شعر ونثر
صديقي العزيز هيكل
أدركني مقالك الممتع حول الشعر والنثر في هذا البلد، الذي أويت إليه من بلاد لبنان، معتزلًا كل حركة علمية أو أدبية إلى حين، ولعلك تذكر أني كنت وعدتك بطائفة من الفصول أرسلها إليك من لبنان، أدرس فيها درسًا رفيقًا شعر شوقي والبارودي، ثم آثرت الكسل على العمل، والراحة على الجهد، فاعتذرت إليك من هذا الوعد، وسافرت ولم أصطحب شعر شوقي ولا شعر البارودي، ومع ذلك فلي في الشاعرين رأي أنا على إظهاره حريص، لا لأني أراه فحسب، بل لأني أرى فيه عدلًا وإنصافًا، وأرى أنَّ هذا الجيل الذي نحن فيه قد فتنه الجهل والشهوة فظلم وجار، وأصبح من الحق على النقاد أنْ يرفعوا هذا الظلم والجور، ورغم هذا كله فقد آثرت نفسي بالراحة، وأرجأت إعلان هذا الرأي إلى حين، وأويت إلى هذه الناحية الجميلة من نواحي لبنان، أتذوق فيها عذوبة الماء، ورقة الهواء، واعتدال الجو، وحسن أخلاق الناس. وكنت أظن أنْ لن يصرفني عن هذه اللذة صارف، حتى أعتزم العودة إلى مصر لأستأنف فيها حياتنا الشاقة مع أول السنة، ولكني تورطت، فطلبت إليك قبل السفر أنْ ترسل إليَّ السياسة، وتورطت فجعلت أنظر في السياسة كلما وصلت إليَّ، وتورطت فقرأت إعلانًا أذاعت فيه السياسة أنها ستنشر لك فصلًا في الشعر والنثر، فتمنيت ألا تصل إليَّ السياسة يوم تنشر لك هذا الفصل؛ لأني لا أستطيع أنْ أرى لك شيئًا في الأدب دون أنْ أقرأه، وأنْ أقرأه في عناية وتدبر؛ ولأني كنت — كما قلت — معتزمًا ألا أقرأ شيئًا ذا بال، فلما وصل إليَّ هذا الفصل لم أجد بُدًّا من قراءته.
وأنا أشكر لك أجمل الشكر هذه الساعة اللذيذة التي أنفقتها في قراءة هذا الفصل الممتع، فهو فصل ممتع حقًّا في لفظه، وفي معناه، وفي أسلوبه، وفي طريقة عرضه على القُرَّاء، ويظهر لي أنك قد أصبحت من أشد الناس شرهًا إلى الثناء والإعجاب، ولكنه شره محمود، فأنت لا تكتب إلا اضطررتَ قُرَّاءك إلى الثناء والإعجاب، وأنت لا تسمع ثناء، ولا تحس إعجابًا إلا ازددت إجادة وأمعنت في الإتقان. ولست أدري إلى أين يذهب بك هذا الإمعان في إجادة البحث وإتقان التفكير، والتوفيق إلى الجمال الفني فيما تكتب؟ وقد قيل: إنَّ لكل شيءٍ حدًّا، وأنا أومن بأن للثناء حدًّا، وللإعجاب حدًّا نحن منتهون إليه، ولكني أومن بأن ليس للجمال الفني حدٌّ، وإنما هو مثل أعلى يمضي أمامنا، ونسعى نحن في أثره فنبلغ منه شيئًا، ثم نحس أنَّ ما بلغناه ليس كل شيء، فنسعى ونسعى وهو يمضي ويمضي، وإذن فسيزداد حظك من الإتقان والإجادة، وسننتهي نحن من الثناء عليك والإعجاب بك إلى حدٍّ لا نستطيع أنْ نتجاوزه، وسيكون بيننا وبين حقك علينا أمد ليس إلى قطعه من سبيل.
أنت مُوَفَّق حين تلاحظ أنَّ النثر العربي في هذا العصر قد نهض نهضة قيمة، وأصبح أداة صالحة للتعبير عن حاجة العقل والشعور بعد أن تطور العقل والشعور في هذا العصر تطورًا لم تعرفه العصور القديمة العربية. وفي الحق أنا نستطيع الآن أنْ نصف ألوانًا من الآراء والخواطر في فنون من القول مرنة سهلة راقية، لم يكن لآبائنا بها عهد. وأنت مُوَفَّق أيضًا حين تلاحظ أنَّ النثر العربي الحديث على رُقِيِّه وإمعانه في هذا الرقي لم يزل في حاجة إلى كثير من المرونة واللين والثروة اللفظية، وأنه قد يحتاج إلى زمنٍ طويل، وجهدٍ عظيم قبل أنْ يبلغ حاجته من هذا كله، وآية ذلك أنا نعجز أحيانًا كثيرة عن أنْ نصف بعض الخواطر التي تخطر لنا، والعواطف التي تجيش في صدورنا، بل نعجز عن أنْ ننقل خواطر وآراء يراها الأوروبيون سهلة يسيرة بل مبتذلة، وتضيق عنها ألفاظنا وأساليبنا؛ لأنها مقيدة بطائفة من القيود اللغوية والنحوية الثقيلة التي لم نتفق بعد على طريق للتخلص منها. وآية ذلك أيضًا أنا نضطر في أحاديثنا وفي كتاباتنا إلى أنْ نستعير جملًا فرنسية، أو إنجليزية، أو ألمانية، أو إلى أنْ نستعير جملًا من لغتنا العربية العامية.
أنت مُوَفَّق في هذا كله، ومُوَفَّق أيضًا حين ترى أنَّ طائفة من الكُتَّاب المحدثين قد استطاعوا أنْ يتمايزوا بأساليبهم وشخصياتهم وآرائهم، وأنْ يستقلوا عن القدماء دون أنْ يتصل كل واحدٍ منهم بواحدٍ من أولئك القدماء.
كل هذا حق، وحق أيضًا أنَّ الشعر بعيد كل البعد عن أنْ يصل إلى حيث وصل النثر من الرقي والقوة والمرونة، وأن الشعراء بعيدون كل البعد عن أنْ يصلوا إلى ما وصل إليه الكُتَّاب من التمايز بألفاظهم وأساليبهم وآرائهم وشخصياتهم، وأنْ يستقلوا عن القدماء من فحول الشعراء. كل هذا لا سبيل إلى الشك فيه، وهو شيء نحسه جميعًا، وقد سبقت أنت فأعلنته وعرضته علينا وعلى الناس، ولكن لي بعد هذا ملاحظتين أحب أنْ أعرضهما عليك، وأحب أنْ تفكر فيهما بعض التفكير، وأرى إن فعلت فقد نربح من هذا فصلًا ممتعًا كالفصل الذي فرغت من قراءته منذ حين.
فأما الملاحظة الأولى فهي أنك قد وُفِّقت إلى كل هذه الحقائق الواقعة، واجتهدت في عرضها وتوضيحها، ولكنك لم تبحث عن الأسباب التي دعت إلى وجود هذه الحقائق الواقعة؛ فلماذا رقى النثر وسهل وساغ حتى أصبح أداة صالحة للتعبير؟ ولماذا جمد الشعر أو قُلْ ظلَّ جامدًا لا لين فيه ولا مرونة ولا جدة ولا حياة؟ ولماذا استطاع الكُتَّاب أنْ يتمايزوا بشخصياتهم القوية، وأنْ يفرضوها على الناس فرضًا، وعجز الشعراء عجزًا فاحشًا عن أنْ تكون لهم هذه الشخصيات، حتى أصبح من أيسر الأمور على الناقد إذا قرأ قصيدة لشوقي أو لحافظ أو غيرهما أنْ يرد هذه القصيدة إلى أصلها القديم الذي أخذت منه، أو أن يرد كل جزء من أجزاء هذه القصيدة إلى أصله الذي أخذ منه؟
حسن أنْ تذهب — أيها الصديق — مذهب أصحاب العلم الطبيعي، فتلاحظ الظواهر الأدبية وتسجلها، ولكني قلت لك غير مرة إنَّ أساليب العلماء وحدها قد تعجز عن الكفاية في الأدب وفي النقد بنوعٍ خاص، وما الذي أفدته أنا حين عرفت أنَّ النثر قد ارتقى وأنَّ الشعر مازال جامدًا؟ ألست ترى أنَّ من الخير أنْ أعرف لِمَ ارتقى النثر وجمد الشعر؛ لأتزيَّد من أسباب الرقي، ولأجتهد في أنْ أتقي أسباب جمود الشعر وأخلِّص الشعراء منها؟
والحق أني فكرت كثيرًا في هذه الأسباب، وفكرت فيها منذ أعوام حين كنا نعمل معًا في تحرير السياسة، وحين كنا نلاحظ في شيء من الرضا والأمل أنَّ فنَّنَا النثري يزداد في كل يوم مرونة، ويصبح في كل يوم أداة صالحة في أيدينا، نتسلط بها على الخواطر والآراء والمعاني المتباينة في جميع أنحاء الحياة، وحين كنا نضحك ونتهالك على الضحك من شعر الشعراء وجموده وعجزه عن الحركة وخلوه من الحياة، وحين كان كل واحد منا يلقي على صاحبه هذه الكلمة الكاذبة التي نقدم بها إلى القرَّاء شعر أصدقائنا الذين نسبغ عليهم مبتسمين في سخرية ورحمة وإشفاق، أشد الألقاب ضخامةً وفراغًا!
أنت تذكر هذه الأوقات، وكيف تنساها ومازلت فيها؟ أليست تصل إليك من حينٍ إلى حين قصائد شوقي وحافظ وغير شوقي وحافظ، فتفتن أو تكلف من أصحابك من يفتن في ترصيع الألفاظ وتأليف الأسجاع مقدمة بين يدي هذه القصائد، وإن على شفتيك لابتسامة لو رآها الشعراء وفهموها لأعرضوا عن الشعر أو لسلكوا بالشعر طريقًا غير هذه الطريق العقيمة التي لا يعرفون لها آخرًا؟
فكَّرت في هذه الأسباب فلم أَنْتَهِ إلَّا إلى سببٍ واحد، يُخَيَّل إليَّ أنه المؤثر الحقيقي في رقي النثر الحديث وجمود الشعر في هذا العصر، وأنا أعلم أنَّ الشعراء سيدهشون ويضحكون وسيغضبون، ثم يثورون حين أعرض عليهم هذا السبب، ولكني قد تعوَّدت من شعرائنا الدهش والضحك والغضب والثورة وما هو فوق هذا، فسأعرض عليهم هذا السبب مبتسمًا بل ضاحكًا إنْ لم يقنعهم الابتسام.
شعراؤنا جامدون في شعرهم؛ لأنهم مرضى بشيء من الكسل العقلي بعيد الأثر في حياتهم الأدبية، فهم يزدرون العلم والعلماء، ولا يكبرون إلا أنفسهم، ولا يحفلون إلا بها، وهم لذلك أشد الناس انصرافًا عن القراءة والدرس والبحث والتفكير، وكيف يقرءون أو يبحثون أو يفكرون وهم أصحاب خيال، ومن شأن الخيال أنْ يصعد في السماء بجناحيه في غير تفكير ولا بحث؟ فأمَّا البحث والتفكير فشأن العقل، والعقل عدو الخيال وهو عدو الشعر، والعقل ميزة الفلاسفة وميزة العلماء، والشعراء أجل وأعلى أنْ يكونوا فلاسفة أو علماء إنما هم شعراء! وإذا قلت شعراء فقد قلت كل شيء، أو قل إنك قلت شيئًا لا يفهم، وأنت تجلس إلى شعرائنا، وتتحدث إليهم، وتسمع لهم، فهل رأيت منهم إلا ازدراء لفلسفة الفلاسفة وعلم العلماء وبحث الباحثين؟
هذا — فيما أرى — هو السبب الحقيقي لجمود الشعر العربي في هذا العصر، فليس من الحق في شيء أنَّ الشعر خيال صرف، وليس من الحق في شيء أنَّ الملكات الإنسانية تستطيع أنْ تتمايز وتتنافر، فيمضي العقل في ناحية لينتج العلم والفلسفة، ويمضي الخيال في ناحية لينتج الشعر، وإنما حياة الملكات الإنسانية الفردية كحياة الجماعة رهينة بالتعاون، ومضطرة إلى الفشل والإخفاق إذا لم يؤيد بعضها بعضًا. وأنا زعيم لك بأن العالِم في معمله يستخدم الخيال أكثر مما يستخدمه الشاعر، ولولا هذا لما تصور ألوان التجارب والفروض الغريبة التي تنتهي به دائمًا إلى استكشاف الحقائق العلمية الصحيحة، فالعالم يستخدم الخيال ويستغله، ويستعير جناحيه يطير بهما ويصعد ويمعن في التصعيد، ويعود ومعه نتائجه القيمة.
أما الشاعر «العربي» فيزدري العقل، ويستهين به ولا يستعير مصباحه ولا يهتدي بنوره، وإذن فهو لا يستطيع أنْ يتقدم؛ لأنه في ظلمة حالكة، وهو لا يستطيع أنْ يرى أمامه، فيُضطر إلى أنْ ينظر إلى الوراء، ويستعير شعر القدماء وخيال القدماء. ومن الغريب أنه يستعير شعر القدماء في غير فهم له ولا بصر به، فإن القدماء لم يعتمدوا على الخيال وحده، وإنما اعتمدوا على الخيال، واستغلوا العقل استغلالًا عنيفًا، وأنا أستطيع أنْ أؤكد لشعرائنا أنَّ القدماء من شعراء العرب في جاهليتهم وإسلامهم كانوا أصحاب خيال وعقل وعلم، بل كانوا في الجاهلية يحتكرون العلم احتكارًا دون غيرهم من الناس. فأما في الإسلام فقد كان الشعراء الأمويون يعلمون حظ عصرهم من العلم، وأستطيع أنْ أُؤكد لشعرائنا أنَّ جريرًا والأخطل كانا يعلمان علم الشعبي وابن عباس وغيرهما من علماء عصرهما، وكان أبو نواس محدثًا أخذ عنه الشافعي، وكان يشارك المتكلمين في مقالاتهم، ويأخذ بحظ موفور من فلسفة الفلاسفة، ويسخر من النظَّام ومقالاته في الكبيرة والتوبة وما إليهما. فأما المتنبي وأبو العلاء فالنظر في شعرهما زعيم بأن يثبت لشعرائنا أنهما كانا أصحاب عقل وفلسفة، وأن حظهما من القراءة والدرس لم يكن أقل من حَظِّ العلماء والفلاسفة الذين عاصروهما.
الفرق بين الشعراء والكُتَّاب في هذا العصر أنَّ الشعراء لا يقرءون ولا يتعلمون، ولا يعنيهم أنْ يقرءوا أو يتعلموا، فهم غير متصلين بعصورهم، وهم لذلك عاجزون عن التقدم والتطور، أما الكُتَّاب فيقرءون ويتعلمون ويتزيدون من القراءة والعلم، ولا يرون الحياة إلا قراءةً وعلمًا؛ فهم لذلك متصلون بعصرهم يقرءون، فتضطرهم القراءة إلى التفكير، ويتعلمون فيضطرهم العلم إلى البحث، وتنشأ لهم من هذا شخصية قوية، ملاكها العقل والخيال والابتكار معًا، ولست أقيم على ذلك دليلًا معوجًّا أو بعيد المنال، وإنما ألفتك إلى نفسك، فأنت في قراءة متصلة. وأنت لا تعرض لكتاب تنقده حتى تقرأه أو تقرأ أكثره، وأنت لا تنقد هذا الكتاب حتى تقارن بينه وبين ما قرأته من أمثاله، فأما شعراؤنا فيقرءون في السماء وفي السحاب، ولكنهم لا يقرءون في الكتب!
ولقد ترجم أستاذنا لطفي السيد أخلاق أرستطاليس، فنقدته أنت ونقده العقاد ونقدته أنا، وكلنا قرأ الكتاب كله أو أكثره في العربية وفي الفرنسية أو الإنجليزية أو اليونانية، وكلنا قارن بين الترجمة وأصولها، وكلنا فكر في فلسفة أرستطاليس وفلسفة أستاذه أفلاطون، وكلنا حاول أنْ يقدِّر الأمد بين فلسفة أرستطاليس والفلسفة الحديثة، وكلنا حاول أنْ ينقد أو يقرظ عن علم وبصيرة. وتقدم لتقريظ الكتاب شعر شوقي وحافظ ونسيم، وأنا أستحلف شعراءنا الثلاثة بخيالهم العزيز عليهم، هل قرءوا ترجمة الأستاذ لطفي السيد أو أصلًا من أصول هذه الترجمة، بل هل قرءوا فصلًا واحدًا من الترجمة أو الأصل، أما أنا فأقسم ما قرءوا من الترجمة ولا من الأصل شيئًا؛ ولذلك اجتنب حافظ ونسيم موضوع الكتاب وفلسفة صاحبه، وذهبا يمدحان لطفي السيد وأرستطاليس، وللطفي السيد شخصية معروفة، ولأرستطاليس شخصية معروفة، ويستطيع الشاعر أنْ ينسج حول هاتين الشخصيتين ألفاظًا حلوة خلابة، لا تخلو من ضخامة ولا تبرأ من فراغ: فأما شوقي فأراد أنْ يمتاز فعرض للفلسفة ولفلسفة أرستطاليس، ولكنه لم يستقها من مصادرها كما يفعل العلماء؛ لأنه لا يحب أنْ يقرأ ولا يليق به أنْ يقرأ، وكيف يقرأ وله خيال يستطيع أنْ يصعد في السماء، فيرى فلسفة أرستطاليس في الجوزاء، وفلسفة أفلاطون في الثريا، وفلسفة سقراط في المريخ، فيأخذ من هذه الفلسفة ما يشتهي؟ وقد صعد خياله يومئذٍ في السماء، وتنقل بين الكواكب السيَّارة والثابتة، ثم تنزَّل إلينا بفلسفة أضافها إلى أرستطاليس، فإذا هي فلسفة أفلاطون.
وقد نبهته إلى ذلك يومئذٍ في «السياسة» فغضب وغضب أصحابه وأنصاره، وتحدث بعضهم بأن شوقي لم يخطئ، وإنما أخطأ أرستطاليس! وكيف لا وخيال الشعراء وخيال أميرهم بنوعٍ خاص أصدق من فلسفة الفلاسفة ومن فلسفة المعلم الأول نفسه؟ ولو أنك قرأت شعر شوقي أو شعر حافظ أو شعر نسيم، أو شعر من شئت من هؤلاء الشعراء المعاصرين، والتمست العلة لخلو هذا الشعر من الشخصية الحية لما وجدت هذه العلة إلا في أنَّ شعراءنا يسرفون في الكبرياء، فيؤثرون الجهل على العلم، والكسل على العمل، ويقرءون في الفضاء بدل أنْ يقرءوا حيث يقرأ الناس، وهل كان فيكتور هوجو أو لامارتين من الكسل والبطالة حيث يعيش شعراؤنا؟ كلَّا، إنَّ الشعراء الغربيين كشعراء العرب القدماء، يتصلون بعصورهم اتصالًا متينًا، يقرءون ويدرسون، ومنهم الطبيب ومنهم الطبيعي، ومنهم صاحب الكيمياء، ومنهم من يتصرف في فنون العلم المختلفة.
مثل شعرائنا كمثل علماء الدين عندنا؛ شعراؤنا يكتفون بخيالهم، ويعتمدون عليه وحده فينوء بهم هذا الخيال، ويعجز عن أنْ يرتفع في الجو، ويصبح من العقم بحيث ينتج هذا الشعر الجامد الذي تقرؤه، وعلماء الدين يكتفون بكتبهم القديمة، ويحملونها كل شيء فتثقل بهم، ويصيبهم العقم والفساد، بينما شعراء الغرب وعلماء الدين في الغرب يقرءون ويتعلمون، ويتصرفون في الفنون، فهم علماء قبل أنْ يكونوا شعراء وقبل أنْ يكونوا قسيسين.
وظاهرة الكسل هذه التي نجدها عند الشعراء، والتي تفسد عليهم الشعر تنتقل منهم بطريق للعدوى — فيما يظهر — إلى القُرَّاء، فيصيبهم الكسل هم أيضًا، يصيبهم هذا الكسل العقلي، فيفسد عليهم ذوقهم الأدبي، وإذا هم يحبون هذا الشعر ويكلفون به، بل يكتفون به، بل يعجزون عن أنْ يسيغوا أي شعر آخر، فيه أثر ما من آثار الحياة العقلية القوية. مثلهم في ذلك مثل الرجل الذي عوَّد معدته لونًا أو ألوانًا من الطعام اليسير السهل، الذي لا يغذي ولا يجهد، فإذا اضطُر إلى لون آخر من ألوان الطعام فيه شيء من دسم أو غذاء لم يسغه، فإن أساغه لم يهضمه، ومن هنا لا يميل قُرَّاؤنا إلى هذا الشيء القليل من الشعر القيِّم، الذي يظهر فيه أثر العقل كما يظهر فيه أثر الخيال، فيجب أنْ نكون منصفين، وأن نعترف بأن من شعرائنا من تكره طبيعتهم هذا الكسل، وتميل إلى القراءة والدرس والتفكير، وتحب أنْ تظهر آثار هذا كله في شعرها، ولكن هؤلاء الشعراء لا يجدون من قرَّائهم تشجيعًا، ولا يرون من أقرانهم الشعراء إلا حسدًا وحقدًا وحربًا شعواء تُعْلَن عليهم جهرًا مرة ومن وراء ستار مرة أخرى، وهؤلاء الشعراء ليسوا كثيرين، أذكر في مصر منهم خليل مطران والعقاد، وفي العراق معروف الرصافي وجميل صدقي الزهاوي، ولكن كثرة القُرَّاء تؤثر على شعر هؤلاء شعر شوقي وحافظ، وهي تؤثر هذا الشعر؛ لأن حَظَّه من التفكير قليل، فيقف الشعراء من قرائهم موقفين مختلفين: فإما أنْ يذعنوا لهؤلاء القرَّاء؛ ليروج شعرهم، ويثبتوا لمنافسة خصومهم، وإما أن لا يحفلوا بالقراء ولا بالخصوم ويمضوا في مذهبهم الشعري؛ لأنهم يقولون الشعر لأنفسهم قبل أنْ يقولوه للناس.
ومن الذين يذعنون للقراء، فيسيئون إلى أنفسهم وإلى الشعر، ويؤخرون تطور الشعر تأخيرًا عليهم إثمه: مطران، فأنا أعرفه من أشد الناس ميلًا إلى القراءة والدرس، ومن أحرصهم على أنْ يكون شعره مظهرًا لعقله وخياله معًا، وقد قرأت له شعرًا أشهد أني لم أقرأ مثله لشعرائنا الذين يخلبون الناس ببهرج اللفظ وزخرف الأسلوب. ولكنه يحس من قُرَّائه فتورًا، ومن أقرانه إعراضًا وازدراءً وازورارًا؛ فيجاري أقرانه، ويقول من الشعر مثل ما يقولون، فلا يبلغ من الزخرف والبهرج والفتنة الكاذبة ما يبلغون، ومن الذين لا يحفلون بإعراض القُرَّاء وكيد الخصوم، وإنما يمضون في طريقهم جادين لا يلوون على شيء؛ لأنهم يؤمنون بمذهبهم في الشعر، ويتخذون من هذا المذهب لهم فلسفة أدبية؛ عباس العقاد، وجميل صدقي الزهاوي، قد لا تعجبني أحيانًا صورهما اللفظية، وقد يقصران أحيانًا عن الإجادة اللفظية الممتعة، ولكن خصومهما يستطيعون أنْ يقولوا ما يشاءون، دون أنْ يُوَفَّقوا إلى إثبات أننا حين نقرأ شعر هذين الرجلين لا نقرأ كلامًا فارغًا، ولا نخرج منه كما دخلنا فيه، وإنما نرى فيه شخصية لها وزن وقيمة وعقلية تفكر، وتعرف كيف تعلن تفكيرها إلى الناس.
فأنت ترى أيها الصديق أنَّ ظاهرة الكسل العقلي تظهر أولًا عند الشعراء، ثم تنتقل منهم إلى القُرَّاء، ثم تعود من القُرَّاء إلى الشعراء؛ فتنتج فساد الشعر والذوق والخلق معًا، وتحول بين هذا الفن الأدبي وبين حقه من التطور والتجديد.
وقد أنستني هذه الملاحظة، أو كادت تنسيني الملاحظة الثانية التي ألاحظها على مقالك القيم، فأنت مصيب حين تلاحظ أنَّ الشعر في العصر العربي كان كل شيء في الأدب العربي، ولكني أخشى أنْ يكون إطلاق هذا الحكم مبعدًا لك بعض الشيء عن الصواب؛ فقد كان للعرب العباسيين نثر، وكان لهم نثر قيم. وليس ذنب العرب أننا لم نقرأ هذا النثر، ولم ندرسه — كما قرأنا الشعر ودرسناه — وإنما ذلك ذنبنا نحن! وأحسب أنك لو عنيت بأدب العصر العباسي عناية صالحة؛ لغيرت رأيك بعض الشيء في النثر، ولوافقتني على أنَّ الشعر كان ظاهر المكانة في الأدب العباسي، ولكن النثر لم يَخْلُ من جمال ورونق فني صحيح. على أنَّ الآية قد انعكست الآن، فأصبح الأدب العربي الحديث نثرًا كله، وأصبح الشعر بفضل الشعراء وكسلهم العقلي فنًّا عرضيًّا، لا يحفل به إلا للهو والزينة والزخرف، فإذا أراد بنك مصر أنْ يفتتح بناءه الجديد طلب إلى شوقي قصيدة، فنظم له شوقي هذه القصيدة، وإذا أرادت دار العلوم أنْ تحتفل بعيدها الخمسيني — كما يقولون — طلبت إلى شوقي والجارم وعبد المطلب أنْ ينظموا لها قصائد فنظموا لها القصائد، وإذا مات عظيم وأريد الاحتفال بتأبينه، أو نبه نابه وأريد الاحتفال بتكريمه طلب إلى الشعراء أنْ ينظموا الشعر في المدح والرثاء فنظموه كما كان ينظمه القدماء؛ فانحط الشعر حتى أصبح كهذه الكراسي الجميلة المزخرفة، التي تُتَّخَذ في الحفلات والمآتم، وأصبحنا لا نتصور حفلة بغير قصيدة لشوقي أو حافظ، كما أننا لا نتصور عيدًا أو مأتمًا بغير مُغَنٍّ أو مرتل للقرآن! فأما الشعر الذي يقال لنفسه، الذي يقال ليجلو مظهرًا من مظاهر الجمال الطبيعي، الذي يقال ليكون صلة بين نفس الشاعر ونفس القُرَّاء، الذي يقال لا ليتملق عاطفة من العواطف أو هوى من الأهواء، فلا تلتمسه عندنا، ولكن التمسه عند قوم آخرين عرف شعراؤهم لأنفسهم كرامتها، فرَبئوا بها عن أنْ تكون أداة للهو والزينة.
وأنت أيها الصديق دعوت إلى الاحتفاء بتاجور حين مر بمصر، وكنت قوام هذا الاحتفاء، وأنت لم تحتف بتاجور إلا لأنك قرأت شعره فأعجبك وراقَك، كما يعجبك ويروقك شعر النابهين من أهل أوروبا القديمة والحديثة. أفترى أنَّ لتاجور ديوانًا أو مجموعة قصائد وقفت على المدح والرثاء وافتتاح المصارف والاحتفال بالمدارس؟! ألست تلاحظ أنَّ شعر تاجور شعرٌ إنساني، وأن شعر شعرائنا شعرُ أشخاص وظروف؟! ولتاجور فلسفة كما للمعري والمتنبي فلسفة، فأين فلسفة شوقي أو حافظ أو البارودي أو مطران؟! وتاجور تُرْجِم شعره إلى اللغات الأوروبية، فأصبح شاعرًا عالميًّا يكبره الغرب الحديث كما يكبره الشرق القديم، فهل لو تُرْجِم شعر شوقي أو حافظ إلى الإنجليزية أو الفرنسية أو الألمانية يُقرأ ويعجب ويخلب العقول، ويضمن لأصحابه جائزة نوبل كما ضمنها لتاجور؟ كلا! وليس مصدر ذلك إلا أنَّ تاجور لا يزدري العقل، ولا يسلم نفسه للخيال وحده، وأن أصحابنا لا يلتمسون شعرهم في العالم الحقيقي المعقول، وإنما يلتمسونه في هذا الدخان الذي يرسلونه من أفواههم حين يدخنون السجاير أو الشيشة.
وأراني قد أطلت عليك، ولا أقول أطلت على القُرَّاء، فأنا لم أكتب للقراء، وإنما كتبت إليك أنت، وأكبر ظني أنك ستذيع هذا الكتاب، فأنت في حل من ذلك إن شئت، وإن كنت أوثر أن تستبقيه لنفسك، ولكني ألح عليك إنْ اعتزمت نشر هذا الكتاب ألا تمسه بتغيير أو إصلاح، فأنا من أشد الناس بغضًا لهذا النوع من التغيير والإصلاح، وأنا أحب أنْ يعرفني الناس كما أنا، لا كما تحب أنت أنْ يعرفوني، أوثر أنْ يعرفني الناس كما أنا، فيكرهوني على أنْ يعرفني الناس كما تريد أنت فيحبوني، وأنا أهدي إليك تحية ملؤها المودة الصادقة.