المثل الأعلى
صديقي …
رأيتني أردد في هذه الأيام ذكر المثل الشعري الأعلى، والذوق الأدبي الحديث، والمذاهب الفنية للشعراء، فأنكرت هذه الألفاظ، أو لم تتبيَّن ما قصدت بها إليه فيما تقول. فأنت تسألني عنها: ما هي؟ وأين تلتمسها؟ وكيف السبيل إلى تحقيق معناها؟ وعجيب منك هذا السؤال، وما أنت بالغافل ولا المحدَث في الأدب، وقد نشأت فيه ولمَّا تبلغ الخامسة عشرة، وأراك الآن قد نيَّفت على الأربعين، إنْ لم يكن يؤذيك أنْ يعرف الناس سنَّك! نشأت فيه ولما تبلغ الخامسة عشرة، وسلكت فيه طرقًا مختلفة، وبلوت منه فنونًا متباينة؛ بلوت العربي القديم، وبلوت أدب العباسيين والأندلسيين، وأتقنت الأدب الحديث في مصر وغير مصر، وتذوقت أدب اليونان والرومان، واستمتعت بأدب الفرنسيين والإنجليز.
وكنت وما زلت أجد لذة قوية حين أسمعك تردُّ شعر المحدثين إلى أصوله القديمة مفتنًّا في ذلك غوَّاصًا على غرائبه — كما يقولون — وكنتُ وما زلت أجد لذة قوية حين أسمعك تعجب ببيت من الشعر العربي، أو قصيدة من الشعر الأجنبي فتعرض ما فيهما من الجمال عرضًا يزيده بهاءً وروعة، وها أنت ذا الآن تسألني عن المثل الشعري الأعلى، وعن الذوق الأدبي الحديث، وعن مذاهب الشعراء في الشعر؛ سؤالَ من لا حظَّ له من فنٍّ، ومن لم يزاول الدراسة الأدبية قليلًا ولا كثيرًا!
ما أرى إلَّا أنك عابث صاحب لهو ودعابة، أو ماكر صاحب كيد، تريد أنْ تثير نحوًا من البحث ترى في إثارته شيئًا من النفع، فإن تكن عابثًا فأحبب إليَّ بعبثك، وإنْ تكن ماكرًا فأهون عليَّ بمكرك، ولو أنَّ لي من الوقت سعة لشاركتك في هذا العبث أو للقيت مكرًا بمكر، وكيدًا بكيد.
تسألني عن المثل الشعري الأعلى ما هو؟ فسل عنه نفسك حين تقرأ قصيدة للأخطل، أو لأبي نواس، أو لمسلم بن الوليد، أو للبارودي، أو لشوقي، وسل عنه نفسك حين تنظر في شعر فرجيل، أو حين تنشد شعر فيكتور هوجو. سل نفسك عن هذا المثل الشعري الأعلى حين تقرأ شعر هؤلاء القدماء والمحدثين، فتجد عند أولئك وهؤلاء لذة مختلفة في طبيعتها تتفاوت قوة وضعفًا، ويتباين أثرها في نفسك تباينًا غريبًا.
فالناس يخطئون حين يظنون أنَّ أصحاب الجديد لا يرون اللذة الفنية إلَّا في الجديد، وهم مخطئون أيضًا حين يرون أنَّ أصحاب القديم لا يجدون اللذة إلَّا في الشعر القديم، فأنا من أصحاب الجديد ومن أشدهم إلحاحًا في تأييده والدعوة إليه، ولكني على ذلك أجد في قراءة القديم لذة لا تعدلها لذة، ومتاعًا ليس يشبهه متاع؛ ذلك لأن القديم والجديد لم يستمدَّا جمالهما الفني من القدم والجدة وحدهما، وإنما استمداه من هذا الروح الخالد الذي يتردد في طبقات الإنسانية كلها، فيحل في كل جيل منها بمقدار، وهو يتشكل في كل جيل بالشكل الذي يلائمه، ويتصور في كل بيئة بالصورة التي تناسبها، وهو من هذه الناحية مصدر وحدة وفرقة للإنسانية؛ مصدر وحدة لأنه واحد يجمع الناس مهما يختلفوا على الإعجاب والشعور باللذة القوية، ومصدر فرقة لأن له من أشكال الأجيال والبيئات المختلفة ما ينوعه ويخيل إليك أنه كثير. نعم، العربي والفرنسي والإنجليزي يشعرون جميعًا باللذة حين يقرءون خصومة أخيل وأجاممنون، لا يحول اختلافهم الجنسي بينهم وبين هذا الإعجاب وهذا الشعور باللذة، ولكنهم على اشتراكهم في الإعجاب واللذة يختلفون في تذوقهم لهذا الشكل الخاص الذي يتشكل به الجمال الفني في الإلياذة؛ هذا يرضاه وهذا ينبو عنه، وهذا يقف منه موقف غير المكترث؛ ذلك لأن بين هذا الشكل وبين نفوس هؤلاء الناس صلة تختلف قربًا وبعدًا، وتتفاوت قوةً وضعفًا باختلاف الجنسيات والبيئات والعصور. ففي الجمال الفني كما ترى وكما يقول الفلاسفة وحدة وكثرة؛ فأمَّا الوحدة فهي جوهره، وأمَّا الكثرة فهي أعراضه. ولكن طبيعة الإنسان قد أرادت ألَّا توجد هذه الوحدة من حيث هي منفصلة عن أغراضها وعن مثلها المختلفة التي تصل بينها وبين نفوسنا، فلا بُدَّ لهذا الجمال من لغة تعبِّر عنه، ومن صورة تحتويه، واللغات مختلفة، والصور متباينة.
وإذن فيُخيَّل إليَّ — وأحسبك كنت ترى معي هذا الرأي — أنَّ المثل الأعلى في الفن، إنما هو هذا النحو الذي يحقق هذا الجمال الفني الخالد الواحد في أحسن صورة وفي أشدها بالذوق اتصالًا وللنفس ملاءمةً.
فالإلياذة كانت مثلًا أعلى لليونان؛ لأنها حققت لهم هذا الجمال في أجمل صورة يونانية ممكنة، لاءمت نفوسهم واتصلت بأذواقهم، ولكنها لا تحقق لنا نحن المثل الأعلى؛ لأنها على حظها من الجمال الخالد لا تتصل في شكلها وصورتها بنفوسنا وأذواقنا؛ لغتها ليست لغتنا، وخيالها لا يتصل بحياتنا الحاضرة، فنحن نشعر حين نقرؤها بالجمال، ولكننا نشعر شعورًا ناقصًا أقل من شعور اليونان القدماء به حين كانوا يقرءون الإلياذة.
وشعر الأخطل وأبي نواس حين يجيدان، يمثل لنا هذا الجمال الخالد أيضًا، ولكن هذا التمثيل وإنْ كان أقرب إلى نفوسنا وأذواقنا من الإلياذة لا يلائم هذه النفوس والأذواق من كل وجه، فلغته ليست لغتنا وإنْ قربت منا، وخياله ليس خيالنا وإنْ كان بينه وبيننا سبب، ونحن نجد في هذا الشعر من اللذة ما يجده الفرنسيون مثلًا في شعرهم أثناء القرون الوسطى، أو في شعر فرجيل وهوراس.
وما أظنك تنكر أنَّ الفرنسيين على إعجابهم بفرجيل وهوراس يُؤثِرون عليهما كورني وموليير وراسيين. وهم يؤثرون الآن على هؤلاء أنفسهم شعر القرن التاسع عشر وتمثيله؛ لأن هذا الشعر والتمثيل أقرب إلى نفوسهم العصرية مما كان في القرن السابع عشر من شعر وتمثيل.
للقديم إذن جماله نشعر به نحن شعورًا منقوصًا، وكان القدماء يشعرون به شعورًا كاملًا، ويستطيع العلماء الذين يَقِفون أنفسهم على الدرس ويتعمقون فيه أنْ يجعلوا أنفسهم قدماء يتقنون لغتهم وحياتهم وظروفهم المختلفة، فيشعرون من الجمال بما كانوا يشعرون به، ولكن هذا على صعوبته وعسره لم يقسم، ولا ينبغي أنْ يقسم إلَّا لطائفة قليلة جدًّا من الناس. وأنت تسرف حين تطلب إلى عامة المتأدبين أنْ يذوقوا شعر الأخطل وجرير كما تذوقه أنت، ويسرف أصحاب اليونانية من الفرنسيين والإنجليز حين يطلبون إلى جمهور المتأدبين من قومهم تذوق هوميروس وبندار كما يتذوقونه هم. ولكننا جميعًا نصيب ونقصد حين نطلب إلى المتأدبين المعاصرين أنْ تتقارب أذواقهم في فهم الأدب المصري الحديث والإعجاب به، ولا يسرف الممتازون من أدباء الفرنسيين والإنجليز حين يطلبون إلى عامة المتأدبين من قومهم أنْ يذوقوا شعراءهم المعاصرين، كما يذوقونهم هم، أو على نحوٍ من ذلك قريب.
نعم هذا حق في نفسه، ولكنه ليس حقًّا حين نريد أنْ نلائم بينه وبين الحقائق الواقعة في مصر؛ ذلك لأن الشعر المصري الحديث لا يلائم الذوق المصري الحديث، فهو من قسمة العلماء لا من قسمة المتأدبين عامة، هو قديم في صورته وشكله ولغته، كشعر الأخطل وجرير والفرزدق، فيفهمه ويذوقه الذين قُدِّر لهم أنْ يفهموا شعر الأخطل والفرزدق وجرير، فأما الذين لم يقدر لهم فهم هذا الشعر، ولم يطلب إليهم إلا أنْ يذوقوه ذوقًا ناقصًا، فلا ينبغي أنْ يُطلب إليهم إلا أنْ يذوقوا هذا الشعر الحديث ذوقًا ناقصًا أيضًا.
بلى، هناك فرق بين الشعر المصري الحديث والشعر العربي القديم؛ فهو يشبهه في الصورة والشكل، ولكنه يخالفه في الحقيقة والجوهر، هو يشبهه في اللغة وأنحاء القول والتعبير وضروب التخييل والتصوير، ولكنه لا يشبهه في الموضوع، ولا في الأغراض. وإذن فلشعر القدماء معنًى في أذواقنا؛ لأنه يمثل حقيقة من الحقائق هي حياة القدماء، ويمثلها بصورة تلائمها، ولكن الشعر الحديث ليس له هذا المعنى؛ لأنه لا يمثل حياة القدماء، إذ هو لم ينشأ لتمثيلها، ولا يمثل حياتنا الحاضرة؛ لأن لغته وشكله وأنحاءه في التمثيل والتصوير لم تنشأ لتمثيل هذه الحياة، وما أرى أنك نسيت ما كنا فيه من ضحك وأسى، حين قرأنا منذ أعوام قصيدة شوقي التي يصف فيها انتصار الترك على اليونان في آسيا الصغرى، والتي يبدؤها بقوله:
نعم ضحكنا، وأسينا حين قرأنا هذه القصيدة، وأضحكَنا مطلعُها قبل كل شيء، فكم عجبنا من ذكر خالد، ومقارنة مصطفى كمال به! حين كان العالم الحديث يضطرب بذكر القوَّاد النابهين في الحرب الأخيرة، وحين كانت صور هؤلاء القواد النابهين في الانتصار والانهزام تملأ النفوس إعجابًا، وحين كان الشرق في ذلك الموقف الذي كان ذليلًا يشوبه شعور بالعزة وطموح إليها، والذي كان أثرًا من آثار هؤلاء القواد. ضحكنا من قياس مصطفى كمال إلى خالد بن الوليد.
والحق أنَّا لا نعرف أمَدحَ شوقي مصطفى كمال حين قرنه إلى الفاتح العربي القديم، أم ذمَّه؟!
ولم نكد نمضي في قراءة القصيدة حتى ازددنا إغراقًا في الضحك والأسى، وكنت تقول لي إنَّ هذه القصيدة أصدق دليل وأقواه على عجز القديم عن تصوير الحياة الحديثة، وفشل الشعر العربي العصري عما قصد إليه من إمتاع النفوس، وإشعارها لذة الجمال الفني.
ولما فرغنا من قراءة القصيدة سألتني: ما رأيك في هذه القصيدة الطويلة، التي تصف انتصارًا ضخمًا بعد الحرب الكبرى، فلا تعرَّض في وصفها الطويل المفصل للمدفع، ولا للطيارة، ولا للتنك، ولا لغيرها من أدوات الحرب في العصر الحديث، وإنما اكتفت بالخيل والسيف والرمح والدرع؟! وكنت تسألني: ما رأيك في هذه القصيدة التي تريد أنْ ترفع مصطفى كمال إلى منزلة القواد العظام في العالم، وانتصاره إلى منزلة الانتصارات العظمى في العصر الحديث، فتشبه وقائعه ببدر؟ وما رأيك في هذه القصيدة التي أرادت أنْ تصف ابتهاج الترك خاصَّةً والمسلمين عامَّةً بهذا النصر، فإذا هي تذكر اهتزاز دمشق واستيقاظ الأيوبيين فيها، وتهنئتهم للحمدانيين في حلب؟ وكنت تقول حقًّا لقد ضاق القديم عن أنْ يكون لباسًا يتجلى فيه الجمال الفني الحديث.
أحب أنْ تذكر ذلك، فإن هذه الذكرى قد تنفع؛ لأنها تختصر لك جوابي على سؤالك الذي تريد أنْ تعرف به ما المثل الأعلى للشعر.
المثل الأعلى للشعر هو هذا الكلام الموسيقي الذي يحقق الجمال الخالد في شكل يلائم ذوق العصر الذي قيل فيه، ويتصل بنفوس الناس الذين يُنشد بينهم، ويُمكِّنهم من أنْ يذوقوا هذا الجمال حقًّا، فيأخذوا بنصيبهم النفسي من الخلود.
ولكنك ستسألني: وما ذوق العصر؟ وما قيمة الاتصال بين الشعر والذوق العصري؟ وكنت أحب أنْ أذكرك مجالس أخرى كانت بيننا تجيبك على هذا السؤال، ولكن قومًا غيرك يدعونني إليهم، ولهم عليَّ مثل ما لك من حق، فإلى وقتٍ آخر.