في الذوق الأدبي
صديقي …
أعود إليك الآن، بعد أنْ فرغت من درس في الأدب القديم، أعجبني موضوعه وأرضاني ما قيل فيه، أعود إليك إلى حيث تركتك منذ ساعات، تسألني عن ذوق العصر: ما هو؟ وما الصلة بينه وبين الأدب؟ وما الصلة بينه وبين المثل الأعلى في الفن؟ وأنا أتعجل هذه العودة إليك؛ ليتصل آخر الحديث بأوله، وليكون هذا الكتاب تتمة للكتاب الذي أرسلته إليك ضحى هذا اليوم.
وماذا تريد أنْ أصنع لك؟ وقد قصرت ذاكرتك أو تكلفت لها القصر، فنسيت أو تناسيت ما كان لنا من مجلس، وما كان بيننا من حديث. إنك خليق — أيها الصديق — ألَّا تعتمد على الذاكرة وحدها، وأنْ تتخذ لنفسك هذه العادة التي لا بأس بها، وهي تقييد الأحاديث العذبة اللذيذة القيِّمة إنْ صادفتها في يوميات تعود إليها من حينٍ إلى حين، فتذكرك نفسك وأصدقاءك وظروفكما المختلفة، وتصل بينك وبين قديمك الخاص، وتعينك على أنْ تتبع تطور عقلك وشعورك وانتقالهما من حالٍ إلى حال، وتأثرهما بالظروف المختلفة التي تحيط بهما وتعمل فيهما دون أنْ تحس أنت ذلك أو تلتفت إليه. وكيف تريد أنْ تقضي بين قديم الأدب وجديده، وأنت لا تستطيع أنْ تقضي بين قديمك وجديدك؟! لأنك لا تلتفت إلى هذا القديم وذاك الجديد، ولا تشعر باستحالة أحدهما إلى الآخر في ظلِّ ما تخضع له من المؤثرات الماديَّة والمعنويَّة!
أفهم أنْ تتطور وتستحيل، وأنْ تستبدل رأيًا برأي، وأسلوبًا في الفن بأسلوب، ولكني أحب لك أنْ تشعر بهذا التطور، وتقدر هذه الاستحالات، وتحسب لهما حسابهما حين تكتب أو تتحدث، فذلك خليق أنْ يدفع عنك ما قد تُتهم به من التناقض والاضطراب، وأنت الآن متناقض مضطرب بعض الشيء، وإذا كنت أنا أفهم مصدر تناقضك واضطرابك؛ لأني أعرف من حياتك الخاصة ما لم يعرف غيري، فليس الناس جميعًا مكلَّفين أنْ يعلموا أنك قضيت الصيف في إيطاليا، وكانت لك فيها مواقف هزَّت قلبك بادئ الأمر هزًّا رفيقًا، ثم أخذت تتخلص إليه شيئًا فشيئًا حتى غمرته وعبثت به، ثم أخذت تتقلص عنه قليلًا قليلًا حتى انجلت عنه وتركته فارغًا جافًّا، يكاد يحترق من الفراغ والجفاف، ثم عدتَ إلى مصر ذاهلًا، مشرد الخاطر، مفطور القلب، مضطرب المزاج، ثم عكفت على نفسك تمتحن وتحلل، فخرجت بشيءٍ من الشكِّ هو إلى اليأس أقرب منه إلى الرجاء، وإذا أنت ترتاب بكل شيء، وتنكر كل شيءٍ، وتزدري كل شيء. وما أحسب أنك ستسترد حظك من اليقين والرضا والأمل إلَّا أنْ تعود إلى إيطاليا، فلعل الله أنْ يجعل لك من العسر يسرًا، ومن الضيق سعة، ومن اليأس أملًا، ولعل ابتسامة عذبة في «تورينو» ترد إلى قلبك نضرته الأولى؛ فتستأنف الحياة والتفكير في جدٍّ وثقةٍ واطمئنان، وترى في الذوق الأدبي ما كنت تراه منذ أعوام أو شيئًا منه.
ليس الناس مكلفين أنْ يعلموا من أمرك هذا كله، ولو قد حاولوا ذلك لضقتَ بهم وضاقوا بك، ولكنك أنت مكلَّف أنْ تعلم من أمرك هذا، وأنْ تقدِّر أثره في حياتك العقلية والنفسية معًا، بل في ذوقك بنوعٍ خاص، فإن لذلك في ذوقك أثرًا غريبًا، لقد كنت أراك قبل «تورينو» تقدر الأشياء كما أقدرها، وتشاركني في الرضا عن بعض الشعر والسخط على بعضه الآخر، وتحب أنْ تقف معي موقفًا وسطًا بين أولئك المختصمين الفرنسيين الذين يرى بعضهم جمال الشعر في الموسيقى، ويرى بعضهم الآخر جماله في المعنى، وكنت تقول لي: وما يمنعنا أنْ نقف بين هؤلاء الناس، ونرى جمال الشعر في التئام الموسيقى والمعنى جميعًا؟ حتى إذا كانت تلك الليلة أخذت تصل إليَّ منك كتب لا رأس لها ولا ذنب — كما يقول الفرنسيون — ثم لقيتك فإذا أنت قد تصوَّفت أو كدْتَ، وإذا أنت لا تذوق من الموسيقى إلَّا ألوانًا خاصةً تلائم مزاجك هذا المضطرب المحزون، ولا تذوق من المعاني الشعرية إلَّا ضروبًا خاصة تلائم أملك هذا الضائع المشرَّد.
صدقني أيها الأخ العزيز، إنك تخضع الآن لأزمة نفسية عنيفة، فما أجدرك أنْ تتهم رأيك في الناس والأشياء جميعًا!
لا تبتئس ولا تظهر هذا الغضب الذي هو أقرب إلى الإذعان منه إلى أي شيءٍ آخر، فأنا راضٍ بمزاجك هذا المضطرب محب له؛ لأني أفهمه وأذوق ما يحدث عنه من الآثار؛ ولأني أشاركك في حب ما تحب من هذه الموسيقى، وهذه المعاني التي تتصل بالماضي يائسةً أو كاليائسة من المستقبل.
ومهما أنسَ فلست أنسى أننا قد أُعجبنا معًا إعجابًا لا حدَّ له، بتلك القطعة الموسيقية البديعة التي أوقع بها الموسيقي «ديبارك» مقطوعة رائعة من شعر «بودلير» هي الذكرى. أحسسنا معًا أننا عشنًا زمنًا في ظل تلك الأروقة الواسعة، التي كانت تقوم على تلك الأعمدة الفخمة الضخمة، والتي كانت تنعكس عليها من شمس البحر ألوان لا تكاد تحصى، والتي كانت تخيل إليك إذا أقبل الأصيل أنها أغوار من «البزلت» …
نعم، ورأينا معًا أمواج البحر العنيفة المضطربة تعبث بصور السماء، وتمزج أصواتها الموسيقية القوية بلون الأصيل الذي يعكر العين … نعم، وشعرنا معًا بهذه اللذة القوية الهادئة في جوٍّ صفوٍ وجلال لا حدَّ له، وبين هؤلاء الإماء المتجردات العطرات، اللائي كن يروِّحن عن جباهنا بسعف النخل، واللائي لم يكن لهن من همٍّ إلَّا تعرف هذا السر المؤلم الذي كان يفنينا قليلًا قليلًا، ذقنا معًا جمال هذا الشعر، وانسجام هذه الموسيقى، واشتراكهما في تصوير هذا المثل الأعلى الذي نطمح إليه، فإذا لم نظفر به في حياتنا الحاضرة، وقصرت بنا أجنحتنا عن أنْ نطير إليها في المستقبل القريب أو البعيد التمسناه في ماضينا، فإذا لم نظفر به، وما أحرانا ألَّا نظفر به! التمسناه عند أسلافنا المترفين من أدباء اليونان والرومان وشعرائهم، واستمتعنا به كما كانوا يستمتعون به هم أنفسهم، يوم كانوا يحيونه حياة فيها الحق وفيها الخيال.
ذقنا معًا هذا الشعر وهذه الموسيقى، وأنت متأثر بمزاجك هذا المضطرب، وأنا هادئ النفس فارغ البال، فأنت ترى أنَّ اضطراب مزاجك لم يقطع ما بينك وبيني من صلة نفسية أو فنية، وإذن فهوِّن عليك، ولا تخيِّل إلى نفسك أني ساخط أو منكر لما أنت فيه، إنما أنا رفيقٌ بك، حرب عليك، أحب أنْ تنسى «تورينو»، أو أنْ تستأنف حياتك فيها إنْ وجدت إلى أحد الأمرين سبيلًا، وأحب بنوع خاص أنْ تقدر أثر «تورينو» فيما لك من رأي الآن في المثل الشعري الأعلى، وفي الذوق الفني، وفي مذاهب الشعراء في الشعر.
الذوق الفني … لقد بعدنا عنه أو كدنا نبعد، ومع ذلك فما كتبت إليك الآن إلَّا لأتحدث إليك فيه، أو لأذكرك ما كان بينك وبيني فيه من حديث؛ ألم نكن نتفق قبل «تورينو» على أنَّ هناك ذوقين فنيين، لكل واحدٍ منا حظ منهما يختلف قوةً وضعفًا، ويتفاوت سعةً وضيقًا باختلاف ما لشخصيته من القوة والظهور، كنا نتفق على أنَّ هناك ذوقًا فنيًّا عامًّا، يشترك فيه أبناء الجيل الواحد في البيئة الواحدة، وفي البلد الواحد؛ لأنهم يتأثرون بظروفٍ مشتركة تطبعهم جميعًا بطابع عام يجمعهم ويؤلف بينهم، وكنا نتفق على أنَّ هذا الذوق يتسع ويضيق ويقوى ويضعف، فأهل مصر يشتركون فيه اشتراكًا قويًّا، وهذا الاشتراك هو الذي يجمعهم على الإعجاب ببعض الآثار الفنية دون بعض، وهم يشاركون فيه إلى حد ما جيرانهم أهل الشام وفلسطين، ويشاركون فيه إلى حد أضعف جيرانهم من أهل أفريقيا الشمالية، ومن هنا يعجبون مع أولئك وهؤلاء ببعض الآثار، ويعجبون مع أولئك دون هؤلاء ببعضها الآخر، ويعجبون وحدهم بطائفة من الآثار الفنية. وكنا نتفق على أنَّ هذا الذوق يضيق أحيانًا، ويتأثر في ضيقه هذا بالظروف التي تحيط بالطبقات والجماعات؛ فأهل مصر على اشتراكهم في هذا الذوق العام تتفاوت حظوظهم منه بتفاوت بيئاتهم وجماعاتهم، فلأهل الأزهر ذوق خاص يكادون يستبدون به، وقريب منه ولكنه يفارقه بعض الشيء ذوق مدرسة القضاء ودار العلوم، وللجامعيين ذوق خاص أو قل أذواق مختلفة؛ ذوق يتأثر بالذوق الإنجليزي، وآخر يتأثر بالذوق اللاتيني، ذوق يتأثر بالعلم، وآخر يتأثر بالأدب، وثالث يتأثر بالتاريخ، ورابع يتأثر بالفلسفة، وعلى هذا النحو، ثم كنا نتفق على أنَّ هناك ذوقًا آخر فنيًّا يتأثر بهذا الذوق العام، ولكنه مع ذلك متأثر بالشخصية الفردية، أو هو مظهر ومرآة يمثلها تمثيلًا صادقًا يستبد به الفرد، أو يكاد يستبد به لا يشاركه فيه أحد غيره، وكنا نتفق على أنَّ هذين الذوقين هما اللذان يقضيان بأن القصيدة الشعرية الرائعة تنشد فنشترك في الإعجاب بها، أو قل في مقدار من الإعجاب بها عام، سواء أو كأنه سواء بيننا، ثم لا يمنع ذلك أنْ يكون لكل واحد منا إعجاب خاص بالقصيدة كلها، أو بالبيت من أبياتها لا يستطيع أحد أنْ يشعر به ولا أنْ يقدره.
كنا نتفق على هذا كله، وكنا نتفق على أنَّ الحياة الفنية إنما هي مزاج من هذين الذوقين، فيه الوفاق حينًا وفيه الصراع حينًا آخر، وكنا نتفق على أنَّ هذا الذوق العام هو الذي يعطي الحياة الفنية حظًّا من الموضوعية، وهذه الأذواق الخاصة هي التي تعطي الحياة الفنية حظًّا من الذاتيَّة.
كنا نتفق على هذا كله، ونحاول في شيءٍ غير قليلٍ من التوفيق تطبيقه — كما يقول المعلمون — على ما ينشئ شعراؤنا من الشعر وكتابنا من النثر، وأراك الآن تسألني عن الذوق، ما هو؟ فهل نسيت هذا كله؟ لا، ولكنها «تورينو» قد جعلت بينك وبينه ستارًا، وأنا زعيم أنْ أُزيل هذا الستار ولو إلى حين.
تذكر يوم قرأنا قصيدة شوقي:
كنا جماعة منا العمامة ومنا الطربوش، منا المصري ومنا السوري، منا المسلم ومنا غير المسلم. وكنا جميعًا مرتاحين إلى انتصار الترك، متشوِّقين إلى ما يسجل هذا الانتصار ويشيد به، وتناول شابٌّ منا الصحيفة فأنشد القصيدة في شيء من الحماسة غريب، وفي شيء من الإتقان في الصوت، وإخراج الحروف، وتقطيع الوزن، وقذف القافية كما تقذف الحجارة فرضينا وأعجبنا، وتحمس بعضنا فصفق وافترقنا على أنها قصيدة رائعة، ثم التقينا في مجلس من هذه المجالس التي أخلو فيها إليك وحدنا فنتحدث في حرية، وينتهي بنا الحديث في كثيرٍ من الأحيان إلى ما يكره كثير من الناس، فأعدنا قراءة القصيدة، وحينئذٍ لاحظت أنت ولاحظت أنا أنَّ إعجابنا الأول لم يكن إلَّا ظاهرة اجتماعية، وأنَّ بين الذوق العام وذوقنا الخاص تناقضًا غير قليل هذه المرة؛ ذلك لأننا كنا أثناء هذه القراءة الثانية قد تخلصنا من فوز الترك، وتخلصنا من الجماعة التي كانت تحيط بنا، ولم نحكِّم إلَّا ذوقنا الشخصي. وذوقنا الشخصي معقَّد — كما تعلم — فيه أثر الأدب العربي القديم، وفيه أثر الأدب الغربي الحديث، وفيه أثر الثقافة مركبة مختلفة العناصر، فليس غريبًا أنْ يكون حكمه في الشعر مخالفًا لحكم الجماعات المختلطة.
وأذكر وتذكر أنت أيضًا أننا لهونا يومئذٍ بإخضاع هذه القصيدة لهذا الذوق المعقد، فضحكنا وأغرقنا في الضحك والسخرية من هذه الصور العتيقة البالية، تُتْخذ لتصوير الحياة الجديدة الحاضرة، وضحكنا بنوعٍ خاصٍّ من هذا البيت:
وأضحكتنا هذه الرياح المسرجة، وإنْ كان المراد بها الخيل، وأضحكتنا أسد الشرى على هذه الخيل، وإنْ كان المراد بها فرسان الأتراك، ثم قصدنا إلى الإنصاف وقلنا: شاعر يقلد القدماء، فلا ينبغي أنْ يُنظر إليه إلَّا بأعين القدماء، ولا ينبغي أنْ يقاس إلَّا بمقاييسهم، وكان هذا النوع من الإنصاف في نفسه قضاء على القصيدة، فهو حكم بأنها لا تثبت أمام النقد الحديث ومقاييسه، ولجأنا إلى النقد القديم، فأما أنت فلبست ثياب أبي العباس أحمد بن يحيى ثعلب، زعيم النحويين في الكوفة آخر القرن الثالث للهجرة، وأما أنا فلبست ثياب أبي العباس محمد بن يزيد المبرد زعيمهم في البصرة وفي العصر نفسه، وكان هذان الرجلان يختصمان دائمًا، وكنا إذا وضعنا أنفسنا موضعهما نريد أنْ نختصم لعل اختلافنا ينفع أمير الشعراء، فأمَّا أنا فزعمت أنَّ هذه القصيدة فارغة إلَّا من الألفاظ، ليس وراءها شيء، وجعلت أضرب لك الأمثال بشعر القدماء، وبشعر الأخطل خاصةً في تصوير الهجوم والانتصار والهزيمة العامة والهزيمة الفردية، وكنت أقف بك بنوعٍ خاصٍّ عند الرائية التي مطلعها:
والتي مدح فيها الأخطل عبدَ الملك وبني أمية، وصور جيش عبد الملك زاحفًا على العراق وانتصاره وانهزام القيسيين أنصار ابن الزبير في الجزيرة، وكنت أقف بك عند الرائية الأخرى التي مطلعها:
والتي قصد بها الشاعر إلى مثل ما قصد إليه في الرائية الأخرى، ولكنه أبدع في تصوير الهزيمة الفردية، فصوَّر لنا فارسًا يلهب فرسه والرماح تنوشه، وهو ينغمس معها في السراب، والسراب ينجاب عنه وعنها، وهو يحثها ويفديها بأمه إنْ مضت في جريها إلى العصر … كل ذلك فيما تذكر من لفظ متقن، سهل رصين متخيَّر، وكنت أقول لك: إنَّ هذا الشعر يلائم ذوق العرب في عصره، ويصور المثل الأعلى لهم فهو جميل، وهو يعجبنا الآن ويرضينا، فيمثل لنا حظًّا من هذا المثل الأعلى، وكنت تسمع لي فترضى مرةً وتنكر أخرى، ثم سكتَّ حينًا وسألتني: وأين أنت من قصيدة أبي تمام التي يمدح بها المعتصم وقد فتح عموريه؟ قلتَ ذلك فوجمتُ لك، ثم رأينا معًا أنَّ شوقي إنما اتخذ قصيدة أبي تمام هذه نموذجًا حين أراد أنْ ينظم قصيدة في انتصار الترك.
ومن غريب الأمر أن اتَّخذ القصيدة نموذجًا في اللفظ والمعنى، وفي الوزن والقافية، فمطلع أبي تمام:
فهي من البسيط وقافيتها الباء ورويُّها مكسور، وكذلك قصيدة شوقي، فأبو تمام إذن هو الذي قدَّم إلى شوقي قوافيه، وشيئًا غير قليل من ألفاظه ومعانيه، وبخاصة هذا التشبيه الذي كان يلائم ذوق المسلمين، وهم يجاهدون الروم بقيادة الخليفة المعتصم، تشبيه يوم عمورية بيوم بدر؛ لأن المعتصم خليفة الله وابن عمِّ النبي وهو يجاهد للدين، بينه وبين بدر قرنان ليس غير، وانتصاره بمعجزة كانتصار النبي يوم بدر، أشرف له وأجدى عليه. أخذ شوقي هذا التشبيه من أبي تمام فألصقه بمصطفى كمال، ولم يكن مصطفى كمال خليفة، بل كان خارجًا على الخليفة، ولم يكن يجاهد للدين بل كان يجاهد للوطن، ولم يكن يجاهد بالسيف والرمح والخيل، وإنما كان هذا أقل أدوات الحرب خطرًا، وأساء شوقي اختلاس هذا التشبيه، فقد كنا نرى أنَّ أبا تمام أورده مورد الشك حين استعمل أداة الشرط، وأورده شوقي مورد اليقين، وأنَّ أبا تمام أورده في بيتين، وأورده شوقي في أبيات، قال أبو تمام:
وقال شوقي:
وكنت تقول لي: إنَّ البيت الأول من بيتي أبي تمام يعدل قصيدة شوقي كلها. وكنت أرى أنَّ من الظلم أنْ يقاس هذا الشعر الذي لا يدل على شيء إلى بيت كهذا البيت فيه الشك واليقين معًا، وفيه المبالغة والاقتصاد معًا، وفيه اللفظ الرصين يدل على المعنى الجيد.
وكنت تقول لي: أليس من العجب أنْ يأخذ شوقي معنى قاله أبو تمام في بيتٍ واحد، فيذيبه في أبيات دون أنْ يصل إلى شيء؟ قال أبو تمام:
وقال شوقي:
ثم استمر شوقي يصف ابتهاج العالم الإسلامي في عشرة أبيات زلزلت فيها الأرض زلزالها فسعى بلد إلى بلد، واصطدمت مدينة بمدينة، وتخاطب الموتى في دمشق وحلب، والأحياء في الهند ومصر، كل ذلك ولم يظفر بقول أبي تمام:
وكنت تقول لي: إنَّ في قصيدة أبي تمام من الشعر ما لاءم الذوق القديم ويلائم الذوق الحديث، ويعجب به الشرقي والغربي معًا؛ لأنه الشعر في نفسه، فيه قبسٌ من هذا الجمال الخالد الذي هو فوق الزمان والمكان والجنسيات، قال أبو تمام يصف اضطرام عمورية:
وكنت تقول: إنَّ بيتًا واحدًا من هذا الشعر يزن ديوان شوقي كله، وهو قوله:
ولو أنك التمست الشعر في قصيدة شوقي هذه لما وجدت منه شيئًا، فإن أَبَيْت فدلني عليه!
وكنت تقول: كان البديع في عصر أبي تمام يُعجب جمهرة المتأدبين، فأخذ منه أبو تمام بحظ لا يخلو من إسراف، وهو لا يعجبنا، فما اضطرار شوقي إليه لولا التقليد السخيف! وأي جمال في قوله:
لو أنه وضع اليونان موضع الإغريق لاجتنب هذا الجناس الثاني، ولاحتفظ لبيته بشيءٍ من الجمال الشعري، فالصورة لا بأس بها، ولكن جناسين خليقان أنْ يفسدا أجمل الصور وأروعها.
ثم أخذنا ننتقل في القصيدتين من بيتٍ إلى بيت، حتى انتهينا إلى أنَّ ذوقنا القديم نفسه على تحرجه لا يستطيع أنْ يسيغ قصيدة شوقي، بعد أنْ أبى ذوقنا الحديث أنْ يسيغها، وكانت خلاصة رأيك ورأيي أنَّ هذه القصيدة إنما هي أشبه شيء بالتمرين المدرسي يذهب به الأطفال مذهب المحاكاة للنماذج الفنية التي تُلقى إليهم، فيوفقون في الصورة ويخطئون الموضوع.
أتذكر هذا كله؟ وإذا كنت تذكره فأنت تذكر رأيك ورأيي في الذوق الأدبي، أما أنا فما زلت محتفظًا برأيي، وأما أنت فقد نسيت رأيك حيث تعلم، ولعلك تجده إذا أقبل صيف هذا العام!