البؤساء
كنت أريد أنْ أحدثك اليوم عن شاعر عربي قديم، ولكني وجدت أمامي شاعرًا عربيًّا حديثًا، فآثرت أنْ يكون هذا الشاعر موضوع حديث هذا الأسبوع.
الحق أني وجدت أمامي شاعرين: أحدهما فرنسي هو فيكتور هوجو، والثاني مصري هو حافظ إبراهيم، ولكني لا أريد أنْ أتحدث عن فيكتور هوجو اليوم؛ لأن كتاب البؤساء ليس من كتبه القيِّمة، التي تستحق الإعجاب أو تستعد لطول البقاء.
ليس البؤساء من هذه الآثار التي صدرت عن فيكتور هوجو فمثلت شخصيته القوية ونبوغه العظيم، وإنْ كان من كتابنا المصريين الذي يجهلون الفرنسية، ولم يقرءوا فيكتور هوجو إلَّا مترجمًا إلى العربية أو الإنجليزية من كتَب منذ أسابيع يزعم أنَّ فيكتور هوجو ليس ذا قيمة ولا خطر.
ليس البؤساء من هذه الكتب التي نقرؤها فنعجب بكاتبها، ونشعر بأن له على نفوسنا سلطانًا، وفي قلوبنا تأثيرًا عظيمًا، وإنما هو كتاب كغيره من الكتب فيه جودة وحسن، وفيه إطالة وإملال، فيه صحف قيِّمة، وفيه ثرثرة لا تفيد. ولست أدري لِمَ اختاره حافظ، وكلَّف نفسه ألوان الجهد والعناء في ترجمته! فالحق أنَّ شاعرنا قد تكلف جهدًا عظيمًا وعناءً شديدًا في هذه الترجمة، ولست أدري لِمَ أختاره؟ بل ربما كنت أدري، فقد أذكر أنْ قد كان البِدْع في أيام صباي تكلف البؤس وانتحال سوء الحال، والافتنان في شكوى الناس والزمان، كان ذلك بدعًا في العقد الأول من هذا القرن، وكان حافظ يذيع هذا البدع ويروجه.
في هذا العصر اختار حافظ كتاب البؤساء، فترجم منه جزءًا، ولكن الأيام دارت دورتها، ولم يتح لهذا المزاج السيِّئ المظلم أنْ يتأصل في النفوس أو يسيطر عليها، فلو أنَّ حافظًا أهمل البؤساء، ولم يمض في ترجمته لما سأله سائل، ولا لامه أحد، ولكنه بدأ عملًا فأراد أنْ يتمه، وهذا حق له وواجب عليه، وليس يخلو من نفعٍ جمٍّ وخيرٍ كثير.
لا أتحدث اليوم إذن عن فيكتور هوجو، ولا عن كتاب البؤساء، وإنما أتحدث عن حافظ وعن ترجمته لكتاب البؤساء، ولست أخفي عليك أنَّ هذا الحديث ليس بالسهل ولا باليسير، فإن لحافظ في نفسي مكانته العالية في نفس كل مصري قرأ شعره الجزل ونثره المتين، وله في نفسي مكانة خاصة، هي مكانة الصديق الذي أحبه وأجله، وأطمئن إلى خلقه، وأرتاح إلى حديثه العذب.
لحافظ في نفسي هاتان المكانتان، فأنا متهم حين أثني عليه، ومكرِه لنفسي حين أنقده، ومع ذلك فمن حق كتابه عليَّ الثناء والإعجاب، فلست تقرأ في كتاب من هذه الكتب التي تصدر في هذه الأيام أسلوبًا أمتن، ولا تركيبًا أرصن، ولا لفظًا أحسن اختيارًا، وأشد ملاءمةً لمعناه، واستقرارًا في نصابه مما تقرأ في هذا الجزء من كتاب البؤساء.
ليس في ذلك شيء من الإسراف أو الغلو، بل هو دون ما أريد أنْ أقول، وماذا تريد أنْ تقول في كتاب ظهر في هذه السنة ولهذا الجيل، فإذا قرأته استيقنت أنه لم يكتب في هذه السنة ولا لهذا الجيل!
ماذا تقول في كتاب لا تكاد تمضي في قراءته حتى تشعر بأنه إنما كتب في غير هذا العصر، كتب أيام كانت اللغة العربية بدوية جزلة لم تخلع بعد أَسْمالَ البداوة، ولم ترتدِ حلل الحضارة، أيام كانت لغة الصحراء يصنعها الحداة والماتحون! أيام كانت لغة الأشداق الواسعة العريضة، والشفاه الضخمة الغليظة، لا الأفواه الضيقة الظريفة، ولا الشفاه الناعمة الرقيقة، ثم هو يصف بهذه اللغة البدوية عواطف حضرية، ومعاني حضرية. عواطف ومعاني نشأت في أوروبا، وفي نفس فيكتور هوجو! يصف بلغة رُؤْبَة، والعَجَّاج، وذي الرمة خواطر كُتَّاب الفرنسيين في القرن التاسع عشر!
ليس في ذلك إسراف ولا غلو، فقد كنت أظنني أعرف العربية، وأستطيع أنْ أقرأ فيها كتابًا، ولا سيما من هذه الكتب المعاصرة، دون أنْ أحتاج إلى بحثٍ كثير في القاموس، فلما قُرئ عليَّ البؤساء عرفت أنَّ من تواضع لله رفعه! وأقسم لولا هذا الشرح الذي تفضل به حافظ على القراء لما تقدمت في قراءة الكتاب إلَّا مع شيءٍ غير قليلٍ من المشقة والعناء. ولكني لا أدري أمزية هذه أم نقيصة؟ ولعلها مزية ونقيصة في وقتٍ واحد؛ مزية لأنها تدل على أنَّ حافظًا قد وعى لغته وأحسن الإلمام بها، والانتفاع واستظهر، وعلى أنه قد كد وعنَّى نفسه في تخير هذه الألفاظ الشاردة وتقييدها، وحسن الملاءمة بينها وبين هذه المعاني والعواطف الحضرية المألوفة، وعلى أنه حريص كل الحرص على أنْ يحتفظ للغتنا العربية بروائها القديم وجمالها البدوي التليد، وعلى أنْ يعصمها من السقوط والإسفاف.
ونقيصة لأنها تكلف، ولأنها عقبة تحول بين القارئ وبين الفهم، ولأنها لا تلائم روح العصر، ولأنها لا تعين على ما قصد إليه من نشر آراء فيكتور هوجو، وإذاعة عواطفه بين شعبنا المصري الذي لا يعرف لغة رؤبة والعجاج منه إلَّا نفر يُحصَون، ولقد كلمت حافظًا في ذلك فقال: إني عملت للخاصة. وكنت أظن أني من هؤلاء الخاصة، فإذا بيني وبينهم أمد بعيد! وأحسب أنَّ خاصة حافظ لا يوجدون إلَّا في خياله!
أحمد لحافظ هذه اللغة الغريبة الجزلة؛ لأنها تدل على عناء وجهد عظيمَين، وأُنكرها عليه؛ لأنها تكاد تجعل هذا الجهد غير نافع، وهذا العناء غير مفيد، وما رأيك في أني أقرأ الأصل الفرنسي فأفهمه بلا عناء، وأقرأ ترجمته العربية فلا أفهمها إلَّا كارهًا! ولست أتقن الفرنسية إتقانًا خاصًّا، ولا أجهل العربية جهلًا خاصًّا، فكثير من الناس يفهمون البؤساء بالفرنسية فهمًا يسيرًا، ويفهمون البؤساء بالعربية فهمًا عسيرًا، ولقد قال لي أحد الكُتَّاب المجيدين: أليس غريبًا أنْ يكون ابن المقفع أدنى إلى إفهامنا من حافظ؟!
أيسمح لي حافظ بعد هذا أنْ آخذه بعيبين عظيمين، آسف جدًّا؛ لأني مضطر إلى أخذه بهما؟ فله علينا حق الإنصاف، ولكن للعلم والنقد حقهما من هذا الإنصاف أيضًا.
لعل القارئ قد أحس أنَّ «مسيو مدلين» لم يكن إلَّا «جان فلجان» لقد نظرنا في أعماق هذا الضمير، وقد آن أنْ نعيد النظر فيه، ولن نفعل ذلك دون أنْ ينالنا الانفعال، ويملكنا الاضطراب، فليس شيء أبعث للقلق في النفوس من هذا النوع من المشاهدة، ولن تستطيع عين العقل أنْ تجد في أي مكان ضوءًا أخطف للبصر، أو ظلمة أشد مما تجد في الإنسان! لن تستطيع هذه العين أنْ تثبت على شيء أدعى إلى الخوف وأشد تعقيدًا، وأكثر غموضًا، وأبعد مدى في الوجود؛ أعظم من منظر البحر، ومنظر السماء. هناك منظر أعظم من السماء، هو دخيلة النفس!
وليست محاولة إنشاء هذه القصيدة؛ قصيدة الضمير الإنساني ولو بالقياس إلى رجلٍ واحد، ولو بالقياس إلى أشد الناس ضعة؛ إلَّا محاولة صوغ القصائد القصيصة كلها في قصيدة واحدة أعلى مكانة في الشعر وأدنى إلى الكمال، إنما الضمير هو النار المتأججة، تسبك فيها الأحلام، وهو الكهف تختبئ فيه الخواطر الدنيئة المخجلة، وهو العاصفة الجهنمية تأوي إليها كل شياطين المغالطة، وهو ميدان الجهاد بين الشهوات.
تخطَّ في بعض الأحيان هذا الوجه الممتقع؛ وجه الرجل المفكر، وانظر وراءه، انظر في هذه النفوس، انظر في هذه الظلمة، إنَّ تحت هذا الصمت الظاهر لحربًا ضروسًا، قد اشتبكت فيها المردة كما في «هوميروس»، ومعارك قد التحمت فيها التنانين والحيَّات، وسحابًا من الأشباح كما في «ميلتون»، ودخانًا يصعد ملتويًا كما في «دنتي»، شيء مظلم هذا الضمير الذي لا حدَّ له، والذي يحمله كل إنسان في نفسه، ويقيس به يائسًا إرادة عقله، وما في حياته من عمل!
لقد صادف «اليجيري» في يومٍ من الأيام بابًا مخيفًا تردد قبل أنْ يلجه، فانظر أمامك فهذا باب مخيف أيضًا، نتردد أمامه، ومع ذلك فلندخل!
بحثت عن هذا الكلام في الترجمة فلم أجده، وما أحسب أنه سقط في المطبعة سهوًا أو خطأً!
قدمنا بين يدي القارئ ما كان من أمر «جان فلجان»، منذ ابتذَّ ذلك الغلام قطعته الفضية، وقد رأى كيف حال هذا الرجل إلى رجل آخر، وكيف فعلت في نفسه كلمات العابد «كذا؟» أفاعيلها فاختطفته إلى المعبود، وأخرجته من مسلاخ الشِّرَّة «كذا؟» والضغينة، وأسكنته في إهاب من الفضيلة.
ليس لدينا إلَّا شيء قليل نضيفه إلى ما عرف القارئ من أمر «جان فلجان» منذ كان بينه وبين «بتي جارفيه» ما كان، فقد رأيت أنه أصبح رجلًا آخر منذ ذلك الوقت، فأنفذ ما أراد الأسقف أنْ يصنع به، صنع بنفسه شيئًا أكثر من التحويل، خلقها خلقًا جديدًا.
ولو أننا ذهبنا في المقابلة بين الأصل والترجمة، لأظهرنا خلافًا شديدًا جدًّا بين الشاعرين الفرنسي والعربي، ولكنا قد أطلنا فلْنختصرْ.
نأخذ حافظًا بعيوبٍ ثلاثة: الإسراف في اللفظ الغريب، والإعراض التام عن بعض النصوص، والتشويه الذي يختلف قوةً وضعفًا لبعضها الآخر. وهذه العيوب الثلاثة خطرة جدًّا، ولكن حافظًا يستطيع أنْ يحتملها، فليس يمكن أنْ نقرأ لا أقول ترجمته، بل أقول كتابه دون أنْ نستفيد.