الشعر
لغيري أنْ يمدح شوقي بلا حساب، أما أنا فلا أريد أنْ أمدح، ولا أريد أنْ أذم، وإنما أريد أنْ أنقد، وأنْ أوثر القصد في هذا النقد، وأظن أنَّ شوقي يؤثر النقد المنصف على الحمد المسرف. وأظن أني أجلُّ شوقي وأكبره بالنقد أكثر من إجلالي إياه بالتقريظ والثناء، فقد شبع شوقي ثناءً وتقريظًا، وأحسبه لم يشبع نقدًا بعد، وليس شوقي — فيما أعلم منه — شرهًا إلى حسن الحديث وطيب القالة، وهو لم ينشئ شعره لذلك، وإنما هو شاعر يحب الشعر للشعر، وينشئ الشعر؛ لأنه يجد في نفسه عواطف يحب أنْ يضعها، وإحساسًا يحب أنْ يذيعه. هو شاعر؛ لأنه يشعر وليس هو بالشاعر لأنه يريد أنْ يتكلم لا أكثر ولا أقل.
أنا إذن واثق بأني لن أُغضب شوقي إذا نقدته، وربما أغضبته إذا غلوت في الثناء عليه، على أني لست في حاجة إلى هذه المقدمة الطويلة، فقد لا يسهل علي ولا ييسر لي نقد هذه القصيدة الجميلة التي نشرتها علينا «الأهرام» صباح اليوم.
نعم قد لا يسهل نقد هذه القصيدة، وقد يضطر الناقد إلى أنْ يتلمس فيها العيب، ويبحث فيها عن مواضع الضعف، وقد لا يجد شيئًا بعد طول التلمس والبحث؛ فيقف من شوقي لا موقف الناقد، بل موقف المداعب، وهل تظن أنَّ مداعبة شوقي ضئيلة الخطر أو قليلة القيمة؟ لا أقول كما قالت «الأهرام» إنَّ قصيدة شوقي هذه هي درة الشعر والنظم، وإنما أقول: إنها قصيدة من قصائد شوقي فيها الكثير الجيد، وليست تخلو من الرديء، ولشوقي — بحمد الله — قصائد أمتن لفظًا، وأرصن أسلوبًا، وأحسن في النفس موقعًا، وأرفع معنى من هذه القصيدة.
لا أستطيع أنْ أتخذ هذه القصيدة مقياسًا لشاعرية شوقي، وحسن غوصه، وفوزه بالمعنى الجيد، وحسن أدائه في اللفظ الرشيق، لا أستطيع ذلك، وقد قرأت في الشباب شعر شوقي في الشباب، فوجدت في هذه القراءة لذَّة لم أجدها في قراءة شاعر عصري آخر. ليست هذه القصيدة آية من آيات شوقي، وإنما هي قصيدة من قصائده الجيدة، ولعلك إذا أردت أنْ تتلمس مصدر ما في هذه القصيدة من جودة لم تتجاوز شيئًا واحدًا، وهو أنَّ شوقي لم يتكلف في هذه القصيدة لفظًا ولا معنًى، وإنما شعر، وأحس، وجرى قلمه بما أحس وما شعر، وليس هذا بالشيء القليل ولعل هذا هو كل شيء.
اقرأ هذه القصيدة من أولها إلى آخرها تشعر بما يشعر به شوقي، وتحس ما يحسه شوقي، وبِمَ شعر شوقي؟ وماذا أحس شوقي حين تناول القلم فكتب هذه القصيدة؟ شعر بشيئين يشعر بهما كل مصري، ولكن شعورًا غامضًا لا يتبينه في نفسه، ولا يستطيع أنْ يبينه للناس؛ أحدهما أنَّ لتاريخ مصر القديم مجدًا وعظمة، والثاني أنَّ تاريخ مصر الحديث فقير إلى هذا المجد، وإلى هذه العظمة. بهذا يشعر كل مصري، وبهذا شعر شوقي، ولكن كل مصري لا يستطيع أنْ يبين هذا كما بيَّنه شوقي، ولا أنْ يذهب فيه مذاهب القول التي ذهبها شوقي.
فانظر إليه كيف ابتدأ قصيدته بمناجاة الشمس، فأخذ يسألها ويستوحيها، ويحسن سؤالها واستيحاءها، وأخذت هذه الشمس تجيبه فتحسن الجواب، وتلهمه فتجيد الإلهام:
وقد وقفت أخت «يوشع» تخبره أحاديث القرون الأولين في أعذب لفظ وأسلسه، وأجمل أسلوب وأرقه دون أنْ تتعسف به أو تثقل عليه، دون أنْ تضل به في هذه القرون القديمة الكثيرة العميقة، التي لا يحصى لها عدٌّ ولا يسبر لها غور. وقفت أخت يوشع فحدثته، أو قل إنها ألهمته فرد عليها حديثها، أو قل إنها أنابته عنها فتحدث إلى الناس بلسانها، فأحسن الحديث وأجاد الترجمة.
زعموا أنَّ المأمون كان ينشد قول أبي نواس:
وكان يقول لو أنَّ الدنيا تكلمت فوصفت نفسها لما بلغت ما بلغ هذا الشاعر. أفتظن أنَّ الشمس لو تكلمت فوصفت ما بينها وبين الحياة من صلة، وألقت على الناس موعظتها الحسنة في غير إسراف ولا غلو، في غير تكلف ولا تعسف كانت تقول أحسن من هذا؟
أليس هذا حقًّا؟! أليس هذا بريئًا من كل سقم لفظي أو معنوي؟! أليس هذا واضحًا يفهمه كل عقل؟! أليس هذا عذبًا يسيغه كل ذوق؟! أليس هذا يسيرًا يسيرًا؟! أليس هذا عسيرًا؟!
ولكن الشاعر أراد أنْ ينتقل من هذه الحكمة البالغة، والعبرة العامة إلى موضوعه الذي عمد إليه، ويخيل إليَّ أنه لم يوفق إلى حسن الانتقال.
لست أدري لِمَ أجدُ شيئًا من الصعوبة في إساغة هذا البيت؟ ويخيَّل إليَّ أنه لو أسيغ لكان عسير الهضم، ولعل مصدر هذا اسم «أمون» الأعجمي، الذي وقع موقعًا فيه شيء من الحرج في هذه الصفحة العربية النقيَّة، ولعل مصدر هذا بنوع خاص هذا الفعل الغريب الذي تكلفه الشاعر تكلفًا، أو اضطر إليه اضطرارًا وهو «نزعوا» يستعمله الشاعر بمعنى «أشبهوا» ويمر به القارئ فلا يفهمه، ويضطر إلى أنْ يعطف على هذا الشرح الذي اضطر الشاعر نفسه إلى أنْ يضعه، ولعله كان يستطيع أنْ يجد في سعة اللغة وثروتها مخلصًا من هذا الحرج، وفرجًا من هذا الضيق، فلا يقف ليشرح، ولا يضطر القارئ إلى أنْ يقف فيقرأ الشرح، وهبه أنشد قصيدته إنشادًا، ولم ينشرها في «الأهرام» أتراه كان ينشد هذا البيت، ثم يقطع الإنشاد ويعمد إلى هذا اللفظ الغريب فيفسره لسامعيه؟! وما لنا نحزن ونحن نستطيع أنْ نسهِّل، وما لنا نعسِّر ونحن قادرون على التيسير.
ولعل الشاعر يعذرني أيضًا إذا لم يعجبني هذا البيت:
فلفظ «المآمين» فيه نبو، ولفظ «الدواهي» يبعث الاشمئزاز في النفس، ولفظ «قط» يخلو من كل جمال شعري. والبيت كله غامض برغم هذه الحاشية التي أضافها الشاعر، والبيت كله مخالف للحق؛ فليس من الحق في شيء أنَّ ملوك مصر جميعًا كانوا كالمأمون، وليس من الحق أنه لم يكن بينهم من أشبه الأمين، على أني أبحث عن هذا الشبه فلا أجده، وأكاد أخشى أنْ يكون الشاعر قد ظلم الأمين، كما ظلمه القصاص والرواة.
ثم مضى الشاعر في لفظ سهل، ومعنى ليس بالغريب ولا بالمبتذل، إلى أنْ قال فأجاد اللفظ والمعنى:
واستأنف مضيه ليس بالجيد ولا بالرديء، إلى أنْ انتهى إلى الخلود، فأحسن وصفه، وأجاد التعبير عنه، ولا سيما حيث يقول:
وإنْ كنت أجد لفظ «الطنين» قلقًا في موضعه ضعيفًا كل الضعف، غير ملائم لصدر البيت، انظر إلى هذا الصدر تجده فخمًا ضخمًا واسعًا رائعًا: «وأخذك في فم الدنيا ثناء»، ثم انظر إلى عجز هذا البيت تجده خاملًا ضئيلًا نحيفًا، وهل تستطيع أنْ تضع «الطنين» بإزاء هذا الثناء الذي ينطق به فم الدنيا؟ وأين يقع الطنين هذا الصوت النحيل من هذا الثناء ثناء الدنيا الذي لا حد له؟!
فهو لا يخلو من مسحة شعرية.
ولكني أعتذر إلى الشاعر إذا استثقلت هذا البيت الذي نظمت فيه أسماء الفراعنة نظم الخرز:
وليس أجمل من اعتذاره عن قدماء المصريين، ودفعه عنهم تهمة الظلم، ومن استشهاده بظلم «البستيل» وذكره بنوعٍ خاص ظلم القسس في بناء البِيَع التي هي مأوى العدل والرحمة، ففي ذلك على جماله الشعري برٌّ يملأ النفس حنانًا، وإنْ كنت أكره وصف عيسى بشافي العمى، وأظن أن قد كان للشاعر منصرف عن هذا اللفظ الثقيل المبتذل.
فأمَّا قوله: «أخا اللوردات» فليس من شوقي في شيء، وليس من شوقي في شيء وضعه هذا الاسم الأعجمي «كرنارفون» موضع القافية، وجميلٌ وصفه للورد، وثناؤه عليه، وعظته إياه، ولكن أجمل من هذا كله اعتذاره إلى اللورد من غضب الغاضبين وإشفاق المشفقين. في هذا الاعتذار تلطف باللورد، وحنان على مصر يحسن شوقي وحده تأديتهما:
هذه الأبيات تعدل آلاف المرات ما كتب الكُتَّاب إلى اللورد كارنارفون من لوم وعتب، ومن شكر واعتذار.
ثم عطف الشاعر على الإنجليز، فرماهم بسهمٍ أصاب منهم المقتل، وأحسن الدفاع عن المصريين، وذلك قوله في لطفٍ وخفة روح:
وإنْ كانت كلمة «مكفنين» لا تعجبني، وقد أحسن الشاعر مناجاة خليليه، ومناجاة فرعون، ووعظ فأبلغ العظة، ولكن انتقاله من وادي الملوك إلى لوزان لا يخلو من غرابة، وربما كانت هذه الغرابة نفسها مصدر شيء من الجمال كثير، وإنْ كنت أشك في أنَّ وفود لوزان شغلت بفرعون، كما يخيل إلى الشاعر، ولكن الحكومة المصرية خليقة أنْ تقرأ وخليقة أنْ تتعظ، وخليقة أنْ تعمل.
فهل ترى أبلغ من هذا البيت في وصف الألم واللوعة لقضاء سينالنا دون أنْ يكون لنا في أمره شيء؟
ولقد أعجزُ العجز كله إنْ أردت أنْ أصف لك جمال هذه القطعة الصافية المتلألئة من قصيدة شوقي. هذه القطعة التي يتحدث فيها الشاعر إلى فرعون فيسأله، ويستنطقه بالحكمة العالية والموعظة الحسنة، ويضع أمامه هذه الألغاز التي عجز العقل والوجدان عن حلها: ألغاز الحياة والموت، ألغاز البعث والنشور، ألغاز الصلات الاجتماعية بين الناس.
ثم ينتقل الشاعر أحسن انتقال، يثب ويخيل إليك أنه يخطو، يثب من عصر الفراعنة إلى العصر الذي نعيش فيه، فتراه شاعرًا مصريًّا يعيش في هذه السنة، يحس ما نحس، ويشفق مما نشفق منه، يحب الدستور ويكلف به، ويتمنى على صاحب الجلالة في ألذ لفظ وأعذبه، وفي أمتن أسلوب وأصفاه، وفي أشد العبارات تمثيلًا لأصدق العواطف، يتمنى على صاحب الجلالة إصدار الدستور:
ذلك ما أحسه شوقي أمام تاريخ مصر القديم، وهذا ما قاله عن الدستور، أمَّا ما قاله حافظ فقد نعرض له في مقالٍ آخر.