بودلير١
عرضت عليك منذ أسبوعين صورًا شعرية لشاعرين من شعراء فرنسا في القرن الماضي، وقلت: إني قد أحدثك عن هذين الشاعرين في فصلٍ آخر، وأنا أريد أنْ أبر بهذا الوعد، ولكن البر بهذا الوعد ليس بالأمر الهين ولا بالشيء اليسير؛ وأول صعوبة تعترض سبيل هذا البر أنَّ الحديث عن هذين الشاعرين في فصلٍ واحد شيء لا سبيل إليه، فأمرهما أطول وأدق من أنْ يلم به في فصلٍ من الفصول وهما مختلفان في طبيعتهما ومزاجهما بل في أغراضهما الشعرية، فلنكتف بأحدهما اليوم وليكن صاحبنا بودلير.
ولكن الحديث عن بودلير في نفسه عسير شاق، فأمره من الطول والدقة والتعقيد بحيث يضطرنا إلى أنْ نعرض عن أشياء كثيرة ولا نلم منه إلَّا بالقليل، وفي هذا القليل نفسه مشقة وعسر، فقد كانت حياة هذا الشاعر شاقة عسيرة، مثيرة للخصومات منذ أولها إلى أنْ انتهت، وما تزال الخصومات قائمة حوله إلى الآن، وأحسب أنها ستظل قائمة إلى مستقبل بعيد.
نشأ هذا الشاعر في أسرة متوسطة، كان أبوه معلمًا في إحدى المدارس الثانوية في باريس حين ولد سنة ١٨٢١، ومات عنه أبوه ولما يتجاوز السادسة من عمره، وترك ثروة ليست بذات خطر، وقد تزوجت أمه من ضابط في الجيش ظل يرتقي حتى انتهى إلى أعلى المراتب العسكرية، ونشأ الطفل في حجر هذا الضابط، ولكنه نشأ نشأة لم تخل من القهر والعنف والضيق، فقد كان يكره هذا الرجل الذي خلف أباه ويتبرم بماله عليه من سلطان، وكان كرهه لهذا الرجل يعرِّض الصلة بينه وبين أمه لشيءٍ من السوء والاضطراب، فكان ذلك ينغص عليه حياته، ويؤذي نفسه الناشئة، ويحبب إليه الوحدة، ويبغض إليه الناس عامة وأسرته خاصة، وكان يكفي أنْ يتبيَّن ميول هذا الرجل ليبغضها وينصرف إلى نقائضها، وكان هذا الرجل معتدل الميول، مطامعه تشبه مطامع أوساط الناس، وهي إلى المحافظة والتشدد فيها أقرب منها إلى أي شيءٍ آخر، فكان هذا كافيًا أنْ ينشأ صبينا مبغضًا للمحافظة، ميالًا إلى التطرف، ولم يكن صبينا تلميذًا نجيبًا، ولا طالبًا بارعًا، وإنما كان من أوساط التلاميذ والطلاب؛ ظفر بالشهادة الثانوية في شيءٍ من المشقة والجهد، ولم يكد يتم درسه حتى ظهر الخلاف عنيفًا بينه وبين أسرته. كانت أسرته تحب أنْ توجهه نحو الحياة العاملة المنتجة، فأعلن هو إليها أنْ يحترف حرفة الأدب، وأنكر عليه وليُّه هذا الميل وأصر هو عليه، ولكنه كان قاصرًا، فلم يتمكن مما أراد وأرسلته أسرته إلى الهند، فأقام فيها عشرة أشهر، ثم عام وقد رأى البحر والشرق والشمس، وأممًا غريبة، وحياة لم يكن له بها عهد، وأطوارًا اجتماعية لم يكن يقدرها.
وفي سنة ١٨٥٥ أخذت هذه الشخصية الثانية تظهر على استحياء، وذلك حين قدم الشاعر مقطوعات من شعره إلى «مجلة العالمين» فنشرتها مع شيءٍ من التحفظ والريبة والبراءة من التبعة الخلقية لهذا الشعر الغريب.
وفي سنة ١٨٥٧ ظهرت هذه الشخصية فجأة، فدهشت لها فرنسا كلها. دهش لها الشعراء والفنيون، ودهش لها أوساط الناس، واضطربت لها الجماعة الفرنسية، ثم أنكرتها وتولت النيابة والقضاء هذا الإنكار، وحكم على الشاعر بغرامة قدرها ثلثمائة فرنك، وحكم على ديوانه الذي ظهرت به هذه الشخصية بأن تحذف منه مقطوعات اعتبرت مخالفة للأخلاق، أمَّا الشعراء فقد أنكروا الشاعر، ولكنهم أحبوه؛ أنكروه لأنه استحدث لهم شيئًا جديدًا، وأحبوه لأن هذا الشيء الجديد نفسه كان قيِّمًا ممتعًا. واشتد الجدال منذ ذلك الوقت حول الشاعر ومذهبه وأغراضه الشعرية، واضطرب الشاعر نفسه في الدفاع عن موقفه؛ فصانع الجمهور حينًا، وسكت عن الدفاع حينًا آخر، واحتج عند بعض الخاصة لمذهبه الشعري في صراحة وإخلاص. واختلفت على الشاعر صروف الحياة، فلقي ضروبًا من اللين والشدة، وانتهى به الأمر إلى بلجيكا، فأقام فيها حينًا، ثم أعيد مريض الأعصاب إلى باريس، فمات فيها سنة ١٨٦٧.
•••
أما بودلير فكان فيما بينه وبين نفسه، وفيما بنيه وبين الخاصة من الأدباء يجيب: نعم! وأمَّا خصومه وهي الجماعة كلها، ومعها نظمها الدينية والخلقية والسياسية فكانوا يجيبون: لا! وسجل القضاء هذا الجواب، ولكن الأدباء الفرنسيين وعلى رأسهم زعيمهم يومئذٍ وهو فكتور هوجو أنكروا حكم القضاء واتهموه بالظلم، ولا ننس أنَّ هذا الحكم صدر في ظل الإمبراطورية الثانية؛ أي في جوٍّ لم يكن جو حرية، وإنما كان جو عسف وجور، على أنَّ من الحق أنْ نلاحظ أنَّ بودلير حاول في إثر هذا الحكم أنْ يصانع الجمهور والجماعة والقضاء، فكان يقول: إنَّ هذه الصور الشعرية لا تعبر عن آرائه وأغراضه في الحياة، وإنه لا يخالف الناس فيما يرون وما يعتقدون فيما يتصل بحياته العملية والعقلية والشعورية، وإنما هذا الديوان صور فنية قصد إلى إظهارها، كصانع يجرب نوعًا من الصناعات لا أكثر ولا أقل. كان يقول هذا مصانعة وتُقية، ولكنك رأيت أنَّ هذه الصور كانت في حقيقة الأمر مثلًا لحياته الشخصية الداخلية، فنحن نستطيع الآن أنْ نقطع بأن الشاعر لم يعمد إلى هذه الموضوعات، ولا إلى هذه الصور ليعالجها معالجة موضوعية صرفة — كما يقولون — وإنما هي قطع من نفسه تمثل شخصيته اليائسة البائسة المتألمة المحبة، الراغبة في الموت، المشفقة منه في وقتٍ واحد، وفي الحق أنَّ هذا الديوان يدور كله حول أشياء ثلاثة هي: الحب والألم والموت. والشاعر لا يكاد يحس شيئًا من هذه الأشياء دون أنْ يحس معه الشيئين الآخرين، فهو إذا ذكر الحب ذكر معه الألم والموت، وهو إذا ذكر الموت ذكر معه الألم والحب، وهو في كل ذلك حرٌّ، جرئ، مجازف، يتخير أبشع الصور وأقبحها وأشدها تأثيرًا في النفس من هذه النواحي البشعة القبيحة، وهو مادي التصور، لحسه المادي أثر قوي في شعره، ولا سيما حس اللمس والشم والبصر، فهو يعرض عليك هذه الصور البشعة التي يحسها الشم، أو اللمس، أو البصر في الأجسام الهالكة المتحللة، و«أزهار الشر» هذه التي يشتمل عليها ديوانه أزهار فيها جمال قوي رائع، ولكنه في الوقت نفسه بشع مخيف، تضطرب له النفس، وتشمئز في كثيرٍ من الأحيان. فهناك مسألتان يثيرهما شعر بودلير: إحداهما قدمتها لك وهي، هل للفن أنْ يستمتع بحريته الكاملة بالقياس إلى الأخلاق والسياسة والدين، وما إليها من النظم الاجتماعية؟! وجواب هذه المسألة طبيعي، فأمَّا أصحاب الفن فيقولون: نعم؛ لأنهم يطالبون بحريتهم في أقصى حدودها، كما يطالب العلماء بحريتهم العلمية في أقصى حدودها، وأمَّا الحكومات والبرلمانات وحماة النظم الاجتماعية والسياسية فيجيبون: لا. وجوابهم هذا يختلف باختلاف حظوظهم من المحافظة والاعتدال والتطرف. وما أرى إلَّا أنَّ هذا الخلاف سيظل أبدًا.
ولست أحب أنْ أعرض رأيي فيه الآن، ولا أنْ أقول فيه نعم أو لا، فلست — بحمد الله — فنيًّا، ولست — بحمد الله — من حماة النظم الاجتماعية على اختلافها، وإنما أنا أحد الذين يشهدون، وحسبي أنْ أطالب للعلماء بحريتهم العلمية.
أما المسألة الثانية التي يثيرها شعر بودلير فأجل من هذه المسألة خطرًا، وأخلق منها بعناية الكُتَّاب والأدباء عندنا. وكم أحب أنْ أعرف رأي هيكل والعقاد، وهي: هل يستطيع الفن أنْ يتخذ الشر موضوعًا، ويستخلص منه صورًا فنية جميلة، وبعبارة أدق وأوضح: هل في الشر جمال يصلح موضوعًا للفن؟
وأنا أدع للفنيين من الشعراء وغيرهم الجواب على هذه المسألة.