النثر العربي في نصف قرن
الرأي الشائع بين المحافظين من أهل الأدب العربي وأصحاب العلم به؛ أنَّ النثر أيسر من الشعر، وأنَّ اصطناعه شيء سهل لا يكلف صاحبه عناء ولا مشقة، وهم من هذه الناحية يقدمون الشعر على النثر، ولهم في ذلك مباحث طوال وكلام كثير، تستطيع أنْ تلهو به إذا نظرت في كتاب العمدة لابن رشيق وما يشبهه من الكتب. وما أظن أنَّ رأي الأدباء تغيَّر في هذا الموضوع، فهم ما يزالون يعتقدون أنَّ الشعر أعسر من النثر، وأبعد منه متناولًا، ثم ما يزالون يعتقدون أنَّ النثر أقدم من الشعر وجودًا، وهم معذورون فظواهر الأشياء كلها توهم ذلك وتحمل على الجزم به.
فالنثر مطلق لا قيد فيه، والشعر مقيد بالوزن والقافية، والنثر مشبه في إطلاقه لكلام الناس في حياتهم اليومية وحوارهم المألوف، وإذن فالناس يتكلمون نثرًا، وهم يتكلمون قبل أنْ يشعروا، وهم لا يجدون مشقة في الكلام، وهم يجدون في نظم الشعر مشقة وعناء، وإذن فالنثر أقدم من الشعر، وأيسر وأدنى منالًا، ومن هنا يقسم مؤرخو الآداب العربية كلام العرب إلى منظوم ومنثور ومسجوع، وهم يرون أنَّ النثر كان في العصور القديمة أكثر من الشعر، ولكن ما حفظ من قديم الشعر أكثر جدًّا مما حفظ من قديم النثر، وتعليل هذه الظاهرة لا عسر فيه، فالشعر أشد عسرًا من النثر في الإنشاء، ولكن الشعر أدنى إلى الحافظة وأسلس لها قيادًا من النثر، أليست القيود التي تأتيه من العروض والقافية تقربه من الحافظة، وتجعل في استظهاره لذة وراحة لا نجدهما في استظهار النثر؟ فإذا كان ما نرويه من نثر العرب قبل الإسلام قليلًا، فليس ذلك لأنهم لم ينثروا؛ بل هو لأنهم لم يكونوا يكتبون، ولأن حافظتهم لم تكن تطاوعهم إلى حفظ النثر واستظهاره، فضاع نثر العرب الجاهليين إلَّا أقله، وبقي شعر العرب الجاهليين إلَّا أقله.
كذلك كان يقول القدماء، وكذلك ما يزال يقول المحدثون، ولكن شيئًا من التفكير والنظر في آداب الأمم المختلفة يضطرنا إلى أنْ نعدل عن هذا الرأي القديم، فمن العجيب أنْ تتفق الأمم كلها على أنْ تحفظ من شعرها القديم أكثر مما تحفظ من نثرها في عصورها الأولى، ومن العجيب أيضًا أنْ تتفق الأمم كلها في ضعف الذاكرة عن النثر وقوتها على الشعر، ومن العجيب بعد هذا وذاك ألَّا تضعف ذاكرة هذه الأمم إلَّا عن النثر القديم، فأمَّا النثر الذي يظهر بعد أنْ تبلغ الأمة من الرقي العقلي والمدني طورًا ما، فإن ذاكرتها تقوى عليه وتنهض باستظهاره، كما تقوى على الشعر وتستظهره. الحق أنَّ الأمم إذا لم ترو شيئًا من نثرها القديم، فليس لذلك سبب إلَّا أنها لم يكن لها نثر في أطوار حياتها الأدبية الأولى، وإذا روت كثيرًا من شعرها القديم؛ فلأنها كان لها شعر في أطوار حياتها الأولى هذه؛ أي إنَّ الشعر أسبق إلى الوجود من النثر، وإنه أيسر منه وأدنى منالًا، وأنت إذا نظرت في تاريخ الأمم القديمة والحديثة، وإذا نظرت في حياة الأمم التي لم تكد تتحضر بعد، فسترى أنها كلها تسبق إلى الشعر، ولا تهتدي إلى النثر، ولا تظفر به إلَّا بعد زمنٍ طويل، وجدٍّ غير قليل، ورقيٍّ في الحضارة، وتقدم في الحياة العقلية لا بأس بهما، تجد ذلك عند اليونان، وتجده عند الرومان، وتجده عند العرب، وتجده عند الأمم الأوروبية الحديثة.
وحيثما وجهت في القبائل التي لم تستقر بعد، فسترى كلامًا منظومًا، له أوزانه وقوافيه، دون أنْ تجد لها هذا النثر الذي يظن رجال الأدب أنه أقرب من الشعر منالًا. ذلك أنَّ النثر ليس أقرب من الشهر منالًا في حقيقة الأمر، ولعل حظه من العسر ليس أقل من حظ الشعر إنْ لم يكن أكثر منه؛ فالنثر لغة العقل والشعر لغة الخيال، والخيال أسبق إلى النمو في حياة الأفراد والجماعات من العقل، خيال الصبي والشاب أقوى من عقله، وخيال الجماعات غير المتحضرة أقوى من عقلها، فليس عجيبًا أنْ يتكلم الخيال قبل أنْ يتكلم العقل، وليس عجيبًا أنْ يوجد الشعر قبل أنْ يوجد النثر، وليس عجيبًا أنْ يكون الشعر أيسر تعاطيًا وأدنى تناولًا من النثر. فالخيال إنْ تقيد بالوزن والقافية حين يتكلم فهو لا يتقيد بشيءٍ آخر، هو حرٌّ طلق يمضي حيث يشاء، ويصور الأشياء كما يشاء، لا كما تشاء الأشياء أو كما تشاء الطبيعة، أما العقل فقد يطلق نفسه من قيود الوزن والقافية، ولكن ما أثقل القيود والأغلال التي تأخذه وتعوقه عن الحركة، ولا تأذن له بالتقدم إلَّا في بطءٍ وأناة، هو لا يطير، ولا يحسن أنْ يطير، وهو لا يعدو، ولا يستطيع أنْ يعدو، فإذا حاول الطيران أو العدو، فليس هو العقل الخالص، وإنما هو العقل قد غلب عليه الخيال، هو لا يطير ولا يعدو، ولكنه لا يسعى في هدوء، وهو لا يصور الأشياء كما يشاء، ولكنه يقبل صورها كما هي، هو مقيد والخيال مطلق، وهو بطئ والخيال سريع، فليس عجيبًا أنْ يتأخر نموُّه عن نموِّ الخيال، وليس عجيبًا أنْ يكون إنتاجه أعسر وأقل من إنتاج الخيال، وليس عجيبًا آخر الأمر أنْ يكون النثر الذي هو لغة العقل أحدث وجودًا من الشعر الذي هو لغة الخيال.
ولكن مالي ولهذا كله؟ وأين أنا من الموضوع الذي أريد أنْ أكتب فيه، وهو النثر العربي في هذا العصر الذي نحن فيه؟ وما هذه المقدمات الطويلة؟ أليس القارئ يحس أني أطيل عليه وأثقل في غير نفع ولا جدوى؟ بلى، ولو كنت من أصحاب الخيال لما أطلت ولا أثقلت، ولا احتجت إلى مقدمات، فالخيال — كما قلنا — خفيفٌ حرٌّ يأتي حيث شاء وكيف شاء، ولكني أريد أنْ أكتب نثرًا؛ أي أريد أنْ أحمل عقلي على أنْ يتحدث إلى عقل القارئ، وقد قلنا: إنَّ العقل رزين بطيء لا يطير ولا يعدو، ولكنه يسعى في أناة. فلْيسعَ القارئ معي في أناة أيضًا، ولينتقل معي من كل هذه المقدمات إلى حيث أريد أنْ أنتقل به؛ لِيلاحِظ أنَّ هناك صلة قوية جدًّا بين الحياة العقلية وحظِّ النثر من القوة والضعف، من الرقي والانحطاط، من البرد والحر والفتور. متى بلغ النثر اليوناني أقصى ما استطاع أنْ يبلغ من الرقي في عصر سقراط وأفلاطون؟ ومتى بلغ النثر العربي أقصى ما كان يستطيع أنْ يبلغ من الرقي في عصر ابن المقفَّع والجاحظ وأشباههما؟ أي إنَّ رقي النثر كان عند اليونان والعرب رهينًا برقي الحياة العقلية، وانبساط سلطان الفلسفة على العقول، وهو كذلك عند الرومان، وهو كذلك في أمم أوروبا الحديثة، وهو كذلك في مصر. إنَّ الذين يريدون أنْ يؤرخوا الآداب العربية في هذا العصر الحديث خليقون ألَّا يقطعوا الصلة بين الأدب والعلم، وألَّا يظنوا أنَّ الحياة الأدبية تستطيع أنْ تستقل استقلالًا تامًّا عن الحياة العلمية، بل هم خليقون أنْ يعتقدوا أن ليست هناك حياة أدبية وحياة علمية، وإنما هناك حياة عقلية تظهر مرة في شكل أدبي هو النثر الفني، وتظهر مرة أخرى في شكل علمي، هو هذا النثر الذي نجده في كتب العلم الخالص، أقول إنَّ الذين يدرسون تاريخ الأدب في هذا العصر الحديث، خليقون أنْ يقدروا تأثير العلم والفلسفة في هذا الأدب وفي النثر بنوعٍ خاص، فليس يمكن أنْ يكون من أثر المصادفة وحدها أنْ تطرد الصلة بين الرقي العلمي الفلسفي ورقي الآداب عامة والنثر منها بنوعٍ خاص.
وفي الحق أنك حين تقرأ هذا النثر الذي كان يكتب في الشرق العربي في أول القرن الماضي تشعر بالفساد الفني الأدبي وحده، ولكنك ستشعر قبل هذا بخلو ما تقرأ من المعنى القيِّم، وبإعدام هذه العقول التي يترجم عنها هذا النثر، وستشعر بعد هذا بما ينتج عن إعدام هذه العقول وفقرها من الفساد الفني الذي يتصف به النثر العربي في كل العصور التي ضعفت فيها الحياة العقلية الفلسفية. لا يخدعنَّك ما ترى من هذه الزينة اللفظية والبهرج البديعي والبياني؛ من سجع وتكلف في الاستعارة والمجاز في التشبيه والكناية والتورية وما إليها، فليس هذا كله إلَّا تكلف المعدم البائس يريد أنْ يظهر مظهر الغني المُثْرى، إنما مثل هؤلاء الكُتَّاب الذين يتكلفون ألوان البديع والبيان في غير فائدة ولا جدوى مثل هذه المرأة أعوزها الجمال الفطري، فهي تتكلف الزينة، وأعوزها حر الحلي، فهي تخدع الناس ببهرجه وزائفه، ومن هنا تستطيع أنْ تلاحظ أنَّ النتيجة القيِّمة التي جاء بها القرن الماضي في النثر العربي إنما هي إطلاق النثر من هذه القيود البديعية والبيانية، وهو لم يطلقه من هذه القيود عبثًا، وإنما أطلقه منها؛ لأنه منحه هذا الروح القوي الذي مكنَّه من أنْ يستقل بنفسه، ويستهوي العقول والألباب قليلًا قيلًا، وهذا الروح القيِّم الذي بث الحياة في النثر العربي، وألقى عنه هذه اللفائف البالية التي كانت تثقله وتعوقه عن الحركة، إنما هو المعنى، وهذا المعنى إنما جاء من الحياة العقلية التي أنشطها العلم والفلسفة في القرن الماضي، وليس أدل على صدق ما نقول من أنك تنظر فترى انطلاق النثر من هذه القيود، وبراءته من هذه الأغلال، لم يأتيا عفوًا، ولم يتمَّا فجاءةً، وإنما كانا رهينين بوجود الصلة ونموها بين الشرق والغرب؛ أي بين العقل المعدم والعقل الغني.
مؤلم جدًّا هذا الشعور الذي تجده حين تقرأ الجبرتي وأمثاله من الذين كانوا يكتبون في أول هذا العصر الحديث، ولكن توسَّطِ القرن الماضي واقرأ ما كان يكتب في مصر والشام، فستجد شيئًا من اللذة يشوبه شيء من الألم كثير؛ لأنك تقرأ كلامًا يدل على شيء، ويريد بنوع خاص أنْ يدل على شيء، ولكنه لا يكاد يبلغ ما يريد؛ لأن حظه من المعنى قليل من جهة، ولأنه لم يستطع بعد أنْ يخلص من تلك القيود والأغلال من جهة أخرى، ثم صِلْ إلى الثلث الأخير من القرن الماضي، واقرأ ما كان يكتب في مصر والشام أيضًا، فسيعظم حظك من اللذة، وستشعر بشيء من الألم، ولكنه ليس هذا الألم الذي تجده حين تشهد البؤس والإعدام، وإنما هو نوع آخر من الألم تجده حين تشهد التكلف والتصنع، وحين نحس أنَّ هذه المعاني لو أُطلقت من قيودها، وأرسلت على سجيتها لأحدثت في نفسك من البهجة واللذة ما لا تستطيع أنْ تحدثه وهي مثقلة بما يحيط بها من لفائف البديع والبيان.
كل هذا يدل على أنَّ النثر العربي قد كان ثقيلًا بغيضًا — أول القرن الماضي — لأنه كان قليل الحظ من الحياة العقلية، لا أثر فيه لشخصية الكاتب ولا لتفكيره، أو قل لأنه كان فقرًا كله، ثم أثرى العقل الشرقي شيئًا فشيئًا، فدبت الحياة في النثر بمقدار هذه الثروة العقلية، وأخذ هذا النثر كلما أحس حياته وقوته يجتهد في أنْ يخلِّص نفسه من قيود الفقر وأغلال البؤس، حتى انتهى إلى حيث هو الآن من حرية وانطلاق. فالنثر إذن مدين في هذا العصر بحريته وانطلاقه ورقيه الفني، كما كان مدينًا في غير هذا العصر بهذه الأشياء كلها للعلم والفلسفة، وما أحدثا من تنشيط العقل، ورده إلى اليقظة بعد النوم، وإلى الحركة بعد الجمود، ومن الحق على الكُتَّاب المجيدين أنْ يعرفوا ما للعلماء والفلاسفة عليهم من فضل، وأنْ يقدِّروا ما للذين نقلوا إليهم العلم والفلسفة عندهم من يد، فلولا المترجمون في العصر العباسي ما عرفت العربية نثر ابن المقفع والجاحظ، ولولا المترجمون في هذا العصر الحديث ما عادت للنثر العربي حياته القوية النشيطة، التي نريد أنْ نتحدث عنها بعض الحديث.
أخشى أنْ أكون مسرفًا بعض الشيء. فإن حياة النثر العربي في هذا العصر لم تأت كلها من قبل العلم الحديث والفلسفة الحديثة، وإنما جاءت من قبلهما ومن قبل شيء آخر، هو الأدب العربي القديم في عصوره الراقية، فقد كان الكُتَّاب وأهل العلم في أوائل القرن الماضي يجهلون أو يكادون يجهلون قديم العرب وما كان لهم من شعر جيد ونثر رائع، وكان الذين يلمون منهم بهذا الأدب القديم لا يكادون يفهمون ما يلمون به على وجهه، وكانوا لا يحاولون أنْ يتأثروه أو يحتذوه، أمَّا الآن فقد تغير هذا كله وعرف الأدب العربي القديم، وعادت الحياة إلى الشعر العربي والنثر العربي، فنحن نقرؤهما، ونحفظهما، وننقدهما، ونتأثرهما؛ ولهذا كله حظ عظيم من التأثير في جودة ما نكتب من نثر، وما ننظم من شعر، ولكن ما الذي ردَّ الحياة إلى الأدب العربي القديم؟ وما الذي ذكَّر كُتَّاب الشرق وشعراءه بهذا الأدب؟ وما الذي حملهم على قراءته وروايته ونقده واحتذائه؟ إنما هو هذا الروح العلمي الذي جاءنا من الغرب، ونقله إلينا المترجمون، هذا الروح العلمي هو الذي أنشط العقول، وحملها على أنْ تفكر في القديم والحديث، وعلى أنْ تغدو نفسها بهما معًا، وإذن فأنا لم أسرف، ولم أتجاوز الحق حين رأيت أننا مدينون بحياة النثر لهؤلاء المترجمين الذين أوجدوا الصلة بين الشرق النائم والغرب اليقظ.
ولقد أحب أنْ أعرف حظ البلاد الشرقية في إيجاد هذه الصلة الخصبة القيِّمة بين الشرق والغرب، فلا أجد في ذلك مشقة ولا عسرًا، فالبلاد التي ردت إلى الشرق حياته العقلية والأدبية في هذا العصر؛ هي بعينها البلاد التي أحيت الشرق في العصور الأولى حياة قوية مطردة، لا عارضة ولا متكلفة. نعم لم يستمد الشرق العربي حياته قديمًا من شمال أفريقيا، ولا من جزيرة العرب، بل لم يستمدها من العراق إلَّا بمقدار، وإنما استمد حياته الصالحة الخصبة في نظام واطراد من مصر والشام.
من هذين القطرين أزهرت الحضارة الشرقية الخاصة، ومن هذين القطرين انبعثت الحضارة إلى أطراف الشرق، وفي هذين القطرين أثمرت الحضارات الأخرى التي نشأت من غيرهما، وسيطرت على الشرق حينًا طويلًا أو قصيرًا، كحضارة اليونان والرومان والعرب، وإلى هذين القطرين لجأت الحضارات الشرقية وغير الشرقية حين ضاقت بها البلاد الأخرى، فوجدت فيهما ملجأً أمينًا، ومأوى حصينًا. نعم وفي هذين القطرين نشأت النهضة الشرقية في هذا العصر الأخير، نشأت في مصر، ونشأت في الشام أوائل القرن الماضي، واستبق القطران فيها استباقًا عظيمًا، حتى أصبح من العسير أنْ نحدد الحظ الذي ظفر به كل منهما في هذه النهضة. فبينما كان أمراء مصر من الأسرة العلوية يجدُّون في إنهاض مصر، وتقوية الصلة بينها وبين الغرب، وإرسال الوفود العلمية إلى أوروبا، واستقدام العلماء الأوروبيين إلى مصر، وإقامة المعاهد العلمية المختلفة، ونقل الكتب في ألوان العلوم والفنون؛ كان المسيحيون من أهل الشام يتصلون بأوروبا اتصالًا قويًّا لأسباب مختلفة؛ منها السياسة، ومنها الدين، ومنها العلم. وكانت تحدث في بلاد الشام حركة مشبهة جدًّا لهذه الحركة التي كان يستحدثها الأمراء في مصر، وكانت تنتج عن هاتين الحركتين في مصر والشام نتيجة واحدة؛ هي نشاط العقل الشرقي واستئنافه الحركة والحياة.
ولكن من الحق أنْ نلاحظ أنَّ مظهر النهضة كان في مصر علميًّا عمليًّا، أو أقرب إلى العلم والعمل منه إلى أي شيء آخر، بينما كان مظهر الحركة في الشام أقرب إلى الأدب واللغة، وأدنى إليهما منه إلى أي شيء آخر؛ فأنت تستطيع أنْ تجد في مصر في أثناء القرن الماضي العلماء الذين تفوقوا في الطب والرياضة والطبيعة، ولكنك لا تكاد تظفر فيها بأديب يعدل هؤلاء الأدباء الذين كثروا في الشام، وأنت تستطيع أنْ تجد في الشام أدباء تفوقوا في الأدب واللغة، واستحدثوا فيهما الجديد النافع، ولكنك لا تجد في الشام مثل ما تجد في مصر من العلماء. ومهما يكن من شيء، فقد أرادت ظروف الحياة التي أحاطت بالقطرين أنْ يلجأ النشاط السوري في الأدب واللغة إلى مصر منذ أواخر القرن الماضي، وأنْ تكون القاهرة مستقر الحركة العقلية القويَّة في الشرق كله؛ فانتقل أدباء السوريين وعلماؤهم إلى مصر، ووجد نشاطُهم فيها ما لم يكن يجده في الشام من القوة والتشجيع فآتى ثمرته الباقية الخالدة، وأصبح النثر العربي الآن أصدق مزاج التأم فيه الروحان السوري والمصري التئامًا لا سبيل إلى تفريقه.
ولست أقول هذا الكلام عبثًا، ولا أطلقه من غير دليل، فليس من شك في أنَّ الصحافة صاحبة الحظ الموفور في نشر الأدب والعلم، وإنشاء النثر الحديث، وأنا حين أذكر الصحافة لا أريد بها اليومية دون الأسبوعية، أو دون الشهرية، إنما أريد الصحافة كلها، والصحافة سورية مهما يكن من شيء، ولعل أحدًا لا يستطيع أنْ يناقش في أنَّ الصحافة المصرية الخالصة حديثة العهد بالوجود، وأنها على ما بلغت من قوة الأيْد، وشدة الأسر في هذه الأيام لم تستطع أنْ تسبق الصحافة السورية، ولا أنْ تتفوق عليها.
وحسبنا أنْ نلاحظ أنَّ الصحافة المصرية إنْ كانت قد بلغت من القوة في هذه الأيام حظًّا موفورًا، فهي بعد لم تستطع أنْ تتجاوز السياسة، وهي إنْ أثرت في الأدب فمن طريق السياسة، ومن السعي إلى السياسة، فأمَّا الصحافة الأدبية والعلمية الخالصة التي تتناولها لتقرأ فيها فصلًا من فصول الأدب، أو مبحثًا من مباحث العلم ليس غير؛ فما زالت إلى الآن سورية، وهي ترحب بضيوفها من المصريين وغير المصريين، وتجد في تضييفها إياهم حياة وقوة، ولكنها على كل حال سورية.
والآن وقد ألممنا بأصول هذه النهضة النثرية العربية، فهل نستطيع أنْ نشخصها تشخيصًا صحيحًا، وأنْ نصل إلى المميزات التي تفرق بين هذا النثر الذي نكتبه الآن والنثر الذي كان يكتب منذ خمسين سنة؟ أعتقد أنَّ ذلك ليس عسيرًا؛ فقد كان النثر منذ خمسين سنة كما قلت لك آنفًا متوسطًا بين حالين فيه معنى قيِّم يُحدث في نفسك ما تطمح إليه من لذة علمية وفنيَّة، ولكنه لم يخلص من تلك الأغلال والقيود التي كان يرسف فيها النثر القديم، فهو مقيَّد بالسجع متكلف للاستعارة وألوان البديع والبيان، ولكنه لم يكن يتكلف هذه الألوان بحكم الفقر والإعدام، وإنما كان يتكلفها بحكم العادة، ولم يكن بدٌّ في ذلك الوقت الذي أحسَّ العقل الشرقي فيه حريته وشخصيته؛ من أنْ تشب الحرب ضروسًا بين المذهبين المختصمين دائمًا في النثر: مذهب أصحاب القديم، ومذهب أصحاب الجديد. وقد شبت بالفعل هذه الحرب، وكان السوريون هم الذين شبوها؛ لأنهم — كما رأيت — أصحاب الصحافة، ولأنهم — كما رأيت — أقرب إلى النشاط في الأدب منهم إلى النشاط في غيره، وأنت تعلم أنَّ الصحفي مضطر بحكم صناعته وما تستتبعه من العجلة والتحدث إلى الجمهور؛ إلى أنْ يتحلل من هذه القيود البديعية، ويتخلص من هذه الأغلال الفنيَّة، وكذلك فعل الصحفيون من السوريين، وكذلك فعل الصحفيون المصريون أيضًا، واستطاع الشيخ محمد عبده، وسعد زغلول، وعبد الكريم سلمان أنْ يكتبوا فصولًا لا تخلو من آثار القديم؛ فيها السجع، وفيها تكلف البديع والبيان، ولكنها بعيدة كل البعد عما كان يكتب في أوائل القرن الماضي، وفي منتصفه أيضًا، فيها حرية لفظية ومعنوية ظاهرة، وفيها اجتهاد في اختيار الحر من اللفظ، واجتناب المبتذل، وفيها طموح إلى الجديد لم يكن يألفه الكُتَّاب المصريون من قبل، وكثر انتشار المباحث العلمية الحديثة في مصر والشام بفضل المجلات والصحف والكتب، واشتدت حركة إحياء الأدب العربي في القطرين، وقرأ الناس العلم والأدب الغربيين؛ فنشطت عقولهم، وقرءوا الأدب العربي القديم؛ فاستقامت ألسنتهم وأقلامهم.
ولم يكد ينتهي القرن الماضي حتى كان الشعر قد خلص من أغلال البديع خلوصًا تامًّا، وحتى كان الجهاد بين القديم والجديد في النثر قد تطور تطورًا غريبًا، فأصبح أنصار القديم لا يستمسكون بركاكة الجبرتي، ولا يحرصون على بديع ابن حجة، وإنما يستمسكون بقديم بغداد وغيرها من أمصار البلاد العربية في العصر العباسي، ويستمسكون بصحة اللفظ من الوجهة اللغوية، وبراءته من العامية والابتذال، وأصبح أنصار الجديد لا ينفرون من البديع والبيان، فقد استراحوا من البديع والبيان، وإنما ينفرون من الإغراق في هذا الأدب العربي القديم، ويطمحون إلى تقليد الأدب الغربي الحديث، واصطناع الألفاظ الأوروبية الأعجمية.
اشتد هذا الجهاد بين أنصار القديم والجديد، في العقد الأول من هذا القرن، وكان السوريون بنوعٍ خاصٍ من أشد الناس نصرًا للجديد، وكان شيوخ مصر هؤلاء الذين توسطوا بين الأزهر والمدارس المدنية؛ لأنهم تخرجوا من دار العلوم من أشد أنصار القديم، وكان العلم يزداد انتشارًا، والشباب يزداد إمعانًا في الاتصال بأوروبا، والتغذي بما فيها من علمٍ وأدب، ثم كانت حركة وطنية في مصر قوية عنيت بها الصحف وانْدَفَعَتْ فيها اندفاعًا شديدًا، وكان الشبان قوة هذه الحركة، ومن الذي يستطيع أنْ يأخذ الصحف المندفعة في حركاتها السياسية بملاحظة القديم وانتقاء الألفاظ؟ ومن الذي يستطيع أنْ يأخذ الشباب الثائر بأن يتقيَّد بالقاموس أو لسان العرب؟ ولِأمْر ما تجاوزت هذه الحركة السياسية مصر، وكانت الثورة في قسطنطينية، وأُعلن الدستور العثماني، ورُدَّت الحرية إلى الأقطار العربية والعثمانية، فكان لهذا كله أثرٌ قوي في الأدب العربي، وفي النثر منه بنوعٍ خاص.
وكان هذا كله صدمة عنيفة لِأنصار القديم من الكُتَّاب والشعراء؛ ذلك لأن هذه الحركات السياسية نقلت الكتابة من بيئتها القديمة إلى بيئات جديدة ما كانت لتكتب لولا هذه الحركات، فقد كانت الكتابة — كما كان العلم — حظًّا مقصورًا على بيئة خاصة من الناس، ثم أصبحت الكتابة كما أصبح العلم حظًّا شائعًا في الناس جميعًا، ومن ذا الذي يستطيع أنْ يأخذ الناس جميعًا بالتحرج فيما يكتبون، والتقيد بمعاجم اللغة وأساليب القدماء؟!
وكانت الحرب العظمى، فاشتد الاتصال والمخالطة بين الشرق والغرب، وانتهيا إلى حدٍّ لم يُعرف من قبل، ثم انتهت هذه الحرب، ونتج عنها ما نتج من هذه الثورة السياسية العامة في الشرق العربي كله، وأثَّر هذا في حياة الناس على اختلاف فروعها، فلم يكن بد من أنْ يؤثِّر في الأدب أيضًا، وفي النثر بنوعٍ خاص. الحق أنَّ الحرب ونتائجها وقفت نمو الحركة الأدبية في الشرق العربي، وأنَّ هذه الثورة السياسية شغلت الناس عن الحياة الأدبية والعلمية حينًا، وقصرت جهودهم على السياسة، ولكن هذه السياسة نفسها قد تركت في النثر العربي آثارًا لن تُمحى قبل عصرٍ طويل، جعلته حادًّا عنيفًا، واستحدثت فيه فنونًا مختلفة، وأساليب متباينة من الطعن والخصومة لم يعرفها النثر العربي من قبل، ثم لم تلبث السياسة نفسها أنْ استحدثت حياة أدبية جديدة في النثر ظهرت منذ حين وآتت ثمرًا طيِّبًا، ولكنها لم تصل بعد إلى غايتها. ومن الحق أنْ نقول: إنَّ مصر قد اختصت بهذه الحركة، ولكل شيءٍ خيره وشرُّه، وقد كان للخصومة الحزبية في مصر شرورها وآثامها، ولكن لها في الوقت نفسه حسناتها ومنافعها، وإنما نُعنى منها بالحسنات والمنافع الأدبية.
وأول ما نلاحظ من هذه الحسنات أنَّ الجهاد اشتد بين الأحزاب، فاضطرها إلى أنْ تتنافس في اكتساب الجمهور، وكانت الصحف أجلُّ الأدوات لهذا التنافس خطرًا، وكان الأدب من أهم الأسباب التي اتخذتها الصحف وسيلة إلى التنافس. أخذت الصحف تنشر الفصول الأدبية تقلد في ذلك صحف أوروبا، ولكنها تخدع الناس وتستدرجهم إلى قراءة ما تكتب في السياسة، وما هي إلَّا أنْ أصبحت الكتابة في العلم والأدب نظامًا تحرص عليه كل صحيفة تقدر لنفسها كرامة صحفية، وتريد أنْ يحفل بها الجمهور، وأصبح الجمهور نفسه لا يقدر الصحف إلَّا إذا قدمت له مع الفصول السياسية فصولًا في العلم والفلسفة والأدب والفن. والصحف تتجاوز مصر، وتنبثُّ في الأقطار العربية كلها، فما أسرع ما تتأثر هذه الأقطار بهذه الفصول الأدبية، فالأدب وحده هو الذي يجمع بين البلاد العربية المختلفة جمعًا حرًّا بريئًا منتجًا بعد أنْ فرقت بينها السياسة.
ولست أذكر هذه الفنون النثرية الهزلية التي استحدثتها السياسة في الصحف الأسبوعية، فلهذه الفنون قيمتها، ولكنها ليست من النثر الذي نحن بإزائه، وهو النثر الأدبي الفصيح.
هذا النثر الأدبي الفصيح إن امتاز الآن بشيءٍ فهو يمتاز بأن الخصومة فيه بين أنصار القديم والجديد قد انتهت أو كادت تنتهي إلى قدر لن يعدوه المختصمون؛ ذلك أنَّ الكثرة المطلقة من الذين يقرءون الصحف والكتب حريصة كل الحرص على شيئين لا ترضى بدونهما الأول: أنْ يُقدم إليها نثر فصيح مستقيم اللفظ، نقي الأسلوب، بريء من الابتذال، حر من أغلال البديع والبيان، والثاني أنْ يكون هذا النثر على كل ما قدمنا ملائمًا لذوقها الجديد وميولها الجديدة، قيِّمًا في معناه كما هو قيِّم في لفظه، حرٌّ في معناه كما هو حر في لفظه أيضًا، ومعنى هذا أنَّ الكثرة المطلقة من الذين يقرءون العربية الآن تحرص في حياتها كلها على أمرين: تحرص على قديمها؛ لأنها لا تريد أنْ تمحو شخصيتها، وتحرص على الجديد؛ لأنها لا تريد أنْ تكون أقل من الغرب علمًا، ولا أدبًا، ولا حضارة. وهذا النثر الذي قدمت وصفه هو وحده الملائم لهذا الذوق الجديد، وهذه الآمال الجديدة، ومع ذلك فللقديم أنصار وللجديد أنصار، ولكن أولئك وهؤلاء قلة ضئيلة في حقيقة الأمر، لا يكاد يعبأ بها أحد، أولئك لا يزالون يستمسكون بالصناعة اللفظية، ويسرفون فيها إسرافًا شديدًا، فينصرف عنهم الناس؛ لأنهم لا يفهمونهم، ولا يجدون عندهم ما يريدون. وهؤلاء يزدرون الألفاظ، ويفنون شخصيتهم الشرقية العربية في كُتَّاب الغرب فينصرف عنهم الناس؛ لأنهم لا يجدون عندهم هذه الشخصية الشرقية العربية، التي يكلفون بها ويناضلون في سبيل تحقيقها، وإكراه أوروبا على أنْ تعترف لها بالوجود.
أظنك تعفيني من أنْ أتجاوز هذا القدر العام إلى التحدث إليك عن شخصيات الكُتَّاب الناثرين في مصر وغير مصر، وآثار هذه الشخصيات في أساليبهم النثرية فقد أطلت وأسرفت في الإطالة، ولو ذهبت أحدثك عن شخصيات الكُتَّاب وأساليبهم لما فرغت الآن، وما أشك في أنَّ «المقتطف» حريصٌ على أنْ أفرغ.