مقدمات
بين يدي منذ أيام دواوين شعرائنا الثلاثة، الذين اتفق الناس أو كادوا يتفقون على أنهم أعلام الشعر العربي في هذه الأيام، وهم شوقي أمير الشعراء، وحافظ شاعر النيل، ومطران شاعر القطرين.
وقد كنت أمنِّي نفسي ساعات أختلسها من حينٍ إلى حين، لأنفقها مع هؤلاء الشعراء مرتاحًا إليهم، ملتمسًا عندهم هذا الجمال الفني الذي يعوزنا في حياتنا اليومية، وما زلت أمني نفسي هذه الساعات في إخلاص وحرص، وستظل دواوينهم بين يدي حتى أظفر منهم بهذه اللذة التي يلتمسها الناس عند الشعراء، ولك عليَّ ألَّا أكون أثِرًا ولا بخيلًا، وأنْ أشركك فيما أجد عندهم من متعة، على أنْ أشركك أيضًا فيما أصادف عندهم من نُبُوٍّ أو تقصير.
أما اليوم فقد حيل بيني وبين ما كنت أريد؛ لأني صادفت في أول هذه الدواوين مقدمات أحببت أنْ أقرأها فقرأتها، ووجدت في قراءتها لهوًا ومتاعًا صرفني عن شعر الشعراء، وليس في ذلك شيء من العجب، فقد كتبَ المقدمة لديوان شوقي صديقي هيكل، وأنا كَلِف بما يكتب هيكل، مفتون بقراءته، والنظر فيه، وتقريظه ونقده؛ جادًّا مرة، ومازحًا مرةً أخرى. كَلِف بما يكتب هيكل كلفي بالتحدث إلى هيكل نفسه. وأنا حين أنقده أو أقرظه لا أسلك معه إلَّا الطريق التي أسلكها حين أتحدث إليه؛ طريق فكاهة يمازجها الجد الذي لا يخلو من مرارة تحمله أحيانًا على أنْ يقول: أما إنك ما زلت شيخًا! وقد خيِّل إليَّ أني أذكر أنَّ الناس كانوا يضيفون المقدمة التي صدر بها ديوان حافظ إلى كاتب معروف، كان في وقتٍ من الأوقات زعيمًا للكتَّاب الذين عاصروه، ثم انصرف عن الكتابة فنسيه الناس، ونسي هو نفسه أيضًا.
أما مقدمة ديوان مطران فقد كتبها مطران نفسه، وهو بين هؤلاء الثلاثة الشاعر الوحيد الذي عُني بشعره، ووجد في نفسه الشجاعة على تقديمه للقراء. فأمَّا الشاعران الآخران فقد آثرا أنْ يستظلا بغيرهما من زعماء النثر، وربما كان لهذا الفرق بين مطران وصاحبيه شيء من الخطر، وربما كان هذا الفرق الذي يظهر ضئيلًا عنوانًا لفرقٍ آخر عظيم، بين شعر مطران وشعر صاحبيه.
فالحق أنك لا تعرف مذهب شوقي وحافظ في الشعر إلَّا إذا قرأت شعرهما واستقصيته، واستخلصت هذا المذهب من قصائدهما ومقطوعاتهما، بل من أبياتهما المتفرقة. ولكنك لا تقرأ بيتًا واحدًا من شعر مطران في هذا الديوان إلَّا بعد أنْ تكون قد عرفت مذهب الرجل في الشعر، وعقيدته الفنية، وأسلوبه في فهم الجمال الأدبي وعرضه على الناس.
وبينما تلتمس مذهب شوقي في مقدمة هيكل، ومذهب حافظ في مقدمة ذلك الكاتب المعروف، فلا تجدهما أصلًا، أو تجدهما في شيء من الغموض والمواربة والتأثر بنفسية الكاتبين ومزاجهما ومذهبهما الأدبي؛ تجد مذهب مطران في الشعر واضحًا جليًّا، يعرضه عليك هو في صراحة وإخلاص، لا يكدرهما إلَّا هذا السجع المتكلف، فمطران إذن حر في شعره، ولكنه في نثره لم يضع عن نفسه الأغلال بعدُ.
وقد قرأت مقدمة هيكل، وكنت أظن أنني سأظفر فيها بمذهب شوقي في الشعر، وأنا أعلم أنَّ هيكلًا من أقدر الناس على التحليل وأبرعهم فيه، قرأت له ما كتب عن جان جاك روسو، وأناتول فرانس، وبييرلوتي، فلم أشك في أنَّ كثيرًا من الناس يستطيعون أنْ يقنعوا بقراءته عن قراءة هؤلاء الكُتَّاب أنفسهم، ولكني لم أكد أظفر بشيءٍ صريح من العقيدة الشعرية لشوقي فيما كتب عنه هيكل، أترى أنَّ مصدر ذلك أنْ ليس لشوقي عقيدة شعرية يستطيع هيكل أنْ يعرضها؟ أم ترى أنَّ مصدر ذلك أنَّ هيكلًا لم يُعنَ بشعر شوقي عنايته بنثر أناتول فرانس، وجان جاك، وبييرلوتي؟ أم ترى أنَّ هيكلًا قد عجز عن فهم شوقي، ووُفق إلى فهم هؤلاء الكُتَّاب الفرنسيين؟ أم ترى أنَّ هيكلًا قد كتب مقدمته هذه عن طمع في الراحة وفراغ البال؟ أم ترى أنَّ كل هذه الأسباب قد اشتركت وتظاهرت، فقصرت بمقدرة هيكل عن أنْ تعرض العقيدة الشعرية لأمير الشعراء في شيء من الوضوح والجلاء؟
الواقع أني لا أعرف لأمير الشعراء عقيدةً صريحةً في الشعر، وما أرى أنه قد حاول أنْ يكوِّن لنفسه هذه العقيدة، وما أرى أنه فكر في الشعر إلَّا حين يقوله، إنما هو — كما يقول هيكل في شيء من الدهاء — مجدد حينًا ومقلد حينًا آخر، وهو في تجديده وتقليده لا يصدر عن عقيدة فنية واضحة، وإنما يتأثر بالساعة التي يتهيَّأ فيها لقول الشعر، وبالظرف الذي يقرض فيه الشعر ليس غير، والواقع أيضًا أنَّا مكرهون على أنْ نُعنى بأناتول فرانس، وجان جاك، وبييرلوتي، وأمثالهم أكثر مما نعنى بشوقي وأمثاله؛ لأنَّا نجد عند هؤلاء من اللذة والغناء ما لا نجده عند شاعرنا المجيد! ولأن نفوسنا تتصل بنفوس هؤلاء الكُتَّاب والشعراء من الفرنجة أكثر مما تتصل بنفس شاعرنا العربي المصري، وأنا أزعم أنَّ هيكلًا لو كتب عن بودلير، أو فرلين، أو بول فاليري من الشعراء الفرنسيين لوُفِّق أكثر من توفيقه حين كتب عن شوقي، وقد أقام الدليل على ذلك في غير شك حين كتب عن شكسبير فأغنى وأمتع.
ومن السخف أنْ نقول: إنَّ هيكلًا يتقن الفرنسية والإنجليزية أكثر مما يتقن العربية، فويل للعربية إذا لم يتقنها هيكل! وإنما الحق أنَّ شعر شوقي لم يستطع أنْ يُلهم هيكلًا ما استطاع أنْ يُلهمه نثر الكُتَّاب الفرنسيين، وشعر الشاعر الإنجليزي الذين أشرنا إليهم من قبل.
والحرج ظاهر في مقدمة هيكل كلها، وإنْ شئت فقل إنَّ المجاملة ظاهرة، فأنا أراه يستغرق من هذه المقدمة جزءًا ليس بالقصير ليبسط لنا رأيًا في ظاهرة وجدها في شعر شوقي، وهي أنَّ شخصية الشاعر ثنائية، فهو مؤمن، وهو محب للحياة ولذاتها، أو قل هو زاهد ومستمتع معًا. وقد حاول هيكل أنْ يعلل هذه الثنائية، فكدَّ وجدَّ ولعله وُفق، ولكنه أعرض عن شيءٍ كنت أحب ألَّا يعرض عنه، أعرض عن الصناعة الشعرية التي تظهر للشعراء شخصيات مختلفة جدًّا، ولا سيما في أدبنا العربي العصري، الذي لا يمثل نفس الأديب؛ لأنه ليس طبيعيًّا، وإنما يمثل تكلفه ورغبته في إرضاء القراء، فهؤلاء الشعراء الذين ينظمون في الحكم والأخلاق، إنما يريدون أنْ يتأثروا المتنبي وأبا العلاء، فشخصيتهم هذه الحية الزاهدة شخصية مصنوعة، كما أنهم حين يتغنون الخمر، ويتهالكون على وصفها، إنما يريدون أنْ يتأثروا أبا نواس والأخطل، فشخصيتهم هذه الماجنة شخصية مصنوعة، كما أنهم حين يمدحون النبي إنما يريدون أنْ يتأثروا صاحب البردة، فشخصيتهم هذه مصنوعة، وهم لا يسلكون طريقًا من طرق الشعر، ولا يتعاطون فنًّا من فنون الشعر إلَّا مقتادين مقلدين، فهم يصنعون شخصياتهم التي تراها في شعرهم، هم يخفون بها شخصيتهم الأولى التي فطرها الله، وهم بهذا التكلف يحولون بينك وبين الوصول إليهم وفهمهم، كما هم في حياتهم العادية. ومن هنا كان من الحق على مؤرخ الآداب ألَّا يغلو في اتخاذ ما يصدر عن هؤلاء الشعراء من الشعر مرآة لنفوسهم، دون أنْ يقدر تأثير التكلف والتصنع والتقليد، وتملق الجمهور والأفراد في هذه المرآة.
فازدواج الشخصية الذي يلمحه هيكل في شعر أمير الشعراء لا يدل في حقيقة الأمر إلَّا على أنَّ أمير الشعراء يقلد المؤمنين والمستمتعين، كما يقلد غيرهم من أصحاب الشعر.
أما المقدمة التي صُدِّر بها ديوان حافظ فمريحة؛ لأنها لا تشير إلى حافظ، ولا إلى شعره بكثير أو قليل، وإنما هي كلام في الشعر من حيث يفهمه صاحب المقدمة، وهو يفهمه على الطريقة العتيقة الصرفة، وحسبك أنه يرى الشعر: «ظرف الحكمة، ومسرح الخيال، ومَغْنَى الفصاحة، وخدر البلاغة، ووعاء الحقيقة.» فإن كنت قد فهمت من هذا الكلام شيئًا فأنت موفق سعيد! أمَّا أنا فلا أرى فيه إلَّا ثرثرة وتكرارًا، والمقدمة كلها على هذا النحو كلام مرصوف ولفظ مصفوف، لا مزية له إلَّا أنه منتقى مختار.
•••
وأمَّا مقدمة مطران فقصيرة، ولكنها متعبة ممتعة في وقتٍ واحد: متعبة لما فيها من السجع الذي لا رشاقة فيه ولا ظرف ولا موسيقى، وممتعة لأن صاحبها أراد أنْ يقول شيئًا فقاله، وهذا الشيء ليس بالتافه ولا باليسير، وإنما هو شيء قيِّم له خطره وأثره البعيد، فمطران ثائر على الشعر القديم، ناهض مع المجددين، وهو قد سلك طريق القدماء فلم تعجبه؛ فأعرض عن الشعر، ثم اضطر فعاد إليه، وحاول أنْ يعود إليه مُجدِّدًا لا مقلدًا، وهو ينبئك بأنه يعرض عليك في ديوانه شيئًا من شعره القديم؛ لتتبين به مقدار ما وصل إليه من التجديد، وهو متواضع لا يزعم أنه بلغ من التجديد ما يريد، وإنما يترك ذلك للذين سيأتون من بعده، وهو شجاع لا يعتذر ولا يتلطف، وإنما يعلن ثورته على القديم، واغتباطه بالعصر الذي يعيش فيه، وحرصه على أنْ يلائم بين شعره وبين هذا العصر. وهو معتدل؛ فهو لا يرفض القديم كله، وإنما يحتفظ بأصول اللغة وأساليبها في حرية، كما يتأثر القدماء في إطلاق فطرتهم على سجيتها، يكظم فطرته ولا يغشيها بالأستار الخدَّاعة الخلَّابة، وهو فني له في جمال الشعر مذهب إنْ لم يكن واضحًا كل الوضوح، ولا مبتكرًا كل الابتكار فهو على كل حال مذهب قيِّم؛ لأنه يمثِّل شيئًا من المثل الأعلى الفني في هذا العصر، فهو يكره هذا الشعر الذي تستقل فيه الأبيات، وتتنافر وتتدابر، ويريد أنْ تكون القصيدة وحدة ملتئمة الأجزاء، حسنة التأليف فيما بينها، ثم هو فوق هذا كله مقتصد يرى أنَّ الشعر ليس خيالًا صرفًا، ولا عقلًا صرفًا، وإنما هو مزاج منهما.
الحق أني معجب بمقدمة مطران، لا أكره منها إلَّا سجعها، أرأيت أني لم أخطئ حين أخرت النظر في شعر الشعراء، ووقفت عند هذه المقدمات وقفة قصيرة، ولكنك توافقني على أنَّ هذه المقدمات لا تعطينا شيئًا في جملتها، فهي تمثل لنا أذواق الذين كتبوها، دون أنْ تمثل لنا مع ذلك الذوق الأدبي العام في هذا العصر، ودون أنْ تعرض علينا ما يراه هذا الذوق الأدبي العام مثلًا أعلى للجمال الفني في الشعر، ولكن في مصر شعراء غير شوقي وحافظ ومطران لهم دواوين، ولدواوينهم مقدمات، فمن تدري لعلنا نظفر في دواوينهم ومقدماتهم بما لم نظفر به فيما قرأنا الآن!