصوا من قيد السجع والبديع إلَّا بعد أنْ طغى عليهم سيل هذه النهضة الحديثة التي ظهرت عنيفة بعد الحرب الكبرى. وما نزال نرى إلى الآن طائفة من الكُتَّاب الناثرين قليلين، ولكنهم موجودون يكتبون، فيسجعون ويخضعون لقيود البديع وأغلاله خضوعًا منكرًا، بينما أفلت الشعراء إفلاتًا تامًّا من قيود البديع وأغلاله، فلا نكاد نرى شاعرًا مصريًّا في هذا العصر يتقيد به أو يخضع له.
تغيرَ الذوق الأدبي إذن بفضل المطبعة، واندفع الكُتَّاب والشعراء إلى نحوٍ آخر من النثر والشعر لم يكن مألوفًا من قبل، ولكن الكُتَّاب والشعراء اندفعوا في طريقين متعاكستين تعاكسًا تامًّا؛ فأمَّا الكُتَّاب فجروا إلى الأمام وتخلف منهم فريق، وأما الشعراء فجروا إلى وراء، ولم يكد يتخلف منهم أحد، ومن هنا كان النثر العربي في هذا العصر جديدًا كله أو كالجديد، وكان الشعر العربي في هذا العصر قديمًا كله أو كالقديم، ومن هنا كثرت معارضة البارودي، وشوقي، وصبري، وحافظ لفحول الجاهلية والإسلام في الشرق والغرب، ولم يكثر بين الكُتَّاب الناثرين من تأثر بعبد الحميد أو ابن المقفع أو الجاحظ، فإن وجد منهم من تأثر بهؤلاء الكُتَّاب فهم قليلون، وتأثرهم ضيق محدود، لا يلبث أنْ يزول، ويقوم مقامه تأثر بكُتَّاب آخرين ليسوا من العرب وآدابهم في شيء.
وُجد بين الكُتَّاب والخطباء في هذا العصر من حاول أنْ يكون جاحظيَّ النزعة أو مقفعي الأسلوب، أو مقتديًا بعلي وزياد والحجاج في الخطابة، ولكن هذه المحاولة كانت طورًا من أطوار حياتهم الفنية لا أكثر ولا أقل، فما لبثوا أنْ اندفعوا في تقليد الكُتَّاب الغربيين والخطباء الغربيين، فبعد الأمد بينهم وبين مثلهم القديمة، ولم يوجد أو قل لم يكن يوجد بين الشعراء من حاول أنْ يتأثر فكتور هوجو، أو لامارتين، أو بيرون، أو جوت، بل في الأمر شيء من العجب، فبين كتابنا الناثرين من تأثروا هؤلاء الشعراء الغربيين، وحاولوا تقليدهم في النثر، كما حاولوا تقليد الكُتَّاب والخطباء من أهل الغرب.
ولعل من الخير والحقِّ أنْ ننصف الشعراء، فنلاحظ أنهم كانوا مضطرين إلى أنْ يتأثروا بالقديم أول الأمر؛ لأن هذا التأثر بالقديم في نفسه دليل على الحياة والقوة والقدرة على البقاء والجهاد. هو دليل على أنَّ لهذا الأدب العربي ماضيًا خصبًا فيه غناء، وفيه قدرة على الحياة ومغالبة العصور، وفيه قوة على أنْ يعيش، ويعبِّر بأساليبه وأنماطه القديمة عن طائفة من أنحاء الحياة الجديدة مضت بينه وبينها قرون طوال، ثم إنَّ الكُتَّاب والخطباء كانوا بحكم فن الكتابة والخطابة نفسه متصلين بالحياة الاجتماعية اليومية، وحياتنا الاجتماعية اليومية متطورة سريعة التطور، متحركة قوية الحركة، فلم يكن بد للكتابة والخطابة من أن تتبعاها في تطورها السريع وحركتها القوية، بينما أرادت حياتنا الأدبية أنْ يكون الشعر زينة ولهوًا لا تتصل بحياة اليوم، ولا تظهر إلَّا من حين إلى حين عندما تدعو إلى ظهورها حاجة قوية، أو ضرورة ماسة. فالشعر غير مكره على السير السريع، ولا على الحركة الحثيثة، فليس غريبًا أنْ يسرع النثر ويبطئ الشعر.
نعم، ولكن النثر لم يدفعه إلى السرعة اتصالنا بحياتنا الاجتماعية اليومية وحده، وإنما دفعه إلى هذه السرعة أيضًا نشاط الكُتَّاب، واتصالهم بحياة الشرق والغرب، وانصرافهم إلى القراءة والجد، وحرصهم على التأثير في نفوس القراء، بل حرصهم على السيطرة على هذه النفوس. كما أنَّ الشعر لم يضطره إلى البطء بعده عن الحياة الاجتماعية واليومية وحده، وإنما اضطره إليه أيضًا ما أشرت إليه — في غير هذا الموضع — من كسل الشعراء وفتورهم، وانصرافهم عن القراءة، وتعلقهم بالخيال وحده، وافتتانهم بالقديم وازدراؤهم للجديد.
ومهما تكن الأسباب التي دعت إلى رقي النثر وإسراعه في هذا الرقي، وإلى جمود الشعر واستمساكه بهذا الجمود، فإن هناك حقائق أدبية واقعة، لا سبيل إلى الجدال فيها، وهي أنَّ نهضتنا الأدبية إنما استمدت روحها وحياتها من القديم، قبل أنْ تستمده من الجديد، وأنَّ نهضتنا الشعرية ظلت إلى الآن قديمة في نشأتها وروحها وغايتها، بينما تطورت نهضتنا النثرية، فلم تعتمد على القديم إلَّا ريثما ينبت في جناحها الريش، فلما استوثقت من جناحيها طارت مستقلة؛ فبلغت من الرقي أمدًا بعيدًا.
وإذن، فعندنا كُتَّاب مجددون، وعندنا كُتَّاب أحيوا النثر القديم، وللكُتَّاب فضلان: فضل هذا التجديد الذي لم يكن، وفضل هذا الإحياء لما كان قد عبث به الزمان. وعندنا شعراء، ولكنهم لم يجددوا شيئًا، ولم يبتكروا ولم يستحدثوا، وإنما اكتسبوا شخصيتهم من القديم، واستعاروا مجدهم الفني من القدماء، فليس لهم إلَّا فضل واحد هو فضل الإحياء، وما زال ينقصهم فضل آخر هو فضل الإنشاء والابتكار.
وكل هذه الحقائق واضحة لمن يلمُّ بالأدب المصري الحديث إلمامة مجملة، ولكن في مصر طائفة من الأدباء، لا يريدون أنْ يطمئنوا إليها أو يعترفوا بها، يشق عليهم أنْ يقال أنْ ليس لهذا العصر شعراء في مصر، وكيف لا؟! وفي مصر أمير الشعراء، وكبير الشعراء، وشاعر النيل، وشاعر القطرين، وشاعر العرب، وما شئت من هذه الأسماء والألقاب!
وليس من شك في أنَّ هؤلاء الأدباء معذورون، فهم بين جاهلٍ للمثل الأدبي الأعلى، وبين متأثر بالوطنية، يريد أنْ يكون وطنه صاحب الزعامة الأدبية في الشرق من جهة، وأنْ يثبت للبلاد الغربية في الجهاد من جهةٍ أخرى. وكل هذا حسن، أو كل هذا محتمل، ولكن هذا شيء والحقائق الواقعة شيءٌ آخر، ولا بُدَّ من أنْ يقتنع الأدباء جميعًا بأن ليس في مصر شعر خليق أنْ يسمى هذا الاسم، ولا بُدَّ من أنْ يتكون في مصر رأي عام في الأدب يدفع إلى الحرية الأدبية، كما تكوَّن فيها رأي عام في السياسة يدفع إلى الحرية السياسية، وكم أكون سعيدًا إنْ تناولت شعر شعرائنا النابهين، فدرسته درسًا حرًّا مفصلًا بريئًا، وأدَّى هذا الدرس إلى تكوين هذا الرأي العام الأدبي من بعض الوجوه.