السراب
١
إني أعجب لما يدعوني للقلم؛ فالكتابة فنٌّ لم أعرفه لا بالهواية ولا بالمهنة، ويمكن القول بأنه فيما عدا الواجبات المدرسية على عهد صباي، والأعمال المكتبية المتعلقة بوظيفتي، فإنني لم أكتب شيئًا على الإطلاق. والأعجب من هذا أني لا أذكر أني سوَّدتُ خطابًا أو رسالةً طوال الدهر الذي عشته في الدنيا؛ وهو ما ينيف على ربع قرن من الزمان. والحق أن الرسالة — كالكلام — رمز للحياة الاجتماعية، وعنوان للوشائج التي تصل ما بين الناس في هذه الحياة، ولستُ من ذلك كله في شيء. ألسنا نشذب الأشجار فنبتر ما اعوجَّ من أغصانها وفروعها؟! فلماذا نُبقي على من لا يصلحون للحياة من أفراد الناس؟! لماذا نتسامح، بل نهمل، فنفرضهم على الحياة فرضًا، أو نفرض الحياة عليهم كرهًا؟ لهذا يسعون في الأرض غرباء مذعورين، وقد بلغ الذعر منهم أحيانًا أن يخبطوا على وجوههم كالمحمومين، فيدوسوا بأقدامهم المتعثرة ضحايا أبرياء.
أقول مرةً أخرى إنني لا أذكر أنني كتبت كتابةً تستحق هذا الوصف. كذلك طالما أعياني الحديث وأعجزني، فكنت إذا اضطررت إلى كلام تلعثمت وأدركني العيُّ والحصر، ولم يكن الإعياء في قوة النطق أو الكتابة، إنه أجلُّ من ذلك وأخطر، وإن العي والحصر والعجز لأتفه عواقبه على وجه اليقين. ولذلك حق لي أن أتساءل عما يدفعني الآن إلى الكتابة. وليس الأمر قاصرًا على رسالة تُدوَّن، إنه شوطٌ طويل تنقطع دونه الأنفاس، وإني لأعجب لما يستفزني من نشاط لم أعهده، وحماس لم آلفه، حتى ليُخيَّل إليَّ أني سأواصل الكتابة دون تردد أو تعب، في الليل والنهار، وبعزيمة لا تعرف الخور، فلماذا يا ترى هذا العناء كله؟ ألم آوِ عمري إلى الصمت والكتمان؟ ألم تظفر الأسرار من صدري بقبرٍ مغلق تستكنُّ فيه وتموت؟ فما سر هذا الإلحاح العنيف؟ وكيف سللتُ القلم لأنبش قبرًا تراكم عليه ثرى الإخفاء؟! لقد ضاعت الحياة، والقلم ملاذ الضائع، هذه هي الحقيقة. إن الذين يكتبون هم في العادة من لا يحيون، ولا يعني هذا أني كنت أحيا من قبلُ، ولكنني لم أكن آلو أن أرنو لأملٍ بسَّام أستضيء بنوره، وقد خمد هذا النور. ولست أكتب لإنسان، فليس من شأن المرضى بالخجل أن يُطلعوا إنسانًا على ذوات نفوسهم، ولكني أكتب لنفسي، ونفسي فحسب، فطالما داريت همساتها حتى ضللت حقيقتها، وبتُّ في أشد الحاجة إلى جلاء وجهها المطموس في صدق وصراحة وقسوة، عسى أن يعقب ذلك شفاء غير مقدور. أما محاولة النسيان فلا شفاء يُرجى منها. والحق أن النسيان خرافةٌ بارعة، وحسبي ما كابدت من خرافات. ولعل في شروعي في الكتابة آيةً على أنني قد عدلت عن فكرة الانتحار نهائيًّا، وما كان الانتحار بالجزاء الذي لا يستحقه إنسان قضى على نفسَين، بل هو دون ما يستحق بكثير، ولكن ما حيلتي والحياة لا تتورع عن وسيلة في سبيل الدفاع عن نفسها؟ ولو كان الماضي قطعةً من المكان المحسوس لولَّيت عنه فرارًا، ولكنه يتبعني كظلي، ويكون حيثما أكون، فلا مناص من أن ألقاه وجهًا لوجه بعينٍ غير مختلجة، وقلبٍ ثابت. ومهما يكن من أمر فالموت أهون من الخوف من الموت. وإنه لعمل فيه سحر، تستحيل به هذه الصحائف نفسًا خالصةً بغير حجاب. ولست أدَّعي العلم؛ فما ناصبت شيئًا العداء كالعلم، وإني لغبيٌّ كسول، ولكني عانيت تجارب مرةً زلزلتني زلزالًا، وليس كالتجارب كاشف عن مطاوي النفوس. إني لأتلهف على رفع النقاب، وهتك الأسرار، لأضع أصبعي على موطن الداء ومكمن الذكريات ومبعث الآلام، ولعلي بذلك أتفادى نهايةً محزنةً، وأنجو من آلام لا قِبل لي بها، وأتلمَّس في الظلماء سبيلًا. لست في الواقع إلا ضحيةً، ولا أقول ذلك تخفيفًا من ذنبي، ولا تهرُّبًا من تبعتي، ولكنه حق وصدق، فالحق أني ضحية، إلا أنني ضحية ذات ضحيتَين. وأشد ما يحزُّ في نفسي أن إحدى الضحيتَين هي أمي! أفظِع بها من حقيقة لا تصدَّق! كيف أنسيت أنها سر حياتي وسعادتي، وأنني لا أحتمل الحياة بدونها! ولكني كنت أحيا على حافة عالمٍ الجنون، وهكذا فقدت كل شيء، ووجدت نفسي في خلاءٍ مظلم مخيف … إني رجلٌ مؤمن عميق الإيمان، وأعلم علم اليقين أني سأُبعث حيًّا في اليوم الموعود، ولست أخشى آلام ذلك اليوم وأهواله — إذا تجردت أمام الله بما في يميني وبما في شمالي — قدر ما أخشى أن أُبعث على الحال التي عانيتها في دنياي. أروم بعثًا جديدًا حقًّا، ويومذاك تصبح آلامي لا شيء، يطويها الفناء إلى الأبد، فيمكنني لقاء أحبائي بقلبٍ صافٍ ونفسٍ نقيةٍ طاهرة.
كانت أمي وحياتي شيئًا واحدًا، وقد ختمت حياة أمي في هذه الدنيا، ولكنها لا تزال كامنةً في أعماق حياتي، مستمرةً باستمرارها. لا أكاد أذكر وجهًا من وجوه حياتي حتى يتراءى لي وجهها الجميل الحنون، فهي دائمًا أبدًا وراء آمالي وآلامي، وراء حبي وكراهيتي، أسعدتني فوق ما أطمع، وأشقتني فوق ما أتصور، وكأني لم أحب أكثر منها، وكأني لم أكره أكثر منها، فهي حياتي جميعًا، وهل وراء الحب والكراهية من شيء في حياة الإنسان؟! فلأعترف بأني أكتب لأذكرها هي، ولأستعيد حياتها هي، بذلك تعود الحياة كلها، وبذلك أصل ما انقطع من حبل حياتي، لعل الأمل أن يتجدد في النجاة. يبدو لي كل شيء الساعة غامضًا متواريًا، كأن الشيطان يذر في عينيَّ رمادًا. ولكن مهلًا، إني أتلمس سبيلي في صبر وأناة، ورائدي أمل الغريق في النجاة، ومن ورائي نيةٌ صادقة في تجديد حياتي وبعثها خلقًا جديدًا، ولئن شق عليَّ الطريق أو تولاني القنوط، أو خذلني حيائي، فلن يبقى أمامي إلا الموت.
٢
ما جزاء الميت — عندنا معشر الأحياء — إذا واراه التراب؟ أن نفرَّ من ذكراه كما نفرُّ من الموت نفسه! ولعل في هذا حكمةً غاليةً، ولكن أنانيتنا تأبى إلا أن تضفي على هذه الحكمة أسفًا حانقًا مضحكًا. ولقد فررت من بيتنا موليًا كل شيء ظهري كالخائف المذعور، ثم مضيت أثوب إلى رشدي في هدوءٍ نسبي، وأدرك هول الخطب الذي نزل بي، ففاض بي حنينٌ موجع، وفزعت يداي إلى خزانة الذكريات فاستخرجت كل ما بقي منها؛ ألا وهي صورة!
هي صورةٌ كبيرة يظهر فيها جدي جالسًا على مقعدٍ كبير، بجسمه الضخم وكرشه الكبير، وشاربه الأبيض كأنه هلال فوق فيه، في بذلته العسكرية المحلَّاة بالنياشين، وأقف أنا عند ركبتَيه لا أكاد أجاوزهما إلا قليلًا، أتطلع إلى عدسة المصور بعينَين باسمتَين، وقد التصقت شفتاي في توتر من يغالب ضحكةً تغالبه. ووقفت أمي إلى يمين جدي، معتمدةً بساعدها الأيسر مسند الكرسي الكبير، في فستانٍ طويل يشتمل عليها من العنق إلى القدمَين، ولا ينحسر من ساعديها إلا عن اليدين، بقامةٍ طويلة، وجسمٍ نحيل، ووجهٍ مستطيل، وعينَين واسعتَين خضراوَين، وأنفٍ دقيقٍ مستقيم، ونظرةٍ حالمة تقطر حنانًا ولا تخلو من بريق ينمُّ عن الحيوية وحدَّة المزاج. يا له من وجه شاء الرحمن أن يكرره في وجهي؛ حتى لقد قيل إنه لا يفرق بيننا إلا الثياب! هذه صورة تطلُّ عليَّ من عالم الذكريات. ولقد ثبتُّ عينيَّ الملتهبتَين على الوجه المحبوب طويلًا؛ حتى لم أعد أرى شيئًا سواه. كبرت قسماته في عيني حتى خلتني روحًا صغيرًا يعيش في أحضانها، واشتد ما يحيط بي من صمت فتهيأ لي أن هذا الفم المطبق سيفترُّ باسمًا ويسمعني من عذب الحديث ما العهد به غير بعيد. إن الصورة شيءٌ عجيب، فكيف غابت عني هذه الحقيقة؟ هذه أمي بجسمها وروحها، هذه أمي بعينَيها وأنفها وفمها، وهذا الصدر الحنون الذي التصقت به عمري. رباه .. كيف أقتنع بأنها رحلتْ عن الدنيا حقًّا؟! أجل إن الصورة شيءٌ عجيب، ويبدو لي الآن أن كل شيء عجيب في هذه الدنيا، وقاتل الله العادة فهي التي تقتل روح العجب والإعجاب فينا. كانت هذه الصورة معلقةً بحيث تراها العين في كل حين؛ بيد أني أراها الآن شيئًا جديدًا، أطالع في صفحتها حياةً عميقةً كأن نفحةً من الروح الطليق قد استكنَّت بها، وأرى في هاتين العينَين نظرةً شاردةً تبعث الألم. إن هذه الصورة حية بلا ريب، ولن أستردَّ بصري منها ولو جننت. عكفت عليها طويلًا، ثم تملَّكتني رغبةٌ قوية في تخيُّل حياة صاحبتها في جميع أطوارها من المهد إلى اللحد. تخيَّلتها طفلةً تحبو، وصبيةً تلهو بعرائسها. ألا ليتها خلَّفت لي صورًا أستعيد بها أحلام طفولتها السعيدة! ثم تخيلت عهد الشباب الرطيب، وهي غادةٌ حسناء ترنو بطرفها الساجي إلى الأمل والسرور، وتلهو بلذة الفتوة المشبوبة. لقد عاصرتُ عهده الحلو، وكنت ثمرةً لخصبه ونضارته، ومع ذلك فقد ضاعت معالمه وولَّت آثاره؛ غشيه الظلام كأنني لم أرتع حضنه وأرضع ثديه. وكنت إذا تخيلته فيما مضى من أيامي تخيلته في حيرة وقلق، وساءلت نفسي في خجل واستياء: ألم تنبض بدمه الحار تلك الرغبات الجامحة التي تستأثر الشباب؟! ولعل عاطفتي الغامضة تلك هي التي دفعتني في صباي إلى تمزيق الأثر الباقي لهذا الشباب الأول. فقد دخلتُ حجرة نومنا ذات يوم فجأةً فوجدت أمي منكبةً على درجٍ مفتوح في صوان الملابس تنظر في شيء بين يدَيها، فاقتربتُ منها في خفة تحدوني شطارة الغلمان المدلَّلين، وأدخلت رأسي تحت ذراعها المبسوطة، فرأيتها ممسكةً بصورة عرسها! وبادرت تحاول إرجاعها إلى مخبئها؛ ولكني أمسكت بها في عناد، وحملقت فيها بدهشة، فرأيت شابًّا جالسًا وأمي واقفة مستندة إلى كرسيه كالوردة الناضرة. وتعلقت عيناي بصورة الرجل، فأدركت أنه أبي، وإن كنت أراه أول مرة، بل أراه بعد أن امتلأ الفؤاد له خوفًا وكراهيةً؛ وارتعشت يداي، واتسعت عيناي انزعاجًا، ثم لم أدرِ إلا ويداي تمزقانها إربًا، ومدَّت لي يدًا تحاول استنقاذها، ولكني تغلبت عليها في حنق وهياج، فلبثت صامتةً وقد لاح في عينَيها الصافيتَين الحزن والأسف. وكأنني لم أقنع بما فعلتُ فتصديت لها غاضبًا وسألتها بلهجة تنمُّ عن الاحتجاج: علام تأسفين؟!
فبسطت أسارير وجهها بشيء من الجهد وقالت: يا لك من طفلٍ مشاكس! .. ألا ترى أني آسَفُ على صورة شبابي؟ .. لقد مزَّقتَ صورة أمك وأنت لا تدري.
وكانت ذكرى تلك الحادثة تعاودني في فتراتٍ متباعدة فتحزُّ في نفسي، وتملؤني حيرةً وقلقًا، فأمضي متسائلًا عما دعاها حقًّا إلى الاحتفاظ بتلك الصورة؟! ولماذا أحزنها تمزيقها؟! ثم أحاول أن أنفذ بخيالي إلى ما فاتني من حياتها، فأنقلب متفكرًا مغتمًّا.
هكذا فقدت صورة الشباب الأول، وإنني لآسَفُ على فقدانها — الآن — أسفًا خالصًا، ولكن أليس ذلك أسفًا مضحكًا بعد أن امتدت يدي إلى صاحبة الصورة نفسها فقضت عليها؟!
٣
ولم أكن الحظ العاثر الوحيد الذي ابتُليتْ به حياتها. روت لي يومًا قصة زواجها في حذر وحرص شديدَين، خاصةً وهي تسرد الذكريات الباسمة على ندرتها، فكانت تذكرها في عجلة واقتضاب وتحرُّج، وكأنها في أعماقها تخشاني، أو كأنها أشفقت مني أن تخفف لطافة الذكرى من حدة كراهيتي لأبي.
على جسر إسماعيل رآها أبي أول مرة! وكان «الحنطور» ينطلق بأمي وجدِّي في بعض الأصائل للتنزه والفرجة، ففي مرة مرَّ بهما «حنطور» يتربع بصدره شابٌّ مزهو بشبابه وثرائه، أو على الأصح بما ينتظره من ثراء، فوقع بصره على وجهها، وسرعان ما وجَّه عربته في أعقابها حتى بيتنا في المنيل. وكانا كلما غادرا البيت صادفاه في الطريق وكأنه ينتظر. ولم أدع هذا الفصل من القصة يمر بي دون ملاحظة، فسألتها عن الغزل في تلك الأيام وكيف كان، وتلقَّت سؤالي بريبة وحذر، ولكني ما زلت بها حتى استنامت إليَّ، فاستسلمت لرقة الذكريات وقالت إنه كان يبعث إليها بنظرات تومض بالابتسام، أو يلتفت نحوها باهتمام وهو يفتل شاربه الغزير الأسود، بيد أنه لم يَعدُ حدود الأدب قط. وتفكَّرتُ مليًّا، وتُهت في بيداء الخيال الحالم، فعانيت أحاسيس الدهشة والحيرة والضيق، ثم رفعت إليها عيني — ولم يكن لنا من سلوى في تلك الأيام إلا مواصلة الحديث — وسألتها مبتسمًا عن كيف كانت تلقى تلك المقدمات الغزلية؟ ولم يخفَ عنها ما في سؤالي من خبث فتضاحكت، وكانت إذا ضحكت اهتزَّ جسمها من الرأس إلى القدم. وقالت إنها كانت تتجاهله بطبيعة الحال، وتنظر فيما أمامها دون أن تلوي على شيء، وتظل على حالها كأنها تمثال ذو برقعٍ أبيض! وداخلني شك، وقلت إني أسألها عن الباطن لا الظاهر، عن القلب لا الوجه! ونازعتني النفس إلى مصارحتها بما يدور في خلدي، ولكن خانتني الشجاعة، وعقلني الحياء، ولو رجعت إلى قلبي لعرفت الجواب، فهذا القلب من ذاك، يجري بهما دمٌ واحد، ويسجعان عن خفقانٍ واحد، فهل أنسى أني وقفت كثيرًا كمثل التمثال والقلب شعلة نار؟!
وتقدم الشاب يطلب يدها، لم يكن ذا عمل ولا علم، بل ولا مال حتى ذلك الوقت، ولكنه كان أحد ابنين لرجل من كبار الموسرين. ولما علم جدي بموافقة الأب واستعداده لتكفل ابنه وأسرته، سُرَّ بالخطبة سرورًا لا مزيد عليه، وفرح بجاه الأسرة العريق. وقيل له: إنه جاهل جهل العوام. فقال: وما حاجته إلى العلم؟! وقيل له: إنه بلا عمل. فقال: وما حاجته إلى العمل؟! بل قيل له صراحةً: إنه شابٌّ ذو أهواء جامحة، وإنه سكِّير عربيد! فقال إنه يعلم أنه شاب وليس براهب. ولم يكن جدي طماعًا جشعًا، ولكنه كان يروم السعادة لابنته، ويحسب أن المال كفيل بتحقيق تلك السعادة، هذا إلى تأثر باسم الأسرة التي تود مصاهرته، واطمئنان إلى سمعتها الكريمة، وفضلًا عن ذلك كله فهو نفسه لم يكن حصل على الابتدائية، ولم يكن يخلو من ميل للشراب والمقامرة. وبذلك صارت كريمته حرمًا ﻟ «رؤبة لاظ» أو «رؤبة بك لاظ» كما كان يُدعى. وظن جدي أنه فرغ من الواجبات الملقاة على عاتقه بتزويجه أصغر كريمتَيه. ولكن ما كاد ينقضي أسبوعان على ليلة الزفاف حتى عادت أمي إلى بيت جدي دامعة العينين كسيرة الفؤاد! وانزعج جدي انزعاجًا شديدًا، ولم يكد يصدق عينَيه، ثم علم أن الشاب قد عاود سيرته الماضية في الحانات ولما يمضِ الأسبوع الأول من زواجه، وأنه كان يرجع إلى بيته عند مشرق الشمس، وأنه أوسعها ضربًا في ذلك اليوم الذي غادرت فيه قصره! واستفظع جدي الأمر، وكان على تربيته العسكرية الصارمة رقيق القلب، ويحدب على ابنتَيه حدبًا عظيمًا؛ فغضب غضبًا شديدًا، ومضى لتوِّه إلى قصر لاظ، وصبَّ جام غضبه على الشاب وأبيه معًا، ولبثت أمي في بيت جدي حتى وضعت أختي الكبرى، وسعى نفر من أصدقاء الطرفَين إلى إصلاح ذات البين، ووصل ما انقطع من حياة الزوجية، وكُلِّل مسعاهم بالنجاح، فرجعت أمي وطفلتها إلى قصر لاظ مرةً أخرى. وامتدَّ مكثها به شهرَين، ثم نفد صبرها فهجرته إلى بيت جدي مهيضة الجناح. والحق أنها لم تذق الراحة إلا أيامًا معدودات، ولكنها تصبَّرت وتجلَّدت عسى أن تصلح الأيام ما فسد من حاله، فلم يكن يزداد إلا فسادًا، ولم تعد ترى فيه إلا سكِّيرًا عربيدًا لا يرعى لشيء حرمةً، فأيستْ منه، ولاذت ببيت أبيها، وسعى الرجل إلى استردادها، مُقرًّا بإدمانه الشراب، محاولًا إقناع جدي بأنه من الممكن أن تستقيم الحياة الزوجية مع إدمان الشرب؛ ولكن جدي وقف منه موقفًا صلبًا فطلقها، ومرت أشهر فوضعت أمي أخي الأوسط، وعاشت في كنف أبيها متمتعةً بعطفه وحنانه. ثم ترامت إليهم أنباء غريبة عن رؤبة لاظ تقول إن الفتى الطائش قد حاول في ساعة نزق وجزع أن يدس السم لأبيه متعجلًا حظه من الميراث، ولكن الأب اكتشف الجريمة بوساطة الطباخ؛ فطرد ابنه من قصره، ووقف نصف ثروته لجهة خير، ووقف النصف الآخر على الابن الأكبر، ولعله لم يشأ أن يوقفها كلها للأخ الأكبر حتى لا يوغر صدر ابنه الشرير عليه فيعرضه بذلك لأذاه … واستيقظ رؤبة لاظ بعد حلمٍ طويل بالثروة الواسعة على فقرٍ نسبي، فلم يعد يملك من حطام الدنيا إلا ربع وقف ورثه في ذلك الوقت عن أمه — وهي غير أم أخيه — يقارب الأربعين جنيهًا شهريًّا، وبيتًا ذا طابقَين في الحلمية انتقل إليه بعد طرده من قصر لاظ. وأثارت تلك الأنباء شجنًا في بيت جدي صفقت له ضلوع الذين يشفقون على مستقبل الوليدَين الصغيرَين، فقد تضاءلت نفقتهما، وتجهَّم مستقبلهما. وتشاور جدي وجدتي وأمي في الأمر، وانتهى بهم تبادل الرأي إلى أن يقابل جدي «لاظ الكبير»، وأن يستعطف قلبه للوليدين البريئين حتى يغيِّر وصيته لصالحهما. ومضى جدي إلى قصر لاظ، وحادث الرجل فيما جاء من أجله، ولكنه وجد منه قلبًا قاسيًا وأذنًا صماء، ولعن بمحضره الابن وذريته، فعاد جدي محزونًا ثائرًا.
وكان من سخرية الأقدار أن مات لاظ بك في نفس العام الذي سعى ابنه فيه إلى القضاء عليه. وانقضى من الدهر سبعة أعوام، فبلغت أختي «راضية» الثامنة، وبلغ أخي مدحت السابعة أو نحو ذلك. وفي ذلك التاريخ حدث ما غيَّر مجرى حياة أسرتنا الهادئ. وشاءت الأقدار أن يتم ذاك التغير بحادثةٍ تافهة مما يعرض في الطريق؛ إذ كان جدي يغادر ناديًا للقمار بشارع عماد الدين قبيل الفجر بقليل، فرأى نفرًا من السوقة يلتفون بأفندي ويوسعونه ضربًا وهو يتخبط بينهم هائجًا مترنحًا، فبادرهم هاتفًا أن يكفُّوا عنه، ومضى صوبهم غاضبًا، ثم لحق به شرطي على الأثر! وما كاد النفر يتفرقون حتى رأى جدي رؤبة لاظ في حالة سكر بيِّن، وقد سال الدم من أنفه. ودهش جدي وتولاه الارتباك من وقع الدهشة، ولكنه تقدم من الرجل دون تردد وسنده بذراعه وهو يوشك أن يقع. كان ما مضى قد سحب النسيان عليه ذيوله أو كاد، وكان الرجل من الناحية الأخرى يوالي إرسال النفقة لوليدَيه على استهتاره وعربدته، فلم يكن بين الرجلَين عداء. ودعاه جدي إلى «حنطوره» فأطاع، وأمر جدي السائق بالذهاب إلى الحلمية، وخيَّم عليهما في الطريق صمتٌ عجيب، فلم ينبس أحدهما بكلمة، ولما بلغت العربة البيت أوسع له جدي لينزل، ولكنه أمسك بذراع الرجل ودعاه إلى بيته، واعتذر جدي بتأخر الوقت؛ ولكن الآخر لم يقبل اعتذاره وأبى إلا أن ينزل معه، وكان ما يزال ثملًا مخمورًا، فأذعن جدي على رغمه، فمضيا معًا إلى حجرة الاستقبال، وخيوط الفجر الزرقاء تنشب في الظلماء. وارتمى رؤبة لاظ على مقعد، وجذب جدي فأجلسه على مقعدٍ قريب، وسرعان ما ولى عنه سكوته فغلبه الانفعال والتأثر وراح يقول بلسانٍ ثقيل حلَّت الخمر والانفعال عقدته: أرأيت الأوباش كيف انهالوا عليَّ لكمًا وصفعًا؟! .. أرأيت إلى الإهانة البالغة تنزل بكرامتي، وأنا رؤبة بن لاظ، ربيب القصر العتيق؟! هذه هي الدنيا يا عماه .. وما بالي أدعوك بعمي؟ لقد جاوزت الأربعين ولم تعدُ أنت الخمسين إلا بقليل، فما أحراني أن أدعوك بأخي، ولكني أدعوك عمي احترامًا وإجلالًا، فإنك بمنزلة أبي .. أستغفر الله، أنت أعظم من ذلك وأجلُّ، لا تؤاخذني بما أنطق من لفظ، واللفظ شيء تافه، أما ركلي بأقدام الأوباش فشيء خطير، أليس كذلك؟! لقد مات أبي غاضبًا عليَّ، ويقولون إنه لا يظفر بالسعادة من حُرم رضاء الوالدين، أحقًّا هذا يا عماه؟! حتى ولو كان أحد الوالدين أبي؟! رباه، لقد سئمت هذه الحياة، إنها حمَّى وهذيان وجنونٌ متواصل، لشد ما تتوق نفسي إلى الهدوء والطمأنينة، أليس هذا هو الندم؟! امدد إليَّ يدك يا عماه، ولنُقسمنَّ معًا بهذا الفجر الطالع أن نبدأ حياةً جديدةً لا إثم فيها ولا فجور، رُدَّ إليَّ زوجي وطفليَّ وأسكنِّي أسرتي .. هلم! واشتدَّ احمرار عينيه حتى ظنه جدي باكيًا، ولم يجد بدًّا من أن يطيِّب خاطره. وعندما انطلق به الحنطور صوب المنيل وقد تحرك سطح الأرض رويدًا بالأفواج الأولى من الساعين إلى الرزق، أغمض عينَيه في ارتياح، وتفكَّر في الأمر مليًّا، وكان يود أن يرى ابنته سيدةً لبيت يخصُّها. وفي نفس الشهر ردَّت أمي إلى زوجها السابق واجتمع شمل الأسرة. ولكن لم تدم هذه الحياة الجديدة إلا أسبوعَين! بل لعلها لم تدم إلا يومًا واحدًا، وتحملت أمي بقيتها صابرةً متصبِّرة حتى أقضَّها الإشفاق على طفلَيها من شر السكير العربيد، فحملتهما وفرَّت إلى جدي المسكين. وثار الرجل ثورةً عنيفةً، ومضى لتوه إلى التائب الزائف وانهال عليه تعنيفًا وتقريعًا وازدراءً، واستمع الآخر إليه صامتًا، ثم قال له إن زوجه هي الملومة؛ لأنها لا تود العيش معه، وإنه لا ذنب له إلا أنه يسكر! وغادره جدي يائسًا وبيده شهادة الطلاق. انقطعت حياة الزوجية إلى الأبد، وكنت أنا ثمرة تلك التوبة الكاذبة!
وقد سمعتُ جدي يمازحني يومًا فيقول لي: «لقد جئت إلى هذه الدنيا نتيجةً لحماقتي أنا دون سواي.» ولكن ما أكثر الذين جاءوا هذه الدنيا في أعقاب الحماقات! ونشأتُ في بيت جدي، فلم أعرف بيتًا سواه، بل لم أعرف من الأهل غير جدي وأمي؛ لأني حين أخذت أعي ما حولي كان أبي قد استردَّ أخي وأختي، وكانت جدتي قد ماتت. ولم أعرف أن لي أبًا إلا بلسان أمي، وحديثها المفعم مرارةً وحزنًا؛ فنمت كراهيتي له على الأيام. وقد أتمَّ الرجل قسوته عليها فلم يكتفِ باسترداد ابنه وابنته، ولكنه حال بينهما وبين رؤية أمهما، فمرت الأعوام تلو الأعوام وهي لا ترى لهما أثرًا. وترامت الأخبار إلينا تقول: إن الرجل يكاد يحبس نفسه دون العالم كله، فارًّا من الدنيا وما فيها بسكرٍ متواصل، لا يفيق منه نهارًا ولا ليلًا.
٤
كان بيت جدي بالمنيل مولدي وملعبي ودنياي. وكان يتكوَّن من دورَين كبيرَين، نقيم في الأعلى منهما، وله فناءٌ صغير. لست أريد التحدث عن البيت، ولكني أتلهف على استعادة الماضي، وما من ماضٍ إلا وله بيت تحوم حوله ذكرياته. إن حياتي لا تنفصل عن ذاك البيت أبدًا، ولن تنفصل عنه ما حييت، وما البيت ببناء وعمارة وهندسة، ولكنه برجٌ ثابت في الزمان يأوي إليه حمام الذكريات الساجع بالحنين إلى ما انقضى من أعمارنا، فلأنقب في غيابات الماضي عن أقصى ما يستطيع أن يستقبله رأسي من موجات الذكريات، إني أغمض عينيَّ متواريًا عن عالم المحسوس؛ كي أهيئ لروحي سكينةً تنطلق فيها إلى الماضي الخالد. ولأعترف أني شديد الحنين إلى الماضي، وقد بتُّ في هذه الفترة الأخيرة أشد ما أكون حنانًا إليه، ولعل ذلك مني ليس إلا توقًا صريحًا إلى الطفولة، وإني لأدرك ما في هذا الحنين والتوق من خطورة هي سر دائي الأسيف في الحياة، ومع أنني عشت حياتي متطلعًا إلى ذلك الماضي — راضيًا أو ساخطًا — شديد الشعور بما يشدُّني إليه من رباطٍ وثيق، إلا أنني أقف عاجزًا حيال سُجفه الكثيفة، ترتدُّ ذاكرتي حسيرةً عن أرقِّ عهوده وأخطرها. ها أنا أغمض عينيَّ في تشوُّف وتساؤل، فيعشو بصري إلى نورٍ خافت، أرى يديَّ الصغيرة وهي تمتد إلى القمر من على كتف أمي. يا لها من ذكرى! ولكم تمتد أيدينا إلى أقمار ليست دون ذلك القمر منالًا! وتعاودني ذكرى جهدٍ مضنٍ بذلته كي أزدرد حلمة الثدي فيصدني شيءٌ مرٌّ مذاقه. وشارب جدي الهلالي وأناملي تشده في سرور لا مزيد عليه، وتحطيم أصص الزهور، وكيف هوت إحداها مرةً من حافة الشرفة على ذراع البواب النوبي فكادت تكسرها. وكان من عادتي ألا أستلسم للنوم حتى أمتطي منكب أمي فتذهب بي وتجيء بطول البيت وعرضه، وكلما توانت حثثتها بقدميَّ. وكنت أرفل دائمًا في فساتين البنات، وشعري مسدل حتى المنكبَين. وقد بدا لأمي يومًا أن تهيئ لي بذلةً عسكريةً محلاةً بالنجوم والنياشين، فارتديتها مسرورًا، وقطعت البيت في عجب وخيلاء؛ ضابطًا عظيمًا ذا ضفيرة تتهادى على ظهره! ولم يكن جدي يرتاح إلى ذلك التدليل المفرط، ولكنه لم يجد من وقته متسعًا للإشراف على تربيتي؛ إذ كان يغادر الفراش عادةً عند الظهر ولا يرجع إلى البيت من نادي القمار إلا قبيل الفجر. وكان من ناحيةٍ أخرى يشفق من تكدير أمي لسوء طالعها، ولأنه لم يبقَ له في شيخوخته سواها. عشنا ثلاثتنا وليس للأب إلا ابنته، وليس للأم إلا ابنها، وكانت أمي تهفو لذكريات أختي وأخي بعينٍ دامعة وفؤادٍ كسير، وتتلهف على رؤيتهما ولو ساعةً واحدةً، ولم تجد في حزنها من عزاء سواي، فأودعتني حضنها، لا تحب أن أبرحه، وتود لو أجعل منه مرتعي ومراحي ودنياي جميعًا. وهفت نسائم الحياة رُخاءً، فلم أدرك إلا بعد فوات الوقت أنه كان حنانًا شاذًّا قد جاوز حده، ومن الحنان ما يهلك. كانت مصابةً في صميم أمومتها فوجدت فيَّ أنا السلوى والعزاء والشفاء. كرَّست حياتها جميعًا لي؛ أنام في حضنها، وأقضي نهاري على كتفها أو بين يديها، وحتى في الأويقات التي كانت تتعهد فيها شئون البيت لم أكن أفارقها، أو لم تكن تدعني أفارقها، وحتى في المطبخ كنت أمتطي منكبها مفترشًا رأسها بخدي، متسليًا بمشاهدة الطاهي وهو يشعل النار ويقطع اللحم ويخرط البصل، بل كنا نستحمُّ معًا فتحطني في طست عاريًا، وتجلس أمامي متجردةً، فأرشها بالماء وأقبض على رغوة الصابون النافشة على جسدها فأدلك به جسدي، ولم نكن نغادر البيت إلا قليلًا؛ فصِلتُنا بآل أبي مقطوعة، وخالتي كانت تقيم في ذلك الوقت بالمنصورة مع زوجها، فإذا خرجتْ في النادر لزيارة إحدى الجارات اصطحبتني معها. على أننا كنا نواظب على زيارة السيدة زينب، ولعلها الزيارة الوحيدة التي كنا ننتظرها بفارغ صبر. ولم يكن يسيئها شيء مثل أن تثني عليَّ امرأة من معارفها بما يُثنَى به على الأطفال عادةً، فكانت تتطيَّر من الثناء وترقيني من العين في إشفاقٍ عميق. ومن عجب أني لا أذكر التعاويذ والرقى باستهانة أو ازدراء، وإني لمؤمن بها، بل إني لأومن بكل ما كانت تؤمن به أمي. وقد نلت من الثقافة حظًّا، وحصلت على البكالوريا، ولكن بقي لي إيماني القديم سالمًا غير منقوص، وهيهات أن يتزعزع إيماني بالله ورسله وأوليائه والدعوات والتعاويذ والأضرحة.
بيد أني لا أستطيع أن أقول إنني استكنت إلى تلك الحياة بلا تململ. ولعلي ضقت بها في أحايينَ كثيرة، وتطلعت إلى الحرية والانطلاق. ولعل ضيقي ذاك مضى يزداد بتدرجي في مدارج النمو؛ وآي ذلك أنها أقبلت تخوفني أشياء لا حصر لها لتردَّني عما أتطلع إليه من حرية وانطلاق، ولتحتفظ بي في حضنها على الدوام. ملأت أذنيَّ بقصص العفاريت والأشباح والأرواح والجان والقتلة واللصوص، حتى خلتني أسكن عالمًا حافلًا بالشياطين والإرهاب، كل ما به من كائنات خليق بالحذر والخوف. ذاك عهدٌ بعيد، ولكنه لا يزال حيًّا في صدري ودمي، وهو الذي جعل من الخوف جوهرًا أصيلًا في نفسي تدور حوله حياتي جميعًا؛ فنغَّص عليَّ صفوي، ورماني بتعاسة لا تريم، وما أنا إلا مخلوقٌ خائف لولا قيد الجسد لفرَّت روحه ذعرًا، وأخاف الناس، وأخاف الحيوان والحشرات، وأَفرَق من الظلام وما يرصدني من أوهامه، وأتحامى جهدي أن أنفرد بقط، وهيهات أن أنام في حجرة بمفردي. على أن الخوف كان أعمق في حياتي من هذه الأشياء التي يتمثل لي فيها، لقد استطال ظله الكثيف حتى أظلَّ الماضي والحاضر والمستقبل، واليقظة والنوم، وأسلوب الحياة وفلسفتها، والصحة والمرض، والحب والكراهية، فلم يترك شيئًا خالصًا. وقد عشت جُلَّ حياتي الماضية غرًّا جاهلًا لا أدري لتعاستي سببًا، ثم جلت لي المحن جوانب من حياتي، هاتكةً بقسوتها ما استتر من الخفايا الأسيفة، بيد أن شعوري بالعجز لا يفارقني، وهو يستند في الحق إلى قصور ثقافتي وضعف ثقتي في قواي العقلية. كانت أمي مبعث هذه الآلام؛ ولكنها كانت الملاذ الوحيد منها، فأويت إليها في غير حيطة …
ومن ذكريات ذلك العهد التي لا تُنسى، موقفنا — أنا وأمي — على قبر جدتي في المواسم نُكلِّله بالرياحين ونقرأ الفاتحة مترحِّمين. وكنا نتحدث كثيرًا عن القبور وأهل القبور، وكيف يرقدون، وكيف يستقبلون، وماذا يلقون من شدة وحساب، وكيف تُنزل عليهم الآيات نورًا يُذهب وحشتهم ويُلطف جفوتهم. ولما كان القبر قبر أم أمي فقد أحببته حبًّا جمًّا. وكنت إذا وجدت منها غرةً هرعت إلى جانبٍ منه، أنشب في ثراه أظافري، وأحفر في عجلة لعلي أطَّلع على ذاك المجهول المنطوي تحت الأرض. ولشدَّ ما كان يحزُّ في نفسي أن أسمعها تردد: «إنا لله وإنا إليه راجعون» أو «آخرتنا التراب» أو «الموت نهاية كل حي»، فسألتها مرةً في دهشة: سنموت جميعًا؟!
فساءها السؤال، وحاولت أن تلهيني عنه، ولكني وقفت عنده لا أتزحزح فقالت: بعد عمرٍ طويل إن شاء الله.
فرمقتها بإشفاق وسألتها مرةً أخرى: وأنت يا أماه؟
فقالت لي وهي تداري ابتسامةً: طبعًا، سأموت يومًا ما.
فوقع قولها في نفسي موقعًا أليمًا وهتفتُ بها: كلا .. كلا .. لن تموتي أبدًا!
وربتت على رأسي بحنان وقالت برقَّة: ادعُ لي بطول العمر كما أدعو لك، يستجيب لك الرحمن الرحيم.
وبسطت كفيَّ الصغيرتين ودعوت الله من أعماق قلبي، وعيناي مغرورقتان بالدموع.
٥
أأظل الدهر في حجرها كأنني عضو من أعضاء جسدها؟! جاوزت الرابعة من عمري، وجاء سن الرفاق واللعب. ولم يكن لي من مهرب في البيت إلا الشرفة، وهي تطل على فناء البيت، وتشرف على الطريق. وكان أطفال الأسرة التي تسكن الدور الأول يلعبون في الفناء، فجعلتُ أنظر إليهم بعينَين مشوقتَين، فيتطلَّعون أحيانًا بأعينٍ قرأتُ فيها دعوةً صامتةً اهتزَّت لها جوانحي، واستأذنت أمي يومًا في الانضمام إليهم، فقالت لي بارتياع: ماذا حدث لعقلك؟ .. ألا ترى أنهم لا يكفون عن العراك؟! .. ما عسى أن أفعل لو ضربوك أو جرحوك؟ .. أو خرجوا بك إلى الطريق لا تنقطع به العربات؟ بل ماذا تفيد منهم إلا الشقاوة وسوء الأدب؟ أما أنا فأقصُّ عليك القصص، وإذا شئت خرجنا معًا لزيارة السيدة .. إذا كنت تحبني حقًّا فلا تفارقني.
ولاح في وجهي التذمر والامتعاض، فاستطردت تقول: لقد حُرمتُ رؤية أختك وأخيك، ولم يبقَ لي في الدنيا سواك، وها أنت تود فراقي، سامحك الله!
فتودَّدتُ إليها قائلًا: إني أحبكِ أكثر من أي شيء في الدنيا؛ ولكني أريد أن ألعب!
ولكنها لم تكن لتذعن لرغبتي تلك، وكنت إذا ضقت بإصرارها بكيت أو ثار بي الغضب ثورةً لا أعفُّ فيها عن شد شعوري وتمزيق ثيابي، ولكن شيئًا لم يكن ليجعلها تذعن لرغبتي في الابتعاد عنها. وفيما عدا ذلك لم تدخر وسعًا لمرضاتي. كانت تبتاع لي اللعب أشكالًا وألوانًا، وإذا لمست ضيقي ومللي دعت بطفل من أطفال الجيران ليشاركني لهوي تحت سمعها وبصرها. بيد أن ذلك كله لم يروِ غُلَّتي، فتحيَّنتُ منها غفلةً يومًا وانسللتُ هاربًا من الشقة أكاد أخرج من جلدي فرحًا، واستقبلني الأطفال في الفناء بدهشة وترحاب معًا. ومع أنه كان بيننا شبه تعارف إلا أنه لم يسعني الاقتراب منهم، فوقفت مكاني في ارتباك وحياء، وسرعان ما أطلَّت أمي من الشرفة ونادتني في حدة الغضب، ولكن أكبر الأطفال تقدم مني، ودعاني إلى اللعب، وهو يقول لي: لا تبالها! ولأول مرة لم أبالِ صوتها. فاندفعتُ إلى حلقة اللعب، وأخذت مكاني في سرور لا يوصف، ولم تكد تمرُّ دقائق حتى شجر خلاف بيني وبين أحدهم فلطمني على وجهي، وذهلتُ ذهولًا شديدًا، فلعلها كانت أول لطمة تلقيتُها في حياتي، وارتميت على ساعده وغرست فيه أسناني، ولم يتردد رفاقه فانهالوا عليَّ ضربًا وركلًا، وتوعدتهم أمي في غضبٍ شديد، ولكنهم لم يقلعوا عني حتى هددتْهم بقذفهم بالقُلة، فغادروني في حالة يرثى لها. ودعتني للصعود إليها، وكنت ألهث والدموع ملء عينيَّ، فقهرني الحياء وتسمَّرتْ قدماي فلم أُلبِّ نداءها، ولم أرفع بصري عن الأرض، ولم أفارق موقفي حتى جاء البواب فحملني إليها، وغسلتْ لي وجهي وساقيَّ وهي تقول في انفعالٍ شديد: تستاهل .. تستاهل .. هذا جزاء من يخالف رأي أمه، إن الله يغفر كل شيء إلا من يعاند أمه فلن يغفر له, هذا هو اللعب مع الأطفال، فكيف وجدته؟!
آلمتني هزيمتي أمامها أضعاف ما آلمني الضرب، ورحت أؤكد لها كذبًا أن الحق كان عليَّ، وأني كنت المعتدي. ومن عجب أن أمي نفسها لم تكن تكثر من الاختلاط بالناس، فلم يألف بيتنا الضيوف إلا فيما ندر. وكان جدي يضيق بعزلتها، ويحثُّها دائمًا على المعاشرة لتُسرِّي عن نفسها. ثم شاء الله أن يؤنس وحشتنا، فحلَّت خالتي ضيفةً ببيتنا هي وأسرتها! كانت خالتي تقيم مع زوجها — مدرس لغة عربية — بالمنصورة، فانتقلوا إلى القاهرة ليقضوا بيننا شهرًا من العطلة الصيفية. وجدت نفسي بين ستة من الأولاد وبنت، فأفلت الزمام من يد أمي على رغمها. وكان أكبر الأولاد في العاشرة، وأصغرهم يحبو؛ فانقلب البيت الهادئ سركًا تقفز به القرود والنسانيس، فلعبتُ ولهوتُ حتى كدت أجنُّ من الفرح والسرور .. لعبنا الجديد والحجلة، والوابور، والاستغماية.
ولما ضقنا بالبيت انطلقنا إلى الطريق وأنا لا أكاد أصدق. وأرادت أمي أن تحول بيني وبين الانطلاق معهم، ولكن خالتي تصدت لها قائلة: دعيه يلعب مع الأولاد يا أختي .. لو كان بنتًا ما جاز لكِ أن تحجبيه قبل الأوان!
كانت الشقيقتان مختلفتَين في المزاج على تقاربهما في الشبه. كانت خالتي مفرطةً في السمنة، ميالةً للمرح والمزاح، لا تكرب نفسها بالقلق على أبنائها بغير داعٍ. وكانت إذا غادر جدي البيت غنَّت بصوتٍ لطيف محاكيةً «منيرة المهدية». أما أمي فتبدو على العكس من هذا كله؛ فهي نحيفة، منزوية، كثيرة المخاوف والقلق، مفرطة في الحنان لحد الشذوذ. وقد أرهقت ظروف حياتها أعصابها، فكانت لا تكاد تخلو إلى نفسها حتى تلفُّها كآبةٌ شاملة. ولعلها لم ترتح كل الارتياح لإقامة شقيقتها بيننا ذلك الشهر؛ لا لفتور في عواطفها نحوها، ولكن لأن أبناءها استأثروا بي من دونها، وأفسدوني عليها. وشكت مرةً إلى خالتي ما تخافه عليَّ من حوادث الطريق؛ فضحكت المرأة باستهانة وقالت لها بلهجة لم تخلُ من لوم: هل ابنك من لحم ودم وأبنائي من حديد؟! .. قوِّي قلبكِ وتوكلي على الله! أما أنا فقد نسيت في سعادتي الشاملة تعاليم أمي جميعًا، واستسلمت للسرور شهرًا صادف حياتي الرتيبة كالحلم البهيج، وألقيت بنفسي في أحضان اللعب بشراهة ونهم، لا أستشعر تعبًا ولا مللًا. وفي الليل إذا أوينا إلى البيت كنت أضع عمامة زوج خالتي على رأسي وأحكي لهجته في الحديث، وأتجشأ كما يتجشأ، وأتمتم عقب ذلك قائلًا: «أستغفر الله العظيم»، والكل من حولي يضحكون!
كان شهرًا كالحلم، ولكن الأحلام لا تدوم، وقد انقضى. ورأيت بعين الحسرة الحقائب وهي تعدُّ وتكوَّم استعدادًا للرحيل. وحم الفراق، فكان عناق وسلام، وحملتهم العربة جميعًا ومضت، وأنا أودعهم من الشرفة بطرفٍ دامعٍ كسير.
وقالت لي أمي: كفاك لعبًا وجريًا في الشارع، ثُب إلى رشدك، وعد إليَّ كما كنتَ لا تفارقني ولا أفارقك.
وأصغيت إليها في صمت. كنت أحبها ملء فؤادي؛ ولكني كنت أهفو كذلك للعب والمرح. وبدا لأمي أن تحضر لنا خادمةً صغيرة، وسمحت لها بأن تلاعبني تحت سمعها وبصرها. فكانت رفيقًا خيرًا من عدمه على أي حال. كانت صبيةً دميمةً، ولكنها كانت أفضل لي من الطاهي الهرم وأم زينب العجوز. وكانت أمي محافظةً على صلاتها، فجعلتُ أقلدها إذا صلَّت، ولعلها وجدت الفرصة مناسبةً فمضت تلقنني مبادئ الدين كما تعرفه. عرفتُ الدين مبتدئًا بالجنة والنار، فانضافت إلى معجم مخاوفي كلماتٌ جديدة، بيد أنها كانت مصاحبةً هذه المرة لعاطفة صدق وحب وإيمان.
٦
وأدَّت حال أمي تلك معي إلى تأجيل تاريخ التحاقي بالمدرسة، فقاربت السابعة دون أن أتعلم حرفًا. وتدخَّل جدي في الأمر، فدعاني يومًا إليه وهو جالس بالشرفة على مقعده الطويل الهزاز، وعرك أذني مداعبًا وقال لي: طالما رغبتَ في الانضمام إلى أترابك من الغلمان، فالآن قد فكَّ الله أسرك، وسنأذن لك بالاشتراك معهم في حياتهم عمرًا طويلًا؛ ستدخل المدرسة!
أنصتُّ إليه في دهشة بادئ الأمر؛ إذ لم أكن أدري شيئًا عن المدرسة، ثم بدا لي أنه سيطلق سراحي فنظرت إلى أمي بين مصدق ومكذب، ولشدَّ ما دهشتُ حين رأيتها تبسم إليَّ في تشجيع واستسلام؛ فانبعث الحبور في صدري فياضًا، وهتفتُ بجدي متسائلًا: هل ألعب في المدرسة كالأطفال؟
فهزَّ الشيخ رأسه الأبيض وقال: طبعًا .. طبعًا .. ستلعب كثيرًا وتتعلم كثيرًا، ثم تصير فيما بعدُ ضابطًا مثلي.
فسألتُه في لهفة: متى أذهب؟
فابتسم الرجل قائلًا: قريبًا جدًّا سأُقيد اسمك غدًا.
وفي صباح الغد — وكنا في مطلع الخريف — ألبسوني بدلةً وطربوشًا وحذاءً جديدًا، فعاودتني ذكريات العيد السعيد، ومضى بي جدي إلى عطفة قاسم غير بعيد من بيتنا، ودخلنا ثاني بناء صادفنا إلى اليسار؛ مدرسة الروضة الأولية الأهلية، وقد وقع عليها الاختيار لقربها من البيت. كانت تتكون من فناءٍ متوسط ودورٍ واحد من ثلاث حجرات؛ فصلَين وحجرة الناظر. وقد استقبل الناظر — وهو صاحب المدرسة أيضًا — جدي بالاحترام والإجلال، ولاطفني في محضره برقَّة، وأطرى نظافتي وجدة ثيابي، فآنست إليه واستبشرت به خيرًا. وتم إثباتي بين تلاميذ المدرسة في دقائق، ودفع جدي المصروفات، وعدنا وهو يقول لي: أنت الآن تلميذٌ عظيم، وستفتح المدرسة يوم السبت القادم …
وأعلنت أمي عن ارتياحها، ولكنها لم تستطع مداراة ما اعتراها من كآبة، حتى برم بها جدي، وقال لها بشيء من الحدة: ماذا تفعلين غدًا إذا بلغ السابعة وأخذه أبوه؟!
فرمقتْ جدي بنظرة فزع وألم وهتفت قائلة: لن يكون هذا وأنا على قيد الحياة.
وفي يوم السبت المنتظر أوصلني جدي إلى المدرسة وعاد من حيث أتى. وقد تعلقتُ بيده وهو يغادرني، واستشعرت خوفًا مباغتًا أنساني طول اشتياقي إلى تلك الساعة، واقترحتُ عليه أن يعود بي! ولكنه ضحك ضحكته الرنانة وقال وهو يومئ بأصبعه إلى التلاميذ: إليك أهلك الجدد!
وقفت على كثب من الباب في ارتباك لم أعانِ مثله من قبلُ، وتولَّاني الندم، ونظرت إلى التلاميذ المتفرقين في الفناء بخوف وحياء، وتمنيت ألَّا تقع عين عليَّ. ولكن أناقتي وجدة ثيابي لفتتا إليَّ الأنظار فغضضتُ بصري في خجلٍ شديد، وتساءلت: حتام يطول ذاك العذاب؟ بيد أن غلامًا اقترب مني وحيَّاني، ووقف معي كأننا أصدقاء، ثم سألني بغير مناسبة: هل أبوك الذي جاء بك؟
وكنت أعدُّ جدي جدًّا وأبًا، فحنيت رأسي دلالة الإيجاب، فعاد يسألني: ما مهنته؟ .. وما اسمه؟
ولئن كان الحديث ضايقني، إلا أني رحبت بذاك السؤال خاصةً، فقلت بفخار: الأميرالاي عبد الله بك حسن.
وقال لي الغلام إن أباه فلان بك كذلك، وقد نسيته. ولعله ضاق بصمتي وجمودي فغادرني وانضم إلى غيري من الرفاق. اشتدت بي الوحشة وتساءلتُ: ترى أأستطيع أن أندمج في أولئك الغلمان؟ هل يمكنني حقًّا أن ألاعبهم أم تتكرر المأساة التي وقعت لي في فناء بيتنا؟ وتقبَّض قلبي خوفًا، ولو واتتني الشجاعة على الانسحاب من موقفي والعودة إلى البيت لفعلت. ثم دق الجرس فأنقذني من أفكاري، وأوقفونا صفًّا، وأدخلونا الفصل. لم أكن أتصور حتى ذلك الوقت إلا أنني التحقت بملعبٍ كبير، فلما أن جلست إلى قمطر، وراح المدرس الشيخ يفتتح العام الدراسي بالإرشادات التقليدية الخاصة بالنظام وعدم الحركة والكلام، أيقنت أني دخلت سجنًا .. وتولتني الدهشة والانزعاج، ترى أأخطأ جدي أم خدعوه؟ وطار خيالي إلى البيت فتمثلت لي أمي في جلستها وحيدةً، وتساءلت: ترى هل نسيتني؟ إنها الآن تراقب أم زينب وهي تكنس الحجرات وتنفض الأثاث، ألم تفكر فيَّ؟ .. هل تطيق فراقي طول اليوم كله؟! وانتهت الحصة الأولى دون أن ألتفت لحظةً واحدةً إلى كلام الشيخ، ولا عجب، فقد قررت أن يكون ذلك اليوم الأول والأخير. وفي دقائق الاستراحة رأيت الناظر يمر بباب الفصل، فتنفست الصعداء، ومضيت نحوه بلا تردد؛ إذ لم أكن نسيت لطفه ورقَّته، واقتربت منه في حياء، فالتفت نحوي في دهشة، ورمقني بعينَين جامدتَين متسائلتَين، فظننته قد نسيني، وقلت بصوت لا يكاد يسمع: أنا ابن الأميرالاي عبد الله بك حسن.
فسألني بدهشة: وماذا تريد؟
فلممت أطراف شجاعتي وقلت: أريد أن أعود إلى البيت.
فصرخ في وجهي بصوتٍ غليظ كالرعد: عد إلى قمطرك .. عمى في عينك!
وأذهلني صراخه، فعدت إلى مكاني يكاد يغمى عليَّ من الرعب والألم. ولبثت في مكاني مروَّعًا محزونًا. وفي أثناء النهار شعرت بحاجة إلى التبول؛ ولكني كتمتها في خوفٍ شديد، ولم أفكر مطلقًا في استئذان المدرس في الخروج. وغلبني الحياء في الفسحة فلم أستطع أن أسترشد بأحد عن موقع المرحاض. وجعلت أتململ تململ الملدوغ، وأشد على ركبتي في ألم وجزع. ومر الوقت في ثقل وعذاب حتى دق جرس الخروج، فأطلقت ساقي للريح، فبلغت البيت في ثوانٍ، وارتقيت السلم وثبًا، وفي الشقة وجدت أمي في انتظاري، فهتفت بي لما رأتني: أهلًا بنور العين …
ووقع بصرها مصادفة على البنطلون، فبدا في وجهها الانزعاج، وتمتمت بصوتٍ منخفض: رباه .. بُلتَ على نفسك!
وانفجرتُ باكيًا، وقلت لها منتحبًا: لن أعود إلى المدرسة، إن جدي لا يدري عنها شيئًا، وإني أكره الناظر والمدرسين والتلاميذ، أنقذيني منها ولن أبتعد عنك ما حييت!
فجففت دموعي، ونزعت ملابسي، وهي تقول برقَّة: لا تقل مثل هذا الكلام، ستألفها وتحبها، كيف تبقى في البيت والغلمان جميعًا في المدرسة؟! وهل يمكن أن تصير ضابطًا مثل جدك إذا تركت المدرسة؟!
وواصلتُ البكاء، وألححت في الشكوى، ولكنها جعلت تلطف من حزني وتحذرني من البوح لجدي بشكواي أن يغضب ويحتقرني. ولأول مرة أعارت دموعي أذنًا صماء.
•••
وبدا لها — كي تشجعني على مواصلة الحياة الجديدة — أن توصلني كل صباح إلى المدرسة؛ فكنا نذهب معًا، وأدخل أنا المدرسة، بينما تقف هي على الطوار المقابل لها، وأظل ملازمًا للسور أبادلها النظرات والابتسام من خلال قضبانه، والكآبة ترين على صدري والضيق يمسك بخناقي. كرهت المدرسة وحياتها جميعًا، ولكني أُجبرت على الذهاب إليها، ولم ينفعني عصياني ولا بكائي ولم يغنيا عني شيئًا، فأيقنت أنه قُضي عليَّ بسجن طويل الأمد. ولأول مرة وجدتني أحسد الكبار على حريتهم، وأغبط النساء على قبوعهن في البيوت. وإلى ذلك العهد يرجع سروري بيوم الخميس، فكان اليوم المفضل عندي من الأيام؛ أما بقية أيام الأسبوع فقد جفوتها واستثقلتها، وكنت أستشعر الكآبة ابتداءً من أصيل يوم الجمعة، ويمر السبت والأحد والإثنين والثلاثاء في ضيق وتبرم، حتى يأتي صباح الأربعاء فأتنفس الارتياح، ثم أستيقظ عند الفجر الخميس وأتقلب تحت الغطاء في سرور وحبور، والدنيا لا تسعني من الفرح. ولذلك تفوقت في دروس الخميس، ولم تعدُ المحفوظات والديانة … على أن ذلك العهد لم يخل من ذكريات تثير الابتسام، وإن بدت لي وقتذاك في إطار من الجد والصرامة؛ من ذلك أننا كنا نبتاع السميد في الفسحة، وإذا أعوزنا الملح استعضنا عنه بالجير الطافح من جدران الفناء. وكان مدرسنا الشيخ يروق له أن يشرب كوبًا من العرقسوس في أثناء الحصة الأولى، فكان إذا تناول الكوب يأمرنا بالوقوف وبإدارة ظهورنا له حتى لا يصيبه مكروه من أعيننا النهمة. وجاءنا يومًا متجهمًا وقال إنه شعر ليلة أمس بمغص، وإنه لا يشك في أن أحدنا استرق إليه النظر وهو يشرب العرقسوس، وأنذرنا إذا لم نرشد عن الجاني بالضرب على أيدينا جميعًا، ولما كنا نجهل الجاني فقد ضربنا جميعًا. وكان زميله الآخر شيخًا هرمًا رقيق النفس، فلم يكن يضرب أحدًا إلا إذا أعيته الوسائل، وكانت طريقته المفضلة في إسكات التلاميذ وضبط النظام أن يخوفنا بالعفريت الذي يسكن أرض الحجرة من قديم الزمان، قائلًا إنه لا يحب الضوضاء، وكان إذا أفلت الزمام من يده يجلس القرفصاء وينقر على أرض الغرفة، ثم يقول بخشوع ورهبة: «عفوك يا سيدنا .. إنهم لا يدركون شيئًا .. لا تركبهم وسامحهم هذه المرة.»
أما الدراسة فإني لم أتعلم شيئًا على الإطلاق. ولعل الفن الوحيد الذي أتقنته في مدرسة الروضة الأولية هو قياس الزمن بمراقبة تحول ضوء الشمس عن جدران الفصل، وأنا أعد الثواني في انتظار جرس الخروج. وكان المعنى الوحيد الذي يتضمنه توجيه سؤال من المدرس أنني سأضرب كذا مسطرة على ظاهر كفي. ولم أحفظ في بحر عامٍ دراسي إلا بعض السور القرآنية الصغيرة التي كنت أسمع أمي ترددها في صلاتها. وجاء الامتحان في نهاية العام فظفرت بجملة أصفار تكفي لجعلي مليونيرًا لو ظفرت بها في غير الشهادة الفاضحة. ولما اطلع جدي على الشهادة غضب وقال لأمي بحدة: هذا نتيجة تدليلك .. لقد .. أفسدتِه يا ستي.
ثم توعد الناظر شرًّا، ومضى لمقابلته في المدرسة، ورجع إلينا بعد ساعة وهو يقول بارتياح: نجحت يا سيدي بالقوة، وإياك أن تسقط في السنة التالية!
وكان يداعبني أمل بأن سقوطي ربما عدل بهم عن إرسالي إلى المدرسة، فلما بشرني بذاك النجاح المغتصب خاب أملي. وجاءت السنة الثانية فلم تكن بخير من الأولى، وزاد من شقائي هفوة لسانية عثرت بها فضاعفت من تنغيص حياتي بقية المدة التي قضيتها في الروضة الأولية، رفعت أصبعي مرة لأستأذن المدرس في الخروج، ولكن بدلًا من أن أدعوه: «يا أفندي» أخطأت وأنا لا أدري فقلت له: «يا نينة»!
وضجَّ الغلمان بالضحك، وضحك المدرس نفسه وقال لي بسخرية: إيه يا سيد أمك؟
وقهقه الفصل بالضحك، وتولاني الذهول، ولبثت ذاهلًا حتى اغرورقت عيناي، لم يكن لي فيهم رفيق أو صديق، فقد بدا عجزي عن اتخاذ الأصدقاء منذ ذاك العهد البعيد، فلم يرحمني أحد منهم، ودعوني منذ تلك الهفوة: ﺑ «نينة»، حتى غلبت على اسمي الحقيقي، وكنت أتحاماهم مقهورًا مغلوبًا على أمري، ونار الغضب ترعى صدري.
وفي نهاية العام جاءتني شهادة الأصفار فاتهمت أمي المدرسة، وقرر جدي أن يلحقني بالمدرسة الابتدائية، ولما كنت متخرجًا من مدرسةٍ أهلية اشترط الناظر أن أؤدي امتحانًا، ومضى جدي بي إلى المدرسة قبيل افتتاح العام الدراسي، وانتظر نتيجة الامتحان. ولم تكن بحاجة إلى الانتظار، ورجا الناظر أن يقبلني بصرف النظر عن نتيجة الامتحان، وأراد الرجل أن يجامل جدي لكبر سنه ومقامه، فطلب إليَّ أن أكتب اسمي «كامل رؤبة» ولكني أخطأت في كتابة رؤبة، فاعتذر الناظر من عدم إمكان قبولي. وعاد بي جدي وهو يسخر مني طوال الطريق، وقال لأمي وهو ينفخ: لا فائدة ترجى من إعادته إلى المدرسة الأولية، فسأحضر له مدرسًا خصوصيًّا هذا العام.
وأنصتُّ إليه وأنا لا أصدق أذني، سألته وأنا أداري فرحي: هل أبقى هذا العام في البيت؟
فحدجني بنظرةٍ غاضبة من عينَيه الخضراوَين وقال بغيظ: يا فرحة أمك بك!
٧
واستقبلت عامًا مثمرًا لأول مرة في حياتي، وجلست آمنًا مطمئنًّا بين يدي مدرسي الشيخ، أتلقن مبادئ العربي والحساب. بدأت أخطو الخطوات الأولى في طريق التعليم، وإن مضت ساعات الدراسة في ثقل وضيق كالعادة، ولكي أضمن معاملةً حسنة من المدرس أجلست أمي غير بعيد من باب حجرة المدرس للاستنجاد بها عند الحاجة. ولا عجب فإن ذكرى العامين اللذين قضيتهما في مدرسة الروضة — ما بين ضرب المدرسين واعتداء التلاميذ — لم تُمحَ من نفسي قط. ولم أكن أتصور حتى ذلك الوقت أن التعليم واجبٌ ضروري سأؤديه شطرًا طويلًا من العمر، ولكني عددته عقابًا فرض عليَّ لسبب لا أدريه، ولم أيئس من أن يلين قلب جدي يومًا فيعفيني منه.
على أن أمي لم تكن أسعد حالًا مني؛ كانت تعاني عذابًا من نوع أشد، وقد ازدادت كآبةً في تلك الأيام، فلم تكن تخلو إلى نفسها حتى تبكي مرَّ البكاء، ولم تكن تجلس إلى جدي حتى تفاتحه بالأمر الذي يقضُّ مضجعها! أجل لم يعد يفصل بيني وبين التاسعة إلا أشهرٌ قلائل، فإذا بلغتها حق لأبي أن يضمَّني إليه، وهو لا بد فاعل كما فعل بأختي وأخي من قبلُ. وقد تهددنا ذاك الخطر حين بلغت السابعة، ولكن جدي كتب إلى عمي — وهو من كبار المزارعين في الفيوم — راجيًا أن يستشفع لي عند أبي ليتركني في كفالة جدي حتى أبلغ التاسعة، وقُبلت الشفاعة بمعجزة من السماء. وها قد اقتربت التاسعة، ولسوف أُنتزَع من أحضان أمي ما لم يتنازل أبي عن حقه في استردادي. وبكت أمي يومًا في محضر جدي وقالت له: لقد فقدت راضية ومدحت فلم تقع عليهما عيناي منذ تسع سنوات، ولم يبقَ لي إلا كامل، فهو عزائي الوحيد في هذه الحياة، ولا أدري ماذا أفعل إذا سلبني الرجل إياه؟!
وهزَّ جدي رأسه الأشيب متبرِّمًا، وكان ذاك الحديث يكربه، وقال لها: وماذا بيدي أن أفعل؟! هذا حكم الشرع، وما لنا من حيلة فيه، والرجل الذي تعنينه هو أبوه على أي حال، وليس برجلٍ غريب!
فهتفت أمي في تألم واحتجاج: أبوه! .. أتدعو هذا الوحش أبًا؟! يا أسفي على راضية ومدحت في البيت الذي جعل السكير منه حانةً. إن الأبوة لم تختلج بصدره قط، وكامل قد ترعرع في رعايتي ونهل من حناني، ولم يدرِ شيئًا عن شواذ المخلوقات، فإذا أخذه الرجل هلك بين يديه، وهلكت هنا وحدي!
وخنقها البكاء فأمسكت عن الكلام مرغمةً، ولما استردت أنفاسها استطردت تقول: هل تتصور يا أبي أن كامل يستطيع أن يعيش بعيدًا عن أمه؟! إن يديَّ هاتين تطعمانه وتلبسانه وتنيمانه، إنه يخاف خياله، وإنه لتفزعه زفرات الصراصير، فكيف يأذن الشرع بأن يُنتزَع مثل هذا الطفل من أحضان أمه؟!
وقطب جدي متبرمًا، وبدا وكأنه ضاق بشكواها، بيد أن وجهه لم يكن مرآةً صادقة لقلبه، وكثيرًا ما كان يبدو ساخطًا والقلب منه نديٌّ بالرحمة، ولم يزد وقتذاك على أن قال: كفاكِ شكوى وبكاءً، إن قسم له أن يمكث بيننا مكث، وإن أراد الله أن يذهب إلى أبيه فلا راد لقضائه!
ذاك كان قوله، أما صنيعه فكان شيئًا آخر؛ فقد حزم أمره يومًا ومضى إلى أبي ليفاوضه في شأن استبقائي في كفالته، والحق أن جدي كان يحبني حبًّا بالغًا .. أحبني لأني كنت أنيس شيخوخته، والطفولة تحرك في الشيخوخة أعماق الصدور، وأحبني لحبه أمي التي لبثت إلى جانبه بعد وفاة جدتي ترعاه بحنانها وعطفها وحبها. ذهب الشيخ إلى أبي وانتظرنا وأيدينا على قلوبنا. ومرَّ وقت الانتظار على أمي في عذاب لا يمكن أن أنساه مهما امتد بي العمر. لم يكن ليقرَّ لها قرار أو يسكن لها جانب، وجعلت تخاطبني حينًا وتخاطب نفسها أحيانًا، ودعتني مرات إلى مشاركتها في الابتهال إلى الله أن يكلل مسعى جدي بالنجاح. ومضيت أرقبها بعينَين محزونتَين حتى انتقلت عدوى قلقها إلى صدري، فاستعبرت باكيًا. انتظرنا طويلًا — أو هكذا خُيِّل إلينا — يشملنا حزن وقلق، تسبح أعيننا دمعًا، وتلهج ألسنتنا بالدعاء، حتى سمعنا جرس حنطور فهرعنا إلى الشرفة، فرأينا جدي وهو يقطع فناء البيت بخطاه الثقال .. وعدنا إلى الباب ففتحناه، ودخل جدي صامتًا وهو يحدجنا بنظرة لم ندرك لها معنًى.
ومضى إلى حجرته فتبعناه وقد خانت أمي الشجاعة أن تسأله عما وراءه، وراحت تهمس بصوتٍ متهدج: يا ربي .. يا ربي! وخلع طربوشه بأناة وهو يتحامى عينَي أمي، ثم جلس على مقعدٍ كبيرٍ قريب من فراشه، ثم ألقى علينا نظرةً طويلة وقال بصوته الأجشِّ وكأنما يخاطب نفسه: رجل مجرم! .. ماذا كنتِ تنتظرين من رجلٍ مجرم؟!
وابيضَّ وجه أمي وارتعشت شفتاها، ولاح في عينَيها القنوط، وجعلتُ أردد بصري بين جدي وأمي في قلق وخوف. وتركنا جدي لشقائنا هنيهة، ثم رثى لنا فرفع عن وجهه نقاب التجهُّم، وقهقه ضاحكًا، وقال بصوت ينمُّ عن الظفر: لا تقتلي نفسك كمدًا يا أم راضية؛ فقد أذعن الشيطان بغير تعبٍ طويل.
بُهتنا بادئ الأمر، ثم تهللت وجوهنا بشرًا، وتلألأ نور الفرح في عينَي أمي، ثم جثت على ركبتيها أمام جدي وأشبعت يده تقبيلًا وهي تقول بلهفة: حقًّا؟ .. حقًّا؟ .. هل رحم الله قلبي الكسير؟
وأخذ جدي يفتل شاربه في ارتياح، بينما عادت أمي تسأله بنفس اللهفة: أرأيت راضية ومدحت؟
فهزَّ رأسه آسفًا وقال: كانا في المدرسة!
فدعت لهما دعاءً حارًّا وعيناها تغرورقان. ولم يكن جدي يزورهما لكراهيته لأبي، ولأنه لم يكن ينتظر استقبالًا كريمًا في بيته. ثم قصَّ جدي كيف قابل أبي في الفراندا وبين يديه زجاجة خمر وكأسٌ مترعة، وكيف تلقَّاه بدهشة واستغراب، وكيف أنه لم يعد له من عمل في الحياة إلا الشراب، ولعل اضمحلاله ذاك الذي جعله ينقاد لاقتراحه متنازلًا عن عناده القديم.
وقد بدا أول الأمر وكأنه يرتاب فيما يلقى على سمعه، فلما أن تبينه ضحك في سخرية وازدراء من غير ما معاندة أو غضب، وقال ببساطة: لا دماغ لي للتربية، ولأكون مرضعةً من جديد. خلِّه عندك إذا شئت، ولكن لا تطالبني بمليمٍ واحد، هذا شرطٌ صريح، وإذا طولبت بمليمٍ واحد فيما يُستقبل من الأيام انتزعته منكم، فلا تقع عليه أعينكم ما حييت.
وقبل جدي الشرط، وكان يحدسه مقدمًا من قبل أن يذهب إليه، ولكنه عجب كيف أن الرجل لم يبد عن أية رغبة في رؤية ابنه، ولا سأل عنه على الإطلاق. ثم قال جدي: لم يعد رؤبة لاظ إنسانًا، لقد انتهى الرجل.
فغمغمت أمي في حزن وكآبة: واحزناه على راضية ومدحت!
فقال جدي يطمئنها: إن راضية في السابعة عشرة ومدحت في السادسة عشرة، ولم يعودا طفلين.
•••
وثبنا إلى طمأنينتنا المعهودة، فنجونا من ذاك الخوف الذي اعترض سبيلنا مهددًا، وواصلت الدراسة في البيت أعالجها بصعوبة وضيق. واستدار العام، وحلَّ الخريف وكثر الحديث عن الدراسة والمدرسة، وأيقنت أني معاد قريبًا إلى السجن، وقلت يومًا لأمي: إذا كنتِ تحبينني ولا توافقين على أن يأخذني أبي، فلماذا ترضين بأن تفرق المدرسة بيننا؟
فضحكت ضحكتها الرقيقة وقالت: يا للعار! كيف تقول هذا وأنت الرجل الكامل؟! ألا ترغب أن تكون يومًا ضابطًا كبيرًا مثل جدك؟ وماذا يبقى إذا هجرت المدرسة إلا أن تشتغل بائع فول أو كمساري ترام!
ومضى بي جدي إلى مدرسة العقادين بمصر القديمة، ونجحت في الامتحان هذه المرة. وهلَّ العام الدراسي، وانتظمت في المدرسة كارهًا مرغمًا. وكان الحنطور يوصلني صباحًا إلى المدرسة، ويعود بي مساءً إلى البيت، وفي نظير ذلك منع جدي أمي من توصيلي بنفسها كما كانت تفعل على عهد المدرسة الأولية. عدت مرةً أخرى إلى المدرسة، وعانيت من جديد الدروس والنظام وقسوة المدرسين وسخرية التلاميذ. كانت حياتي المدرسية شقاءً كلها. وأكد ذلك الشقاء أنني كنت ملكًا مستبدًّا في بيتي وعبدًا ذليلًا في مدرستي. وطالما تحيرت بين الحب الذي يغمرني في البيت وبين عصا المعلم وسخرية التلاميذ.
وقد اكتسبت عداوة المدرسين ببلادتي وخمود ذهني، حتى أطلق عليَّ بعضهم: «الغبي الممتاز». وكان مدرس الرياضة إذا انتهى من شرح درس سألني عنه، وما يزال بي حتى أجيب إجابةً ترضيه فيتنفس الصعداء ويلتفت نحو التلاميذ قائلًا: لا بد أنكم فهمتهم ما دام سي كامل قد فهم. ويضجُّ الفصل بالضحك!
أما التلاميذ فكان دأبهم السخرية مني ما وجدوا إلى ذلك سبيلًا. وكان عجزي عن إنشاء علاقة صداقة حقيقةً مرةً لا شك فيها، فلم أظفر في حياتي بصديق. والحق أني لست أسوأ من كثيرين ممن يتمتعون بصداقاتٍ سعيدة، ولكني شديد النفور بطبعي، شديد الخجل، محب للوحدة والعزلة، عديم الثقة في الغرباء، وزاد طبعي تعاسةً ما جُبلتُ عليه من صمت وعيٍّ وحصر، فلم أحسن الكلام قط، فضلًا عن الدعابة والمزاح، لذلك جميعهم رموني بثقل الدم، وقد آلمتني هذه الصفة، حتى سألت أمي يومًا: هل أنا ثقيل الدم يا أماه؟
فرمقتني بنظرة ارتياع وقالت بحدة: من قال عنك ذلك؟
فقلت في حياء: التلاميذ كلهم؟
فصاحت بغضب: قطعًا لألسنتهم، إنهم ينفسون عليك أدبك الكامل، والحنطور الذي يحملك؛ بينما يتسكعون على أقدامهم، إياك وأن تتخذ منهم صديقًا!
ومتى كنت في حاجة إلى مثل تلك النصيحة؟! وهكذا كابدت الحياة في المدرسة في وحدة، يطالعني روح عداوة وبغضاء من الجو المحيط بي. ولعلها كانت لا تخلو من غبطة لو أنني أسهمت في مسرَّاتها، ولكن خجلي الشديد أجبرني على مقاطعة الألعاب بأنواعها كالكشافة والكرة والقسم المخصوص، حتى الرحلات المدرسية لم توافق أمي على الاشتراك فيها؛ أن يصيبني مكروه، وكان التلاميذ يتحدثون عن الأهرام وأبي الهول ودار العاديات والفسطاط، فأسترق السمع في حيرة وحزن وكأني أستمع إلى سائحين يقصون عن بلادٍ نائية! ولشد ما ينتابني من خجل إذ أقرر أن عيني لم تقعا من القاهرة — المدينة الوحيدة التي عشت بين أسوارها — إلا على شوارعَ معدودات هي كل حظي من مشاهدات في هذه الدنيا الواسعة. ولم يكن لي من عزاء في تلك الأيام إلا أن أنفرد بأمي في الشرفة أو في حجرتها، ثم نأخذ بأطراف الحديث، كأن ليس لحديثنا من نهاية. وكانت عصا المدرس تذكرني بأن عليَّ واجبًا ينبغي أن أؤديه قبل النوم، فأقبل على الكتاب مستكرهًا، وأذاكر بلا روح ولا حماس، وسرعان ما يترنح رأسي ويرنق النوم بجفنيَّ.
•••
ويومًا قرئت علينا — في حصة الديانة — هذه الآية الكريمة: فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ * يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ … فلا أذكر أني انزعجت لشيء انزعاجي لها، لم أطق أن أتصور أن أفرَّ من أمي في يوم مهما كانت فظاعته، وأن أغادرها في أهواله بقامتها النحيلة الرقيقة وعينَيها الخضراوَين الحنونَين، فقاطعت الشيخ على غير وعي مني هاتفًا: كلا .. كلا!
وأحدثت مقاطعتي دهشةً في الفصل؛ لأني لم أكن أنبس بكلمة، ولم يدرك أحد ماذا أردت، ولم يلبثوا أن ضجُّوا ضاحكين، وغضب الشيخ، وحمَّلني مسئولية الإخلال بالنظام، فأقبل نحوي متغيظًا ولطمني على وجهي بعنف وحنق. ورحبت باللطمة كعذر ظاهر للبكاء؛ إذ كنت أقاوم دموعي جاهدًا ودون جدوى.
لقد زلزلتني هذه الآية الكريمة، وكانت أول نذير لي عن مأساة الحياة!
٨
حياةٌ رتيبة كابدتها على استكراه؛ بيد أنها لم تخلُ من هزاتٍ عنيفة. فذات مساء عاد جدي مبكرًا على غير عادته، وقلقت أمي لأنه لم يكن يرجع إلى البيت قبل الفجر. واقتحم علينا الحجرة متجهِّمًا، فنهضت أمي مستطلعةً، ورفعتُ رأسي عن الكتاب، وقبل أن تسأله عما به قال بحدة وهو يضرب طرف حذائه بعصاه: زينب، كارثة نزلت بالأسرة .. فضيحة ستجعلنا مضغة الأفواه!
فنطقت عينا أمي بالفزع، وهتفت بصوتٍ متهدج: رحماك يا ربي! .. ماذا حدث يا أبي؟
فقست نظرة عينَيه الخضراوَين، وقال بصوتٍ أجشَّ غليظ: ابنتك .. راضية .. هربت!
وشحب وجه أمي، وخجلت عيناها، وجعلت ترنو إلى جدي بنظرةٍ مستنكرة لا تجد سبيلًا إلى تصديق ما صكَّ أذنَيها، ثم غمغمت بصوت كالأنين: هربت! .. راضية! .. هذا محال!
فضرب جدي الأرض بقدمه حتى ارتجَّت أركان الحجرة وصاح بغضب: محال؟! بل هي الحقيقة الواقعة، هي الفضيحة العارية، هي الضربة القاصمة لكرامتنا!
ولم تُحر أمي جوابًا كأنما فقدت النطق، وتنفس جدي بشيء من الجهد، ثم قال وكأنه يخاطب نفسه: أي جنون سلبها الرشاد؟! .. ليس هذا الدم الفاسد بدمنا! هذا دمٌ شيطاني يفضح سوءُ فعله الأصلَ القذر الذي استُمدَّ منه. لقد مات جدها وهو يصبُّ لعناته على رأس أبيها فحلَّت اللعنة بذريته.
وازدردت أمي ريقها وتمتمت في ارتياع: أفظِع بها من كارثة! كيف ضلَّت الفتاة؟! لقد أفسد السكير العربيد عليها حياتها، ما أتعسها!
فقال جدي باستياء وحنق: لا تنتحلي لها الأعذار .. لا شيء في الوجود يسوغ هذا الفعل الشائن!
فغمغمت أمي بصوتٍ باكٍ: لست أنتحل لها الأعذار؛ ولكنها تعيسة، ما في ذلك من شك!
وساد صمتٌ محزن، ولبثا يتبادلان نظرات الغم والكدر والقنوط، وقد أصغيت إلى ما دار بينهما بانتباهٍ شديد، فأدركت أهونه، وغابت عني خطورته الحقة، كان الأمر يتعلق بأخت لم تقع عليها عيناي. لماذا هربت؟ وأين اختفت؟ وتساءلتُ: لماذا لم تحضر إلينا؟
فصاح بي جدي حانقًا: اخرس!
وارتمى على مقعد، واستطرد يقول: جاء عمها في النادي وأبلغني الخبر؛ قال إنه لا يعلم شيئًا عن حقيقة الحال. وقد أبرق له مدحت للحضور فورًا، فجاء بلا إبطاء، ثم أخبره الشاب باختفاء شقيقته. أما المجرم السكِّير فلم يزد على أن قال: «في داهية!» ثم ذهبنا معًا إلى بعض أصدقاء العم من رجال المحافظة وأفضينا إليهم بالخبر الشائن سائلين معونتهم.
وتريَّث جدي دقيقةً ثم استطرد: ويل للسكير المجرم! .. إنه المسئول عن هذه المأساة، لأذهبن إليه وأحطمن رأسه!
ولاح الانزعاج في عينَي أمي فقالت بجزع: كلا .. كلا .. هذا يزيد من حالنا سوءًا!
فقال جدي بإصرار: ينبغي أن يجزى عن شره شرًّا.
فقالت أمي بتوسل: لا شأن لنا به .. فلنركز اهتمامنا في العثور على الفتاة، علَّنا نُقوِّم ما اعوجَّ من أمرها.
فحدجها بارتياب وتساءل: لماذا تلحفين في الحيلولة بيني وبين الذهاب إليه؟
فلاح في وجهها الارتباك وتمتمت: أخاف أن يزداد الأمر سوءًا.
فقال جدي بحنق: بل تخافين أن يؤدي الشجار إلى أن يسترد كامل .. إنك لا تقيمين وزنًا لشيء، ولا تكترثين لغير نفسك، ألا لعنة الله عليكم أجمعين!
ولبس البيت رداء الحزن فكأنه في حداد، واهتصرتنا أيامٌ سود؛ فنكد العيش، وكدت أختنق في ذلك الجو القاتم. وقد غيَّر جدي نظام حياته، وتخلف عن سهراته المعتادة في النادي، وكان يغيب خارج البيت طوال النهار دون أن ندري عن مكانه شيئًا. على حين تقضي أمي النهار ساهمةً أو باكيةً. وجاءنا جدي ذات مساء، فلما أن وقع بصره على أمي بادرها قائلًا: عثرنا على ضالتنا أخيرًا!
فجرت أمي نحوه وهي تصيح: حقًّا! .. اللهم ارحمنا!
فقال جدي بصوت تنمُّ نبراته عن الارتياح والسرور: أرسلت الفتاة المجنونة إلى مدحت كتابًا تنبئه بأنها تعيش في بيت زوجها ببنها، وتسأله المغفرة عن سلوكها الذي اضطرت إليه اضطرارًا.
وتنهدت أمي من الأعماق وقالت وعيناها تدمعان: ألم أقل لك؟! .. إن راضية فتاةٌ طاهرة ولكنها تعيسة الحظ، رباه .. أين هي الآن؟ خبِّرني بكل ما تعلم.
فقال جدي بهدوء: سافرنا إلى بنها، أنا وعمها ومدحت، فوجدناها في أسرةٍ طيبةٍ محترمة، وتعرفنا إلى زوجها، وهو شاب موظف بالحقانية يدعى صابر أمين، فأخبرنا أنه استأجر شقة بشارع هدايت بشبرا وأنه سينقل إليها هذا الأسبوع. وقالت راضية: إن زوجها تقدم لخطبتها ولكن أباها رفضه بغلظة، وأنه رفض قبله شابًّا آخر تقدم لخطبتها كذلك .. ولعلها الخمر التي لم تُبقِ على ذرة من إنسانيته فأُنسي واجباته وبدَّد مرتباته، واستبدَّ بها اليأس فهربت مع الشاب، وسافرا إلى أسرته حيث كان المأذون في انتظارهما.
وأصغت أمي إليه وهي تبكي بكاءً حارًّا، بعثه الحزن والارتياح معًا، ثم قالت: سأسافر إليها غدًا!
فقال جدي بتأكيد: ستجدينها في بيتها غدًا أو بعد غد.
وعادت تتساءل: لماذا لم تأتِ إليَّ أنا؟
فقال جدي كمن يعتذر عن الفتاة: لعلها خجلت أن تأتي بخطيبها إلينا وهي هاربة من وجه أبيها، وعلى أية حال لنحمد الله على هذه النهاية التي لم نكن نحلم بها.
٩
ركبنا الحنطور جميعًا لأول مرة، فجلس جدي وأمي في الصدارة، وجلستُ على المقعد الخلفي. كانت أمي من الفرح في نهاية، وقد بدت بعد ما عانت في الأيام الأخيرة من همٍّ وحزن وكأنها استردت شبابها الأول .. كانت عيناها تتألقان بنور السرور البهيج، وكان لسانها يسبح بالحمد والشكر. وانتقل سرورها إلى صدري ففرحت برحلتنا السعيدة. وجعلت أفكر في شقيقتي التي سأراها لأول مرة بعد دقائق بدهشة وسرور وقلق لم أدرِ له سببًا، ترى ما شكلها؟ وكيف تلقانا؟ وهل تحبنا؟ وقطعت أمي عليَّ حبل أفكاري فسألت جدي بلهفة: هل أجد مدحت هناك؟
فقال جدي وقد اعتمد مقبض عصاه بيديه: الراجح أن يكون هناك .. لقد تواعدنا على ذلك. ولاحت في عينيها نظرة حنان ورجاء. وسارت العربة مُيمِّمةً شبرا. ورحت أتسلَّى بمشاهدة المارة والعربات والترام، حتى بلغ الحنطور مقصده، وانعطف إلى شارع هدايت، ثم وقف أمام بيتٍ متوسط الحجم، مكون من ثلاثة أدوار. وغادرنا العربة وصعدنا إلى الدور الثاني وأمي تقول بصوت كالهمس: ما أشد خفقان قلبي! ودق جدي الجرس، وفُتح الباب ودخلنا .. رأيت فتاةً وشابَّين، وقبل أن أعاينهما هرع اثنان منهما إلى أمي، فلم أرَ إلا عناقًا حارًّا، ولم أسمع إلا تنهدات الدموع. رمقت الثلاثة بحيرة وخجل وصمت. وطال العناق، وطال البكاء، حتى تدخل جدي بينهم ضاحكًا وهو يقول: إليكِ زوج ابنتك صابر أفندي أمين.
وتقدم الشاب من أمي فقبَّل يدها، وقبَّلت جبينه، ولم ألبث أن رأيت نفسي محطَّ أنظار الجميع. وقالت أمي وهي تبتسم خلال دموعها: أخوكما كامل.
وهرعت نحوي شقيقتي، وضمتني إلى صدرها، وقبَّلتني بحرارة، وأنا مستسلم بين يديها لا آتي حراكًا، ولا أنطق بكلمة، وصاحت بفرح: رباه، إنه شابٌّ يافع! .. إنه نسخة منكِ يا أماه!
ثم ضمني شقيقي إلى صدره وقبَّلني وهو يقول بسرور: يا له من شاب خجول!
ولم أكن حتى تلك اللحظة قد أنعمت النظر إلى وجه من وجوههم، وظللت غاضًّا بصري، والخجل يحرق جبيني وخدي. ثم مضوا بنا إلى حجرة الجلوس، فجلست أمي بين راضية ومدحت، وجلس جدي لصق زوج أختي، وأقعدتني شقيقتي إلى جانبها، وقالت أمي وهي تجفف دمعها: يا رحمتاه! وجدتكما شابَّين بعد أن انتُزعتما مني طفلَين، الحمد لله والشكر لله!
فقال زوج أختي بتأثر: يا لها من حياة هي بالمأساة أشبه! وإني لأشكر الله على أن جعلني الفرصة التي هيأت لكم هذا اللقاء!
وسالت الأشواق القديمة حديثًا فياضًا لا ينضب معينه، وانثالت عليهم الذكريات والخواطر، وشكا كلٌّ بثَّه وهمَّه، وامتزجت الدموع بالبسمات. وكانت تلوح في عينَيْ أمي بين الحين والحين نظرة دهشة كأنها لا تصدق أن الله قد جمع شمل الأسرة بعد تفرق ونوى. ولما شغلوا بأنفسهم عني أخذت أفيق من الخجل، وأستردُّ أنفاسي، وشعرت بأني — لدرجةٍ كبيرة — وحدي، فداخلني ارتياح، ولكن سرعان ما انتابني قلق وضيق، وجعلت أسترق النظر إلى راضية ومدحت. بهرني جمال أختي، رأيتها أقصر من أمي قليلًا ولكنها ممتلئةٌ بضة، ميالة للبياض، أما وجهها فصورة من وجه أمي، وصورة من وجهي أيضًا، بعينَيه الخضراوَين الصافيتَين وأنفه الدقيق المستقيم. أما مدحت فأنموذج من نوعٍ آخر، بدينٌ في غير إفراط، مستدير الوجه والرأس، أبيض الوجه مشرب بحمرة، أسود العينَين، ينمُّ مظهره عن الفحولة والقوة وإن لم يجاوز الثامنة عشرة. وكان يقهقه ضاحكًا لأتفه الأسباب، ويبدو فرحًا صحيحًا معافًى. استرقتُ إليهما النظر باستطلاع واهتمام، وسرعان ما جذبني إليهما شعور بالحب والعطف، واستنمت إلى روحهما المرحة الباسمة. بيد أنني لم أنعم بشعور الوحدة طويلًا، فربما اتجهت صوبي الأنظار وبُذلت المحاولات لحملي على الكلام، واستدراجي لمشاركتهم سرورهم، ولكنني لم أنبس بكلمة قانعًا برد الابتسام بالابتسام. ولئن كان كل شيء مما يكتنفني يدعو للغبطة؛ إلا أنني لم أخلُ من مشاعر قلقٍ غامض رغَّبني أكثر من مرة في الرحيل، وقالت لي راضية باسمةً: كان مولدك عسيرًا، والله يعلم كم تألمت أمنا! ولبثنا أنا ومدحت في الحجرة المجاورة نبكي، ثم أُدخلنا في النهاية ورأيناك في اللفَّة شيئًا كقبضة اليد، فانهلنا عليك بالقُبل.
وقهقه مدحت وقال: وأردت أن أطعمك قطعة من الشيكولاتة فحملوني إلى الخارج.
وقالت راضية برقَّة: وكنا نتخيلك في وحدتنا ببيت أبينا فنقول: لعله يحبو الآن، أو إنه يمشي ويلعب، أو هذا أوان المدرسة. وعلى فكرة أي سنة بلغت من دراستك؟
وشعرت بحرارة احمرار خدي، وانعقد لساني، فأجاب عني جدي قائلًا بلهجة لا تخلو من تهكم: إنه يعيد السنة الأولى الابتدائية وهو في العاشرة من عمره.
فقال مدحت ضاحكًا: الحال من بعضه، فقد التحقت بالزراعة المتوسطة بعد سقوط عامَين بالثانوي!
وقالت أمي: إن جدك يريد أن يجعل منه ضابطًا.
فهزَّ مدحت رأسه وقال: عليه إذن أن يحصل على البكالوريا.
وكان جدي من الذين ألحقوا بالمدرسة الحربية بالابتدائية، فقال بازدراء: إن بكالوريا اليوم لا تعدل ابتدائية الأمس!
ثم دار الحديث عن الحياة في بيت أبي، حتى قالت راضية: كنا في الحقيقة نعيش بمفردنا، ولم نكن نرى أبانا إلا مرةً في الصباح الباكر، ثم نُمضي وقتنا معًا، نذاكر أو نلعب أو نتحدث، وقد حمدنا الله على تلك الوحدة.
وتنبهت أمي إلى الشطر الأخير من الكلام وتنهدت في إشفاق، فقال جدي: إن كان أبوكما أعفاكما من عشرته ومخالطته حقًّا، فقد فعل خيرًا يستحق عليه الشكر والدعاء!
وتقضَّى النهار كله في جوٍّ عابق بالحب والأشواق، وعدنا إلى المنيل مجبوري الخاطر. واتصلت الأسباب بعد ذلك بيننا وبين شقيقتي، وكان مدحت يزورنا كلما سنحت له فرصة.
واستقبلت عامًا مثيرًا توزعتني فيه الحيرة وحب الاستطلاع والتجربة القاسية .. صدمني في مطلعه هروب أختي وما علمت بعد ذلك من زواجها، فحبلها، ثم إنجابها طفلةً. وتساءلت نفسي كما ساءلتُ أمي عن معنى هذا كله: لماذا هربت من أبي إلى رجلٍ غريب؟ لماذا لم تأتِ إلينا؟ ولماذا تزوجته؟ وكيف حبلت؟ وكيف خرجت زينب الصغيرة إلى نور الدنيا؟ .. وارتبكت أمي حيال إلحاحي وتطفُّلي، وجعلت تصطنع لي الأجوبة الكاذبة حينًا وتتأناني حتى أكبر حينًا آخر، فإذا لججت تكلَّفت لي حزمًا غير معهود ولا مألوف. فلم أظفر منها بشيء ينقع الغلة، وفي الوقت نفسه شعرت بأن ثمة سرًّا يراد إخفاؤه عني. ثم جاءني العون من حيث لا أدري، فتطوعت الخادمة لإماطة اللثام عما حيَّر خيالي وألهبه. كانت تكبرني بأعوام، وكانت دميمةً قبيحةً، ولكنها كانت تكرس فراغها لخدمتي، وكانت تخلو بي في أويقاتٍ نادرة إذا شُغلت أمي بعمل أو حاجة. وبدا أنها استرقت السمع يومًا إلى ما يدور بيني وبين أمي عن الألغاز التي استثارتني من سباتي، فصارحتني مرةً بأنها تعلم أمورًا خليقةً بأن تُعرَف، وانجذبت إليها على قبحها في اهتمام وسرور، وواجهت التجربة بلذة وسذاجة. على أن العهد بها لم يطل، فما أسرع أن ضبطتنا أمي ملتبسَين، ورأيت في عينَي أمي نظرةً باردةً قاسيةً، فأدركت أني أخطأت خطأً فاحشًا، وقبضتْ على شعر الفتاة ومضت بها فلم تقع عليها عيناي بعد ذلك. وانتظرتُ على خوف وخجل .. ثم عادت متجهِّمةً قاسيةً، ورمت صنيعي بالمذمة والعار، وحدثتني عما يستوجبه من عقاب في الدنيا وعذاب في الآخرة. ووقع كلامها مني موقع السياط حتى أُجهشت باكيًا، ولبثتُ أيامًا أتحامى أن تلتقي عينانا؛ خزيًا وخجلًا.
١٠
حدثت معجزة — على حد تعبير جدي — فنجحت في الامتحان، ونُقلت إلى السنة الثانية، وإن كنت قضيت عامَين في السنة الأولى. ولما اطلع جدي على الشهادة قال لي مداعبًا: لو كنتُ ما أزال في خدمة الجيش لجئتك بفرقة الطوبجية، وأمرتهم بإطلاق أربعة وعشرين مدفعًا احتفالًا بنجاحك.
على أن جدي إذا كان لم يمكنه أن يطلق لنجاحي أربعةً وعشرين مدفعًا، فقد قذف حياتي بقنبلة — عن قصدٍ حسن — كادت تودي بي. حدث أن زاره يومًا ضابطٌ متقاعد في الخمسين من عمره ممن عملوا تحت قيادته في السودان. وعقب انصرافه مباشرةً جاءنا جدي في الشرفة وراح يتفرس في وجهَينا في صمت، وإن نمَّ وجهه عن ارتياح وسرور. ثم قال مخاطبًا أمي بلهجةٍ مليئة بالمرح: اتبعيني بمفردكِ يا زوزو هانم!
وانفجرتُ ضاحكًا لذاك التدليل اللطيف. على حين تبعتْه إلى حجرة نومه، ومنَّيتُ نفسي ببشرى جميلة .. وغابت أمي مقدار ساعة، ثم عادت إليَّ، وما إن وقعت عليها عيناي حتى بادرتُها قائلًا: أهلًا وسهلًا يا زوزو هانم!
وقهقهتُ ضاحكًا، ولكنها ابتسمت ابتسامةً باهتةً على غير ما انتظرتُ، وجلست على كرسيها يلوح في عينيها السهوم والتفكير، وساورني القلق، فملت نحوها وسألتها عما ألمَّ بها؟ فقالت لي باقتضاب: أمورٌ تافهة لا تهمك.
ولكن تهربها ضاعف من رغبتي في معرفة ما وراءها، فألححت عليها أن تفضي إليَّ بمكنون صدرها، فنفخت في تبرم، ورجتني أن أمسك. وجلسنا صامتَين طويلًا، ثم تجاذبنا أحاديثنا المعتادة في فتور. ودُعينا إلى العشاء فأكلت لقماتٍ معدودات، ولما تهيأنا للنوم وقفت أمام المرآة طويلًا، ثم استلقت إلى جانبي، ووضعت راحتها على رأسي وقرأت سورًا قصارًا من القرآن كالعادة، حتى رنق النوم بجفنيَّ. واسيتقظتُ في الهزيع الأخير من الليل، فخيَّل إلي أني أسمع حسًّا كالهمس، فأرهفت أذني فأيقنت أنها تغمغم، وظننتها تحلم، فناديتها حتى استيقظت، ولبثنا مستيقظين حتى أسفر الصبح.
وفي اليوم التالي زار جدي ذلك الضابطُ المتقاعد، وحدث ما حدث بالأمس، فدعا جدي أمي إلى حجرته، ولبثا منفردَين زهاء الساعة، ثم جاءا معًا إلى الشرفة وهي تتعلق بذراعه وتهتف بانفعال وتأثر شديدَين: كلا .. كلا .. هذا محال، ولا أحب أن يعلم شيئًا!
ولكنه لم يأبه، فيما بدا، وقال لي بحزم: إني منتظرك في حجرتي!
وجعلت أمي تتوسل إليه وتضرع، ولكنه رجع إلى حجرته وأنا في أعقابه، على حين مضت أمي إلى حجرة نومنا في حالة غضب واستياء. وجلس جدي على مقعده الكبير، وأمرني أن أقترب منه، فاقتربت في رهبة وخوف حتى وضع يده النحيلة على منكبي، ورمقني بنظرةٍ دقيقة ثم قال: أريد يا كامل أن أحدثك بأمرٍ هام. لا زلت صغيرًا بغير شك، ولكن يوجد في مثل سنك من ينهض بأعمال الرجال، وأحب أن تفهمني جيدًا، فهل تعدني بذلك؟
وأجبت بطريقةٍ آلية: أعدك يا جدي.
فابتسم إليَّ متلطفًا ثم قال: الأمر هو أن رجلًا فاضلًا غنيًّا من أصدقائي يرغب أن يتزوج من أمك، وإني أوافق على ذلك رغبةً مني في سعادة أمك؛ فلا بد للمرأة من رجل يرعاها، وأنا قد جاوزت الستين، وأخاف أن أموت قبل أن تضطلع أنت بواجبك كرجل؛ فلا تجد من تعتمد عليه في الحياة.
وواصل كلامه باستفاضة، ولكن عقلي كَلَّ فلم يتابعه، ولم أعد أفقه معنًى لما يقول.
شَلَّت عبارة «يتزوج من أمك» مسامعي، وانفجرت في دماغي، واتسعت عيناي دهشةً ورعبًا وتقزُّزًا، وتساءلت: هل يعني جدي ما يقول حقًّا؟ أجل لقد روت أمي لي قصة زواجها، ولكن كان ذاك قصةً وتاريخًا بعيدًا، ولم أتصوره حقيقةً واقعةً أبدًا. وذكرتُ لتوِّي الخادمة المطرودة فغاض قلبي في صدري، وقلت لجدي وأنا ألهث: أمي لا تتزوج، ألا تفهم ما هو الزواج؟!
ولم يتمالك الشيخ نفسه من الضحك، ثم قال مبتسمًا: الزواج سنة من سنن الله، والله يفضل المتزوجين على غير المتزوجين، ولقد تزوجتُ أنا جدتك، كما تزوجتْ أمك فيما مضى، وكما ستتزوج حضرتك يومًا ما .. أصغ إليَّ يا كامل، أريدك على أن تذهب إلى أمك وتقول لها إنك ترغب في تزويجها مثلي، وإن سعادتك تضاعَف بسعادتها .. ينبغي أن توافق على ما يسعدها، وحسبها ما قاست من أجلكم جميعًا.
وجعلت أطرافي تنتفض انفعالًا وتأثرًا، ونظرتُ إلى جدي كما تنظر الفريسة إلى معذِّبها، ثم سألته بصوتٍ متهدج: أيريد أن يأخذها ذلك الرجل؟
فابتسم وقال لي: نعم، ولكن ليرعاها ويسعدها.
فسألته بحدة وأنا لا أدري: وأنا؟
فقال برقَّةٍ بالغة: إن شئتَ ذهبتَ معها، أو بقيتَ عندي على الرحب والسعة.
فعضضتُ على شفتي بقسوة لأحبس دمعي، وتراجعتُ فجأةً فأفلتُّ من يده، وركضت خارجًا متجاهلًا نداءه، وعدوت إلى حجرة نومنا، فوجدت أمي جالسةً محمرة العينين من البكاء، وفتحت لي ذراعَيها فارتميت بينهما منتفض الأطراف من التأثر، وبادرتني قائلةً: لا تصدقه؛ أعني لا تصدق أن شيئًا مما قال لك سيقع، لا تبكِ ولا تحزن .. واعذاباه!
وحدجتُها بنظرة استغراب واستنكار، وصحتُ بها: ألم تقولي إن هذا عار وحرام؟!
فشدَّت عليَّ بحنان وهي تقاوم ابتسامةً، ثم قالت: لعل جدك قال لك إنه يريد أن يزوجني، ولكنه لم يقل بلا ريب إنني وافقت على هذا الزواج، والحق أني رفضته لأول وهلة، وبلا أدنى تردد، ووددت لو لم تعلم عن الأمر شيئًا على الإطلاق، ولما أعطاني مهلةً للتفكير قلت …
وقاطعتها بحدة قائلًا: ولكن يريد لك أمرًا معيبًا محرَّمًا؟!
فصمتت قليلًا وهي ترنو إليَّ بطرفٍ حائر، ثم استطردت متجاهلةً اعتراضي: قلت إن المهلة مضيعة للوقت، وأبيتُ أن أجعل هذا الأمر موضوعًا للتفكير، وذلك من أجلك أنت، من أجلك وحدك، فلا تحزن ولا تغضب، ولا تظن بأمك الظنون.
ولئن أخرجني كلامها من ظلمات القنوط؛ إلا أنني أصررت على ترديد اعتراضي حتى قالت لي بعد تردد: لم أقل أبدًا إن الزواج من العيوب أو المحرَّمات، بل هو علاقة شريفة يباركها الله، إني ذممتُ عيوبًا أخرى.
وانعقد لساني حياءً وخجلًا، وربتت هي على خدي لتُسرِّي عني، وقالت بصوت ينم عن العتاب: يا لك من طفل جحود! ألا تستأهل تضحيتي في نظرك كلمة شكر؟ .. أتراك تذكرها فيما يقبل من العمر أبدًا؟! .. لتتزوجن يومًا ولتغادرنِّي وحيدةً بلا رفيق ولا أنيس!
وقطبتُ ساخطًا، وقلت بحماس: لن أفارقك ما حييت.
عبثتْ بشعري مبتسمةً، ولاحت في عينَيها الجميلتَين نظرةٌ ساهمة.
١١
سارت حياتي المدرسية في بطء وتثاقل يدعوان لليأس، فبلغتُ الرابعة عشرة وما جاوزت السنة الثالثة الابتدائية، وكان جدي يقول متأفِّفًا: متى تُقبِل على الدراسة بهمة ونشاط؟ متى تعرف واجبك؟ ألا ترى إذا اطَّردت دراستك على هذا المنوال فستنتهي منها وقد استوفيتَ سن المعاش؟!
ولشد ما كانت تأسى أمي لذاك التهكم المر، وكانت تسأله دائمًا ألا يلقيه في وجهي؛ أن تنكسر نفسي فأزداد بلادة، أو تقول له: الذكاء من عند الله، وحسبه ما جمَّله به من كريم الخلق، لأنه كالعذراء حياءً وأدبًا!
وكان أن كابدت حياتي تطورًا خطيرًا لا أذكر متى بدأ ولا كيف بدأ، وأخشى أن يكون الخيال قد زوَّر منه أمورًا على الذاكرة. دبَّت في النفس والجسم يقظةٌ غريبة، سرت في أطرافي قلقًا واضطرابًا. طافت بي في وحدتي أحلامٌ جديدة، وغيبني في المدرسة شرود ركز شعوري كله في نفسي. وكنت إذا انطلقت بي العربة من المدرسة إلى البيت سرَّحت طرفي في آفاق السماء، وبنفسي لو أحلق إلى ذراها المتلفِّعة بتلك الزرقة الغامضة. ولشد ما انتابتني الكآبة وغشيني الكدر، فروَّحتُ عن قلبي بالدمع الغزير. ولا أنسى الأشواق الغامضة، والمخاوف المجهولة، والأنَّات المهموسة، والشعيرات النابتة. رباه إني كائن يتمخض عن حياةٍ مخوفةٍ مجهولة، تعبث بي شياطينها في النهار والليل، في اليقظة والأحلام.
واكتشفت بنفسي — تحت ضغط تلك الحياة — هواية الصبا الشيطانية، لم يُغرني بها أحد؛ إذ كنت معدوم الرفاق، فاكتشفتها أول مرة في حياة البشر، واستقبلتها بالدهشة واللذة، ورضيت بها عن كل شيء في الوجود، ووجدت فيها أُنسًا لوحدتي الغريبة، وعكفت عليها في إدمان، وراح خيالي يقطف لي من صور المخلوقات ما أزين به مائدة العشق الوهمية.
ومن عجيب أن خيالي في عشقه لم يعدُ دائرة الخوادم بالمنيل اللاتي يسعين حاملات الخضر والفول. ولم تكن تلك ظاهرةً عارضةً ثم ولَّت، إنها سرٌّ دفين، أو هي داءٌ دفين. كأني موكل بعشق الدمامة والقذارة! إذا طالعتُ وجهًا ناضرًا مشرقًا يقطر نورًا وبهاءً ملكني الإعجاب، وبردت حيوانيتي، وإذا صادفني وجهٌ دميم ذو صحة وعافية أثارني وتملَّكني، واتخذته زادًا لأحلام الوحدة وعبثها. وأفرطت إفراط جاهل بالعواقب. وخَيَّل إليَّ جهلي المفرط أن أحدًا سواي لا يدري بها، حتى سمعت يومًا — في فناء المدرسة — بعض التلاميذ يتقاذفون بها في غير حياء؛ فانزعجت انزعاجًا فظيعًا وتولاني خجلٌ أليم. ومنذ تلك الساعة أمضَّني الألم، وكدر صفوي تأنيب الضمير والشعور بالذنب .. ولم يكن ذاك ليصدني عن ممارستها، فقضيت وحدتي في لذةٍ جنونيةٍ سريعة يعقبها نكدٌ طويل.
وكانت تسطع في أيامنا الرتيبة ساعاتٌ باسمات فتزورنا أسر من الجيران والأقارب؛ سيدات وبنات في سن الصبا، وربما قدَّمت سيدة بنتها على سبيل المداعبة: هذه عروس كامل.
فكانت أمي تلقى هذه المداعبة وأمثالها بفتورٍ ملحوظ لا يخفى على مُخاطِبتها، ولا عليَّ؛ فازددت شعورًا بالحياء وبالنفور، وبالخوف خاصةً حيال المرأة. ثم لا تفتأ — عقب انصراف الزائرات — تنتقد مداعباتهن الفاضحة المفسدة للأخلاق! .. ومضيت في حياتي الوحيدة الموحشة أتململ تحت ضغطها المتواصل دون أن أبدي حراكًا، أنتهب لذَّاتها الخفية في جزع ويأس، وأجني مر الشعور بالذنب وقد شق عليَّ الخلاص، في عزلة غابت بي عن خضم الحياة. على أنني كنت أدرك إدراكًا غامضًا أنه توجد حياةٌ واسعة فيما وراء أفقي الضيق. كنت أسترق السمع إلى ما يتناثر من أحاديث التلاميذ عن السياسة والسينما والألعاب الرياضية والبنات، وكأنني أصغي إلى سكان كوكبٍ آخر. وددت لو كان لي بعض فصاحتهم ومرحهم وحبورهم، وددت لو يُرفع ذاك الحاجز الأصم الذي يحبسني دونهم. ولكم رمقتهم بعينَين محزونتَين كأني سجين ينظر من خلال القضبان إلى الطلقاء. بيد أني لم أحاول قط أن أنطلق من سجني، لم يكن ليغيب عني ما ينتظرني في دنيا الحرية من قسوة ومهانة، بل إني لم أسلم في سجني من أذًى وسخرية وتهجُّم، ذاك سجني فلأقنع به، فيه لذاتي وألمي، وفيه أمان من الخوف. إنه سجن مفتوح الباب، ولكن لا سبيل إلى تجاوز عتبته، ولم أجد من متنفس غير الأحلام. كنت أمكث في الفصل غائبًا عما حولي وخيالي يصنع المعجزات؛ يحارب ويقتل ويقهر، يمتطي متون الجياد ويعتلي الطائرات ويقتحم الحصون ويستأثر بالحسان، وينكِّل بالتلاميذ تنكيلًا مروِّعًا، حتى لابست أحيانًا حركاتِ رأسي وتقلصات وجهي انعكاساتٌ من تلك الأخيلة، يرتفع لها الرأس كبرياءً، ويقطب الوجه قسوةً، وتشير اليد بالنذير والوعيد!
ولم تقف أحلامي عند حد الخلق فطارت إلى ملكوت الخالق .. وكان إيماني قديمًا راسخًا يعمر قلبي وروحي بحب الله وخوفه معًا. وقد أديت الفرائض في سنٍّ مبكرة أخذًا عن أمي ومحاكاةً لها. ولما أجدَّت لي لذاتي الخفيفة شعورًا بالذنب لم يكن لي به عهد؛ قَوِي شعوري الديني، ولفحت إيماني لهفةٌ حارَّة إلى الله ورحمته، فما ختمت صلاتي مرة حتى بسطت يديَّ مستغفرًا. بيد أن أشواقي لم تقف عند حد، وانقلبتُ طُلَعةً لمعرفة الله، وتمنيت من صميم فؤادي لو كان أتاح لعبيده رؤيته وشهود جلاله الذي يحيط بكل شيء ويوجد في كل مكان.
وسألت أمي يومًا: أين يوجد الله؟
فأجابتني بدهشة: إنه تعالى في كل مكان!
فرنوت إليها بطرفٍ حائر وتساءلت في خوف: وفي هذه الحجرة؟
فقالت بلهجة تنم عن الاستنكار: طبعًا .. استغفره على سؤالك هذا!
واستغفرته من أعماق قلبي، ونظرت فيما حولي بحيرة وخوف، وذكرت بقلبٍ موجع كيف أني ألمُّ بالإثم تحت بصره القريب، لشد ما حزَّني الألم، وغصَّني الندم! ولكني ما فتئت أُغلب على أمري.
•••
وشقَّ عليَّ النزاع المتواصل فانتهى بي إلى التفكير الجدي في الانتحار. بلغت وقتذاك السابعة عشرة، وكنت أستعدُّ لامتحان الابتدائية للمرة الثالثة بعد أن أخفقتُ مرتين في عامَين متتاليَين. تملَّكني الفزع والقنوط وازددت فزعًا وقنوطًا للامتحان الشفوي، فما كانت لي قدرة على الكلام، ولا قلب أواجه به الممتحن. وقد سألني الممتحن الإنجليزي في العام السابق عن معالم القاهرة التي زرتها؟ وكان كلما سألني عن أثر من آثارها أو موقع من مواقعها أجبت بأنني لا أعرفه، فظنني أتهرب من أسئلته وأسقطني. تملكني الخوف وأوردني مهالك القنوط، ووجدتني لأول مرة ألقي على الحياة نظرةً عامةً شاملةً متأثرًا خط الحياة من البداية إلى النهاية، حتى لم أعد أرى منها إلا البداية والنهاية، متعاميًا عما بين هذا وذاك .. ميلاد وموت، هذه هي الحياة! وقد فات الميلاد فلم يبقَ إلا الموت .. سأموت وينتهي كل شيء كأن لم يكن، ففيم تحمُّل هذا العناء؟! فيم أكابد الخوف والضيق والوحشة والجهد والامتحان؟! وازدحمت برأسي ذكرياتي المحزنة عن الحياة التي أحياها .. امتحان لا حيلة لي فيه ثم سقوط فسخريةٌ مريرة، حرمان من أفراح الحياة التي يحظى بها التلاميذ. دعاؤهم لي بالأبكم، رميهم إياي بثقل الدم، حتى رآني تلميذ مرةً قادمًا، وكان قريبًا من باب مسجد المدرسة فكوَّر كفه على أذنه كأنه يدعو للصلاة وصاح في وجهي منشدًا «يا ثقيل الدم!» وقهقه الآخرون ضاحكين. وأذكر أن مدرسًا أراد يومًا أن يختبر معلوماتنا العامة، فلما جاء دوري ووقفت مبهوتًا لا أجيب عن شيء، سألني عن اسم رئيس الوزراء؟ ولازمت الصمت، فصاح بي: «هل أنت من بلاد الواق؟!». كانت مناسبات الإضراب كثيرةً، ولكني لم أشترك في مظاهرة على الإطلاق، وقد أضربَت المدرسةُ يومًا وخرجتْ في مظاهرة عن بكرة أبيها، إلاي، فقد تخلفت في الفناء مرتبكًا خائفًا على كوني من أكبر التلاميذ سنًّا، ورآني على تلك الحال مدرس عرف وقتذاك بوطنيته فقال لي معنفًا: «لماذا خرجتَ عن الإجماع؟ أليس هذا الوطن وطنك أيضًا؟!»، ووجدتني في حيرةٍ شديدة بين تعنيف المدرس وبين وصايا أمي التي تُحلِّفني كل صباح على اتباعها. يا لها من ذكريات خليقة بأن تُفقد الحياة كل قيمة! أليس في الموت غناء عن هذا كله؟ بلى، وإني لأتمنى الموت. وملأتْ تلك الأفكار عليَّ شعاب قلبي، فأجمعت على أن أرمي بنفسي إلى النيل .. وعندما أتى المساء صليت طويلًا، ثم نمت ويدي قابضة على يد أمي، وأنا أظنني في عداد الأموات. وجعلت في الصباح أسترق النظر إلى وجه أمي في خوف وحزن، وأثَّر في نفسي هدوءها وجمالها، فغالبني شعور بالبكاء، وأكربني ألا أستطيع توديعها، وساءلت نفسي في إشفاق: كيف تتلقَّى الصدمة؟ وهل تطيق الصبر عليها؟ سأكون المسئول عن تكدير هاتين العينَين الصافيتَين، وتجعيد صفحة هذا الوجه المنبسط، وزوال هذه الطمأنينة إلى الأبد، ثم خفت الخور فجأةً فأمدَّني اليأس بقوةٍ جديدة، وحفزني إلى الهرب. وأتيت على قدح الشاي وعيناي لا تفارقان وجهها، ثم حييتها وغادرت الحجرة منقبض الصدر مرير النفس، وركبت الحنطور، وألقيت على البيت نظرةً وأنا أغمغم: «الوداع يا أماه، الوداع يا بيتنا العزيز!» وانطلقت العربة حتى طالعني جسر الملك الصالح فدقَّ قلبي بعنف حتى شقَّ عليَّ التنفس. ينبغي أن ينتهي الآن كل شيء .. دقائق معدودات ثم الراحة الأبدية. ولم يكن لديَّ علم عن عذاب المنتحر في الآخرة، فلم أشك في أني أستهلُّ حياةً مطمئنةً. واقترب الجسر رويدًا، وراح توقيع سنابك الخيل يصكُّ قلبي، ولاحت مني التفاتة إلى النيل، فرأيت لآلئ تنتشر على صفحته الدكناء، وخلتني أتخبط على أديمه، والأمواج الهادئة الصامتة تتقاذفني بغير مبالاة، مطمئنةً إلى نتيجة الصراع. وتوثبتُ لما عقدتُ العزم عليه بجنون، فغاب عن خاطري كل شيء في الحياة، فهتفت بالحوذي العجوز وهو ينعطف إلى الجسر: قف!
فشدَّ الرجل على الزمام وتوقفت العربة، فغادرتها متعجلًا وأنا أقول له: اسبق إلى نهاية الجسر وسألحق بك مشيًا على الأقدام.
وانتظرت ريثما ابتعد عني عدة أذرع، ثم ملت إلى سور الجسر، وأشرفت على النهر بقامتي الطويلة، وحادثت نفسي قائلًا: يقولون إنني لا أحس شيئًا في الحياة .. ولكنني سأفعل الآن ما لا يسع أحدًا الإقدام عليه! وألقيت على الماء نظرةً متحجرةً، وتمثل لي ما سأفعله بسرعة البرق .. ينبغي أن يتم كل شيء في ثوانٍ وإلا أفسد عليَّ تدخلُ المارة غرضي، أتسوَّر السور ثم أُلقي بنفسي، ولن يستدعي ذلك مع حزم الأمر إلا لحظات. وانقبض قلبي وأنا أنظر إلى الماء الجاري، وقد بدا تحت النظرة العمودية سريعًا صاخبًا فدار رأسي. واحد .. اثنان .. وسرت في بدني قشعريرة، ترى ما إحساس الإنسان إذا هوى من شاهق؟ .. وكيف يكون اصطدامه بالماء؟ وكيف إذا غاص تحت لُجته؟ ومتى يخلص الإنسان من عذاب الغرق؟! وشدَّت قبضتي على حافة السور، وتقلَّصت ساقيَّ، وقلت بلساني أن سينتهي كل شيء حالًا، ولكني كنت في الواقع أتراجع وأتقهقر وتخور قواي؛ هزمتني الخواطر والتصورات التي اعترضت عزمي. لا ينبغي للمنتحر أن يفكر أو يتخيل؛ لقد تفكرت وتخيلت فانهزمت. واشتدَّ خفقان قلبي، وتراخت قبضتاي عن السور، ثم تحولتُ عنه متنهدًا كالذاهل. وحملتني ساقاي المخلخلتان إلى نهاية الجسر حيث تنتظر العربة، فركبت، واستلقيت على المقعد في إعياء حتى غالبتني رغبة في النوم.
وطالما ساءلت نفسي عما أنقذني من الموت ذاك الصباح؟ فقال قلبي: إنه الخوف! وقال لساني: إنه الله الغفور الرحيم.
ولا شك أني بالغت فيما يتعلق بدوافعي نحو الانتحار؛ لأني حصلت على الابتدائية في ختام العام.
١٢
فقدت أسرتنا الصغيرة مظهرًا من أجمل مظاهرها، فاختفت من أفقها العربة والجوادان والحوذي العجوز. باع جدي العربة والجوادَين واستغنى عن الحوذي. وعلمت مما تسقَّطته من الحديث أنه خسر ليلة في النادي خسارةً جاوزت المعهود، فاضطر إلى اقتراض ما يساوي معاشه من النقود. ولما كان رجلًا مطبوعًا على النظام فقد آثر أن يبيع العربة والجوادَين على أن يربك ميزانيته. لشد ما أحزننا بيع العربة، وضياع الجوادين، ووداع عم كريم الحوذي العجوز الذي قضى عمره في خدمة جدي حتى فقد فيها أسنانه! ولقد بكيتُ الجميعَ بكاءً مرًّا دون أن أنبس بكلمة، وكان جدي يعيش في نادي القمار أكثر مما يعيش بيننا، ولم تكن له من سلوى أو فرجة سواه، وخاصة عقب تركه الخدمة. ولم يكن يحاول إخفاء سيرته بما جبل عليه من صراحة وميل للمرح، فكثيرًا ما كان يقصُّ على أمي طرفًا مما يصادفه في سهراته، فيقول هازًّا رأسه الأشيب: «بالأمس لازمني سوء الحظ طوال الليل حتى قبيل الختام بقليل، فعوضت خسارتي جميعًا بضربتَين موفقتَين.» أو يقول: «يا للطمع الأشعبي! أضاع عليَّ بمقامرةٍ واحدة في أخريات الليل عشرين جنيهًا ربحتها بشق النفس!» ولكنه كان بوجهٍ عام مقامرًا عاقلًا، إن جاز لي أن أقول ذلك، تستأثر به لذة المقامر الجنونية دون أن تُنسيه طاقة ميزانيته وواجباته كربٍّ لأسرتنا، ولا أشك في أن أمر مستقبلي قد شغله كثيرًا، لا لذاتي فحسب — وإن غمرني دائمًا بحبه ورعايته — ولكن لارتباط مصير أمي بمصيري. ثم كان ما كان من تعثُّر حياتي المدرسية فأخذت الابتدائية في السابعة عشرة، وقد اقترب هو من حدود السبعين، وأخذ القلق يساوره كثيرًا وهو أعلم بما جمع من ثروة لا تكاد تذكر. على أنه كان يتغلب دائمًا على قلقه بما طبع عليه من ميل للتفاؤل، مردُّه في الغالب إلى ما وهبه الله من صحة حسنة لم تزايله رغم طعونه في السن؛ إلا أن خسارته الأخيرة ذكَّرته بقلقه ومخاوفه ودفعته إلى أن يعالجها بالحيطة والحرص، فقال يومًا لأمي بعد تردد غير قليل وكانا يتحدثان عن مستقبلي: أرى أنه لا يجوز أن يجهل كامل أباه هذا الجهل المطلق.
فامتُقع وجهها ورمقته باستنكار وتساءلت: ماذا تعني يا أبتاه؟
فقال جدي بغير مبالاة: أعني أنه يجب أن يتعرف إليه، هذا أمرٌ ضروري وإلا بدا في أعين الناس وكأن لا أب له!
فقالت أمي بصوتٍ متهدج: هذا أبٌ الجهل به أشرف.
فلاح في وجه جدي الضيق وقال بحزم: كأنكِ تخافين أن يسترده إذا رآه، فيا له من وهم لا يدور إلا في رأسك! وإني لعلى ثقة من أنه سُرَّ سرورًا كبيرًا حين هيأت له الأقدار من يربي ابنه عنه. ولكني أرى الآن أنه ينبغي أن يتعرف كامل إلى أبيه. وقد صممت على أن أذهب به إليه، فمن يدري أنه لا يحتاج إليه غدًا؟ هل ضمنتِ أن أبقى له إلى الأبد؟ ولا تنسي أن كامل وشيك الالتحاق بالمدارس الثانوية، وربما أقنعتُ أباه بمعاونتي في تعليمه.
ولا شك أن أمي كانت تتحفز للمعارضة، فلما سمعت الشطر الأخير من كلامه فتر تحفزها وبدا الحزن في عينَيها، ولم تنبس بكلمة، ولما غادرنا جدي اغرورقت عيناها بالدموع، فاقتربتُ منها متأثرًا محزونًا وجففت عينيها، وقلت لها: لا شيء يستدعي البكاء يا أماه.
فابتسمت إليَّ ابتسامةً باهتة وقالت بحزن: لا شيء حقًّا؛ ولكني أبكي الأيام الماضية يا كامل .. أبكي الطمأنينة المطلقة التي استنمت إليها طويلًا .. كانت الحياة رغيدةً طيبة لا يكدرها علينا مكدر؛ اليوم يتحدث جدك عن الغد، وهو إذ يتحدث عنه يملؤني خوفًا وقلقًا .. لندعُ الله معًا ألا يشتت شملنا، وأن يطيل لنا في عمر جدك، ويغنينا عن الناس.
ثم تفكَّرتْ مليًّا، وقالت لي وهي تحدجني بنظرةٍ غريبة: قابلْه إذا قابلتَه بأدب؛ فهو أبوك على أي حال، ولكن لا تنسَ فيما بينك وبين نفسك أنه هو الذي عذبنا جميعًا.
وجرت على شفتيَّ ابتسامةٌ خفيفة لهذا التحذير الملفوف الذي لم أكن في حاجة إليه. ليس في وسعي أن أحب شخصًا كرهه أبوه. ثم فكرت في تلك الزيارة المرتقبة بين ابن وأبيه لأول مرة، وحاولت أن أتخيل صورةً لأبي، أو أن أتذكر صورته القديمة التي مزَّقتها بيدي؛ فلم أفلح .. وشعرت بنفورٍ شديد من الزيارة، وتمنيت لو يعدل جدي عن رأيه.
ولكنه قرر أن نقوم بزيارتنا في صباح اليوم التالي، وقال لي وهو يستحثني: ينبغي أن نبكر في الذهاب إليه قبل أن يُغيِّبه السُّكْر!
وخرجنا معًا، قطعنا الطريق إلى محطة الترام مشيًا على الأقدام. ثم أخذنا الترام إلى العتبة، ومنها إلى الحلمية، ثم سرنا إلى شارع مبارك. وجعل يوصيني في الطريق بما ينبغي أن أتحلى به في حضرة أبي من الأدب والتودد. قال لي: أنت خجول جدًّا، منطوٍ على نفسك، وأخاف أن يظن ما بك نفورًا منه؛ فيبادلك نفورًا بنفور، خصوصًا وأنه لم يهتم يومًا بحب إنسان، فانفضْ عنك الجمود ولاقِهِ بالتودد والرقة والألفة.
ووقفنا أمام بيتٍ كبيرٍ مكون من دورَين، لا يبدو من دوره الأول إلا أعلاه لارتفاع سور البيت، وطرقنا بابًا ضخمًا، ففتح عن صريرٍ غليظ، وبرز لنا بوابٌ نوبيٌّ طاعن في السن، فسلَّم على جدي باحترام وترحيب، وتنحَّى جانبًا وهو يقول: رؤبة بك في السلاملك.
وسكَّ الاسم مسمعي، فشعرت على رغمي بما يربطني بهذا البيت، وتملكتني رغبةٌ مباغتة في الرجوع والتقهقر، ولكنها كانت رغبةً لا سبيل إلى تحقيقها، ونظرتُ فيما أمامي فرأيت حديقةً كبيرةً، وسرعان ما سطعت أنفي رائحة الليمون الزكية. هي حديقةٌ كبيرة تأخذ الناظر بضخامة أشجارها ما بين نخيل وليمون وتوت، ويزدحم جوها بالفروع والأغصان، وتغطى أرضها بالأوراق الجافة، وبها وبالجو المحيط بها مسحة حزن وكآبة انسربت إلى نفسي في غير إبطاء. وفي نهايتها يقع البيت. وقد بدا السلاملك مقامًا على سوره جدارٌ خشبي يحجب ما بداخله عمن في الحديقة. سبقنا البواب إلى الداخل ليستأذن للقادم، ثم عاد بعد قليل وهو يدعونا باحترام، وسار بين يدينا في ممشًى من الفسيفساء. تبعتُ جدي في قلق يزداد بتوغلنا في الحديقة، وعندما أخذت في ارتقاء السلم جفَّ حلقي من الاضطراب، وبدا أبي واقفًا ينتظر، فألقيت عليه نظرةً سريعة من وراء جدي.
كان وقتذاك في الستين من عمره، ربعةً، بدينًا وإن بدا في جلبابه الأبيض الفضفاض أبدن من الواقع بكثير، أبيض البشرة، محمرَّ الوجه والعنق، منتفخ الأوداج، محتقن الوجه بالدم. أما قسمات وجهه فكبيرةٌ واضحة في غير تنافر، أصلع الرأس، أسود العينين، وقد جحظت مقلتاه وتشابكت بهما خطوطٌ حمرٌ دقيقة كالشعيرات، وقلقت بهما نظرةٌ زائغةٌ شاردةٌ خاملة بددت ما كانت ضخامته خليقةً بأن تبعثه في النفس من رهبة. خامرني شعور بالغرابة والإنكار والنفور، وحقدت على جدي المسئول عن الزيارة. اشتد بي الإنكار عندما وضح لي أنه لم يبدِ آي الترحيب بنا إلا تلك الوقفة الخاملة. تصافح الرجلان، وسمعت صوتًا غليظًا ذكرني بصوت أخي مدحت يقول: أهلًا وسهلًا .. كيف حالك يا عبد الله بك؟
فردَّ جدي قائلًا: الحمد لله .. وكيف أنت؟!
وتنحَّى جدي قليلًا ليكشف عني، وأومأ إليَّ قائلًا وهو يبتسم: كامل ابنك.
وتقدمتُ منه في ارتباكٍ ظاهر وعيناي متطلعتان إليه، فحدجني بنظرةٍ متفحصة في اهتمامٍ شديد وقد لاح في عينَيه نورٌ خافت، ثم مددت يدي، وعند ذاك قال جدي، ولعله أراد أن يتفادى من خطأ رآني حريًّا أن أقع فيه: اقهر هذا الخجل وقبِّل يد والدك!
وأدركت مراده فقبضتُ على اليد الممدودة إليَّ ولثمتُ ظاهرها، ورفعت إليه عينيَّ فوجدته مبتسمًا، وسمعته يقول: مرحبًا بالابن الذي لم يعرف أباه! .. ما شاء الله! (والتفت نحوي جدي مستدركًا): صار رجلًا وفرع أباه طويلًا.
فضحك جدي ضحكته العظيمة وقال: أجل إنه رجل .. ولكن لا تثريب عليه إذا كان لم يعرف أباه!
وتفرَّس أبي فيَّ طولًا وعرضًا، ثم دعانا إلى الجلوس، فجلسنا على مقعدَين متقاربَين، وجلس على كنبة في الصدر وراء خوان من الخشب الأسود المطعَّم بالصدف وُضعت عليه قارورةٌ حمراء وكأس ووعاءٌ صيني مليء ثلجًا.
كانت القارورة مملوءة إلا قليلًا، وكانت الكأس فارغةً إلا قليلًا. لم أكن رأيت الخمر أبدًا ولكني أدركت توًّا أني حيال الشراب الملعون الذي فعل بأسرتنا الأعاجيب؛ وسرعان ما ملأني التقزز والنفور.
واستدرك جدي قائلًا: أي نعم، ما ذنبه المسكين؟ .. إنه لم يعرف لنفسه أبًا، ولا حيلة له في هذا، ولا داعي لإثارة ذكريات ولَّت. بيد أنني وجدته رجلًا كما تقول، وقد حصل هذا العام على الابتدائية، وعما قليل يلتحق بالمدارس الثانوية، فاستنكرت أن يظل على جهله أباه، واقترحت عليه أن أقدمه لك، فرحب باقتراحي مسرورًا، وها أنا قد فعلت والحمد لله.
وكانت عينا أبي لا تتحولان عني، فلم أتخفف من ارتباكي وحيائي. ولما ختم جدي كلامه لاحت في عينيه الشاردتين نظرة ارتياب وسألني: أحقًّا سرك أن تقدم إليَّ؟
فأجبته بصوت لا يكاد يسمع: نعم.
فسألني وهو ينظر إليَّ بمكر: أتحب أن تمكث معي؟!
وانقبض قلبي، ولاحت في عينيَّ نظرةٌ حائرة .. ما عسى أن أقول؟! إن وصايا جدي لا تزال تطن في أذني؛ ولكن هبني أجبت بالإيجاب فدعاني إلى البقاء معه، فكيف يكون المصير؟! كلا، لا يسعني هذا، وغضضت طرفي مطبقًا شفتيَّ ولم أنبس بكلمة. وقهقه أبي بصوت ارتعد له جدي وهو يحدجني بنظرة استياء: ترفق به يا رؤبة بك، إنه لم يفترق عن أمه قط، وليس أشق على النفس من تغيير عادة، ولكني أؤكد لك أنه سُرَّ جدًّا بتعرفه بك .. لا تأخذ عليه صمته وارتباكه، فإنه كالعذراء حياءً.
فهز أبي رأسه الأصلع المستدير وفوه لا يزال منفرجًا عقب القهقهة، وسألني فيما يشبه التحدي: هلا مكثت معي فترةً من عطلتك؟! شهرًا أو أسبوعين؟!
فبادر جدي قائلًا: أما هذا فعن طيب خاطر.
وفطنت إلى ما في قول جدي من إيحاء موجَّه إليَّ، فوجدتني كالفأر في المصيدة، وتولاني ضيق كاد ينشق له صدري، ولعنت ذلك التصميم المزعج الذي حدا بجدي إلى سوقي إلى هذا البيت الكئيب. وانعقد لساني في يأس وعناد، حتى قال أبي متهكمًا: هذا قولك أنت يا عبد الله بك، ولكني أتساءل عن رأي كامل بك!
وآلمني تهكمه، وانقلبت إلى حال من التعاسة، فلم أنطق ولم أرفع رأسي. وتذكرت أمي بلهفة المستغيث شأني إذا اشتدَّ بي كرب. وقهقهه أبي ساخرًا وقال: ولعله يسر بمعرفتي ولكن من بعيد!
وتغيرت لهجته الساخرة فقال بصوت ينم عن القوة: ألا تعلم أنني إذا أردت أن تبقى هنا لم يحل دون ذلك حائل؟!
وتريث لحظةً ريثما يُحدث تصريحه الأثر المطلوب، ثم ضحك مستدركًا: لا تخف، لا حاجة بي إلى هذا على الإطلاق.
وساد صمتٌ رهيب. ولعل جدي أدرك أن الرجل قد كشف بقوله ذاك عن شعورٍ عدائي. وشعرت أنا بغريزتي أن كلينا يجد نحو صاحبه نفورًا لا خفاء فيه .. وهالني ما صدم جدي من خيبةٍ مريرة، وتوقعت أن يوسعني تعنيفًا وتقريعًا. ثم قال جدي بصوتٍ منخفض: ابنك سيئ الحظ يا رؤبة بك، فقد حرم نعمة التعبير عما يدور بخلده .. إنه طفل خجول لا يدري عن الدنيا شيئًا، فترفق به واعذره!
فقال أبي بغلظة: ما هذا الذي تقول يا عبد الله بك! .. خجول، عذراء، لا يدري شيئًا! ماذا فعلتم به؟ لقد كانت له أخت عذراء؛ ومع ذلك فقد هربت مع رجل، فمن أية جبلة هو؟!
وشعرت بطعنةٍ نجلاء تصيب قلبي، واندفع الدم إلى وجه جدي فقطب غاضبًا وقال بكبرياء: لقد اختارت أخته أن تمضي إلى زوجها بعد أن يئست من عدالة أبيها!
وروَّح عني قوله. أما أبي فاسترسل ضاحكًا وقد احتقن الدم بوجهه وبدا فظًّا قاسيًا ممقوتًا، ثم قال بسخرية: تقول بعد أن يئست من عدالة أبيها! .. اسمح لي أولًا أن أملأ كأسًا (وملأ الكأس وعلَّ منها جرعةً) هلا شربت معي؟ .. كلا؟ .. كما تشاء فلكل إنسان داء. ولنعد الآن إلى قولك. ماذا قلت يا حسن بك؟! بعد أن يئست من عدالة أبيها؟! .. وأنت؟! ألم تيئس من عدالة أبيها؟!
فنظر إليه جدي باستنكار وازدراء وسأله: ماذا تعني؟!
– أريد أن أقول: إن الفتاة إذا كانت قد يئست من أبيها، فإن جدها لم ييئس من عدالته، وآي ذلك أنك جئتني اليوم بهذا الفتى لا لتقدمه لي كما قلت، فقد كان يمكن أن يحدث ذلك في أي وقت من الماضي، ولكن لتخبرني أنه عما قليل سيلتحق بالمدارس الثانوية .. وهناك المصروفات .. هه!
فخرج جدي عن طوره وصاح به مغضبًا: لقد أعياني إصلاحك فيما مضى، ومن الحمق أن أحاول ذلك الآن .. لقد ربيته حتى صار رجلًا دون أن يكلفك مليمًا واحدًا!
فصفق أبي ساخرًا وقال وقد أخذ صوته يعلو: آه من مكر الرجال! بالأمس جئتني سائلًا أن أترك الغلام لكم، واليوم تمنُّ عليَّ أن ربيته حتى صار رجلًا!
مرحى .. مرحى، هلا تذكرت اتفاقنا السابق؟
فاشتد حنق جدي وقال بصوت وشت نبراته بانفعاله وتأثره: أي اتفاق يا هذا؟ .. نحن لا نتحدث عن صفقةٍ تجارية، ولكن عن ابنك، فأين الأبوة والعطف؟!
فقال أبي بتهكم وازدراء: الأبوة؟ .. العطف؟ .. يا لها من سجايا كريمة بيد أن المال يفسدها! يا عبد الله بك لندع الهذر جانبًا، فإنه لا يجمل برجلٍ عسكري مثلك خاض حروب السودان! وإنك لتعرفني حق المعرفة، فكيف زينت لك نفسك أن تقصدني بهذا الرجاء الخائب؟! تفكَّر في الأمر مليًّا، فإما تكفلت «به» كما اتفقنا، أو اتركه لي إذا شئت.
ونظرت إلى جدي فوجدت وجهه ملتهبًا بحمرة الغضب، وتوقعت أن ينفجر في الآخر، ولكنه ضبط نفسه بجهدٍ كبير، وقال بهدوء: لولا واجبي نحو ابنك لاستكرهت أن أقف منك موقفي هذا، ولست أستجديك شيئًا لنفسي، ولكني أريد أن أطمئن على مستقبل الفتى، خصوصًا وأني رجلٌ طاعن في السن وقد أموت غدًا.
فقال أبي ضجرًا: إذا متَّ غدًا تكفلتُ به.
فقطب جدي مستاءً، وهالني تعبير أبي القاسي فكرهته في تلك اللحظة ضعف ما كرهته طول حياتي، وكأنما نفد صبر جدي فنهض قائمًا مكفهر الوجه، ونهضت معه كأنني مشدود إليه. وألقى إليَّ أبي نظرةً متعاليةً في ترفُّع وغطرسة، وقال: لا أستطيع أن أقول إنك خيبت ظني؛ لأني لم أحسن بك الظن قط، ولكنها أخطاء نرتكبها كارهين ونحن أدرى بعواقبها .. أستودعك الله.
وأخذ بيدي ومضى بي فغادرنا السلاملك، وأبي يقول متهكمًا: مع السلامة يا عبد الله بك.
هكذا كان أول لقاء بيني وبين أبي. وقد خرجت منه وبنفسي من النفور ما لا قبل لي به. وما كدت أجتاز باب البيت إلى الطريق حتى تنهدت ارتياحًا، ودعوت الله بقلبي ألا يقضي عليَّ يومًا بأن أطرق هذا الباب أبدًا. وسرنا نحو ميدان الحلمية، وجعل جدي يحثُّ خطاه منكس الذقن، محمر الوجه، وهو يغمغم بكلام غير مميز ولا مفهوم، وجعلت أسترق إليه النظر محزونًا أسيفًا، وخائفًا في الوقت نفسه لشعوري بثقل مسئوليتي فيما أدى إلى الخصام. ثم أخذ صوته يتضح رويدًا فسمعته يقول وكأنه يحدث نفسه: «حيوان أعجم، لماذا يرزق الله أمثاله أطفالًا؟ لماذا لم يعاقبه بالعقم؟!» ويقول أيضًا: «يا لك من وغد! أليس بقلبك ذرة من عاطفة الأبوة؟ إنك لم تتركه لنا استجابةً لرجائنا، ولكنك بعته بنفقاته.»
وحين بلغنا المحطة لاذ بالصمت، ووقعت عليَّ عيناه فحدجني بنظرةٍ قاسية وأصرَّ على أسنانه وقال لي بحدة: وأنت يا سي قطران أتظل عمرك بغلًا؟! ألم يفتح الله عليك بكلمةٍ طيبة؟ ماذا كان عليك لو تظاهرت بالتودد إليه؟ أحسبته يا أحمق سيرتمي عليك عشقًا وولههًا؟!
وأفزعني غضبه كما يفزعني الغضب عادةً، وارتعشت شفتاي كالطفل إذا شرع في البكاء، ورأى حالي فنفخ مغيظًا محنقًا، وصاح بي: ما أسرع أن تبكي! .. ما الذي يبكيك؟ .. هل ظلمتك؟ هل تجنيت عليك؟ .. لقد أخطأت خطأ غبيٍّ أحمق، وما زدتُ على أن قلتُ لك أخطأتَ، فهل كفرت؟!
ولم أنبس بكلمة طوال الطريق، ولبثت محزونًا منكسر الخاطر، حتى ذكرت أني عائد إلى أمي، وأني سأحدثها بكل شيء عما قليل، فسُرِّي عني.
١٣
وزارنا يومًا مدحت أخي في الأسبوع الذي تلا مقابلتنا لأبي. ولما تفرست في وجهه تلك المرة أيقنت أنه صورة طبق الأصل من أبي. وتساءلتُ في حيرة عن سيرته وأخلاقه، وهل يشابه أباه فيهما كما شابهه في تكوينه الجسماني؟ والحق أني رمقته بنظرةٍ غريبة لم يفطن إليها أحد. على أني أحببته كثيرًا كما أحبَّنا كثيرًا. وقد عاتبته أمي على ندرة زياراته لنا، فقال لها: أنت أدرى بأخلاق المجنون!
فضحكت بسرور لا مزيد عليه، ورنوت إلى شقيقي بامتنان، فالتفت نحوي وقال آسفًا: علمت بما حدث في المقابلة الأخيرة!
فسألته أمي باهتمام: هل أخبرك عنها؟
فقال ضاحكًا: حدثني بها عم آدم البواب.
وداخلني استياءٌ شديد فهتفت مستنكرًا: البواب! .. أكان يسترق السمع؟!
فقال مدحت: كلا، ليس به من حاجة إلى استراق السمع، فما من كبيرة أو صغيرة إلا ويحيطه بها أبي، فهو سميره القديم الذي يفضي إليه بمكنون صدره؛ وإن لم ينج من شر لسانه في غالب الأحايين، ولكم أحزنني الموقف الذي وقفه من جدي! فوددت لو لقيته اليوم هنا لأعتذر إليه وأقبِّل يده.
وتجاذبنا الحديث طويلًا، وكان مدحت محدثًا ماهرًا، يدير الحديث بطلاقة وروحٍ مرحة، ويقهقه قهقهة أبينا العالية فيضاهيه في جلجلتها دون برودتها وقسوتها، فسرعان ما غبطته وأُعجبت به وتمنيت لو كان لي بعض مرحه وطلاقته. وانساق الحديث إلى مستقبله، وكان حصل على شهادة الزراعة المتوسطة صيف ذاك العام، فقال: سافرت إلى عمي في الفيوم ليجد لي وظيفةً بواسطة أحد معارفه الكثيرين، لكنه لم يوافق على توظيفي بالحكومة، وعرض عليَّ أن أتمرن في عزبته بأجرٍ عالٍ، على أن يؤجر لي أرضًا في القريب العاجل، ورأيت في عرضه فرصةً تفتح لي أبواب الرزق العريض عن طريق الزراعة فقبلتُ.
ولكن أمي لم ترتح لهذا العرض وقالت معترضةً: أليس الأكرم أن تتوظف في الحكومة؟
فضحك أخي طويلًا ثم قال: إن دبلومي لا يؤهلني لوظيفة محترمة، أما عمي فيهيئ لي فرص العمل المثمن والثروة.
– وتعيش في الفيوم حياتك؟!
فقال باستهانة: الفيوم من ضواحي القاهرة!
فقالت أمي بحزن: طالما منيت نفسي باليوم الذي تستقل فيه بحياتك لنعيش معًا؟!
فقبَّل يدها برقَّة وقال مبتسمًا: سوف ترينني كثيرًا حتى تمليني!
ثم ودعنا وانصرف. وتنهدت أمي من الأعماق وقالت بحزن: غاب عني نصف حياته في بيت المجنون، وسيغيب النصف الآخر في الفيوم!
وتفكرت قليلًا ثم قالت وكأنها تحدث نفسها: إن عمه لم يعرض عليه ما عرض حبًّا في سواد عينيه، ولكنه ينوي بلا شك أن يزوجه إحدى بناته.
وسألتها ببساطة: وماذا عليه لو فعل؟!
فحدجتني بنظرةٍ غريبة، وهمت بالكلام أكثر من مرة ثم تنثني عما همت به. وقد صدق ظنها؛ فجاءنا بعد ذلك بزمن غير طويل خطاب مدحت يخبرنا بخطبته لابنة عمه، ويسمي لنا يوم الزفاف ويدعونا لحضوره. ولم تُخفِ أمي استياءها، وهالها أن يخطب بدون مشورتها أولًا، وقالت لجدي بغضب: أرأيت إلى شقيق المجنون كيف خطف ابني؟!
ولم نحضر زفافه؛ لأني مرضت قبيل موعده ولزمت الفراش أسبوعَين، فنسيت أمي الزفاف بأفراحه وآلامه. وهكذا تزوج مدحت دون أن يحضر زفافه لا أبوه ولا أمه، حتى قال جدي متهكمًا كعادته: هذه الأسرة خلقها الله أعجوبةً للبشر، كل أسرة وحدة إلاها، فهي أشتات لا تجتمع .. اللهم عفوك ورضاك.
•••
واستدار الصيف واقترب ميعاد افتتاح الدراسة، فألحقني جدي بالسعيدية. وقد ذهبنا معًا، وقال لي في الطريق: لو كنت رجلًا حقًّا لما أحوجتني إلى الذهاب معك، ولكنك لا تعرف الطريق إلى الجيزة وأنت ابن سبعة عشر، وعلى أية حال احفظ الطريق جيدًا. لقد كنتُ ضابطًا في مثل سنك!
وكان يتظاهر بالتذمر والسخط، ولكني شعرت بقلبي أنه مبتهج مسرور، وأحسست بعطفه يشملني، فأخجلني ما يتحمله في سبيلي من المشقة وهو الشيخ السبعيني. وحين عودتنا ضربني بعصاه برقة وقال: إنك الآن طالب بالسعيدية، فاجتهد ترفع رأسنا .. أريد أن أراك ضابطًا قبل أن أرحل.
ودعوت له بطول العمر من أعماق قلبي. وسكت مليًّا ثم قال بغير مناسبة ظاهرة: على أيامنا كانت الابتدائية شهادةً عظيمةً تعادل بحق أكبر الشهادات في هذه الأيام!
وهز رأسه ثم استدرك قائلًا: كانت أيامًا، وكنا رجالًا!
١٤
انتهت العطلة الصيفية فألمَّ بي الحزن والكآبة. كانت المدرسة المنغص الأول لحياتي، فكرهتها كرهًا عميقًا صادقًا. حقًّا كنت بصدد مدرسةٍ جديدة اقترنت في ذهني بالرجولة والفخار، ولكنها مدرسة على أية حال لا تخلو من مواعيد وفصول وتلاميذ ومدرسين وعقوبات، ودروس تفوق صعوبتها بلا شك سابقاتها في المدرسة الابتدائية.
وفي صباح السبت الأول من أكتوبر استيقظت مبكرًا بعد انقطاع هذه العادة الثقيلة أربعة أشهر، وارتديت البدلة، وتأنقت كعادتي، وانتقيت رباط رقبة فاخرًا من صوان جدي! وألقت أمي عليَّ نظرةً طويلةً ثم قالت بسرور: كالقمر وحق كتاب الله! .. وجه أمك على بشرة بيضاء ليس لي مثلها .. محروس بعناية الرحمن.
ومضت توصيني بالحيطة في المشي والركوب والنزول وعبور الطريق، ودعت لي طويلًا .. ولما غادرتُ البيت وقفتْ بالشرفة تراقب سيري حتى غيبني عنها منعطف الطريق. وواصلت السير مغتمًّا محزونًا حتى بلغت محطة الترام بشارع قصر العيني. ووقفت أنتظر الترام وحدي لأول مرة في حياتي، فداخلني إحساس بالحرية لم يداخلني من قبلُ. وسري عني قليلًا فوجدت شيئًا من الارتياح، ثم لاطفني أمل في بدء حياةٍ جديدة؛ حياة لا تكدرها التعاسة التي لازمتني في مدرسة العقادين. إني ماضٍ إلى مدرسةٍ جديدة، وسألقى أناسًا جددًا، فلماذا لا أبدأ صفحةً جديدةً؟ اللهم إني إذا اجتهدت تحاميت قسوة المدرسين؟ وإذا أحسنت التودد إلى التلاميذ اكتسبت مودتهم ودفعت زرايتهم، وهذا شيء يقدر عليه الكثيرون، فلماذا أعجز عنه وحدي؟! ورقص بين ضلوعي حماسٌ بهيج، وقلت لنفسي: إذا نجحت فيما أخفقت فيه في ماضي حياتي هيأت لنفسي حياةً طيبةً وحببت إلى قلبي الحياة المدرسية المقضي عليَّ بها أردت أم لم أرد. وذهبت إلى السعيدية متفيئًا ظل الأمل الجديد الذي انبثق في نفسي بغتةً على محطة الترام!
•••
ولكني وجدت الحياة أشقَّ مما هيأ لي الأمل، فحال خجلي الشديد ونفوري من الناس دون اكتساب صديق، وضيَّع شرود ذهني عليَّ اجتهادي هباءً! لشد ما عانيت من شرود ذهني! لقد سلبني عقلي وأفقدني كل قدرة على الانتباه وتركيز الفكر، وجعلني صيدًا سهلًا للمدرسين. وقد استيقظت مرةً من شرودي — في الأسبوع الثاني من حياتي المدرسية الجديدة — على مسطرة المدرس وهي تصدم جبيني، وصوته وهو يسألني بلهجة الوعيد: قلت تُحدُّ شمالًا بماذا؟
فحملقت في وجهه بارتباك وفزع حتى نسيت أن أنهض قائمًا فزعق بي: تفضل بالوقوف لتردَّ على خادم أبيك!
ونهضت فزعًا، ولبثت متصلبًا دون أن أُحرْ جوابًا، فلطمني على خدي وصاح بي: تُحدُّ شمالًا بماذا؟
ولما لم أخرج عن صمتي لطمني على خدي الآخر وسألني: لندع مؤقتًا ما يحدها شمالًا، فما هي التي أسأل عما يحدها شمالًا؟
ولازمت الصمت وخداي يلتهبان، فانهال عليَّ لطمةً يمينًا ولطمةً شمالًا وأنا لا أجرؤ على تغطية وجهي بيدي، حتى انفثأ غضبه فأمرني بالجلوس، وضجَّ جانب من الفصل بالضحك، وجلست أغالب دموعي. انقلبت مرةً أخرى إلى أذى المدرسين وسخرية التلاميذ. ومضيت أجترُّ آلامي في صمت واليأس يفتك بنفسي فتكًا ذريعًا. خبا الأمل وانتهت المحاولة الجديدة بالإخفاق السريع، وعدت إلى تعاستي المعهودة. وعلى رغم ذلك تعلقت بخيطٍ واهٍ، فكرست كل وقتي للمذاكرة .. عكفت على كتبي ساعاتٍ متواصلةً، ولكنه كان مجهودًا ضائعًا إلا أقله، والحق أني كنت أثبت عينيَّ على الصفحات، على حين يتطاير خيالي في وديان الأحلام، فلا أستطيع لمَّه. وهي أحلام تحركها الشهوة وتعبث بها الخادمات القذرات، ثم تنتهي بالعادة الجهنمية التي أدمنت عليها مذ ناهزت الحلم، فلا تفوت ليلة إلا وأنصهر في أتونها في لذةٍ مفتعلة وندمٍ موجعٍ طويل.
ولم أقف من رغبتي في صداقة الرفاق موقف الجمود المطلق، ولكن أخفقت في مسعاي إخفاقًا كاملًا. كان يقابل تلك الرغبة في نفسي ميلٌ أصيل للوحدة، ونفور وخوف من الناس، وانطواء على النفس دفعني إلى الكتمان الشديد، فلا أحب أن يقف إنسان على سري ولا حتى مسكني أو عمري، هذا إلى عجز عن الحديث، وعدم فهم للنكتة فضلًا عن تأليفها، فلم يجد فيَّ أحد من التلاميذ ميزةً تجذبه إلي، عادوا يرمونني بثقل الدم. أخفقت في اكتساب صديق، وعشت العمر بلا صديق. بيد أني لم أكن أدرك حقيقة نفسي، فاتهمت الرفاق دون نفسي بالعيوب التي حرمتني الصداقة، واعتقدت زمنًا أنه لا صديق لي؛ لأنه لا يوجد من هو أهل لصداقتي! ما أعجب غرور الإنسان! إن السماء والأرض لا تسعانه. وعلى عجزي ونقائصي كان يخيل إليَّ أحيانًا أني الكمال المطلق، فهذا الحياء القاتل أدب، وهذا الإخفاق في الدراسة عبقريةٌ بطيئة النمو، وذاك الفقر المدقع في الصداقة والحب تسامٍ، وأمدني علم النفس — الذي درس لنا عامًا في السنة الخامسة — بألفاظٍ غامضة انتفعت بها في إرضاء غروري الكاذب. ومع ذلك كانت تثقل عليَّ ساعات يأس فأكاد أستشف الحقيقة، وقد قلت لأمي يومًا، وهي الحبيب والصديق والأنيس الذي لم أظفر بسواه: لا صديق لي، التلاميذ يزدرونني!
فتولاها الغضب، وهتفت بي: إن نعلك بألف رأس من هؤلاء التلاميذ، إنهم لا يحبون من لا يجاريهم في شطارتهم وسوء خلقهم، ويحسدونك لحيائك وأدبك. لا تحزن فلا فضيلة وراء البعد عن الناس.
فقلت محزونًا: أشعر أحيانًا بأني وحيد فتثقل الوحدة عليَّ.
وهالها قولي ورمقتني بإنكار، وقالت: وأين أمك؟ .. كيف تقول هذا وأمك على قيد الحياة؟ ألست أكرس حياتي لخدمتك ورعايتك؟!
أجل، إنها تكرس حياتها لي، وإنها كل شيء في حياتي، ولكن من لي خارج بيتنا؟!
واطردت حياتي المدرسية في تعثر وتثاقل على رغم كونها تتوكأ على عكاز من المدرسين الخصوصيين.
ولشد ما كان يحزن جدي كلما سقطت في امتحان، ولم يعد يسخر مني في مزاح، ولعل طعنه في العمر رده شديد الإشفاق على مستقبلنا، فكان يقول لي: لماذا تخفق هكذا يا كامل؟ أكل عام بعامين؟ .. ألا ترى أني أتلهف على رؤيتك موظفًا قبل أن أموت؟
وكان كلامه يقع من نفسي موقعًا محزنًا، ثم أقول له: ما ألوت أن ذاكرت حتى منتصف الليل.
وتبادر أمي إلى تأييدي في قولي، فيهزَّ رأسه الأبيض ويتمتم: الأمر لله.
ولذلك كنت أتوقع موسم الامتحان بقلق وخوف تتخللهما الأحلام المزعجة، ولذلك أيضًا كان يغريني الحياء والغرور بتصنع التعب والتوعك في الأشهر السابقة للامتحان لأعتلَّ بهما على إخفاقي المتوقع. وكانت أمي من ناحيتها تزور أم هاشم وتنذر النذور، وتشد حول عنقي التعاويذ. ولا أنسى مرة — وكنت قريبًا من امتحان الكفاءة — جاءتني بامرأة ممن يقرأن الغيب مستعيذةً بقدرتها على إنجاحي، فحرقت المرأة بين يديَّ البخور، وركزت في المدفأة عصًا قصيرةً وأمرتني أن أقفز فوقها ثلاث مرات، وفعلت ما أمرت به، فقالت لي بيقين: «ستنجح بإذن الرحمن.» ولما سقطت في الامتحان قلت لأمي متعجبًا: كيف أسقط وقد قفزت المرات الثلاث؟!
وعلى رغم هذا كله واصلت الدراسة، وطويت عهد الثانوي وحصلت على البكالوريا وقد ناهزت الخامسة والعشرين!
١٥
وداخلني على إخفاقي المتواصل شعور بالزهو والرجولة. إن كثيرين من موظفي الحكومة لا يحملون إلا البكالوريا، فأنا رجل ذو شأن! ولست أطمع من ورائها انخراطًا في سلك الحكومة؛ ولكني أرجو أن أخرج بها من البيت .. أعني أن أتحرر بها من ربقته التي تشدني شدًّا يكاد يمزق ضلوعي. أجل لقد ملكني شعورٌ جامح هفا بفؤادي إلى التجدد والانطلاق. لم أعد غلامًا يقاد من أنفه، وها هي الحياة تستفزني للتمرد والثورة. ولكن أي تمرد وأية ثورة؟ على ماذا أو لماذا؟ لم أجد جوابًا واضحًا، والحق أني لم أكن أفكر، ولم يكن هياجي فكريًّا، ولكن ثورة شعورية تنبعث من أعماق نفسي، تروم الانطلاق والتغيير وتُشوِّف إلى المجهول. لم أستبن هدفًا على وجه التحديد، وعانيت حنينًا مؤلمًا غامضًا كلما تحرك بصدري شملني بكآبة ووحشة. وكنت كلما استبدت بي تلك الأحاسيس وقعت فريسةً ليد الغضب الحمراء، فثار بي الغضب لأتفه الأسباب.
وفي تلك الأثناء كان جدي يهدف إلى الثمانين، وكانت أمي تقطع الخطوات الأولى بعد الخمسين.
انقلب جدي شيخًا نحيلًا؛ ولكنه حافظ على صحته ونجا من شر الأمراض، وتمتع بما وهبه الله من نشاط يُحسد عليه، ولم تزايله روحه اللطيفة ودعابته الهادئة. أجل اضطر إلى تبديل نظام معيشته لأنه لم يعد يحتمل السهر الطويل المتواصل، فكان يذهب إلى مقهى «لونا بارك» صباحًا ليجتمع بقلة من صحابه، ويمضي في النادي مساءً ساعتين، ثم يعود إلى البيت في العاشرة، وكان يمشي مشيته العسكرية في قوة ووقار دون أن ينحني له جذع. أما أمي فقد سارع إليها الكبر بنسبة أكبر منه إذا عدت بالقياس إلى عمرها؛ جف عودها، واشتعل مفرق شعرها وسوالفها شيبًا، إلا أنها تمتعت بصحةٍ جيدة، كما حافظ وجهها على جماله وبهائه. وكانت ربما استسلمت في أحايين للإهمال فلا تعنى عنايتها المعهودة بهندامها. ولشد ما كان يتولاني الحزن والاستياء لذلك، حتى قلت لها مرةً: «لاقيني بالهيئة التي تلقين بها الضيوف»، ولم تخيب لي رجائي ذاك، فكانت تبدو لي وهي على أحسن حال، وطابت نفسي ورضيت.
وظن جدي أن الفرصة تهيأت ليحقق الأمل الذي طالما حلم به، ألا وهو أن أصير ضابطًا، ولكني كنت جاوزت السن المقررة للالتحاق بالمدرسة الحربية، وحسب أن الشفاعة تستطيع أن تذلل تلك الصعوبة التي بددت حلمي، فسعى إلى كثيرين من كبار الضباط، ولكنه أفهم أن القانون لا يتسامح في ذلك. وحزن جدي حزنًا شديدًا، وقال لي آسفًا: لو دخلت الحربية لضمنت لك مستقبلًا حسنًا، ولاطمأن قلبي عليك وعلى أمك.
وهزَّ رأسه في سخط، ثم سألني: علام نويت؟!
فنظرت إليه في حيرة، ولم أحر جوابًا، فعاد يسألني: ألا تفضل مهنةً بعينها؟
واشتدت حيرتي لأن نفسي لم تنزع بي إلى مهنة غير الحربية؛ وذلك بتأثير جدي نفسه وإيمانه، فلم أدر بماذا أجيب، وقلت: كنت أُمنِّي نفسي بدخول الحربية، أما الآن فالمهن كلها بالنسبة إليَّ سواء.
– إني أختار لك الحقوق فهي خير ما بقي لنا؟ ولا أوصيك بالاجتهاد لأنه من العار أن يخفق الإنسان في الجامعة، وربنا يعيننا على مصروفاتها!
أسفت على ضياع المدرسة الحربية من يدي، ولكني لم أدرك فداحة خسارتي إلا حين أيقنت أنني سأواصل الدراسة أربعة أعوامٍ أخرى على الأقل، أو ثمانية أعوام إذا سرت بالمعدل الذي لازمني في المدرستين الابتدائية والثانوية. وكنت بطبعي أكره الدراسة والمدرسة فنظرت إلى المستقبل بامتعاض غير قليل. ولم أكن أدري عن الجامعة شيئًا، ولكن رجحت ألا تكون بغيضةً كالمدرسة، وقلت لنفسي: إن طلابها في سن الرجال فلا يمكن أن يمثلوا بي كإخوان لهم من قبلُ خلفوا في نفسي آثارًا لا تزول. كذلك استبعدت أن يكون العقاب مما يجوز أن يعامل به رجال أو من هم في حكم الرجال. ودأبت على تحبيب الدراسة المنتظرة إلى نفسي، ولم آلُ عن تهوين خطبها؛ حتى أستطيع أن أزدردها في صبر وأناة. وفي صيف ذلك العام قُيِّدت طالبًا بكلية الحقوق.
١٦
وفي صباح السبت من منتصف أكتوبر غادرت البيت مزودًا بالدعاء قاصدًا الجامعة المصرية. ووقفت على طوار المحطة أنتظر الترام، وهو نفس الترام الذي كان يحملني إلى المدرسة السعيدية، ولم أخلُ ذلك الصباح — على امتعاضي — من شعور بالزهو. وإني لفي انتظاري إذ طرق مسمعي صفقة مصراع نافذة فتحت بعنف فلطمت الجدار، فارتفع بصري إلى الدور الثاني من عمارةٍ برتقالية اللون تقع أمام المحطة مباشرة، حيث كانت توجد لافتة عيادة طبيب حتى قبل شهر تقريبًا، فوقع بصري على فتاة في الشرفة واقفة تحتسي شايًا. أدركت لتوي أن أسرةً سكنت الشقة بعد أن أخلاها الطبيب، وثبتت عيناي على الفتاة، وجعلت أتابعها وهي ترفع القدح إلى شفتيها فترشف رشفةً، ثم تنفخ السائل الساخن بفم مزموم، وتبدأ وتعيد لاهية بلذة الشراب. وبدا لي منها قامةٌ طويلة وقدٌّ نحيفٌ رشيق وبشرةٌ قمحية، في سترة وتايير رمادي، وكأنها وشيكة الذهاب إلى المدرسة في احتشام الطالبات. وكانت توليني جانب وجهها، فلما اعتدل رأسها رأيت وجهًا مستديرًا، توحي هيئته بتنسيقٍ جميل وإن لم أستطع تبين معالمه من موقفي، تعلوه هالة من شعر كستنائي، فبعثت في نفسي أثرًا بهيجًا. ولم تبقَ هدفًا لناظريَّ إلا قليلًا، ثم دارت على عقبيها ومرقت إلى الداخل. واحتفظتُ بصورتها في حب استطلاع ريثما جاء الترام، ثم ركبت متخففًا بالأثر البهيج الذي بعثته فيَّ من كآبة اليوم الذي تبدأ فيه الدراسة. على أني وجدت في الكلية مزايا خليقة بأن تُذهب مخاوفي وإن لم تقلل من أسباب نفوري العام من الدراسة. من ذلك أن وقت الدراسة مقصور على أربع ساعات في اليوم تنتهي عادةً في الساعة الواحدة، ومنه تمتع الطلبة بحرية الحضور أو الغياب بلا رقيب، ومنه وهو الأهم انعدام فكرة العقاب، بل لمست في روح الطلبة أن ما يتهدد أساتذتهم أخطر مما يتهددهم هم. سررت بذلك كله ومنيت نفسي بأن تنتهي هذه الدراسة على مرها كما انتهت الدراسات السابقة، ولم يكن جديدًا عليَّ أن أتجرع دراسةً على كره ونفور حتى الثمالة. وعندما عدت ذلك اليوم إلى المنيل شعرت بسرور مفاجئ هيأ لي أني رجلٌ خطير، ونصف أستاذ وربع وكيل نيابة!
•••
وفي صباح اليوم التالي ذكرت الشرفة وأنا أشارف المحطة، فرفعت عينيَّ مدفوعًا بتطلعٍ هادئٍ طبيعي ولكني وجدتها خاليةً، وتسلل بصري إلى الداخل فرأيت مرآة في الجدار المواجه، وإلى اليسار عمود سرير فضيًّا لامعًا ومصباحًا كهربائيًّا يتدلى من السقف ذا قبعةٍ زرقاء كبيرة، ثم بدا في وسط الحجرة رجل في الخمسين ذو نظارةٍ ذهبية يزرر حمالة بنطلونه، فخفضت بصري ورحت أقطع الطوار جيئةً وذهوبًا. ولاحت مني التفاتة إلى المحطة المقابلة للترام الذاهب إلى العتبة، فرأيت الفتاة واقفةً — وقد عرفتها بقامتها وزيِّها — وبيدها كتاب. كانت في وقار بدا حلوًا بالقياس إلى عمرها الذي لا يجاوز العشرين، ولم يكن بصرها يعلق بأحد ممن يحتشد حولها أو يمر بها، فأثر تحفظها في نفسي أثرًا جميلًا ملأني احترامًا وإعجابًا، ثم شعرت نحوها بانجذاب وحنان. ولم يكن تأثير المرأة فيَّ بالأمر الجديد على نفسي، فإني أرى الحسان في الطريق أو في الترام، وأتبعهن عادةً نظرة رجل عابر أمضَّه الحرمان والوحدة والرغبة، وأرجع منهن بالنشوة البديعة والهزة الموجعة. أما هذه الفتاة فلها شأنٌ آخر، فلن يكون موقفي منها موقف العابر، ولكن موقف المقيم ومن هو في حكم الجار، فإني أراها اليوم، وأراها غدًا، وإلى ما شاء الله، فضاعف ذاك من اهتمامي بها وحرك في قلبي آمالًا وهميةً، ومناني بسرورٍ متجدد، فكأنه نوع من التعارف ولون من الأمل الغامض، وملهاة سرور سلبي لا يطمع في أكثر منه شخصٌ خجول هيَّاب مثلي. ثم ذهبت إلى الكلية طيب الشعور، متسائلًا: هل يمكن يا ترى أن تنتبه إليَّ؟! .. وقد ذكرتها في أعماق الليل، في وحدتي النفسية، وهذيان الأحلام الجنسية يعبث بخيالي، فوجدت من نفسي اعتراضًا وتمردًا وإباءً شديدًا، فأبعدتها عن أتون عادتي الذميمة، قانعًا هنا بالحيوانات القذرة التي تلهب أحط الإحساسات من جسدي.
•••
وفي صباح اليوم الثالث انطلقت إلى المحطة وكأني من التطلع على موعد، وأرسلت ناظريَّ إلى المحطة المقابلة، فرأيتها بموقف الأمس بقامتها الفارعة ووجهها البدري ووقارها الجذاب. وسرى في جوانحي الارتياح. ثم حدثتني نفسي بأن أجد سبيلًا إلى الاقتراب منها وهي لا تدري بي لأروي ظمأي إلى معرفة وجهها عن كثب، وحثني الإشفاق من مجيء الترام الذي تنتظره إلى تنفيذ ما تطمح إليه نفسي دون تردد، فاتجهت صوب المحطة الأخرى بقدمَين قلقتَين وقلب يغوص في صدري فرقًا، ومررت بها مسترقًا النظر، فرأيت في عجلة المذعور عينين عسليتين صافيتَين تقطران ملاحةً، وأنفًا صغيرًا دقيقًا وشفتَين رقيقتَين، ولعلها أحست حرارة بصري فرفعت عينيها عرضًا فالتقت عينانا، وسرعان ما استرددت بصري لأنه أيسر عليَّ أن أحملق في قرص الشمس إبان اعتدالها من أن أحتمل وقع نظرة عين، ومضيت إلى طرف الطوار ولبثت حائرًا لا أدري كيف أعود إلى المحطة الأخرى. وخيل إليَّ أني ارتكبت شططًا جنونيًّا فأوقعت نفسي في ورطةٍ عسيرة المخرج، هكذا كانت تتراءى لي أتفه الأمور. ولبثت متسمرًّا حتى استقلت الفتاة الترام وخلا الطوار من المنتظرين، فعدت إلى مكاني لاهثًا، وجعلت أحدث نفسي: أجمل بها من ملاحة ورشاقة واحتشام! وعشت مع خيالها يومي فلم أكد أنتبه إلى ما يلقى عليَّ من محاضرات. وعلى قدر ما نازعتني النفس إلى تملي عواطفي على قدر ما ازددت كرهًا للمحاضرة التي تعترض سبيل أخيلتي، ففاض بي شعور بالتمرد على تلك الحياة الدراسية التي تعذب عقلي وتتجاهل قلبي وشعوري، وكأني أنتبه إلى قلبي لأول مرة، فأحس به عضوًا حيًّا مثل بقية الأعضاء، يجوع جوع المعدة، ويرق رقة النفس، ويتشوف تشوف الروح، فتمنيت أن أكرس حياتي لسعادته، وأن أستسلم لحنان المتعة التي تنفجر عنها ينابيعه.
تنهدت من الأعماق وأنا جالس في نهاية قاعة المحاضرات بجسم حاضر وعقل غائب. وحدثتني نفسي بأن وراء هذه الحياة الجافة الضيقة المكبلة بالأغلال حياةً ناعمةً واسعةً حرةً، فهفت نفسي إليها في جزع ولهفة. وعدت إلى الفتاة، ولم يقنع خيالي هذه المرة بالرؤية؛ فخلق ما شاء له هواه، فرأيتني ألفت نظرها إليَّ، واقتربت منها كما فعلت في الصباح، ولكني لم أرتبك كما ارتبكت فأومأت إليها في جسارةٍ نادرة، ويغلبها ابتسام المودة فتبسم إليَّ، وأهمس لها بما أحب وتهمس لي كذلك، ونركب الترام معًا، وفي مكان ما على شاطئ النيل أقول لها: أحبك، فتقول لي بوجهٍ مضرج بالدم: وأنا، فأهوي إلى خدها ألثمه في إعجاب واحترام وحب يسمو عن الشهوات، أجل لا يحب خيالي أن يصورها لي إلا في ردائها الطويل تحوط بها هالة الوقار والاحتشام.
•••
وبكرت في الذهاب إلى المحطة في صباح اليوم الرابع فوجدت الشرفة خاليةً، ونقلت بصري إلى نافذة على يسار الشرفة، فرأيت الفتاة من جانب وجهها، وكانت تقف وقفة العناية والاهتمام التي يقفها الشخص حيال صورته على وجه المرآة، ومضت تسوي شعرها وتمنحه اللمسات الختامية التي تشبه لمسات التدليل والمداعبة، فانشرح صدري وتتبعت يدها بجوارحي حتى خلتني أجد مس الشعر الناعم وأشم عرفه الطيب. ثم رأيتها تتحول عن المرآة وتطل من وراء زجاج النافذة على الطريق، فقدرت من اتجاه وجهها أن عينيها على طوار المحطة، ونزعت بخجلي الفطري إلى خفض عيني، بيد أنني تشجعت ببعد المسافة بيني وبينها وثبتُّ عيني بجهدٍ قليل. ترى هل وقع بصرها عليَّ؟ وهل ذكرت فتى الأمس الذي التقت عيناه بعينيها لحظةً بديعةً؟ كلا إنها لا تحس لي وجودًا، ولن تحس بهذا الوجود. لبثت قليلًا، ثم تراجعت إلى الداخل وغابت عن ناظري، وقطعت طوار المحطة ذهابًا وجيئةً، ثم عدت إلى موقفي، وجاء ترام إثر ترام ثانٍ وأنا بمكاني كالمنتظر. وفي أثناء ذلك ظهرت في الشرفة فتاة في العاشرة في مريلة زرقاء أدركت لتوي أنها أختها. ثم رأيت فتاةً تبرز من العمارة وتتجه صوب المحطة المقابلة. رأيتها تسير لأول مرة، فتحدث مشيةً هادئة متزنة توافق وقارها الجميل، وتناسب قدَّها الرشيق وقامتها الطويلة. وتحرك في أعماقي الإعجاب والاحترام. وأرسلت بناظريَّ حتى جاء الترام وصعدت إليه. استوفيت جزاء الانتظار سرورًا وارتياحًا، وركبت الترام مزودًا بأطيب أزاهر الأحلام، ولم يخفَ عني اهتمامي بها وسروري باحتشامها ووقارها، فلم أشك في أن التطلع لذاك البيت سيكون من الآن فصاعدًا هوايتي، وقلت لنفسي: ما أحوجني إلى رفيقة لحياتي في مثل كمالها! وضاعف من حسرتي أنني عشت حياتي بلا رفيق. على أنني شعرت بقلق من جراء إفصاحي عن هذه الرغبة، كما شعرت بحياءٍ شديد، ولم تكن تلك أول مرة أفصح بها عن الرغبة في الرفيق، ولكنه كان إفصاحًا عابرًا وتشوفًا عامًّا ورغبةً بلا هدف معين وشوقًا غامضًا، أما هذه فإفصاحٌ خطير حرك حيائي وخوفي، وتشوفٌ خاص، ورغبة يغرر بها أمل، وشوق يستمد الوقود كل صباح. وأعجب ما في شعوري أنه كان شعورًا بيتيًّا إن صح هذا التعبير، فانصبَّ من بادئ الأمر على الفتاة وبيتها، وما ذكرتها قط إلا وتحضرني صورة البيت، فامتزجت الصورتان في مخيلتي، ونالتا من اهتمامي وأحلامي نصيبًا واحدًا! وسرعان ما تمثلت فيها زوجتي! ولا عجب فإني امرؤ إذا وقعت عيناه على فتاة في الترام نشطت أحلامه الشاردة فتصور أنه خطبها وعقد عليها وزُفَّ إليها، والترام لا يزال في منتصف المسافة ما بين جسر الملك الصالح وجسر عباس! فكيف لا أتمثل فتاة الصباح زوجةً؟! وملكني الإعجاب والاحترام، وقدسية الإحساس البيتي، وحنان العاطفة الزوجية، وانتظم هذه الأحاسيس خيطٌ موصول من الميل الصادق، لعله الحب الذي لم يعرفه قلبي.
وفي صباح اليوم الخامس أطلت وقفتي حيال المرآة قبل أن أغادر البيت، وألقيت على صورتي نظرةً متفحصةً. ينبغي أن أعترف هنا بإعجابي الشديد بذاتي! فلم تكن أنانيتي بقاصرة على سلوكي، ولكنها امتدت إلى حب الصورة والإعجاب بها. ولشد ما أنعمت النظر إلى هاتين العينين الخضراوين الواسعتين، وهذا الأنف الدقيق المستقيم، وهذا الوجه الطويل المتناسق ذي البشرة البيضاء .. وكان تأنقي مضرب الأمثال في البيت والمدرسة على السواء، حتى لأذكر قول أستاذ اللغة العربية لي مرةً: «لو أتقنت العربية إتقانك لعقد رباط رقبتك لما كنت أسوأ تلميذ عندي!» نظرت إلى صورتي طويلًا ذاك الصباح، وجعلت أمي ترمقني بإعجاب وتمازحني بكلمات كالغزل، فقلت لنفسي: آه لو تدري لمن أنا أتأنق! وغادرت البيت في ارتياح مطمئنًّا إلى ما عسى أن يتركه منظري من أثرٍ حسن في نفس الفتاة إذا شاء القدر أن يلفت عينيها إليَّ. بيد أن ارتياحي لم يطل، وذكرت أمرًا طالما نغَّص عليَّ صفوي، ففتر حماسي .. ذكرت ما رميت به كثيرًا من ثقل الدم، ولم أستبعد في تلك اللحظة أن يكون ذلك العلة في إخفاقي في اكتساب صديقٍ واحد، وسرعان ما تكدر صفوي وتجهمت لي الدنيا .. وسرت بخطًا ثقيلة حتى انتهيت إلى المحطة. ودار بصري ينقب في مكانها حتى استقر عليها في الشرفة تحتسي الشاي كما رأيتها أول مرة. هناك نسيت كدري وهمي، وانشرح صدري، وانبعث السرور في كل قطرة من دمي. هناك أدركت أنها سروري وفرحي، وأنها روحي وحياتي، وأن الدنيا من غير طلعة محياها لا تساوي ذرةً من رماد!
•••
وواظبت على ذاك الموعد الذي لا يدري به الطرف الآخر شهرين أو يزيد، يومًا بعد يوم دون انقطاع أو تأخير. تطلعت بناظريَّ حتى كل البصر، ووهبتها الإعجاب والاحترام عن طيب خاطر حتى نُؤتُ بهما، وتمليت السرور والأحلام حتى نسيت الحقيقة والواقع، وسحت في دنيا الهيام حتى سلبت العقل والرشاد، حفظتها عن ظهر قلب؛ طولًا وعرضًا، إيماءةً ولفتةً، وقفةً ومشيةً، سكونًا وحركةً، وعرفت من وراء زجاج النوافذ أسرتها من أب وأم وأخت وأخ. كل هذا وهي لا تدري بي، ولا تحس لي وجودًا، وكأنني بالنسبة إليها ليس من سكان هذا الكوكب. وأمضَّني الجزع والضيق، وأحرقتني الرغبة في إثبات وجودي، ولكن شدني عجزي إلى موقفي لا أتعداه. حلمت في شرودي كثيرًا بأني أعترض سبيلها وأتبعها، أو أني أبوح لها بإعجابي واحترامي. أما في الحقيقة فلم تكن تبرز من باب العمارة حتى ينقبض قلبي حياءً وخوفًا، وحتى أتهيأ لغضِّ بصري فيما إذا اتجه بصرها نحوي. ولعله كان أسهل عليَّ أن أرمي بنفسي من جسر الملك الصالح من أن أصمد لنظرة من عينيها. وكنت أتساءل في يأس وجزع: متى تنتبه لوجودي؟ متى تدري أن هناك قلبًا غريبًا يكنُّ لها من الوداد أضعاف ما يكنه لها الوالدان؟! .. أليس غريبًا أن يمر شخص مر الكرام بقلب يود لو يفرش شغافه تحت قدمَيه؟!
وتركزت أفكاري — تلك الفترة — في قلبي بآلامه وآماله، مخاوفه وأفراحه، وشعرت شعورًا قويًّا بحاجتي إلى نصيح أو مشير، وكانت أمي هي صديقي الوحيد في دنياي، ولكني لم أتوجه إليها بطبيعة الحال في أزمتي تلك لشعوري بأنها ستقف من رغبات قلبي موقف العداوة! .. بيد أني وجدت في بعض المجلات التي يقرؤها جدي صفحات مخصصةً لأسئلة القراء، فأملت أن أظفر منها بالمشير الذي أفتقد. وأرسلت إلى إحداها هذا السؤال الذي أقض مضجعي: «رجل ثقيل الدم، أليس ثمة أمل أن يحبه محبوبه؟». وكان جواب المجلة: «الحب سر من الأسرار لا شأن له بالخفة ولا بالثقل، وقد يتعامى عن القبح والدمامة، فلا تخف على حبك من ثقل دمك، وإذا جاز لنا أن نتفلسف عن طبيعة المرأة فلعله يصح أن نقول: إنها مغرمة بالقوة والشجاعة». سررت بمطلع الإجابة، فلما أن بلغت ختامها خامرني شعور بالخيبة، وتساءلت عما يعنيه بالقوة .. آه! لست قويًّا على أي حال، والحق أن إدماني العادة المرذولة جعلني نحيفًا أكثر مما ينبغي وأضفى على بشرتي شحوبًا، وعندما ذكرت الشجاعة لم أتمالك نفسي من ضحكةٍ مريرة، وعددت ما يخيفني في هذه الدنيا من الأناسي والأجواء والفيران والصراصير، فعصر اليأس قلبي!
ولكنني لم أسلم لليأس؛ لأن النار التي تستعر بنفسي كانت أقوى من أن تخمدها ضربة من قبضة اليأس الباردة، فأرسلت إلى المجلة هذا السؤال: «كيف أجذب محبوبتي؟»، وكان الجواب: «اذهب إلى أبيها أو ولي أمرها واطلب يدها إليه وإني كفيل بأن تحبك». رباه، ما أقسى المجلة! إنها لا تدري أني طالب، وأن أمامي أربعة أعوام — أو ثمانية — قبل أن أصير رجلًا مسئولًا، وأنني فوق هذا كله أقدَرُ على اقتحام أبواب جهنم مني على طرق باب محبوبتي لأطلب يدها .. يا أسفًا، ألا يعلم هؤلاء الناس ما الخجل؟! ما أراني إلا مقضيًّا عليَّ بالهيام الصامت المنفرد وحبيبتي على قيد خطوة مني!
١٧
واعترض سبيلي حادث لعله في ذاته تافه، ولكنه غيَّر مجرى حياتي، وكانت حياتي الدراسية نزاعًا متواصلًا بين عقلي الراكد ونفسي الشاردة يتمخض — كما تمخض في الماضي — عن عناءٍ شديد وثمرة قليلة. وقد بات الشرود لديَّ ملكةً آسرةً غلبت على نفسي جميع قواها العقلية، حتى أشفقت من ألَّا أنال الليسانس قبل الخامسة والثلاثين! على أني عرفت من خطورة دراسة القانون أشياء غاب عني شيء لا يكاد يقيم له الطلبة وزنًا، بل يقبلون عليه في سرور ويعدونه رياضةً ولهوًا، ذلك هو درس الخطابة. وكان يلقى علينا مرة في الأسبوع في مدرج عام يحضره جميع طلبة القسم الإعدادي. وفي أثناء الشهرين الأولين استمعنا إلى دراسة نظرية في فن الخطابة، ثم بدأ التدريب العملي. وطفق الأستاذ يدعو الطلبة إلى ارتجال الخطب في الأغراض المختلفة، فكانوا يخطبون بطلاقة، وبأصوات جهورية في ثبات وشجاعة، ورحت أنصت إليهم في دهشة مقرونة بالإعجاب البالغ، مأخوذًا بطلاقتهم وشجاعتهم، مذهولًا لمقدرتهم على التصدي لهذا الموقف الرهيب حيال هذا الجمع الحاشد، فكنت أتطوع بالخجل نيابةً عنهم حتى يتفصد جبيني عرقًا! وما أدري في أحد الأيام إلا والأستاذ ينادي: كامل رؤبة لاظ!
ونهضت قائمًا بحركةٍ عكسية، في الصف الأخير من المدرج — المكان المفضل عندي — حيث لا تقع عليَّ عين .. وأحدث اسمي اهتمامًا ساخرًا، فهمس أحدهم قائلًا: هذا حفيد لاظوغلي!
وتساءل آخر: اسم هذا أم فعل؟!
وقفت مبهوتًا خافق الفؤاد، فقال الأستاذ: تعال إلى المنصة!
وتسمَّرت في مكاني في ارتباك لا قبل لي به، رغبت أن أعتذر ولكن بعدي عن الأستاذ كان يوجب عليَّ أن أعلي صوتي فيسمعه الجميع، فسكتُّ على رغمي. ونظر الأستاذ إليَّ دهشًا، ثم قال: ما لك واقفًا لا تتحرك؟ .. تعال إلى المنصبة.
واستدارت الرءوس إليَّ حتى شعرت بأني أحترق تحت وقعها، واستحثني الأستاذ بإشارة من يده، فقلت على كره: لماذا؟
وضحك كثيرون من سؤالي، وقال الأستاذ بحدة: لماذا؟! لكي تخطب يا أخي كالآخرين!
وقلت بصوتٍ منخفض لم يجاوز صفَّين من المدرج: لا أدري كيف أخطب!
وطبيعي أن صوتي لم يبلغ الأستاذ فتطوع طالبٌ قريب بإبلاغ جملتي صائحًا بلهجةٍ ساخرة: يقول إنه لا يدري كيف يخطب!
فقال الأستاذ بلهجة تنمُّ عن التشجيع: هذا درس تدريب، وأخلق أن ينتفع به من لا يجيد الخطابة، تعال! ولم أر مناصًا من الذهاب، فحركت قدميَّ في جهد وعذاب كأني أساق إلى المشنقة، ثم ارتقيت المنصة في حالة ذهول، ووقفت محدقًا في الأستاذ باستسلام واستعطاف موليًا المدرج جانبي الأيسر. وأدرك الأستاذ ارتباكي فقال بلطف: انظر إلى زملائك، واملك جنانك، وتكلَّم كأنك وحدك. لا بد من اعتياد هذه المواقف لأن حياة الحقوقي لا تخلو ساعة منها وإلا كانت هراءً لا معنى له. كيف تقف غدًا في ساحة القضاء، سواء تحت ظل النيابة أم المحاماة؟! ادع شجاعتك واخطب هذا الجمع حاثًّا إياه على التبرع لإحدى الجمعيات الخيرية.
وتطلع إليَّ الجميع باهتمامٍ شديد لم يحظ بمثله الخطباء المصاقع، فحملقت في الوجوه المتطلعة دون أن أرى شيئًا، ولفني ذهول وخجل مميت، فكدت أقع مغشيًّا عليَّ، وتولاني ذلك الإحساس الحاد بالقنوط الذي يمسك بخناقنا في الكابوس. ولم يخطر لي لحظةً واحدةً أن أفكر في الموضوع، ولعلي أُنسيته، ولم يكن يدور بخلدي إلا هذا السؤال: متى تنكشف هذه الغمة؟! وملَّ الأستاذ الانتظار فقال: تكلم. لا تخش الخطأ. أفصح عما ببالك جميعًا.
رباه متى ينقضي هذا العذاب؟ هيهات أن يرثي أحد لي، وها هم الطلبة يتغامزون ويتضاحكون، وقد قال أحدهم بلهجة من يحذر إخوانه من الاستهانة بي: هكذا بدأ سعد زغلول.
وقال آخر: وهكذا انتهى!
وصاح ثالث: أنصتوا إلى بلاغة الصمت.
وامتلأ المكان ضجةً وضحكات، فدار رأسي وأخذت أتنفس بصعوبة، ثم صممت على إنهاء ذلك الموقف المحزن، فغادرت المنصة ومضيت صوب باب الخروج دون التفات إلى نداء الأستاذ، وضجة الشياطين تلاحقني وتصكُّ أذنيَّ، وما زلت أخبط على وجهي محمومًا هاذيًا حتى انتهيت إلى محطة الترام. ورُحتُ أردِّد بتصميم وحنق: «لن أعود .. لن أعود!» وكان ذلك التصميم البلسم الشافي لجرح ذلك اليوم. أجل لن أعود، ولن تقع أعينهم عليَّ مرةً أخرى، ولن أعرض نفسي لبسمات الهزء والسخرية، وأية فائدة ترجى من العودة إلى الكلية، ما دامت حياة الحقوقي لا تخلو ساعة من هذه المواقف؟! الأفضل أن أسدل الستار على عهد الدراسة كله، وحسبي ما عانيت من عبودية العذاب. وتعزيت بهذا التصميم عن جميع ما لحقني من مهانة وإحراج، بل نسيت به ألمي وحنقي؛ فترطب صدري المحترق بنسمة ارتياح، وعدت إلى البيت وليس أمام عيني إلا ذاك التصميم .. وبعد الغداء قصصت على جدي وأمي ما لقيت في يومي من شدة ومكروه، واختنق صوتي بالبكاء وأنا أقول: هذه حياة لا تطاق، ولن أعود إلى الكلية أبدًا.
وهال جدي الأمر فقال بانزعاج: أأنت رجل؟! ألا ليتك خلقت بنتًا؛ إذن لكنت أكمل الفتيات! .. أتريد أن تقطع حياتك التعليمية في الطور الأخير منها لأنك عجزت عن قول كلمتين! .. والله لو كانت أمك مكانك لخطبت الموجودين!
وجعلت أمي تقبض أصابع يمناها وتبسطها في تشنج وتقول: حسدوه .. حسدوه يا ربي!
وحاول جدي أن يثنيني عن عزيمتي تارةً باللين وتارةً بالعنف، ولكن اليأس ثبت عنادي فلم أنثنِ، ولما فرغ صبره قال: إذن ضاعت السنة، وليس ثمة فائدة من إلحاقك بكلية أخرى بعد انقضاء شهرين ونيف على افتتاح العام الدراسي.
فركبني الخوف أن يُلقَى بي تارةً أخرى إلى عذاب التعليم فقلت: ليس ثمة فائدة من مواصلة التعليم.
وقاطعتني أمي هاتفةً بألم: لا تقل هذا يا كامل؛ بل لتواصلن التعليم سواء في هذا المعهد أم أي معهدٍ آخر.
وضرب جدي كفًّا بكف وهو يقول: لقد جُنَّ، وهذه نهاية التدليل!
ولكني كنت كمن يدافع عن نفسه حيال الموت، ولم يعد بي من صبر أواجه به الطلبة والدروس والامتحانات، فقلت بقنوط: لا أستطيع .. لا أستطيع .. ارحموني!
وثار جدلٌ عنيف صمدت له بقوة لا قبل لي بها؛ قوة مصدرها الخوف واليأس، حتى سكت جدي مغيظًا محنقًا. وبعد فترة صمتٍ مرهق سألني: أترغب أن تتوظف بالبكالوريا؟
فقلت خافض العينين: نعم!
واختلست منه نظرةً فوجدته صامتًا مقطبًا ويده تعبث بشاربه الفضي. وحولت عيني إلى أمي فرأيتها مغرورقة العينين. ومع ذلك فلست أشك في أن معارضة جدي كانت نصف جدية فقط. ولو أنه أراد حقًّا أن يكسر عزيمتي لما وسعني مخالفته. والحق أن أمر مستقبلنا كان يحتل من تفكيره مكانًا واسعًا، وخاصةً في تلك الأيام الأخيرة التي استوفى فيها شيخوخته، ولعله ارتاح لاقتراح توظيفي ليطمئن على مصير أمي.
وهكذا انقطعت حياتي الدراسية بعد أن قضيت نيفًا وشهرين بكلية الحقوق، بيد أنني لم أجد السرور الذي كنت أحلم به. أجل لم أفكر لحظةً واحدةً في الرجوع إلى تجربة الدراسة القاسية، إلا أنني وجدت نفسي بحاجةٍ شديدة إلى انتحال الأعذار الكاذبة عن انقطاعي عن العلم وفراري من معاهده، وتصوير نفسي في صورة الضحية البريئة. ومع أن محاولتي تلك نجحت لحد ما مع الآخرين أو على الأقل مع أمي الصديقة لي بالحق أو الباطل، إلا أنها لم تنفع معي إلا قليلًا. ملأني السخط والتبرم، وثار بي نزوع نحو تأديب النفس ومعاقبتها! واتخذ ذلك النزوع صورة حملة هجائية على نفسي، فواجهت نقائصي في تسليم واعتراف لأول مرة.
رأيت حياتي كما هي أحلامًا شاردةً سخيفةً، وخجلًا وخوفًا يميتان الهمم، وأنانيةً مطلقةً قضت عليَّ بعزلة لا يؤنسها صديق أو رفيق، وجهلًا بالدنيا وما فيها، فلا زمان ولا مكان، ولا سياسة ولا رياضة، حتى المدينة الكبيرة التي ولدت وعشت فيها لا أعرف منها إلا شارعَين، وكأنني أعيش في حجرة بمفازة! وغشيتني كآبةٌ ثقيلة فاجتررت أحزاني في وحدةٍ قلبيةٍ مهلكة. ولكن أمي لم تفارقني لحظةً واحدةً في تلك الأيام السود، ولم تطق الوقوف مني موقف المعارضة طويلًا، فسرعان ما تحولت من جانب المعارضة إلى جانب التأييد، وتظاهرت بالسرور والارتياح، وقالت لي يومًا لتسري عني: الخير فيما اختار الله، وهل نملك لأنفسنا شيئًا؟! وعما قليل تصبح رجلًا مسئولًا، ويجيء دورك في تدليل أمك لتقضي بعض ما عليك من دين!
وقضينا الساعات الطوال معًا، وأنا آنس بحديثها الطيب الشافي، وبفضلها وحدها انكشفت عني الغمة وتفتح قلبي للحياة ونفض عن جوهره غبار الوساوس.
١٨
واستشفع جدي بضابطٍ عظيم من رجالات الجيش «ممن عمل ملازمًا صغيرًا تحت رئاسته في السودان» على حد قوله، ليجد لي وظيفة بوزارة الحربية، وكُلل مسعاه بالتوفيق؛ ولكن الضابط أخبره بأنني ربما عينت في السلوم! ولما قال جدي ذلك تجهُّم وجه أمي وقالت باستنكار: السلوم؟! ألا ترى أن كامل لا يستطيع العيش بمفرده؟!
وكانت تظن السلوم بلدًا قريبًا كالزقازيق أو طنطا على الأكثر، فلما عرفت حقيقتها ندت عنها ضحكةٌ عصبية وعدَّت الأمر مزاحًا. وصاح جدي متبرمًا: وظِّفيه بنفسك، أو عيِّنيه في حضنك وأريحيني!
ولكنه لم يألُ جهدًا، فسعى لدى معارفه القدماء من مواليد القرن التاسع عشر ممن عملوا قديمًا تحت قيادته، ولعلهم تأثروا بشيخوخته الثمانينية ونشاطه الموفور .. وما أيقظ في صدورهم من ذكريات فوعدوه خيرًا، ووجدوا لي بالفعل وظيفةً بإدارة المخازن بديوان الوزارة العام. ولم يكن يفصل بين الوزارة وبين بيتنا إلا ثلاث محطات وعشر دقائق مشيًا على الأقدام، فرضيت أمي وقرَّت عينًا، وقدمتُ مسوغات التعيين وتقدمت للقومسيون الطبي العام كالمتبع، وبالاختصار صرت موظفًا من موظفي الدولة. وكان الشعور الذي لابسني وأنا أغادر البيت ميممًا الوزارة لأول مرة — شعورًا معقدًا، فيه زهو وخيلاء، وفيه فرح بالتحرر من عبودية البيت والمدرسة على السواء، ولا يخلو من قلق يساورني كلما أقبلت على جديد من الأمر. ومضيت بقلبٍ خافق إلى محطة «محبوبتي»؛ لأن طريقنا أصبح واحدًا منذ ذلك اليوم السعيد ولو لمحطاتٍ معدودات، ولئن لم يكن في الوظيفة إلا هذا لكان حسبي من الهناء والسرور، واحتطت بقلبي الضعيف، فوقفت في الطرف البعيد من «الطوار» حتى لا يصعقني وجودي على كثب منها. وجاءت بعد حينٍ قليل تتهادى في مشيتها التي تجمع بين النشاط والوقار، فاستقبلها قلبي بخفقان كزغردة اللسان، ولبثت غاضًّا بصري ولكن في نشوة جعلت الدنيا من حولي أطيافًا وترنيمات. وجاء الترام فركبنا معًا، وكانت أول مرة يجمعنا مكانٌ واحد؛ فسرى من ملمسه إلى جسدي مثل الكهرباء، ووددت لو ينطلق بنا بغير توقف .. وإلى الأبد. وحين غادرت الترام عبرت الطريق متعجلًا إلى الطوار وأرسلت بناظريَّ إلى مقصورة السيدات فوقعتا على ظهرها وهي جالسة عاكفة على كتاب بين يدَيها. ولما تحرك الترام التفتت فجأة إلى الوراء فوقع بصرها عليَّ، ثم ولَّتني ظهرها ثانيةً. انتفضت من الرأس إلى القدم، وتسمَّرت قدماي في الأرض، وعلقت عيناي بالترام حتى لم أعد أتبين من معالمه شيئًا، ثم واصلت السير غائبًا عما حولي، سكران بالنظرة التي جادت بها السماء، وتساءلت في ذهول ودهشة: لماذا التفتت؟ أي داعٍ دعاها إلى ذلك؟ بل أي داعٍ يمكن أن يكون هذا إذا لم يكن تلبيةً لنداء روحي الخفي؟ إن الراديو يلتقط الصوت من تضاعيف الهواء على بعد الشقة، فما وجه الاستحالة في أن تلبي الروح نداء روحٍ أخرى مشحونة بالهيام والرغبة؟! وازدهاني ذاك الخاطر وآمنت في سعادة لا توصف بأن لروحي تأثيرًا على روحها. ولكن رحمتك اللهم، فلشد ما ارتجفت تحت وقع النظرة الخاطفة! ترى هل أنكرت وجهي أم ذكرت به الفتى الذي تطلع إليها لحظةً على المحطة منذ ثلاثة أشهر؟! وكنت قد اقتربت من الوزارة فعاودتني اليقظة رويدًا، وقلت لنفسي وكأني أودع ساعة النشوة المولية: «إني أحبها، وهذا هو الحب بلا زيادة ولا نقصان.»
وخرجت من دنيا الهيام لأدخل دنيا الحكومة، وقدمت نفسي للمدير فقدمني بدوره إلى زملائي في الإدارة وكانوا تسعةً. هؤلاء قلة بالقياس إلى الطلبة، وإنهم لرجال حقًّا، فلا يمكن أن أتوقع منهم زرايةً أو سخريةً، ورجوت من صميم قلبي أن أبدأ حياةً جديدةً غنية، ولما لم يُعهد إليَّ بعمل ذلك اليوم وجدت فسحةً لمعاودة خواطري السعيدة عن الحرية التي أُمنِّي النفس بها، والتي أرجو بها أن أستنقذ نفسي من سجن البيت وعبودية المدرسة، ثم عن النظرة السعيدة التي انتزعها روحي من الأعماق قوةً واقتدارًا.
•••
وأقبلت على الحياة الجديدة بأملٍ جذاب، وظفرت بأول نوع من الصداقة عرفته في حياتي، وهو ما يسمونه بصداقة «المكاتب» هي صداقةٌ جبرية تفرضها زمالة الموظفين في المكتب الواحد، وقد فرحت بها بادئ الأمر لأنه لم يسعني — أنا الذي لم أعرف في حياتي صديقًا — إلا أن أفرح بين تسعة من الرجال ينادونني بلا كلفة، ويستقبلونني ويودعونني بأطيب تحية. ولكن وا أسفاه قام خجلي حاجزًا منيعًا بيني وبينهم. ثم أثبتت لي التجربة أن تلك صداقة لا تستحق الأسف عليها؛ فهي تبدأ مع الصباح بالتحية والمداعبة، وقد تنقلب عند الظهيرة إلى وقيعةٍ دنيئة تختم بإنذار أو عقاب. والأدهى من ذلك أنني لم أعرف لي عملًا مستقلًّا، ولكن ما من واحد منهم إلا ويكلفني بعملٍ آلي أنفذه صاغرًا. وربما قضوا أكثر النهار في ثرثرة وتدخين وشرب القهوة، وأنا مكبٌّ على الأوراق في شبه سخرة. ولا شك أنهم فطنوا بمكرهم إلى أني «غرٌّ خجول»، فاستغلوا ضعفي أسوأ استغلال. وضاق صدري، وخبا سروري بالحياة الجديدة في الشهر الأول منها، وأيقنت أني المستجير من الرمضاء بالنار! زاد من سوء حالي أن الشرود لم ينقطع عني أثناء عملي فوقعت مرارًا وتكرارًا في أخطاء السهو، وتوالت عليَّ الانتقادات الساخرة والإنذارات ممن يدعونهم ﺑ «رؤساء اليد»، فكأنني رُددت إلى المدرسة بتلاميذها ومدرسيها؛ فعاودتني مرارة حياتي الماضية، وصحَّ عندي أني لن أظفر براحةٍ حقيقية ما دمت على صلة بأحد من الناس! واجتررت آلامي في خفاء. ولم أكن أثور على شيء قط مما يشقيني، وكان ديدني دائمًا أن أطيع بقلبٍ دامٍ كظيم، وسخطٍ مكتوم. وزاد البلاء حدةً أنني لم أجد لحياتي متحولًا، ولا أملًا في الخلاص ولو بعد حين. وقد كنت أتجلد في المدرسة أحيانًا على أمل أنها ستنتهي يومًا فأصير رجلًا حرًّا مسئولًا، أما الآن فلم أرَ أمامي إلا مستقبلًا متجهِّمًا مريرًا لا نجاة منه إلا الموت. أجل أدركت أني لن أظفر بالراحة مدى الحياة، وأنه لن تزايلني الرغبة الخفية في الهرب؛ ولكن إلى أين هذه المرة؟ ولم يكن سر بلوتي في عجزي حيال العقبات فحسب، ولكن في تضخيمها وتكبيرها، فإني نصبت من عقلي حرب أعصاب هائلةً ضد نفسي .. لم أرُض نفسي على الحياة في الواقع، ولم أوطِّنها على احتماله، فلم أدرِ ما فلسفة الرضا أو الاستهانة، كما أني لم أقدر على فلسفة القوة أو الثورة، وكان إذا صادفني أمر لا يُحتمل — والدنيا كلها عندي لا تحتمل — راح خيالي السقيم يصنع من الحبة قبةً، ولاقيت الهم بما يشبه الصبر في الظاهر على حين أنطوي على نفسي في كمدٍ قاتل وغمٍّ فتاك. لذلك لم يخلُ مكان أحل فيه من عدوٍّ حقيقي أو وهمي. كان التلاميذ والمدرسون أعدائي القدماء، فغدا الموظفون أعدائي الجدد.
•••
ولكن كنت أنتِ العزاء والسرور! الحياة صحراء قاحلةٌ مهلكة، وأنت بها وحدك الواحة الخضراء الرطيبة تلوذ بها النفس. ووالله ما حمدت للوظيفة من شيء إلا أن نقلني طريقها إلى محطتك، فعندها أنتظر كل صباح مطلعك حتى إذا رأيتك مقبلةً في خفة الغزال ووقار الطاووس تراجعت إلى طرفها البعيد فيما يشبه الذعر، ودعوت الله أن يخفف عني شدة الخفقان، ثم أسترق إليك اللحظ متحاميًا أن تلتقي العين بالعين، فالتقاؤهما جلل لا يصمد له إلا الأكفاء. وإذا جاء الترام ركبنا معًا ولا تدرين سروري به إذ يحملنا معًا، ثم أغادره فيسير بكِ إلى هدفه المجهول مزودةً بدعائي أن يصونك المولى ويسعدك، وتبقى لي بعد ذلك صورتك عالقةً بخيالي تذر عليَّ الأنس في وحشة سجني الجديد. ولكن إلام أظل على تلك الحال؟ لقد صفق الجزع بقلبي، وأمضَّني الانتظار.
وزاد من الْتياعي أنني جعلت أراها في الأصائل كما أراها في الأبكار؛ لأنني كنت أغادر البيت عصرًا كما يحلو لكثير من الموظفين في غير معارضة من أمي التي لم يعد بوسعها أن تعارض في ذلك، وكنت أهرع إلى محطتي القديمة تلقاء بيتها، فأقف بين المنتظرين مستطلعًا مشرق روحي بطرفٍ مشوق، فأحيانًا أرى الأم أو الأب أو الأخ أو الأخت، وأحيانًا أراها في فستانٍ بسيطٍ أنيق من فساتين البيت يزلزل نفسي زلزالًا شديدًا.
لم أعد أرى لحياتي أملًا إلا في الرفيق الأنيس، فهِمْتُ بها هيامًا، واستأسرتني رغبةٌ صادقة حارة في السعادة التي لم يكن لها من معنًى في نفسي، إلا أن أفنى فيها وأن تفنى فيَّ. بيد أنني لم أتجاهل العقبات، وهل كان دأبي إلا تكبير العقبات؟! فلم أنسَ أنني في أول الطريق وأن مرتبي سبعة جنيهات ونصف. ثم لاحظت بمزيد القلق أن ثمة رجلَين يقفان معنا في المحطة صباحًا لا يفتآن ينعمان النظر في وجه الفتاة باهتمام. أما أحدهما فرأيته يخرج مرات من العمارة التي تقيم فيها، وهو رجل في نحو الأربعين تلوح في وجهه آي الرزانة والوقار، ويتسم بطابع الموظفين الممتازين. وأما الآخر فشاب في الثلاثين، ميال للضخامة والبدانة مع أناقة ووجاهة، إلا أن إيماءاته ونظراته تنمُّ عن العجب والزهو. وعجبت لتطلعهما المتواصل إليها، وما من داعٍ إلى العجب، ولكني ظننتني — ويا له من ظنٍّ مضحك — أول من تهيأ له كشف ذلك الكنز. وثار بي الغضب والحنق، وتلوَّت دودة الغيرة في سويداء قلبي. إنها لا تحيد عن نظرتها المستقيمة، ولكن ترى هل تجهلهما حقًّا كما تجهلني؟ خصوصًا هذا الجار الذي يقطن تحتها أو فوقها؟ وتقبَّض قلبي فزعًا ويأسًا ورمقتها بغيظ كأنها المسئولة عن اهتمام الناس بها؟
واطردت حياتي بين عملٍ ممقوت وحبٍّ حائرٍ غريب …
وكان بيتنا في ذلك الحين يعدُّ من البيوت السعيدة؛ اطمأنت قلوب أهله، فسكن خاطر الشيخ الهرم، وقنعت أمي بما قسم لي ولها. بيد أن جدي قال لي يومًا بلهجةٍ ساخرة: ألا اخجل يا رجل وابتع لك فراشًا! أتظل الدهر تنام في حضن أمك؟!
وابتعت بالفعل فراشًا؛ ولكني ركَّبته في نفس الحجرة فظلت تحوينا معًا، وهي الحجرة التي رأيت فيها نور الدنيا.
١٩
ثم كان صباحٌ تاريخي في حياتي إذ وقع بصرها عليَّ، والتقت عينانا وهي قادمة نحو المحطة، وارتعشت جوارحي وتساءلت وأنا أعاني الحياء: ترى ألم تذكر الفتى الذي رأته يوم لبَّت نداء روحي؟! وأسكرتني نشوة لم يخمدها مجيء الرجلين المنافسين نفسه. وحملنا الترام جميعًا حتى محطة الوزارة فغادرته، وهرعت إلى الطوار ثم بعثت بناظريَّ إلى مقصورة السيدات، وكانت تجلس في الصف الآخر ووجهها إلى ناحيتي، فالتقت عينانا مرةً أخرى، وغضضت بصري في حياء وصدري بالسعادة يبترد، ثم غمغمت لنفسي وأنا أجدُّ في السير «برح الخفاء وافتضحت!»، وقد تذكرت سعادتي عصرًا وأنا جالس في حجرتي غير بعيد عن أمي، فقلت لنفسي وأنا أختلس منها نظرةً غريبةً: «آه لو تدري بأفكاري!» ألم تعلمني تجاربي الماضية أن مثل سعادتي هذه مما تعده هي — أمي — كفرًا لا يغتفر؟! هذه حقيقة لم تغب عن خاطري قط، ومع ذلك بدت لي وقتذاك غريبةً مستنكرةً كأنما أكتشفها لأول مرة، وسددت نحو الوجه الوقور الجميل نظرة احتجاج واستياء، وقلت لنفسي متغيظًا: «ربما كان الضرر يقع بي أخف لديها من كشف حبي!» ولعلي بالغت كثيرًا، ولكن سيرتها الماضية جعلتني لا أرنو إلى الجانب البهيج من الحياة إلا في خوف وحياء شديدين من ناحيتها! وكأنما ضقت بكتماني سعادتي في حضرتها، فغادرت البيت مسرورًا وهرعت كالمعتاد إلى المحطة القديمة، وسبقني بصري فوقع على الشقيقتَين وراء زجاج النافذة، فتقدمت في سعادة غامرة، أمشي على استحياء .. واندسست في زحمة الواقفين وقلبي يتمنى ألا أبرح المحطة حتى يسدل الليل سدوله. وكان الجو شديد البرودة، فداخلني سرور بأني أتحمل قسوة الجو في سبيل نظرة من عينَيها. ولم أشك في أن طول قامتي ومعطفي الأسود خليقان بأن يذكراها بي. ورفعت عينيَّ في خوفٍ شديد فرأيتها تنظر صوبي، وإن لم أتمكن لبُعد المسافة من تحديد تحديقة عينيها، ومع ذلك سرت إلى أطرافي رعدة السرور. وجاء الترام على رغمي، ودفعني الخجل دفعًا إلى ركوبه.
لم يعد لحياتي من غاية إلا المحطة وصاحبة المحطة. قصاراي أن أسترق النظر بعينَين خجولتَين، وأن أخفضهما سريعًا إذا رنت إليَّ العينان اللتان أحبهما أكثر من الحياة نفسها. ولم تعد فتاتي تجهلني كما جهلتني أشهرًا أربعة، فأحسَّت بلا شك أن فتًى يتطلع إليها حيثما تحل، وأنه يتعمد ذلك في صبرٍ طويل وإن كان لا يبدي حراكًا. بل ابتسم الحظ فجعلت أفوز بنظرة كل يوم تقريبًا. وإن بدا أن الاتفاق وحده هو باعثها، نظرةٌ عابرة تلقى على المكان كله فتصادفني في جانب منه! وفيما عدا ذلك فقد حافظت على وقارها واحتشامها. أجل ما عادت تجهلني مهما تجاهلتني، وإنه لظفرٌ رائع — بالقياس إلى عجزي — أن تحسَّ وجودي بعد ذلك النضال الصامت الطويل. وثابرت على النظر والصبر وكأنني أنتظر أن تجيء الخطوة التالية من ناحيتها هي، أو من رب السماوات والأرض!
تلك أيامٌ حلوةٌ سعيدة على خلوها من الأمل، أنفقتها في إحساسٍ عميق بهيج وأحلام لا يحيط بها الخيال، رفت على قلبي في طهر وقداسة. وقد أوصدت دونها باب خلوتي الليلية، ولذتي الشيطانية.
•••
وتبين لي بعد حين أن سري المكنون يتسرب من أعماق صدري على تكتمي وحرصي. لا أدري كيف حدث ذلك، ولعل الأمر لم يعد أنني أنسى نفسي في لحظات الهيام، فتقع العين مني على ما أحرص على كتمانه. وما أدري يومًا إلا والرجلان «المنافسان» يرمقانني بريبة، وكأنهما فطنا إلى ظهور منافسٍ جديد. ويومًا مرت بي في موقفي من المحطة خادمة الفتاة فألقت عليَّ نظرةً ذات معنى ذاب لها قلبي ذوبانًا، وساءلت نفسي في خوف وسرور: ترى هل بلغ سري البيت نفسه؟! ثم غمغمت في حياءٍ بالغ: «افتضحت وما كان قد كان!»
ومرة رأيت الأخت الصغيرة في النافذة وأنا مقبل نحو المحطة عصرًا، ولما لمحتني التفتت إلى الوراء كأنها تخاطب شخصًا لا أراه، ثم بدت الأم وراء زجاج النافذة وألقت عليَّ نظرةً متفحصة. رباه! لقد داخلني شعور الجاني إذا ضبط متلبسًا بجريمته. ولم يبقَ ثمة شك في أن البيت يعرفني، وازددت يقينًا فيما تلا ذلك من أيام! فما كان يقع عليَّ بصر أحدهم حتى يتفحصني باهتمام إلا مولاتي طبعًا! وازددت اضطرابًا.
ورحت أسائل نفسي الحيرى عما يقولون، وعما يظنون، لي منظرٌ حسنٌ خداع، ولعلهم يظنونني موظفًا مغبوطًا ذا مستقبلٍ باهر! أواه، ما كنت موظفًا كبيرًا إلا في تقدير أمي، ولعلي ندمت عند ذاك على قطع حياتي الجامعية، وعزيت نفسي المحزونة بأني سأرث يومًا ثروةً لا بأس بها! مهما يكن من أمر فلا داعي للخوف من البيت؛ بل إني لأشعر بأنه سعادتي المرموقة. وإني لأحبه من مجامع قلبي؛ أناسه وأثاثه وحجراته وحتى خادمته. إني أعيش فيه بروحي، وأجاذب أهله — في الخيال — أشهى الأحاديث، أما حبيبتي فهي ملء القلب والعقل والخيال. وكنت إذا رأيت الغسيل منشورًا على الشرفة تهفو به نسائم الأصائل أرنو إليه بعين محبٍّ حنون، وبصري يتنقل بين ألوانه وأشكاله مشغوفًا بأهدابٍ رقاق يطرب لها قلبي طربًا قدسيًّا كأنما يشنف آذاني سجع ألحانٍ إلهية! ولكم خاطبت حجرة حبيبتي موصيًا إياها بها في اليقظة والمنام، وعندما تحلق بها الأحلام، أو حين تتحدث بنبراتها التي لم أسعد بسماعها.
ويومًا دفعني الهوى إلى البقاء في الترام حتى أوصل حبيبتي إلى مدرستها، واضطربتُ خوفًا وقلقًا من جراء المخاطرة التي نشبت فيها، وبلغ الترام العتبة الخضراء وعيناي لا تفارقان مقصورة السيدات لأرى أين تنزل حبيبتي. ودار الترام بنا مخترقًا شوارع كنت أراها لأول مرة حتى عبر جسر أبي العلاء. وفي المحطة التالية له غادرت الفتاة الترام، وهبطت إلى الطوار وأنا أتبعها عينيَّ، فرأيتها تتجه إلى الطوار الأيمن بطولها الفارع وقدِّها الرشيق، ثم انعطفت إلى طريق جانبي يمتد بحذاء القصور المقامة على النيل، وسنحت منها التفاتة وهي تنعطف إلى الوراء، فوقع بصرها عليَّ وأنا واقف أنظر صوبها. ارتجفت أوصالي كأنما مسني تيارٌ كهربائي، وتصاعد دم الخجل إلى وجهي. وسرعان ما غابت عن ناظريَّ فتقدمت خطوات حتى أمكنني رؤية الطريق فرأيتها تبتعد بخطواتها الرشيقة، ثم مرقت من باب جانبي غير بعيد، ولبثت مترددًا، وفكرت في العودة إلى الوزارة التي تأخرت عن ميعادها بغير اعتذار، ولكن أبت نفسي أن تنتهي المخاطرة بلا نتيجة. وتقدمت نحو المدرسة بقلبٍ هياب، ثم مررت بها متعجلًا، ولكني قرأت اللافتة «معهد التربية العالي للبنات»، ورجعت إلى المحطة وركبت الترام العائد وأنا أتساءل عن معنى ما قرأت. وعلمت ما فاتني علمه في إدارة المخازن، فأخبرني موظف أنه معهد لتخريج المعلمات لمدارس البنات الابتدائية، وأنهن يدخلنه بعد البكالوريا. وداخلني زهو لأن حبيبتي ستصير أستاذة، ولكن لم يغب عني الفارق الكبير بيننا في الثقافة، فلعنت نفسي الخائرة التي حملتني على الفرار من الجامعة! وساروني خوف وكآبة. ثم لجأت إلى المجلة مشيري القديم فأرسلت إليها هذا السؤال: هل يمكن أن تحب فتاةٌ مثقفة ثقافةً عاليةً شابًّا من حملة البكالوريا؟ فذكرت المجلة في جوابها الأميرة التي أحبت الراعي!
وحلمت تلك الليلة بحبيبتي، فكانت أول زورة في المنام …
٢٠
تركزت أحلامي في أمرين، أن أتمتع بدخلٍ حسن — وهو آتٍ يومًا ما — وأن أظفر بعروسي. لم أكن ممن يشقيهم الطموح، وإذا كان لي منه شيء فيما مضى من أيام الأحلام، فقد قبر في إدارة المخازن بوزارة الحربية حيث تعدُّ علاوة نصف جنيه من الآمال البعيدة. أجل لم تثب بي الهمة في الطموح، ولكن هفت نفسي إلى السعادة والطمأنينة، إلى المعيشة الطيبة والزوجة المحبة الصالحة. ولم يجدَّ جديد في حياتي إلا مواظبتي على الصلاة بعد أن كنت أنقطع عنها في فتراتٍ متباعدة. ولعل هيمان صدري بالحب هو الذي هيأ لي ذلك الاتصال الطاهر بالله خمس مرات في اليوم، على أن نفسي لم تتخفف من ألمها القديم، وزادتها الصلاة ألمًا، لما يفرط مني في ساعات اللذة الجنونية التي اختلسها بليل، فلم يعد يسعني الكف عنها، بل زدت استسلامًا لها، دون أن يرحمني الندم يومًا واحدًا، وليس أشقى من أن يقرعك الندم وأنت ذو إيمان. وما من شك في أن ذلك الصراع المتواصل هو الذي جذبني إلى إنعام النظر في نفسي وحياتي، فهالني أول الأمر ما تسير عليه حياتي من منوالٍ رتيب، فاليوم فيها بعام والعام بيوم، ألم ينقضِ عليَّ عام منذ توظفي بالحربية دون أن يجد جديد؟! عمر يمضي في ضيق بالعمل المقضيِّ به علي، وفي وحشة لا تتبدد إلا ساعتين؛ ساعة المحطة، وساعة الأنس بأمي في بيتنا. وحتى تلك الأويقات السعيدة لم تخلُ من تنغيص وألم، فعند حبيبتي كان يطاردني طيف أمي، وعند أمي كان يخيفني طيف حبيبتي. وتولد من ذلك قلقٌ محير امتزج في نفسي بما يئنُّ بها من ندم، فشملني بكآبة لا تريم. وإني إذا رجعت بالذاكرة إلى تلك الأيام أنحيت باللائمة على نفسي، لا لأني لم أجد سببًا وجيهًا لتعاستي، ولكن لسوء صنيعي المعتاد في تضخيم الأحزان والآلام، ولأني لم أواجه أمرًا في حياتي بما يستوجبه من حزم وشجاعة. ولذلك لم تدر أمي علةً لسهومي الذي كان يقلقها، ولطالما قالت لي بحزن وأسف: لماذا تبدو أحيانًا كالحزين؟ لعمري ماذا ينقصك؟ أردت أن تكون موظفًا فكنت، ومتعك الله بعطف جدك الذي يهيئ لنا عيشًا رغيدًا، وفي خدمتك أم لو استوهبتها حياتها لوهبتك إياها عن طيب خاطر، وبين يديك الشباب والصحة، أدامهما الله لك، فماذا ينقصك؟
وعجبت كيف تتساءل عما ينقصني! .. أجل إنها عدت لي نعمًا سابغةً، بيد أنني أجهل فضل تلك النعم، وكانت لي بمثابة الهواء الذي ننعم به في كل لحظة من لحظات حياتنا دون أن يخطر لنا أن نشكر عليه. ولكني لا أنفكُّ عن التفكير فيما ينقصني فيعميني ما أتطلع إليه عما أنعم به. إني شخص لم يقدر له أن يعرف شيئًا عن حكمة الحياة، فلم يخرج قط عن دائرة نفسه الضيقة، وفي ذلك سر دائي، هو الذي حال بيني وبين مسرات الحياة، وما فيها من فضائل ومعانٍ وصداقات، وطوي صدري على النفور من الناس والخوف منهم، بل جعلني أعد الدنيا عدوًّا يتربص بي. ولعله لم يكن يرضيني إلا أن تخلي الدنيا نفسها من همومها لتكرس حياتها لسعادتي، ولما لم يسعها ذلك قاطعتها في عجز وخوف وناصبتها العداء، وانكمشت في أعماق ذاتي جاهلًا ما يمتلئ صدرها من أناس وآمال وفضائل، وحتى الحب وهو أول إحساسٍ سامٍ أُلهَمه وقفت حياله جامدًا خائفًا، أنتظر في يأس أن يبادر هو إليَّ!
ثم جاء دور أمي ولو متأخرًا، فأخذت أتمرد عليها، وإن لبث تمردي نارًا مكنونةً لا يتطاير لها شرر. ونشأ ذلك من موقفها الغريب حيال ما يذكرها بزواجي عاجلًا أو آجلًا. وقد لمستُ ذلك بنفسي حين حدثتها خالتي — في إحدى زياراتها الرسمية — عن رغبتها في زواجي من ابنتها التي صارت شابةً ناضجة، فرأيت كيف تلقَّت الاقتراح بنرفزةٍ ظاهرة لم تستطع معها أن تحافظ على ما ينبغي المحافظة عليه فيما بين شقيقتَين من مودة أو مجاملة؛ فغادرتنا خالتي مغضبة.
ولمسته مرةً أخرى حين اقترحتْ عليها امرأةٌ دلالة — كانت تزورنا في مواسم الكساء — أن تخطب لي عروسًا لائقة، فرأيت كيف انفجرت فيها غاضبةً ساخطة حتى انعقد لسان المرأة دهشةً وارتباكًا.
لاحظت ذلك بوجوم وغيظ، واستنكرته استنكارًا شديدًا، ولم أجد له تفسيرًا أرتاح إليه. ولم تكن بي رغبة إلى ابنة خالتي، ولا إلى عروس من عرائس الدلالة؛ ولكني آنست منها كرهًا لزواجي، فأشفقت على آمالي، وثارت ثائرتي، وبدا لي أن قلبها توجس خيفةً فقالت لي يومًا: إنهن لا يرُمن سعادتك؛ ولكنهن يردنك مطيةً لسعادة بناتهن! لم أفهم لقولها معنًى، وقرأت في عينيها أنها ترجو أن أفصح عن عدم اكتراثي للأمر، ولكنني تشجعت ولازمت الصمت، فقالت بلهجة تشي بالقلق: الزواج سنة، ولا يجوز أن يتزوج الشخص قبل أن تكتمل رجولته.
فتساءلت في امتعاض: إذا لم تكتمل رجولتي في السادسة والعشرين، فمتى تكتمل إذن؟! ووددت لو أصرح بأفكاري؛ ولكن شجاعتي لم تسعفني فواصلت الصمت. وتفرست في وجهي مليًّا ثم استطردت قائلة بجزع: إني أريد لك عروسًا جديرةً بك حقًّا .. يبهر حسنها الأعين، وتطري أخلاقها الألسن، من أسرةٍ كريمة ذات محتد، فتهيئ لك قصرًا شامخًا!
فسألتها وأنا أداري غيظي: وأين توجد مثل هذه العروس؟!
فقالت وهي تعضُّ شفتيها: ستوجد حين يأذن الله.
وقلت لنفسي: هذا تعجيز بلا ريب. واحتدم الغيظ بصدري وتراءى لي وجهها في حالة الغضب والثورة، فقلت لنفسي ساخطًا: إن أمي إذا احتدت توارى جمالها ونضبت سماحة وجهها.
٢١
الزواج! الزواج! لم يعد لي فكرة سواه، ولم أجد لحياتي معنًى إلا أن تتم به. إذا لم نتزوج فلماذا إذن نحيا؟ بل لماذا وُجدنا في الحياة؟ إني أحن إليه حنينًا موجعًا تندى له الضلوع فتسحَّ أشواقًا؛ إنه جنة المبتلى بنار الجحيم. ولست أكفُّ لحظةً عن تخيله في أحلام اليقظة الشاردة التي تغيب بي عن الوجود. إني أراني لصق حبيبتي وعلى وجهها الأنيق نقاب الحرير المطرز بالفل، بالشمع يزهر من حولنا، وأراني أمضي بها إلى مسكن في آخر القاهرة، ولا أدري لماذا أحب أن يكون في آخر القاهرة؟! ثم أراها تنتظرني بالشرفة فأهرع نحوها وقد انطلقت من قفص إدارة المخازن فتجود لي سعادةٌ هفهافة يعجزني تصورها حتى في الأحلام. بيد أني لم أتملَّ الأحلام صافيةً فطالما أعقبت نشوة الفرح الوهمي كآبةٌ غامضة لا أدريها، ولم يخلُ خاطري قط من وجه أمي المحبوب، فكان ينتابني حياءٌ شديد يتصبب له جبيني عرقًا، ويخامرني شعور بالذنب تعافه النفس، فيتلوَّى بوزي اشمئزازًا!
وفضلًا عن هذا كله فإنني لم أتخلص من بعض هوى للعزوبة نفسها! إن حب الوحدة داء، إنه أشبه بالمخدر تود منه فرارًا ولا تستطيع عنه فكاكًا، وتبغضه لنفسك وأنت تعاني الحنين إليه. أتؤاتيني الجرأة حقًّا على نبذ ماضيَّ الطويل؟ .. إن نفسي تهفو إلى البيت الزوجي السعيد حينًا، ثم يتملكها الإشفاق على الوحدة الهادئة والطمأنينة المعفاة من المسئوليات حينًا آخر. وإن الهرب من المسئوليات داءٌ قديم حتى لأضيق بحلاقة الذقن أو عقد رباط الرقبة، فكيف أنبري لحمل تبعات البيت والزوجة والذرية، وما يجر ذلك من حياةٍ اجتماعيةٍ متعبة بما تفرضه من واجبات وتقاليد؟! إني أتخيل تلك الواجبات فتبرد أطرافي، ولكني في الوقت نفسه لا أكفُّ دقيقةً عن الحنين إلى الحياة الزوجية.
بتُّ أشعر بأني فريسة همَّين قاتلَين؛ ترددي وأمي. ومن يدري فلعل أمي هي الهم كله. وتجمعت نفسي الحيرى تروم سلامًا تلوذ به، فأجمعت على أن أقابل الخطر وجهًا لوجه وليكن ما يكون!
وإني لجالس إلى أمي ليلةً إذ قلت لها بلا سابق إنذار: ألاحظ يا أماه أنك لا ترغبين في زواجي.
فاتسعت عيناها الخضراوان الجميلتان دهشةً، وقلقت فيهما نظرةٌ حائرة، ثم قالت بصوت متغير: إني أرغب في سعادتك دائمًا، وهذا شغلي الشاغل، وإذا كنت لم أوافق على ما عرض لي من هذا الأمر في الماضي، فلأني وجدته دون ما أرجوه لك، ولا شك أنك تدرك هذا تمام الإدراك؛ ولكن …
وترددت لحظةً ثم استطردت متسائلةً: ولكن … لماذا تلقي عليَّ هذا السؤال؟
وحولت عنها بصري كأنني خفت أن تقرأ ما في ضميري، وقلت بعدم اكتراث: سؤال لا أكثر .. أحب دائمًا أن أعرف ما يجول بخاطرك.
فتهدج صوتها وهي تقول: ليس بخاطري إلا فوق ما تحب لنفسك من السعادة والهناء .. ولكن ليس الزواج لهوًا ولعبًا، وإليك مأساة أمك، فهي أكبر دليل على ما أقول. واذكر دائمًا أن اختيار الزوجة مهمةٌ شاقة، وهي من شأن الأم قبل أي إنسانٍ آخر؛ لأن هذا ميدان تجاربها، وهي تعرف ابنها أكثر مما يعرف نفسه، وتستهدف سعادته قبل سعادتها هي، كذلك السن أمرٌ عظيم الخطورة، وأنت بعدُ في حكم الأطفال .. لماذا تلقي عليَّ هذا السؤال (وهنا ازداد صوتها تهدجًا) .. إليك مأساة أمك فهي لا ينبغي أن تغيب عن وعيك .. كم تعذبت، وكم تألمت، وكم كابدت الإهانة تلو الإهانة! كم بكيت حنينًا إلى أطفالي الذين عاشوا غرباء عني ونحن في مدينةٍ واحدة! وحتى أنت كان شبح فراقك يطاردني ويقضُّ مضجعي، ولو أخذوك مني لقضيت غمًّا وكمدًا. وكم تمنيت الموت صادقةً لأرتاح من وساوس حياتي المقلقة، (خيل إلي أنها تعني حياتها الراهنة بقولها الأخير.) ولذلك كرست حياتي لرعايتك، وضحيت بسعادتي في سبيلك، و… (ترددت لحظة ولعلها همت بتذكيري بالرجل الذي رفضته من أجلي ثم عدلت.) ولا تحسب أني أمنُّ عليك، فالأمومة تستنكر المنَّ .. ليته كان للبنوة بعض ما للأمومة من عطف! لشد ما تنسى .. رباه لا تؤاخذني، أنا لا أدري ماذا أقول، ولكن لا تظن بأمك الظنون .. إننا نعطي كل شيء عن طيب خاطر، حتى إذا شب المولود عن الطوق لم يفكر إلا في أن يولينا ظهره ويجد لنفسه مهربًا. أقول مرةً أخرى: لا تؤاخذني. لست أحسن ضبط نفسي وا أسفاه، ولكن لقد عشنا معًا طوال هذا العمر، وليس لي أمل في هذه الدنيا سواك، فإذا نبذتني لم أجد لي مأوًى. أنتم حياتنا في صغرنا وكبرنا على السواء، أما نحن فتحبوننا صغارًا وتكرهوننا كبارًا، أو أنكم تحبوننا حين لا تجدون من تحبونه غيرنا، ماذا قلت؟.. أستغفر الله! سامحني يا كامل، إني مضطربة، لست أحسن الحديث على الإطلاق!
وعجبت كيف انحدر بها الحديث ذاك المنحدر الصعب. بدأ الكلام مقبولًا ثم تشنج، وحاولت أن أحول دون استرسالها فلم تُجدِ محاولتي؛ فاضطررت أن أتجرعه على ما أثار من ألم وحزن، وتبادلنا نظرةً طويلةً، دلت على العتاب من ناحيتي، وعلى الذهول من ناحيتها. لم تكن في كامل وعيها وا أسفاه! وقلت بأسًى: أهذا جزاء من يسأل سؤالًا بريئًا؟!
فاغرورقت عيناها، وقالت وهي خافضة العينَين: أنا لا أحسن الحديث أحيانًا، ويحسن بي أن أمسك. لا تخش جانبي، وإذا راق لك يومًا أن أغيب عن وجهك فما عليك إلا أن تومئ إليَّ ولن تجد لي أثرًا!
ووضعت يدي على فمها وصحت بها: سامحك الله، حسبنا كلامًا! لقد أخطأت بسؤالي البريء خطأً كبيرًا!
ثم تظاهرت بعدم الاكتراث، بل ضحكت طويلًا، وكأن ما كان لم يكن، وراح قلبي وحده يجترُّ آلامه. أثر َّ كلامها حتى هزني هزًّا عنيفًا فحزنت حزنًا لم أشعر بمثله من قبلُ، وعجبت كيف يغلبها الانفعال على نفسها فتلقي في وجهي بتلك الاتهامات الجارحة. ولم أخلُ من سخط عليها لا لأنها اتهمتني بالباطل — فذاك نثار غضبٍ وقتي لا قيمة له — ولكن لأنها قابلت رغباتي الكامنة بثورة تجاوزت حدود الحكمة! وتماديت في سخطي فقلت إنها ذكرت نفسها أكثر مما ينبغي ونسيتني أكثر مما ينبغي .. واستسلمت كالعهد بي لداعي أنانيتي فرميتها بالأنانية.
وعقب حديثنا الغريب بيومين أصابتها وعكة مرض ألزمتها الفراش، فلم أفارقها أثناء مرضها إلا في أوقات العمل. ومع أن الحالة كانت خفيفة إلا أن وجهها بدا شديد الذبول والهزال لنحولها الطبيعي، فتوجع قلبي توجعًا أليمًا، ولم أطق أن أراها محرومةً من جمالها وصحتها، فأحزنني منظرها وساءني إهمالها نفسها. وكانت تعصب رأسها بمنديل، فبرزت تحت طرفه خصلات من شعرها وخطها المشيب وشعثها الإهمال، فضقت صدرًا وتجهُّم لي وجه الدنيا. ويومًا — وكنت جالسًا إلى جانبها — جرت في تيار شعوري خواطر غريبة لعل باعثها الخوف والإشفاق، فطرحت على نفسي هذا السؤال الخطير: كيف تكون الحياة لو خلت من هذه الأم الحنون؟ واقشعرَّ بدني، بيد أن خيالي لم يمسك عن هذيانه، فتتابعت المناظر أمام عينيَّ واستسلمت لمشاهدها في حزنٍ صامتٍ ثقيل. رأيت بيتًا مقفرًا، ورأيتني تائهًا حائرًا كمن ضلَّ سبيله في مفازة، وهذا جدي متبرمًا ساخطًا يصب جام غضبه على الخادم العجوز والطاهي. ولمست عجزي عن مواصلة هذه الحياة الموحشة، فاقترحت على جدي أن أتزوج لنجد من يكلؤنا برعايته. ثم رأيت حبيبتي بقامتها الرشيقة ووقارها المحبوب تتعهد البيت وآله بعطفٍ سابغ وحبٍّ شامل، ثم رأيتنا جميعًا — أنا وزوجي وجدي — واقفين على قبرٍ عزيز نرويه بدموعنا. وانتبهت إلى نفسي في فزع فأحسست بالدمع حائرًا بين جفني، وعضًّ الندم قلبي، وامتلأت نفسي امتعاضًا وثورةً، وغمغمت لنفسي «اللهم غفرانك، اللهم اكتب لها طول العمر!» ثم هويت على وجهها فقبلته بحنان، وقد طاردتني ذكرى تلك الخيالات كثيرًا حتى تركت فيَّ آثارًا عميقةً من الألم والحنق، ولازمني همٌّ مقيم حتى بعد أن برئت وعاودها نشاطها وجمالها. وكدت أعود إلى ذلك التفكير السقيم في الحياة الذي يقف عند طرفيها — الميلاد والموت — ويرى ما عدا ذلك هباءً في هباء، وهو ذلك التفكير الذي تأدى بي فيما مضى إلى محاولة الانتحار لولا أن الله سلم.
٢٢
جاء الصيف، ومعناه — بمقياس القلب — أن حبيبتي ستنقطع عن الذهاب إلى المعهد؛ فلا تتاح لي رؤيتها إلا في الشرفة أو النافذة. إنها تعرفني الآن حق المعرفة كما يعرفني البيت جميعًا … ذلك الفتى الذي يتطلع إليها دوامًا، ويرنو صوبها بعينين يتجلى فيهما الإعجاب والحب، ويثابر على ذلك في صبر عجيب زهاء عام دون أن يبدي حراكًا. والأعجب من هذا كله أنني كنت أضبط عينَيها في لفتاتٍ عارضة وهما ترنوان إليَّ فأُجنُّ جنونًا. وإني أكاد أسمعها تتساءل عما أريد، بل أسمعهم جميعًا يتساءلون، وهذا يسعدني ويشقيني معًا، والحق أني أحبكِ يا حبيبتي، أحبك بكل قوة نفسي، فإذا سألت بعدُ لماذا لا أبدي حراكًا؟ أجبتك بأنني لم أدرِ كيف أبدي حراكًا في حياتي، وورائي أم، وحظٌّ محدود؟ فكيف يمكن تذليل هذه الصعاب؟ .. خبريني يا حبيبتي أطِرْ إليك بغير جناحَين!
وكان يومٌ غريب في حياتي …
وبدأت الصباح بوقفة الهيام وتطلع العشق، ثم ذهبت إلى الوزارة تتنازعني أحاسيس السعادة والشقاء شأني كل صباح، وراح الموظفون يستقبلون اليوم كعادتهم بالثرثرة، فقال أحدهم وكان يليني في مجلسه: سكرتُ أمس حتى تأرجحت بي الكرة الأرضية.
وثار اهتمامي فجأة وحضرني أبي بصورته وذكرياته … ترك فيَّ قوله أثرًا لم يدركه أحد ممن يجلسون حولي، ولا عجب فالخمر كتبت تاريخ أسرتنا وقررت مصائرها، والتفتُّ نحو الموظف وندَّ عني هذا السؤال همسًا بلا وعي تقريبًا: لماذا تشرب حضرتك الخمر؟
ثم أدركت في التوِّ تسرعي وخطئي؛ فعلاني الارتباك والحياء. ولم أكن خاطبت أحدًا في الإدارة منذ التحاقي بالخدمة في غير شئون العمل حتى أطلقوا عليَّ «غاندي» لما عرف عن الزعيم من أنه ينذر يومًا في الأسبوع للصمت. وفرح الرجل بتطفلي عليه وقال بصوتٍ مرتفع وهو يومئ إليَّ: أخيرًا تكلم!
وسأله أحدهم وهم يصوبون أنظارهم نحوي: من؟
– غاندي.
– وماذا قال؟
فقال الرجل ضاحكًا: يسألني لماذا أشرب الخمر؟!
فقال آخر: سكت دهرًا ونطق كفرًا!
وقهقهوا ضاحكين، بينا ذبت في مقعدي صامتًا، وراح أكثرهم يحدثني عن الخمر والنشوة واللذة والنسيان. ندمت على ما بدر مني مما وضعني موضع سخرية ومزاح، وتفكرت في الأمر طويلًا، ثم أفقت إلى نفسي فوجدتها — لدهشتي — تتلهف على تجربة الخمر! ولشد ما عجبت فيما أعقب ذلك من أيام لتلك اللهفة الغريبة بعد ستة وعشرين عامًا، قطعتها فيما يشبه النسك إذا استثنيت اللذة السرية التي جرعتني مرارة الذنب والندم، هل نشبت تلك الرغبة في نفسي فجأة؟ إن ظاهر الأمر يدل على أن ذاك الحديث الذي دار بين الموظفين كان الباعث على تلك اللهفة، ولكن هل يعقل أن يهوي إنسانٌ مستقيم مثلي لعارضٍ تافه كذاك العارض؟! لقد ركبني جنون، فتمنيت أن ينقضي النهار سريعًا لأقرع باب اللذات الموصد، ولأحطم الأغلال التي أذعنت لها طوال عمري، وقلت لنفسي وكأن الذي يتحدث شخصٌ غريب: «سأجرب الليلة الخمر والنساء!» وأراحني التصميم لأنه خير من القلق والتردد، ولأني منيت نفسي بأن أجد وراءه متنفسًا للضغط الشديد الذي يئودني، ولم أعرف التردد — ذلك الرفيق البغيض — طوال يومي، فعند الأصيل كان الترام يحملني إلى العتبة، ووقفت في الميدان حائرًا لا أدري أين توجد الحانات! ثم رأيت عربةً فناديت الحوذي وركبت، ثم قلت له بصوتٍ منخفض في حياءٍ شديد: حانة .. أية حانة من فضلك!
فحدجني الرجل بنظرةٍ غريبة، ثم قال وهو يلهب ظهر الجوادين بسوطه: سأذهب إلى شارع ألفي بك، وهناك تختار الحانة التي تعجبك.
وانطلقت العربة فذكرتني بالحنطور القديم وأيامه الخوالي. وكان بحافظتي عشرون جنيهًا غير «الفكة» لأن مرتبي وإن كان صغيرًا في ذاته إلا أنه كان يترك لي كله، فكفاني وزاد عن كفايتي. ولما شعرت بأن العربة تقترب من الهدف الذي تلهفت عليه اليوم كله، دق قلبي بعنف واعتراني اضطراب شغلني عن رؤية الشوارع التي تخترقها العربة. ووقفت العربة عند رأس طريقٍ طويل يتوسطه صفٌّ طويل من السيارات والعربات، وقال الحوذي وهو يلوح بسوطه: إليك الحانات على الجانبين!
وغادرت العربة بعد أن نقدته الأجرة، فوجدت نفسي حيال حانةٍ صغيرة لا تزيد في الحجم على حجرةٍ كبيرة وقد وقف النُّدل ببابها لأنه لم يكن أَمَّها أحد بعدُ، وانتابني التردد لأول مرة، ففكرت في أن أعود من حيث أتيت. ووقفت متحيرًا، ثم تولاني الشعور الذي ملكني يوم اندفعت إلى سور جسر الملك الصالح لأرمي بنفسي إلى النيل، فانطلقت صوب الحانة ودخلت، وتبين لي أنه يوجد في نهايتها مدخل إلى حديقةٍ صغيرة في حجم المكان الخارجي، في وسطها نافورة، وتظلها عريشة عنب، وفي جنباتها الموائد، فوجدتها آمن للمختلس، وانتقلت إليها وجلست إلى إحدى الموائد بعيدًا عن مدخلها. كنت متوتر الأعصاب، ولكن لم أعد أفكر في الهرب، وجاءني نوبي في سروالٍ أسود وسترةٍ بيضاء فابتسم في أدب ووقف منتظرًا أمري، فقلت بصوتٍ مهموس والدم يتصاعد إلى وجهي: خمرًا!
فلم يبدُ عليه أنه فهم شيئًا، وتساءل في نبرات كرنين النحاس: ويسكي؟ .. كونياك؟ .. جعة؟ .. نبيذ؟
وتولتني حيرة الجاهل، فقلت بارتباك: أريد خمرًا.
فابتسم الرجل ابتسامةً آلمتني وتساءل: أي نوع منها تريد؟ .. ويسكي؟! .. كونياك؟! .. جعة؟! .. نبيذ؟!
فسألته في ارتباكٍ أشد: أيها أفضل؟
– هذا يتعلق برغبتك، ولكن الجو حار فالجعة شرابٌ مفضل.
وخرجت من حيرتي وطلبت جعة، وغاب دقائق ثم عاد بقدح يفور ووضعه أمامي، وقبل أن يبتعد سألته: كم قدحًا من هذه يسكر؟
فنظر صوبي كما نظر الحوذي من قبلُ وقال: تختلف النسبة تبعًا للناس، ولكن إذا كنت مبتدئًا يحسن ألا تجاوز القدح الثالث.
فقبضت على القدح فوجدته باردًا لطيفًا، وأدنيت منه أنفي فشممت رائحةً حمضيةً لم أرتح لها، ولكن فات وقت التردد، وقربت وجهي وأدليت لساني، ولعقت من رغوتها لعقةً في خوف وحذر. واشتد توتر أعصابي فرفعت القدح إلى فمي وأفرغت ما فيه دفعةً واحدةً في تقزز كأنما أتجرع شربةً. وأنعشتني برودته، وشعرت به في بطني يتلوى نافثًا حرارةً غريبةً. وانتظرت ذاك الأثر السحري الذي سمعت عنه الكثير. وفي تلك اللحظة جاءت لمة من الأجانب يرطنون ويتضاحكون وتحلقوا مائدةً كبيرةً، فداخلني شعور بالضيق، بيد أنهم لم يلتفتوا نحوي على الإطلاق؛ فسكن روعي، وعاد شعوري إلى الحرارة الطيبة التي تنتشر في بطني. وحمل الدم المتصاعد إلى الرأس نفحةً من هذه الحرارة إلى المخ، فتمطَّى كما يتمطى المستيقظ لدى تلقيه أول شعاع من الشمس، ونفض عنه القلق والحذر، فأحسست ارتياحًا عامًّا لذيذًا، وانبسطت أسارير وجهي .. وما لبثت أن طلبت قدحًا آخر بشجاعة لم أعهدها في نفسي من قبلُ، وما كاد النوبي يضعه أمامي حتى رفعته إلى فمي وتجرعته على دفعتَين. وانتظرت في ارتياحٍ شامل وإحساس مركز في باطني، وسرى في جسمي سرورٌ عجيب أغمضت له جفني استسلامًا؛ سرور دار مع دمي، ورقص في مخي، باعثًا لذةً هي الجنون نفسه، حتى وجدتني مخلوقًا أثيريًّا طليقًا من متاعب عقله وقلبه وحياته. وداخلني إحساس لا عهد لي به بالثقة والعظمة، فرفعت رأسي عاليًا في سلطنة وأنا أعجب للنشوة السحرية التي لم يدر بخلدي قط أنها توجد في هذه الدنيا. ثم فركت يديَّ في سرور ومددت ساقيَّ لا أبالي أين تقعان .. وبغتة تخايلت لعيني صورة حبيبتي بقامتها الهيفاء ونظرتها المستقيمة المحتشمة؛ فأترع قلبي حنانًا وشوقًا، وهزتني نشوة فوق نشوة الخمر. ما ألطفك يا حبيبتي! إني أدرك الآن سر نشوة الخمر. إنه الحب .. الحب ونشوة الخمر من عصير واحد يقطر من صميم الروح، وهل الحب الموفق إلا سكرةٌ طويلة؟! فإن فاتني الحب بين يديك فلن يفوتني في الخمر! لماذا أخاف دائمًا؟ ألا إن المخاوف جميعًا لأوهام، وإلا فما لها اختفت من أفقي في غمضة عين؟! لقد تكشف لي وجه الحكمة، ولن أتردد بعد اليوم، سأومئ لحبيبتي إذا وقعت عليها عيناي أو ألوح لها بيدي. ستعقد الدهشة لسانها ويحمرُّ منها الخدان! ويجيء دورها في الخجل، دقة بدقة والبادئ أظلم. وسوف تتساءل في استغراب: هل تحرك أخيرًا؟ أجل يا حبيبتي، تحرك، ولن يوقفه شيء .. ورأيت عند ذاك النادل يحوم حولي، فطلبت القدح الثالث، ثم ألحقته بصاحبيه. وعدت إلى خيال حبيبتي بجسم كله قلوب، وما به من عقل. وقلت بصوتٍ مهموس وكأني أعظ جليسًا غير منظور: «إذا أحببت فبُحْ بحبك إلى حبيبك، وليكن ما يكون!» ثم ذكرت أمي؛ ولكن دون خوف هذه المرة، لم أشك في أنها ستحب حبيبتي إذا رأتها، وستذهب مخاوفي القديمة إلى غير رجعة، أما جدي فما أحراه إذا علم بالنبأ السعيد أن يقهقه ضاحكًا، وهنا ضحكت بصوتٍ مسموع لفت إليَّ الحاضرين. وألقيت نظرةً على ما حولي فرأيت الحديقة اكتظت بالوافدين .. وقد تضاحك الأقربون، ولكني لم أرتبك، بل ابتسمت إليهم وقلت بجسارة غريبة: «اضحكوا!»، فضحكوا، وتساءل أحدهم مبتسمًا: هل من أمرٍ آخر؟
وكنت من السكر في غاية فقلت بلسان ملعثم: هاتوا لي حبيبتي!
فسألني الشاب: أين هي؟ .. وأنا كفيل بإحضارها.
فقلت: البيت أمام المحطة!
فسألني مبتسمًا: أية محطة؟
فتفكرت قليلًا حتى عثرت على شاهد للمحطة فقلت: المحطة أمام المرحاض العمومي!
فضحكوا جميعًا، وانهالوا عليَّ قفشًا وتنكيتًا، وشاركتهم ضحكهم بغير مبالاة، ثم آثرت أن أغادر المكان، فدعوت النادل ونقدته الثمن وحييت رفقاء السكر، وذهبت وقفشاتهم تواصل توديعي بلا رحمة، كنت أترنح، فقصدت عربة في الموقف، وتوسطت مقعدها في خيلاء، وقلت للحوذي بصوتٍ مرتفع: إلى بؤر الفساد!
وتحركت العربة وسرعان ما ارتحت إلى سيرها الواني، وجعلت أنظر إلى الطريق في لذة وبهجة، حتى وددت أن يطول المسير إلى غير نهاية، وأدركت أني مقبل على تجربةٍ جديدة لا تقلُّ خطورةً عن الأخرى، فساورني بعض القلق، ثم غلبتني اللهفة. ووقفت العربة في شارع معربد، ولوَّح الحوذي بسوطه وهو يقول ضاحكًا: هنا الفساد الأصلي!
وسألته بعد تردد: ألديك فكرة عن الأسعار؟!
فقال مقهقهًا: أغلى مرة بريال!
وآلمني التعبير على رغم سكري، وغادرت العربة فوجدتني في دنيا تتوهج بالأنوار كالصواريخ، وتزدحم بالسكارى والعابثين، وتختلط بها أصوات الضحك بالشتم والصراخ، وتنبعث من جنباتها دقات الدفوف وأنغام مبتذلة من كمانٍ مسلول أو بيانٍ محشرج. وقد سطع أنفي شذا بخورٍ طيب. ولم أجد من نفسي الجرأة على التخبط وسط الجموع المعربدة، فعرجت إلى أقرب باب ودخلت، وجدت نفسي عند مدخل فناءٍ واسعٍ مستدير تفتح عليه أبواب كثيرة، وعلى محيط دائرته صُفَّت الأرائك والكراسي يحتلها رجال ونساء، وفرشت أرضه برملٍ أصفر فاقع، وراحت ترقص عليه امرأة نصف عارية، وكأن الجسارة التي خلقتها الخمر قد طارت فتسمرتُ في مكاني لا أجاوزه ولم أدرِ ما أنا فاعل. ثم ثبتت عيناي على الراقصة في دهشة؛ لأني كنت أشاهد الرقص أول مرة، ألقيت على الجسد الملتوي، الشبه العاري نظرة اشمئزاز وخوف، وأزعجتني حالة وجهها إذ أثقله الطلاء الفاضح، وانفرجت شفتاها عن أسنانٍ ذهبية، فكانت بعرائس الحلوى أشبه. وفجأةً لاح أمامي رجل ذو جلباب مقلم زاهي الألوان تنطق قسماته بالدمامة والدناءة ودعاني للجلوس، فتراجعت مبتعدًا عنه، فاصطدمت بشخصٍ ورائي، فدرت على أعقابي لأتفادى منه فرأيت امرأةً من جنس الراقصة، ولا شك حالت بذراعها بيني وبين الذهاب. كانت تبتسم ابتسامةً كريهةً، وتمضغ لادنًا مفرقعةً بأسنانها، فبردت أطرافي، وانقبض قلبي جفولًا، وقرأتْ في وجهي الخوف والخجل فأطلقت ضحكةً كالصفير، ومدت يدها بسرعة فخطفت طربوشي، ووضعته على رأسها ومضت صوب بابٍ قريب في خطوات سريعة. وقال لي الرجل وهو ما يزال بموقفه: اتبعها بلا تردد، هذه زوزو المنبهجة، لا مثيل لها ولا في المذبح!
ولم أطق الوقوف أكثر من ذلك، فغادرت البيت لا ألوي على شيء، غير مكترث لفقدان طربوشي، وركبت أول عربة صادفتني وقلت للحوذي: «إلى المنيل!» عدت إلى البيت قبل منتصف الليل مهيض الجناح، يمضُّني الشعور بالهزيمة والإخفاق والخيبة. لم أكن أتصور أن يتمخض الحلم المرموق عن هذه البشاعة الفظيعة. وكانت النشوة الساحرة قد طارت مخلفةً وراءها خمارًا ثقيلًا باخت له روحي، ولم أدر كيف أيقظت أمي وأنا أخلع ملابسي، فجلست في فراشها ونظرت في «المنبه»، وهي تغمغم متثائبةً: «تأخرتَ كثيرًا!» ولم أجبها بكلمة، وواصلت نزع الملابس حتى خذلتني قدماي فارتميت على المقعد، واستجمعت قواي ونهضت، ولكني ترنحت في موقفي وكدت أهوي إلى الأرض لولا أن أمسكت بعمود السرير .. وانزلقت أمي من فراشها وأقبلت نحوي متسعة العينين دهشةً وفزعًا، وتفرست في وجهي قليلًا دون أن تنبس بكلمة، ثم أجلستني على المقعد وراحت تنزع عني ملابسي، ثم أنامتني على فراشي، فما مس جانبي الحشية حتى سارع إليَّ النوم، وخُيل إليَّ، أو حلمت، أن أمي تنتحب!
٢٣
استيقظت مبكرًا على غير ما كان يتوقع. وتذكرت الأمس كله في ثوانٍ. والتفتُّ برأسي في خوف نحو الفراش الآخر، فعثر بصري في طريقه بأمي وهي تصلي. والتهب وجهي حياءً، وغادرت الفراش في عجلة ومضيت إلى الحمام في حيرةٍ بالغة. ورجعت إلى الحجرة فوجدتها منتظرة، تحاول أن تبدو هادئةً لولا أن خانتها عيناها الصافيتان اللتان لا تعرفان الكذب، وتحاميت نظراتها، وحييتها تحية الصباح بصوت لا يكاد يسمع، فتنهدت بصوتٍ مسموع، واقتربت مني، ووضعت يدها على كتفي وقالت بصوتٍ رقيق مفعمة نبراته بالرجاء: دعوت لك بعد صلاتي طويلًا، والله سميع مجيب .. ليس لدينا متسع من الوقت فأصغِ إليَّ يا كامل بقلبك قبل أذنيك .. فات ما فات .. ما كنت أتصور ذلك على الإطلاق، ولكن أوساط الموظفين أوساط غواية وفساد .. إنها زلة شيطان فتب إلى الله عنها. هل من حاجة إلى تذكيرك بمأساة أبيك وأنت من شهودها، وأمك من ضحاياها؟! ولكن قلبي مطمئن رغم ما حصل؛ لأنك مؤمن تخاف الله، ولأنك ابن أمك لا ابن أبيك، وخليق بمن يصلي بين يدي الله خمس مرات في اليوم مثلك أن يحرص على المثول بين يديه نقيًّا طاهرًا. لا تنسَ أن هفوة الأمس شرٌّ كبير، وأنها ستظل سكينًا تقطع قلبي. لم يعد في وسعي وا أسفاه أن أستبقيك إلى جانبي، فإذا خرجت إلى الدنيا فلاقها بقلب التقي المؤمن. ستذهب اليوم إلى السيدة أم هاشم لتقدم توبتك على يدَيها.
لم تلتقِ عيناي بعينيها ذاك الصباح، ومضيت إلى الوزارة محزونًا، أستعيد قولها كلمةً كلمةً، وأُنعم فيه الفكر. هالني افتضاح أمري، وقدرت عنف الصدمة التي تلقَّتها أمي البائسة، وذكرت الخيبة التي منيت بها في فناء البيت الغريب، فتلوَّت شفتاي تقززًا. على أني لم أنس نشوة الخمر؛ لم أنسها رغم ما أعقبها من خمار وتعب وفضيحة، ولم ينفذ مقتها إلى قلبي حتى بعد صلاة الصبح التي أديتها في صدق وإيمان. ولم يكن ضميري مستريحًا، ومتى كان مستريحًا؟! ولكن أحلام النشوة الساحرة هجمت عليَّ فاجتاحت في سبيلها ضميري وآلامي وأمي. هي النشوة التي تظل معاني السعادة والطرب مغلقةً حتى تجري في الدم فتفتح أبوابها السماوية؛ إنها مطلبي. رباه كيف أهجرها وأتوب عنها؟ وما عسى أن يبقى لي بعدها غير اللهفة الكظيمة والحسرة القاتلة والقلق الذي يمزق حياتي إربًا؟! وحتى لو استسلمت لإغرائها الشيطاني، فهيهات أن تخلص لي صافية، بل ستضيف إلى ضميري نزاعًا جديدًا ما كان أغناه عنه، كنت وما أزال في جذب ودفع متواصلَين، بين اقتحام الدنيا والجفول منها، بين حبيبتي وأمي، بين إدمان العادة الجهنمية ورغبة الإقلاع عنها، فجاءني نزاعٌ جديد، بين الميل إلى الخمر والتوبة عنها، زادني رهقًا، حتى انقلبتُ أرجوحةً تدفعها الشياطين وتجذبها الملائكة، ولا تكف عن التأرجح لحظةً واحدةً. وبلغ بي القلق غايته فتأوَّهت متسائلًا في حيرةٍ بالغة: لماذا لم يخلق الله الحياة نشوةً خالصةً تدوم جيلًا فجيلًا؟ لماذا لا نفوز بالسعادة بلا عناء ولا قنوط؟ لماذا يختنق الحب في قلوبنا يأسًا، والحبيب يغدو ويروح على مرمى قبلة منا؟!
ليكن ما يكون، الخمر مفتاح الفرج .. هي العزاء .. هي كلمة السر التي تفتح لي باب حبيبتي الموصد. لا أريد الدنيا ما دامت تأبى أن تغير ما بنفسها. إن مقتي للواقع ليس دون مقتي لتلك الراقصة المخيفة. الدنيا نفسها تتكشف لي عن صورةٍ شبيهة بتلك الراقصة في تلوِّيها وتعقدها وطلائها الكاذب وشقائها الدفين، فلماذا إذن أقاوم إغراء النشوة الساحرة؟!
•••
ودعتني أمي عصر ذلك اليوم إلى زيارة «أم هاشم» فخرجنا معًا بعد أن انقطعت عن الخروج في صحبتها أعوامًا، وركبنا عربة، فجلسنا ملتصقَين جلسة أعادت لنفسينا ذكريات «الحنطور» القديم، فخففت رقَّتها من قلق النفس المستحوذ عليَّ. كانت أمي ترتدي معطفًا صيفيًّا رقيقًا تقمصه جسمها النحيل في رشاقةٍ لطيفة، وبدا وجهها المليح مستسلمًا وعيناها الخضراوان صافيتَين تلوح فيهما نظرةٌ حالمة يشوبها شيء من الحزن. وقد تلفع رأسها بخمار أسود أحاط وجهها بوقار لم يخلُ من أثر للأربعة والخمسين عامًا التي قطعتها فيما قسم لها من حياة. وحنَّ قلبي لها فوددت لو أستطيع تقبيلها، وتفكرت في تقدم عمرها نحو الشيخوخة بأسًى عميق، ثم ذكرت الخواطر الخائنة التي دارت برأسي على فراش مرضها، فعضضت على شفتيَّ بقسوة وحنق. يا لها من خواطرَ مقيتة! إنها من صميم الألم الذي ألتمس في الهرب منه أي سبيل، وهوَّن من وجدي ما كان يخيل إليَّ من أنها سترث عمر جدي الذي يهدف إلى التسعين.
كبر عليَّ في تلك اللحظة عصيانها، بيد أنني شعرت في أعماق نفسي بأني ذاهب إلى توبةٍ كاذبة لا يسعني إلا الإذعان لها. وساءني ذلك وأحزنني. كيف ألقى أم هاشم بهذا القلب الخائن، وهي التي لا تخفى عليها خافية؟ كيف انقلبتُ بين عشية وضحاها من ورعٍ طيب إلى شيطانٍ مولع بالمعصية؟! وانتهينا إلى الجامع، ودخلنا ونحن نقرأ الفاتحة، وقصدنا الضريح يتوزع قلبي الحب والإيمان والخوف. ونسمت على قلبي ذكريات الأيام الخوالي حين كنت أنفذ للجامع الطاهر بقلبٍ سعيد لم يعانِ بعدُ الشعور بالذنب وعذاب الضمير. وتقدمتني أمي إلى المقام وهي تهمس بحرارة: «جئتك يا أم هاشم بكامل؛ ليتوب عن هفوته بين يديك، فباركيه وسددي خطاه!» ثم دفعتني نحو باب المقام فبسطت راحتي عليه، وشعرت ببرودةٍ تسري إلى فؤادي، فوقفت صامتًا مليًّا حيال جلال تخشع له القلوب، وخلت الجدث الطاهر يرمقني بعينَين متألقتَين لم يغيرهما الموت، فدعوت بقلبي «أم هاشم» أن تلهمني الصواب وأن تنقذني من حيرتي وشقائي، وأن تتوب عليَّ. وترددت لحظةً ثم سألتها أن ترعى حبي التعيس بعين الرحمة!
وغادرنا المثوى الطاهرة وأمي تجفف عينَيها، ثم سألتني: هل تبت إلى الله؟
فأجبتها دون أن أحول إليها عيني: نعم.
فتمتمتْ برجاء: توبة صادقة إن شاء الله.
٢٤
لم يسعني مقاومة النزوة الجديدة، ولم يغنِ عني شيئًا لا ضميري ولا توبتي، ولا ما جبلت عليه من مخافة الله. كنت من حياتي في قنوط؛ فعملي جد بغيض، وحبي حسرةٌ طويلة، وإن الأيام لتمر ثقيلةً بلا عزاء وبلا أمل، فتنظر عيناي ويخفق فؤادي، ويُعيي إرادتي العجز والخوف، فلم أجد من سلوى إلا نشوة الخمر وتهالكت عليها! على أن ذاك العزاء التعيس لم يخلص لي طويلًا، ولم تُملِ الأقدار لي في الاستمتاع به، ففي مطلع الخريف من ذاك العام، وفي يوم من أيام الجمع — وكنت جالسًا مع أمي نتحدث كعادتنا — دق جرس الشقة، وفتح الخادم الباب، ثم جاء يدعوني لمقابلة واحد «بك». وذهبت من فوري فوجدت رجلًا مهيبًا في الستين أو السبعين، فحييته بأدب وألقيت عليه نظرةً متسائلةً، فبادرني متسائلًا: حضرتك كامل أفندي؟
فقلت وأنا أتفرَّس في وجهه: كامل رؤبة .. هذا بيت الأميرالاي عبد الله بك حسن.
فأخذني من يدي إلى الخارج ثم مال نحوي قائلًا: لكم طول البقاء، لقد توفي جدك يا بني!
فحملقت في وجهه بفزع، وانعقد لساني، فربت على كتفي وقال بصوتٍ حزين: تشجع يا بني من أجل والدتك، وكن رجلًا كما نرجو لك، كان جدك يتوسط مجلسنا كعادته كل صباح بلونا بارك، فشعر بضيق في التنفس وطلب قدحًا من الماء، ولم تكد تمضي لحظات حتى سقط على المائدة، فحسبناه أصيب بإغماء، ثم تبين أن السر الإلهي قد صعد إلى بارئه!
هتفتُ بصوتٍ مبحوح: وأين هو يا سيدي؟
فتمتم الرجل: أحضرناه معنا في سيارة.
وما كاد الرجل يتم قوله حتى رأيت في أسفل السلم رجالًا أربعةً يحملون جدي ويرتقون السلم على مهل وحذر، فسارعت إليهم ذاهلًا، وشاركتهم في حمله، وأطرافي ترتعد جميعًا، ثم دخلنا الشقة وهو بين أيدينا، رأيت أمي في نهاية الصالة، وقد ندت عنها صرخةٌ فزعة، وأقبلت نحونا لا تبالي الأغراب، وسألتنا بجزع: ما له؟! ماذا به؟!
ولكنها لم تسمع جوابًا، أو وجدت في الصمت جوابًا، فصرخت صرخةً مدويةً، وولولت في توجع «أبي! أبي!» وأنمناه على الفراش، ثم أقبل الرجال عليه يقبلون جبينه واحدًا في إثر آخر، وعزَّوا أمي، وخرجوا من الحجرة صامتين، وسألني بعضهم عما إذا كنت في حاجة إلى شيء فشكرت لهم، وتطوع البك الذي قابلته أولًا فدلَّني على الإجراءات المتبعة، وأخبرني بأنه سيقوم بإبلاغ وزارة الحربية، وأنه يستحسن أن تشيع الجنازة في العاشرة من صباح الغد. ورجعت إلى حجرة جدي مهرولًا، فوجدت أمي تبكي بكاءً مرًّا، فلم أتمالك أن أجهشت في البكاء، ولكنها لم تسمح لي بالبقاء في الحجرة، ولكي تشغلني عن الحزن أمرتني أن أبرق بالخبر إلى خالتي وأخي، وأن أذهب إلى أختي لأُوذنها بموت جدها. وغادرت البيت لأداء هذه الواجبات، وعدت إليه مرةً أخرى ومعي أختي راضية وزوجها. ووجدت في الشاب خير عون في القيام بالإجراءات المتبعة، أو بالأحرى فقد قام بها وحده، واكتفيتُ بأن ألازمه دون وعي. وما كاد يخيم المساء حتى امتلأ البيت بالأهل؛ فحضرت خالتي وزوجها، وأخي مدحت وزوجه وعمي، ولم يتخلف إلا أبي، وقد قال لمدحت وهو ينعى إليه جدي: «البقية في حياتك، أرجو أن تعزي أمك وأخاك وأختك؛ لأني لا أحضر لا جنازات ولا أعراسًا!» وكانت أمي أشد الأهل فجيعةً وحزنًا؛ لأنها لم تفارقه طوال عمرها؛ اللهم إلا ثلاثة أشهر قضتها على مضض في بيت أبي! هكذا مات جدي وقد تمتع بحياةٍ طويلة، فلم يعجزه الكبر، ولم يقعده المرض. وفارق الحياة في مجلسه الأثير بالمقهى بين صحبه المخلصين، في يسر قلَّ أن يحظى به المحتضرون .. وكنت لا أزال كلما خطر على فكري حنيت الرأس إجلالًا لذكراه، واستمطرت الرحمة والعفو روحه الكبير. كان جدي، وكان أبي، وكان جناح العطف الذي أظلَّني، فنعمت في ظله بالعيش الرغيد والحياة الرهيفة الطيبة، ولا أنسى أنني اتهمتُه في الساعات السود التي كدَّرت صفو حياتي بأنه أساء تربيتي، أو أنه تركني لأمي تفسد حياتي بتدليلها، ولكني إذ تدبرت الأمر لم يسعني إلا إقامة العذر له؛ لأني رأيت نور الدنيا وهو يتخطى الستين. وإنه لمن أشق الأمور أن يعرف الإنسان حقيقة جده؛ لأنه غالبًا ما يبدو في حالة من التبجيل والقداسة، لأن مؤرخيه من الأهل يكونون عادة ممن يبجلونه ويقدسونه. فإذا ركنت إلى ما لمسته بنفسي من حياته أمكنني الثناء عليه في غير تحفظ. وطالما كانت صحته وحبه النظام ودقته العسكرية التي لم تبلغ قط الصرامة أو القسوة؛ مثار إعجابي الشديد. وكان حدبه علينا لمما تهون إلى جانبه مصائب الحياة، وبحسبي أنني لم أعرف مرارة الحياة الحقة حتى ودعناه إلى مثواه الأخير. ومهما يطل بي العمر فلن تمحى من مخيلتي صورته في أيامه الأخيرة وقد كللت الشيخوخة هامته بتاج ناصع البياض وأضفت عليه وقارًا وجمالًا، وأذكت في عينَيه الخضراوَين بريق دعابة وعطف. فلم أدهش لحزن رفاقه عليه، وأدركت — إن كان فاتني ذلك — أنه كان من الذين يألفون ويؤلفون، تلك الهبة الربانية التي حرمتُها وذهبت نفسي حسرةً عليها مدى عمري. وقد تقرر تشييع جنازته في العاشرة صباحًا. ولما حُمَّ الوداع امتلأت الشرفة بالباكيات وأطلقت المدافع تحيةً لجدثه، وحمل نعشه على مدفع سارت بين يديه فرقة من الجيش. وألقيت على جثمانه نظرة الوداع — وهو يختفي في القبر — وأنا أنتحب كالأطفال.
٢٥
قالت لي في حزنٍ بالغ: ليس لنا إلا الله!
فقلت وقلبي يستشعر خوفًا لا يدريه: هو نعم المولى والنصير!
ومضت تتكشف لي الحقائق؛ فعلمت أن معاش جدي قد انقطع بوفاته. وأحصيت تركته فوجدت أنه ترك بالمصرف أربعمائة جنيه، ولما كانت أمي وخالتي وريثتَيه الوحيدتَين فقد خصَّ الواحدة منهما مائتا جنيه صارت كل ما لنا عدا ماهيتي الصغيرة! صرت إذن رب أسرة، وقد لفت عمي نظري لهذه الحقيقة وهو يودعني، فكرر لي العزاء، ووصاني بأمي قائلًا: أكرم أمك ما وسعك، فأنت رب البيت، وأنت خلف جدك!
وتلقيت قوله بخوف وتشاؤم، ونظرت إلى المستقبل المجهول بوجوم وامتعاض، وآلمني أن أجد نفسي مسئولًا عن غيري .. أنا الذي ألفت أن توكل مسئوليتي بغيري! ولما خلا البيت من المُعزِّين ورحل كلٌّ إلى طيته، وجلست وأمي منفردَين نتبادل الرأي قالت بلهجةٍ أسيفة: اللهم عونك!
ورفعتُ إليها بصري الحائر في خوف وكآبة، سألتها بإشفاق: ماذا ترين يا أماه؟
فقالت بأسًى: لن تمضي الحياة في يسر كما عهدناها. هذا أمر الله، وعلينا أن نذعن ونصبر ونشكر، وإنه ليسوءني أن أكون حملًا ثقيلًا عليك؛ ولكن ما باليد حيلة.
فقلت بحرارة: لا تقولي هذا، أنت كل ما تبقى لي في الحياة، ولولاك ما عرفت لنفسي مأوًى آوي إليه.
فافترَّ ثغرها عن ابتسامةٍ حزينة، ودعت لي طويلًا، ثم قالت: سيكون ما ورثته من مال قليل رهن إشارتك تستعين به عند الحاجة، حتى يكبر مرتبك.
ولذت بالصمت متفكرًا، وعيناها الحزينتان لا تفارقان وجهي، ثم استدركتْ بصوتٍ متهدج: لم يعد هذا البيت بالمسكن المناسب لنا، فهو كما ترى كبير، وأجرته تعادل مرتبك، ولعلنا نجد شقةً صغيرة بما لا يزيد عن مائة وخمسين قرشًا في حينا هذا.
وساد الصمت مرةً أخرى، ورحت أتساءل عما أعماني عن هذا المصير الذي كان متوقعًا من قبلُ، حتى عادت أمي تقول بصوتٍ منخفض: وينبغي أن نستغني عن الخدم، ولن نحتاج في المستقبل إلا لخادمٍ صغير.
يا له من ضيق لا أدري كيف يتحمله صدري؟!
لست أعلم شيئًا على الإطلاق عن الكفاح الذي يشقى به الناس في سبيل الحياة، فلذلك حدجت أمي بنظرةٍ ناطقة بالاستغاثة وسألتها: بماذا تقدرين تكاليف المعيشة بما فيها من سكن وطعام وخادم وغيرها؟
وتفكَّرت أمي طويلًا، ثم قالت بصوتٍ منخفض: بما لا يقل عن ستة جنيهات!
ثم استدركت كأنما لتخفف من وقع كلامها: سأرصد مالي لكسائنا وللحوائج الضرورية فيما يخرج عن المصروفات اليومية.
ولكني لم ألقِ بالًا إلى قولها، ومضيت أفكر فيما يتبقى لي من مرتبي بعد تكاليف المعيشة؛ في الجنيه والنصف، وما ينفق منه على المواصلات، وما يبقى بعد ذلك للترفيه عن نفسي. فكرت بامتعاض واكتئاب، فتقبَّض قلبي جفولًا من هذه الحياة السخيفة التي لا معنى لها. ألم أكن أنفق مرتبي كله في الشراب والطعام والعربات؟ ألم أكن مع ذلك شاكيًا متبرمًا تعيسًا؟! رباه، كان الماضي عهدًا غير منكور النعيم، ولكني لم أفطن إلى نعيمه إلا الآن حيث لم يبقَ منه إلا ذكريات! إني أعمى ما في ذلك من شك، تعميني الأحلام الطائشة عما بين يديَّ، ومن كان مثلي قضي عليه بألا يذوق للسعادة طعمًا في هذه الحياة. تجهَّم لي وجه الدنيا، وخارت عزيمتي، وامتلأت نفسي تشاؤمًا حتى توقعت شرًّا وراء كل خطوة أخطوها. أجل ألا يجوز أن تستغني عني الحكومة لسبب أو لآخر فأحرم حتى هذا المرتب الضئيل؟ .. ألا يحتمل أن يصادفني حادث في الطريق يقضي عليَّ بعاهة تقعدني عن السعي من أجل الحياة؟! لماذا وجدنا على الأرض؟ ولعل هذه الأفكار السود التي جعلتني أسأل أمي قائلًا: ماذا يُنتظَر أن أرث عن أبي بعد وفاته؟
ولم ترتح أمي لمجرد أفكاري وقالت باستياء: لا تبنِ آمالك في الحياة على موت إنسان .. الأعمار بيد الله، وإني أستحلفك بالله إلا ما طردت عن رأسك هذه الخواطر.
بيد أنني استخففت بمخاوفها وألححت عليها أن تجيبني على ما سألت، فقالت مذعنةً لإلحاحي: لأبيك أوقاف تدر عليه أربعين جنيهًا كل شهر، غير البيت الذي يسكنه.
وقدرت بعملية حسابية ما يصيبني من هذا الميراث؛ فوجدته ستة عشر جنيهًا نصيبي من البيت، إذا أضيفت إلى مرتبي الصغير صار كبيرًا بلا شك. واستسلمت للأحلام كالمعتاد، ولكنها لم تغير من الواقع شيئًا. وسألتها مرةً أخرى: ما عمر أبي؟
وأجابتني على كره: لا يقل عن السبعين.
ترى هل يعمر كجدي مثلًا؟ ماذا يكون حالي لو عمر طويلًا وحرمني ميراثي عشرة أعوام أو عشرين؟! وتذكرت ما قيل لي من أنه انتظر يومًا على مضض موت أبيه، وكيف ساقه الجزع إلى الشروع في الجريمة التي قضت عليه بالحرمان من ثروةٍ واسعة! إني أعاني نفس المشاعر التي عاناها قبل ثلاثين عامًا، ولعله لو كان لي بعض قوته لسلكت الطريق الذي سلك!
ثم استدعت أمي الطاهي العجوز وأم زينب وأخبرتهما في استحياء وألم بأننا سننتقل إلى بيت شقيقي، «آثرت الكذب على الاعتراف بالفقر»، وأنها مضطرة إلى الاستغناء عنهما، وذكرت عهد خدمتهما الطويل بالأسف، وأثنت عليهما الثناء الجميل، ودعت لهما بالتوفيق، ثم نفحتهما بما يستعينان به حتى يجدا عملًا جديدًا. وقد انتحبت المرأة باكيةً، ودمعت عينا الرجل العجوز، ودعا لجدي بالرحمة والعفو، وقال بصدق وإخلاص: وددت يا سيدتي لو مت قبل أن يغلق هذا البيت الكريم أبوابه!
ولم تتمالك أمي نفسها فبكت، وانتقلت العدوى إليَّ فبكيتُ، ومرت بي ساعة سوء كابدت فيها ألمًا وخزيًا لم أشعر بمثلهما من قبلُ. وانتقلنا قبل ختام الشهر إلى شقةٍ صغيرة في الدور الأوسط من بيت قديم ذي أدوار ثلاثة بشارع القاسم المتفرع من شارع المنيل. وكان البيت يقع في وسط الطريق ما بين شارع المنيل والنيل. أما الشقة فتتكون من ثلاث حجراتٍ صغيرة فرشناها ببعض أثاثنا القديم، وبعنا بقيته بثمنٍ بخس. وساءلت نفسي في وجوم: هل تستطيع أمي النهوض بأعباء الخدمة المنزلية بعد ذاك العمر الطويل من الراحة والدعة؟ إنها تهدف إلى منتصف الحلقة السادسة ولم يعد لها من معين إلا خادمٌ صغير، فكيف تتحمل هذه الحياة؟ وزادت حياتي تنغيصًا وداخلني سخطٌ شامل على الوجود كله. على أن أمي أقبلت على العمل بروحٍ عالية فيها مرحٌ كثير، فنجحت في إيهامي بأنها مسرورة بالحياة الجديدة، وكأنما كانت تكبت طوال عمرها رغبةً حارةً في الخدمة والعمل. وقالت لي بارتياح لمسته في نبرات صوتها وابتسامة عينيها: إن خدمة بيتك هي السعادة التي ليس لي وراءها مأرب.
وتجرعت هذه الحياة الجديدة قطرةً قطرةً، وقد أضافت إلى حسراتي القديمة حسرةً جديدةً؛ هي حسرتي على العيش الرغيد والشراب خاصةً، وأجمعت على أن أُقتِّر على نفسي كي تتهيأ لي ولو سكرة واحدة في الشهر، ولا عجب فلم تكن الخمر بالنسبة إليَّ لهوًا وعبثًا، ولكن حياةً وهميةً أفرُّ إلى أحضانها من آلام الواقع البغيض.
ويومًا قالت لي أمي وقد آنست مني استنامةً إلى حديثها: لعلك لمست الحكمة التي أملت عليَّ أن أرفض أي زواج لا يليق بك!
وأدركت ما تعني لتوِّي، فكأنما تقول لي: «ماذا كنت تصنع بحياتك لو كنت رب أسرة». ولم يداخلني شك في صدق ملاحظتها، ولو كنت رب أسرة لشقيت بالعيش أضعاف الشقاء الراهن! ومع ذلك لم أرتح لقولها، ووقع من نفسي المهيضة موقع الشماتة المريرة، فلفَّني الحنق والغضب، وكابدت مشقةً في كظم عواطفي.
٢٦
وهل الخريف؛ ذلك الفصل الذي أحببته لأنه البشير بافتتاح المدارس، وستعود حبيبتي إلى الملتقى المعهود على طوار المحطة. حبيبتي هي الزهرة الوحيدة التي تتفتح في الخريف حين تعرى الأشجار وتذبل الأزهار. ولاحظت أن مواعيد خروجها لم تعد منتظمةً كما كانت، ترى هل بدأت حبيبتي حياتها كأستاذة؟ ولذَّني ذاك الخاطر فاهتزَّ عطفاي سرورًا. بيد أنني لا يمكن أن أنسى أن مجرى حياتي قد تغير، وأنني أرزح تحت وقر الفقر والقنوط، فحبيبتي ميئوس منها، ولكن ما كان اليأس إلا ليزيدني هيامًا وولعًا، ويشبُّ في قلبي أشواقًا وأحزانًا. ما أسرع أن ينقلب الحب اليائس ثورةً على الحياة! أليس من الهزء بنا أن نخلق لحياة ثم يُحال بيننا وبينها؟ وزاد من لوعتي أنه كان يخيل إليَّ في أحايين كثيرة أن عينيها ترنوان إليَّ بنظرة فيها حياة. أية حياة؟ لست أدري، ولكنها كافية لبعث الجنون في خيالي، فيثمل بنشوةٍ سحرية لا أفيق منها حتى تصدمني حقيقةٌ مرة من حقائق حياتي. واشتد تطلع أهل البيت نحوي، وبتُّ وكأنني أسمعهم يتساءلون: ماذا تريد؟ لماذا تلتهمها بعينَيك؟ أي رجل أنت؟ ألم يكفك عام ونصف عام؟! صدقتم والله، والحق معكم، ولكن ما حيلتي أنا؟! ضعوا أنفسكم في مكاني وخبروني ماذا تفعلون؟! هل لديكم علاج للعجز والفقر؟
ولم يتركني الرجلان المعجبان بفتاتي في راحة، فلم يزالا يحومان حولها، حتى بتُّ أخافهما خوفي العجز والفقر، وأكرههما كرهي للشقاء الذي يضيق عليَّ الخناق، مثل هذه الحياة ألذُّ ما فيها الهرب منها! لذلك تلمست السبيل إلى الحانة مهما كلفني الأمر من العناء. لم يعد شارع الألفي بك بالمرتاد المناسب لحالي، فلجأت إلى حوذي — مشيري في الدنيا بعد أمي — وطلبت إليه أن يحملني إلى حانةٍ متواضعة، وساقني الرجل إلى سوق الخضر! وكان هو نفسه — كما أخبرني — يرتادها من آن لآن، وقال لي مدللًا على حسن اختياره: الحانات الكبيرة مظاهر كاذبة لابتزاز الأموال، والخمر هي الخمر، وخيرها ما أسكر بأبخس الأثمان!
وأنصتُّ إلى محاضرته في خجلٍ أليم تجاوب صداه أسًى عميقًا في نفسي، فتهيأ لي حينًا أنه يرثي نهايتي ويعزيني عما سلف من زماني. وغادرته متعجلًا، وسرت صوب حانةٍ صغيرة في مطلع ممر من الممرات المفضية إلى السوق. وساورني شعورٌ محزن بأني أنحدر إلى الهاوية التي ابتلعت أبي من قبلُ، ولكن لم يكن هذا ولا غيره بمانعي من المقدور، وكانت الحانة صغيرةً مربعة الشكل، بها موائد معدودات، تبدو رثةً باهتةً، نادلها يونانيٌّ عجوز أعمش، وروادها من الشعب الأدنى أو بعض الموظفين البائسين. ولكن الخمر هي الخمر كما قال الحوذي. ولا أنكر أني فرحت بمنظر القوارير على الرف الطويل، وسُررتُ بها سرورًا أنساني آلام الضعة التي شدني ضيق ذات اليد إليها. ورأيت أواني للخمر من نوعٍ جديد هي الدوارق؛ فدورق الكونياك بعشرة قروش، وهو ثمنٌ بخس أستطيع معه أن أعاود الحانة مرتين أو أكثر في الشهر. وشربت واستسلمت لشوارد الأحلام في لذة وشوق. وأمدتني المصادفة بزادٍ جديد للأحلام، فأقبل عليَّ بائع نصيب ولوَّح لي ورقة وهو يهتف: «ألف جنيه»، فمددت يدي وتناولتها منه ونقدته ثمنها، ثم طويتها ودسستها في جيبي؛ زادٌ جديد للأحلام يضاهي نشوة الخمر. رباه! ماذا كانت تكون الدنيا بغير الأحلام؟! إني أملك ألف جنيه بلا شريك! الأرض ثابتة تحت قدميَّ لا يزعزعها الخوف والفقر، والدنيا تبتسم، ولسوف تقهقه ضاحكةً إذا انتهى أبي! لا يجوز أن أتردد بعد اليوم، سأقابل الرجل الوقور والد حبيبتي وأقول له بصراحة: «إني أبتغي شرف مصاهرتك!» وأقدم له بطاقتي، ومن ذا الذي لا يعرف أسرة لاظ؟! أجل إن الوظيفة صغيرة؛ ولكني أملك ثروةً لا بأس بها وسأرث ثروةً أخرى، فلا يسع الرجل إلا أن يتقبلني قبولًا حسنًا. ورأيتني أُزفُّ وسط الشموع وعروسي تتهادى كالقمر. ولم أطق البقاء بعد أن أفرغت الدورق في جوفي فغادرت الحانة، وهمت في الطرق على وجهي متفرجًا حالمًا، مسرورًا بنفسي وبالدنيا. ولم أكن لأرجع إلى البيت حتى أفيق، ولكني وجدت نفسي أمام بيت الحبيبة وبالرأس بقية من نشوة، فلم أنعطف إلى المنيل. كانت الساعة تقترب من الثانية صباحًا، والطريق مقفرًا، والظلمة شديدةً شاملةً، والصمت عميقًا يكاد لعمقه أن يسمع دبيب الخواطر بالنفس. ووقفت على الطوار متطلعًا إلى البيت النائم، واستقر بصري على نافذة مخدعها، وتسللت روحي خلالها فخلتني أحس تردد أنفاسها العطرة. إن إيماني بالروح لا حد له .. ألم تجذب رأسها نحوي فيما مضى؟ فيمكنها الآن أن تندس في أحلامها فتراني، بل وأن تسمعني إذا ناجيتها! وبادرتها قائلًا: «إني أحبك يا حياتي، أحبك حبًّا هو من أعاجيب الكون كدوران الأفلاك سواءً بسواء، ولشد ما أتمنى أن أقول لك: «أحبك» في يقظتي، ولكني لا أستطيع، إن الخجل أبكم يا حياتي، والفقر سجنٌ شاهق الجدران، ولا حق لامرئ لا يملك من مرتبه إلا جنيهًا ونصفًا أن يبوح بحبه لملاكٍ كريم مثلك، ولكني أحبك بالرغم من هذا كله، ولا أطيق أن تُعرضي عن حبي، وأكاد أجن حين أرى تطلع الرجلَين الثقيلَين إليك، فشجعيني يا حياتي، أشيري إليَّ، ابتسمي في وجهي، ما في ذلك من بأس ما دمت محبًّا صادقًا كما لا بد تعلمين، وما دمت عاجزًا ميئوسًا منه كما لا بد تدركين .. آه!» وقفت طويلًا دون أن تتحول عيناي عن النافذة الموصَدة، فثقلت جفوني وداخلني إحساسٌ خفيف بالدوران والتعب من مشقة المشي وخمار الشراب. ثم قرع سمعي وقع أقدامٍ ثقيلة، فالتفتُّ صوبها في توجس فرأيت شبح الشرطي مقبلًا، فتحولت عن موقفي وحثثتُ خطاي.
٢٧
ماذا يحول بيني وبينك؟ الفقر! هكذا كان الجواب، ولم أجاوزه إلى غيره من الأسباب؛ لأنه كان العائق الوحيد الذي لا أُعدُّ عنه مسئولًا، أو هذا ما اعتقدتُه. كيف أحصل على المال إذن؟ وتفكرت مغتمًّا، ثم مال بي الفكر إلى أبي! ذلك الذي تمنيت موته طويلًا ولكن لم يُغنِ عني التمني شيئًا، فلماذا لا أزوره؟ .. لماذا لا أستوهبه المال الذي أريد؟ وبدا الخاطر غريبًا لا يصدَّق، وخاصةً بالقياس إليَّ أنا الذي أخافه أكثر من الجميع، ولم أؤمله قط؛ بيد أن الجزع كان بلغ مني منتهاه في تلك الأيام، وجرى الحب مني مجرى الدم، واشتد إحساسي بفوات العمر لدرجة تستحق الرثاء، فداخلني شعور بأنني إذا بلغت الثلاثين فقد انتهيت. أمضَّتني هذه المخاوف، وكانت النظرات الحلوة التي تجود عليَّ بها الحبيبة توسعني في أثناء ذلك سعادةً وتأنيبًا صامتًا. فلم أرَ بدًّا في النهاية من أن أفكر جديًّا في زيارة أبي.
وذهبت دون أن أعلن ما في ضميري لأمي، واهتديت إلى الحلمية مسترشدًا بكمساري الترام، ولما بلغت شارع علي مبارك ذكرت لتوِّي الطريق الذي قطعته مع جدي منذ تسعة أعوام، وتراءى لعينيَّ البيت الكبير ذو السور تلوح وراءه رءوس الأشجار الضخمة. ورأيت البواب العجوز جالسًا أمام الباب وقد طعن في السن حتى صار هيكلًا أسود. وخانتني شجاعتي إذ غدوت منه على بعد خطوتَين، فلم أتوقف عن السير، وجاوزته، وقد تملكني شعور اليأس فحدثتني نفسي بالعودة من حيث أتيت. وما جدوى بذل محاولةٍ فاشلة حتمًا؟! ولكني لم أمعن في الهرب، ولعل اليأس نفسه أمدَّني بقوة غير منتظرة، فرجعت إلى البواب مستشعرًا عزمًا جديدًا، مستنكرًا الخور الذي يباعد بيني وبين بيت لي فيه حق غير منكور. حييت البواب فرد تحيتي جالسًا، فقلت له بلهجة لم تخلُ من كبرياء: كامل رؤبة لاظ، خبِّر البك من فضلك!
ونهض البواب مبتسمًا، ودعاني إلى دخول الحديقة، ومضى ليخبر البك. هي الحديقة نفسها، لا تزال تسطع جنباتها بشذا الليمون، تمتلئ سماؤها برءوس النخيل، وتتسرب منها إلى النفس كآبة ووحشة. وأرسلت ببصري إلى الفراندا في نهاية الحديقة، فرأيت البواب يدعوني، فتقدمت وأنا أطرد عن قلبي شعورًا بعدم الارتباك. وارتقيت السلم، فطالعني المنظر القديم؛ الرجل والخوان المزركش والقارورة والكأس. مدَّ لي يده وعلى فمه شبه ابتسامة، فسلمت عليه، ثم دعاني للجلوس فجلست على مقعد إلى يمين الخوان. وألقيت عليه نظرةً سريعةً فرأيت الجسم المكتنز وقد ترهل، واشتد احتقان الدم بالوجه الممتلئ، وغابت العينان في نظرةٍ ذاهلة، وبان للكبر في صفحة وجهه غضون في الجبين وحول العينين، وذبول الخدَّين. لم أرتح لمنظره، ولكني حرصت على ألا يبدو في وجهي أثر مما في نفسي .. ولاحت مني نظرة إلى القارورة الممتلئة للنصف، فرمقتها بنظرةٍ غريبة، وذكرت كيف تراءت لعيني في الزورة الأولى فقلت لنفسي: لشد ما يسارع الفساد للإنسان! وكان يتلفع بروبٍ حريري وقايةً من رطوبة الخريف في تلك الساعة من الأصيل. ولم يداخلني ريب في أنه مفعم خمرًا حتى قمته، فساورني القلق، وتساءلت عما دهاني من جنون حتى قمت بهذه الزيارة التي لا رجاء منها. وجعل ينظر صوبي باهتمام، أو لعله حب استطلاع، فعجبت لذاك اللقاء الغريب بين أب وابنه بعد افتراق عمرٍ كامل، وتساءلت في نفسي في دهشة وعدم تصديق عما يقال عن الحب بين الآباء والأبناء. ولم أدرِ بطبيعة الحال كيف أبدأ الحديث؛ ولكنه أخذ يتكلم فأنقذني من حيرتي، وقال بصوتٍ غليظ: كيف حالكم؟ مات جدك! كان رجلًا لطيفًا، وأحفظ له ذكريات لا بأس بها على رغم ما كان؛ ولكني لم أشهد جنازته وهو ما لا يغفره كثيرون، على أن الإنسان في مثل سني ينبغي أن يعفى من الواجبات، والشيخ والطفل سيان في ذلك، ولا تنسَ من ناحية أخرى أن جنازتي لا ينتظر أن يشيعها أحد؛ اللهم إلا عم آدم البواب، ولا يبعد أن يشغل عنها عم آدم نفسه بتفتيش جيوبي وسرقة ما يظنه بها من نقود، هل تشيع أنت نعشي؟!
•••
دهمني سؤاله بعد قلق استحوذ عليَّ بتأثير لهجته الثملة، فأيقنت أن مهمتي ستكون شاقةً مخيفةً، ولكني بادرته قائلًا: أطال الله بقاءك!
فقهقه ضاحكًا، ورأيت أنه فقد ضروسه، فساءني منظره وضحكه، واستدرك قائلًا: يا لك من ولد بار؛ فجميل جدًّا أن تحب أباك وتدعو له بطول العمر! والبر بالأب سجيةٌ فاضلة لم يكن لي منها نصيب وا أسفاه! ولو أوتيت قدرًا من الرياء أو حظًّا من الصبر لكنت الآن من أغنياء البلد المعروفين، مثل عمك، قاتله الله، ألم ترَ إليه كيف لم يقنع بما ورث من مال لا تفنيه النار حتى استأثر بأخيك مدحت — ذلك الثور — فزوَّجه ابنته؟! ولقد ظننته يومًا سيعتنق مذهب الطلاق كأبيه، ولكنه يبدو خانعًا كالنساء، وانقلب فلاحًا مزارعًا يشارك القطعان معيشتها، ولعله يحلم بثروةٍ عريضة بعد موت عمه، ولكن خاب فأله، فلزوجه أخوات ست كلهن مطمع الفحول من عشاق المال والنساء! ولذلك أقول إنه من التعاسة أن تنجب بنات، هذا عار كبير مهما قالوا إن الزواج نصف الدين! إلا إذا كان النصف الآخر هو الطلاق .. ثم غيَّر لهجته .. لماذا لا تطلب يد إحدى بنات عمك؟! ألا تعلم بأن ميراث الواحدة منهن لا يقل عن مائة جنيه كل شهر؟ ولكن دعنا من هذا كله واسمح لي أن أنظر في وجهك قليلًا، فإني لا أكاد أعرفك. ما شاء الله، أنت رجل لا ينقصك إلا الشارب، لماذا لم ترسل شاربك؟ .. ثم إنك رجلٌ جميل، ولكنك نحيل مهزول كأنك لا تأخذ كفايتك من الطعام؟ عار أن يكون شاب في مثل سنك نحيلًا. ومع ذلك فيا لها من سعادة أن يرى الأب ابنه رجلًا، خصوصًا إذا كان يراه لأول أو لثاني مرة! ألا ترى أني أبٌ عجيب؟ لقد أنجبت ثلاثةً ولكني وحيدٌ مهجور، ولست ساخطًا على حظي؛ لأنه من السعادة أن تبقى وحيدًا، وما من مرة خلوت بإنسان قط إلا وافترقنا خصمَين، وهم يقولون عادةً إني مخطئ، وأنا أقول إنهم لمخطئون، فالله يفصل بيننا يوم القيامة. لا تدهش إذا سمعتني أقتبس من القرآن! فإنما الفضل في ذلك إلى الراديو، ولقد باعدتُ بيني وبين الدنيا ولكن الدنيا تأبى إلا أن تقتحم عليَّ داري في الراديو. أهلًا أهلًا .. أنت ولد بار يا كامل، ولكن ينبغي أن تعتني بصحتك، وتأخذ كفايتك من الطعام حتى تسمن، ألم يترك جدك ثروةً؟!
كنت جزعًا يائسًا لا أدري كيف أطرق الموضوع الذي جئت من أجله في ضوضاء تلك الثرثرة التي لا ضابط لها، واشتد جزعي ويأسي حين رأيته — في أثناء ثرثرته — يملأ كأسًا جديدًا، ولكني انتهزت فرصة طرحه السؤال الأخير وقلت بلهجة لا يشوبها شك: لم يترك جدي شيئًا على الإطلاق!
فهز رأسه الأصلع الأحمر كأنه يقول «هذا ما توقعته»، ثم قال: مرتب عال، ذرية قليلة، معاش ضخم، ثم لا يترك شيئًا، كان رحمه الله مقامرًا، والمقامر يفضل أن يخسر نقوده على المائدة على أن يكنزها في المصرف، وما هو إلا طفل قد تمكن من قلبه حب اللعب، ولست ألومه لأني بدوري شرِّيبٌ سكير، والفرق بين المقامر والسكير أن الأول عملي يضارب ويخادع ويكسب ويخسر؛ أما الآخر فنظريٌّ يحلم ويحلم ويحلم. إذا طمع المقامر في الثراء قامر بثروته في اللعب فيخسرها على الغالب، ويمني نفسه بتعويض خسارته، فما يزداد إلا خسارًا حتى إذا مات لم يترك شيئًا .. يترك دينًا ثقيلًا، والغريب في الأمر أن المقامرين جميعًا يخسرون ولا أدري من يربح إذن؟! أما الشريب فإذا طمع في الثراء وجده محضرًا بين يديه دون أن يكلفه ذلك أكثر من ثلاثين قرشًا ثمن قارورة كهذه. أتقول إن ذلك محض وهم؟! ليكن، وهل ثمة شيء في الدنيا إلا وهو وهم وخيال؟! أين جدك؟! .. كان جدك حقيقةً ملموسة فأين هو الآن؟! شمر للبحث عنه فلن تجد له أثرًا .. فتش عنه في البيت، وفي المقهى، وفي النادي، بل انظر في القبر نفسه، وهاك رقبتي إن وجدت له أثرًا، فكيف يكون حقيقة؟! رحمه الله! وماذا فعلتم بعده؟ أما زلت طالبًا؟!
فقلت وأنا أداري حنقي وجزعي بابتسامةٍ باهتة: تعينت موظفًا بوزارة الحربية!
فرفع كأسه ضاحكًا وقال: نخب مستقبلك! ما شاء الله! أسرتنا مجيدة ولكن ليس بها من موظفٍ واحد، فأنت الذي تشق طريقها إلى الحكومة!
ولم أتمالك أن قلت بضيق: لست إلا موظفًا صغيرًا، وليس لي مرتب يذكر!
فرمقني بنظرة توجس من تحت حاجبَيه الأشيبين وقال بغير مبالاة: لا تجزع، الصغير يكبر حتمًا .. قضت حكمة الدنيا بأن الصغير يكبر والكبير يصغر .. والظاهر أن الله خلق ثروةً محدودة واحدة، لا يتغير مقدارها، ويتغير حظ الناس منها، وإلا فلماذا لا يثري الناس جميعًا؟ فاصبر يا بني ولا تشغل نفسك بالتفكير في المال. التفكير في المال مهلكة كادت توردني في يوم من الأيام، إني أعجب لماذا يحب الناس المال هذا الحب الكبير! لست في حاضري من محبي المال، أنا لا أحب إلا الخمر، ولو أحب الناس جميعًا الخمر كما أحبها، واستهانوا بالمال، لأمكن حل مشكلة الدنيا بكلمةٍ واحدة. تصور معي بلدًا سعيدًا، يشطرونه شطرَين فيشيدون المساكن على اليمين والحانات على اليسار والحكومة في الوسط، ولا يكون للناس من واجب إلا أن يشربوا، هذا بلد يريح ويستريح، ألا تشرب يا بني؟ كلا! فماذا تعتنق من الشرور؟ إن قيمة المرء الحقيقية فيما يعمل من شر، هبني متُّ غدًا ولم أكن سكيرًا، فما عسى أن يقول عني الناس؟ لا شيء! أما وأنا شريب فسيقولون حتمًا كان شريبًا سكيرًا. بل ولو كنت أتصدق بمالي هذا على الفقراء لما ذكرني أحد بكلمة، الناس ينسون الخير بسرعة ولو كانوا من صنائعه، فالشيء الوحيد الذي يخلد ذكرك هو الشر .. ما رأيك في كلامي هذا؟!
ولم أجد من الإجابة مفرًّا، فقلت: يجب أن نخاف الله ونطيعه.
فأمَّن على قولي بهزة من رأسه المستدير بدت هزليةً، واستدرك قائلًا: صدقت! هذا سر الوجود. أما والله لو كان حقًّا ما يقولون عن الله فإن مصيرنا لأسود! بيد أنني عظيم الثقة والاطمئنان، وما أفقد ثقتي وطمأنينتي إلا إذا ساء هضمي، هناك تبدو الدنيا عابسةً كالحة! وذلك لأني أومن بأن الله لا يعذب عباده. كيف أصدق أن إلهًا عظيمًا سبحانه يحرق مخلوقًا مثلي لأنه أحب الخمر؟! ألا يعجبك كلامي؟ أنت آنستنا. أرى الملل في وجهك. ترى ما الذي دعاك إلى تذكر أبيك بعد نسيان العمر كله؟!
وخفق قلبي، ولم أعد أطيق السكوت، ولعله لم يكن من الفطنة أن أطرق موضوعي إثر ذاك السؤال، لكني قلت في عدم تبصر: أراني في ضيقٍ شديد، وإذا كانت الظروف السيئة قد فرقت بيننا، فإنك أبي على رغم هذه الظروف السيئة.
وقهقه ضاحكًا، فكرهت منظره للمرة الثانية، ثم قال بلهجته الهاذية التي تنزع من سامعه أية ثقة فيما يقول: معك حق. الويسكي هذا حكمة غالية، إنه كالدنيا في مرارته، ولكن الحكيم الحكيم من يستطيبه ويألفه كما يستطيب الحكماء الدنيا ويألفونها، ويل لمن يجزعون لمرارته أو يقيئون، لن يصبروا إذن مع الحياة. قلت يا بني إن معك حقًّا. يعجبني والله حسن تمهيدك ولباقتك. تقاطعني مختارًا ثلاثين عامًا أو ما يقارب هذا، لا تؤاخذني على الخطأ لأن الحساب لا وزن له عند الشريب، فليس حتمًا أن يساوي واحدٌ وواحدٌ اثنين، وعسى واحد يساوي عشرة، قلت إنك تقاطعني عمرًا ثم تجيئني معتذرًا بجملةٍ لطيفة. على أني أقبل العذر، ولم لا؟ الحق لا آسف على مقاطعة الناس لي. أما الضيق الذي تشكو فأمر يهمني جدًّا، فما يضايق ابني يضايقني بالتالي، فماذا تعني يا بني؟
حدثتني نفسي بالذهاب لأني لم أجد في ذلك الهذيان فائدةً ترجى. بيد أني نبذت الفكرة في احتجاج وغضب. وعز عليَّ أن أنكص على عقبيَّ بعد أن أقدمت على ما أقدمت عليه. واستجمعت قواي، وبذلت فوق ما أحتمل عادة في مقاومة الخجل والارتباك، وقلت بصوتٍ منخفض: أريد أن أتزوج!
وعاد الرجل السكران إلى قهقهته الكريهة، ثم قال بدهشة: ما بال أسرتنا لا تنجو أبدًا من هذا الداء الوبيل؟! إن أختك لم تطق صبرًا حتى أختار لها بعلًا كما ينبغي، فهربت مع رجلٍ غريب وتزوجته. وهذا أخوك ما كاد يشب عن الطوق حتى كان راقدًا في حضن عروسه، ولا أبرئ نفسي فقد حاولت أن أكون زوجًا مرة وأخرى وثالثة، أعجب بها من أسرة! ولعلك تحتاج مالًا ليتم لك ما تريد من زواج! لا أستبعد هذا فالزواج وإن كان داء كما قلت إلا أننا ننفق عليه أموالًا طائلة، وفي هذا وحده الدليل الناطق على جنون الإنسان! ولعلك جئتني وحملت نفسك ما لا تود من رؤيتي لتسألني مالًا تزف به إلى عروسك .. لا أستبعد هذا، ولكن من أين لي بالمال الذي تريد؟ هل «قالوا» لك إني غنيٌّ ميسور؟ لا أنكر أني أتمتع بدخلٍ شهري مقداره أربعون جنيهًا غير أجرة الطابق العلوي، ولكن لا تغيبن عنك نفقاتي، إليك الطباخ مثلًا فهو يسلبني عشرين جنيهًا كل شهر، وإذا خطر لي أن أراجعه مرة دوخ دماغي بحسابٍ طويل لا أفقه عنه شيئًا. وإليك الخمر أيضًا فإنه يلزمني منها زجاجتان في اليوم أو ما يزيد على خمسة عشر جنيهًا في الشهر، وما يبقى بعد ذلك لا يكاد يفي بالضرورات الأخرى كالكساء والتدخين ورواتب الطباخ والبواب والخادم وأجرة العربة التي تجوب بي بعض الشوارع القريبة كلما سئمت طول المكث في البيت. ليس لي من رصيد في المصرف، حتى إني أعالج سوء الهضم بالوصفات البلدية. لا تسألني مالًا يا بني، وإني أقول هذا آسفًا علم الله، ولكن لماذا لا تتزوج كما تزوج أخوك من غير أن يبذل مليمًا واحدًا؟! وإن احترمت نصيحتي فلا تتزوج على الإطلاق!
وحدجني ببصره الزائغ، فبدا لي فظيعًا كريهًا. ثم استخرج علبة سجائره، وأخذ سيجارة وأشعلها وراح يدخنها بتلذذ. وجعل يراقب دخان السيجارة بعينَيه الخابيتَين، فخيِّل إليَّ أنه نسيني. ثم وقع في نفسي أنه يعذبني! وملأني الحنق، ولكني بقيت على جمودي، وازددت إحساسًا باليأس والخيبة. وساد الصمت مليًّا، ثم التفت نحوي، وألقى عليَّ نظرةً لا معنى لها، ثم ارتسمت على فمه الواسع ابتسامة وسألني: ألا تدخن؟
– كلا!
وعدنا إلى الصمت. ألا يجدر بي أن أذهب؟ وتوثبت للنهوض لولا أن لاح في وجهه ما جعلني أنظر إليه بدهشة وانزعاج. بدا متعبًا وتفصد جبينه عرقًا ودارت عيناه في أنحاء المكان وكأنهما لا تريان شيئًا. ورأيت خده الأيمن فيما يتصل بفمه يرتعش ارتعاشةً عصبيةً. ثم دمعت عينه اليمنى .. آ … توقعت شيئًا مخيفًا لا أدري كنهه، ولكن لم تطل به تلك الحال، انبسط وجهه وعادت إلى عينيه الحياة الطفيفة التي تبدو فيهما .. ونظر صوبي مرةً أخرى، زايلني الخوف الغامض، وعاودتني أحاسيس اليأس والخيبة والكراهية. ثم تأملت بعين الاستغراب الحقيقة الماثلة أمامي، وهي أن هذا الرجل هو أبي الذي أوجدني في هذه الدنيا، ودعت هذه الحقيقة حقائق أخرى مما يتصل بها، بدت في صور محسوسة، فساءني منظرها، وآلمني وأحزنني. ولبثت هنيهةً من الألم في شبه ذهول، ثم تنهدت على غير وعي مني بصوتٍ مسموع، وتنبه إليَّ وسألني للمرة الثانية: ألا تدخن؟
فهززت رأسي سلبًا، فقال في تهكم: نعم الفتى أنت! لا عيب فيك إلا أنك ترغب في الزواج! حدثني عن زواجك أهو رغبة عامة؟ أو هو رغبة خاصة في بنت من بنات حواء؟ (هنا خفق قلبي بعنف وكادت الدموع تسارع إلى عينيَّ) هذا ما يبدو لي، ترى كيف الحب هذه الأيام؟! لا شك أنه لا يزال محتفظًا بخطورته وقوته في خداع البشر! ومع ذلك أكرر عليك النصيحة بألا تتزوج على الإطلاق! هذه نصيحة رجلٍ مجرب؛ الزواج سخرة. تصور أن امرأة تملكك! ودع ما يقال من أنك أنت الذي تملكها فهو كذبٌ سمج، تنهك قواك وتسلبك مالك وتستبدُّ بحريتك، ثم تستدرجك لاستعباد روحك وما تملك لرعاية شخصها وأبنائها! فإذا مت سعت إلى رجل غيرك قبل أن تجف دموعها، الزواج شيءٌ سخيف لم أحتمله أكثر من ليلةٍ واحدة!
ترنح قلبي تحت وقع الطعنة التي نفذت إلى صميمه، وندت عني على رغمي آهة من الأعماق، فنظر إليَّ في شبه بلاهة، ورمقته بنظرةٍ نارية حتى حادثتني نفسي بأن أقذفه بالقارورة في وجهه. ولكني لم أكن الرجل الذي ينفذ مثل ذلك الخاطر، وشعرت بالقهر لعجزي، وبرغبة في البكاء قاومتها ما وسعني الجهد. وسألني في دهشة: هل آلمتك يا بني؟
فنهضت قائمًا في حنق وصحت به: السلام عليكم!
ثم ندمت على إفلات هذا السلام مني في اللحظة التالية، وغادرت المكان لا ألوي على شيء، ثم خلصت إلى الطريق محطم النفس والقلب والأمل، وقطعت الطريق إلى المحطة وأنا أسبُّ وألعن وأتميز غيظًا وحنقًا: «لم أحتمله أكثر من ليلةٍ واحدة!»
رباه! .. لو أن ألف صفعة ألهبت قفاي في ميدانٍ عمومي لما آذتني كما آذتني تلك العبارة! وبلغ مني التأثر مداه فازدحمت الدموع بعينيَّ، واستسلمت للبكاء مستخفيًا بالظلمة التي تغشى الكون. ليس ثمة فائدة ترجى منه .. موته وحده بيده أن يغير وجه حياتي! أجل لا أمل البتة إلا في موته. واستقللت الترام وشرودي المعهود ينفس عن كربي بأحلامه التائهة. فرأيت نفسي جالسًا مع مدحت وشقيقتي راضية نتقاسم ميراث أبي بعد وفاته! واقترحت عليهما أن نبيع البيت الكبير فوافقاني في الحال، وأصبحت في غمضة عين مالكًا لألف جنيه! ولم يكن في الحلم أثر لأمي! فقابلت والد حبيبتي وفاتحته بشجاعة عن رغبتي في مصاهرته، وتم كل شيء دون عراقيل! وشعرت بارتياح خفف من توتر أعصابي الذي أورثتنيه تلك الزيارة المخيفة الفاشلة؛ بيد أني تذكرت بسرعة كيف أن الحلم لم يجعل لأمي وجودًا، وسرت في بدني رعدة خوف وتقزز، وتقلص قلبي امتعاضًا وندمًا، كيف سمحت لهذا الخاطر الشيطاني بأن يلوث نفسي مرة ثانية؟! ولازمني الامتعاض والغضب طوال الطريق، وجعلت أردد في نفسي: «اللهم بارك لي في عمرها!» ولم يغن عني ذلك شيئًا فعدت إلى البيت موزع النفس، مشتت البال، ولم يرتح لي جانب حتى طبعت على جبينها قبلةً طويلةً حارة.
٢٨
وفي عصر اليوم التالي ذهبت إلى محطة الترام لأفوز بدقائق السعادة التي لا يجود اليوم إلا بها. لم يعد لقاء الصباح بالمتاح إلا فيما ندر، وذلك منذ غدت حبيبتي جالسةً في الشرفة تحادث شقيقتها، فوقفت متطلعًا، منتظرًا زادي من نظرة عينيها الذي يمدني بماء الحياة. وانعطف الرأس المحبوب نحوي، ولكنه ما كاد يراني حتى تحول عني فيما يشبه الحدَّة، ثم نهضت قائمة وغادرت الشرفة. خفضت بصري ذاهلًا وقد خبا حماسي وفتر. ما الذي أغضبها؟ ألم تحتمل جمودي؟ هل يُقضى عليَّ بالحرمان من نظراتها الحلوة؟ هل قررت أن تقابل جمودي بالإعراض والتجاهل؟ وتولاني الحزن والقنوط والخجل. كان موقفي مخجلًا بلا ريب، ثم خطر لي خاطر بردت له أطرافي، وتساءلت في خوف: أيكون لأحد الرجلَين اللذين ينافساني في الإعجاب بها شأن بهذا التحول الجديد؟ لئن صح هذا، فماذا يبقى لي في الحياة؟! خبريني يا حبيبتي بحق شبابك الريان، أهي جفوة عطف خانه الصبر، أم إعراض قلب ظفر بمبتغاه في ناحيةٍ أخرى؟ لن أنسى بؤس ذلك اليوم، ولا الأيام التي تلته. اختفت حبيبتي من أفق حياتي، وتحامت الظهور بالشرفة حين أكون في المحطة، وفي مرات التلاقي النادرة في الصباح حرصت ألا يقع بصرها عليَّ. رحت آكل الشرفة والنافذة بعينَين جائعتَين أضناهما التطلع. وكنت أرى الأم أحيانًا وهي ترمقني بنظراتها المتفحصة، والأخ وهو يلقي عليَّ نظرةً غريبةً، والشقيقة الصغرى وهي ترميني بنظرة اهتمام، أما حبيبتي فقد توارت تاركةً وراءها شجرة الحياة عاريةً، قشورًا صفراء وعروقًا ذابلةً. رباه! ليس هذا بعدم اكتراث، لو كان عدم اكتراث حقًّا لما أوجب هذا الحذر كله، ولوقع عليَّ بصرها كما يقع اتفاقًا على المخلوقات والأشياء بالطريق. إنها تتجنَّبني عامدةً قاصدةً، إنها غضبى بَرِمة، ولا شك أن قصة الفتى الذي يبدو محبًّا قد ملأت البيت، ولا شك أن جموده الغريب كان موضع تعليق ونقد واستفهام! كيف فاتني أن أقدر حرج حبيبتي وحيرتها؟ وتنهدت من الأعماق، وتندَّى جبيني خجلًا، وامتلأت سخطًا على حظي التعس، وامتدت ألسنة سخطي إلى أمي المتوارية وراء كل شيء! وانطويت على كدر كأنما سفت ريح الخمسين غبارها على نفسي، فلم أجد إلا ذاتي هدفًا لسخطي وكدري وغضبي، وهي عادةٌ قديمة لي إذا ضاقت بي الدنيا أن أوسع نفسي نقدًا وهجاءً وكشفًا عن عيوبها ومناقصها، فعدت إلى التنديد بعجزي المطلق، وخوفي الشامل من الدنيا والناس وكافة المخلوقات الأخرى، وذلك الكبرياء الكاذب الذي يجعلني أصول وأجول في البيت بلا داعٍ حتى إذا اصطدم بأحقر موظف في الدولة انقلب ذلًّا وخنوعًا، استسلمت لذاك التفكير الحزين طويلًا حتى بدت لي نفسي قطعةً من البشاعة والهوان، إني شخص لا يستحق أن يعيش. إن أتفه الأعمال يملؤني ذعرًا وجفولًا، حتى تمنيت أن يكون لزيادة الماهية طريق غير الترقية، كي لا أجد نفسي أبدًا مسئولًا عن عملٍ كبير، ولن أنسى أنني بذلت قصارى جهدي حتى وكلوا بي في إدارة المخازن الآلة الكاتبة تفاديًا لأعمالٍ حقيرة لا تعدو الضرب والجمع والطرح، لست إلا مخلوقًا غريبًا شذ على قافلة الحياة الحقة، ومن آي ذلك أني لا أحفل بشيء في الدنيا إلا نفسي وما يتصل بها من قريب، ومن آي ذلك أيضًا أني لا أقرأ الجرائد على الإطلاق! ولشد ما كانت دهشة زملائي من الموظفين عظيمةً حين تبين لهم اتفاقًا أني أجهل اسم رئيس الوزارة وقتذاك بعد أن مضت أشهر على توليه الحكم، وراحوا يتندرون بجهلي كثيرًا وأنا صامتٌ كظيم، وكأني لست من هذا المجتمع، فلا أدري شيئًا عن آماله وآلامه، قادته وزعمائه، أحزابه وهيئاته، ولكم طرقت أذني أحاديث الموظفين عن الأزمة الاقتصادية وهبوط أسعار القطن وتغيير الدستور، فلم أكن أفقه لها معنى أو أجد لها في نفسي صدًى، لا وطن لي ولا مجتمع، لا لأني أسبق الوطنية ولكن لأني لم أدركها بعدُ! ولعلي أشعر أحيانًا بأني أحب الناس جميعًا، الناس كشيءٍ معنويٍّ عام، ولكن ما كان أحد من هؤلاء الناس — إذا اتصلت أسبابه بأسبابي — إلا ليثير في نفسي الجفاء والنفور. وحتى إيماني العميق لم يستطع أن يستنقذني من هذه الوحشية المخيفة، فضلًا عن أنه أثقل ضميري بالقلق والتأنيب، وأوسعني إحساسًا حادًّا بالخطيئة من جراء العادة المجنونة التي استبدت بي!
لذلك كان إذا جاء يوم الأحلام انطلقتُ إلى حانتي الجديدة بسوق الخضر لا ألوي على شيء، وطلبت الدورق الجهنمي الذي لم يعد لي عزاء سواه!
٢٩
كنت واقفًا في المحطة قبيل المغرب، لم آلُ أن أتطلع إلى الشرفة والنافذة، ولكن حبيبتي لم ترُقْ لي منذ جفتني، قاطعتني مقاطعة قاسية، وأضنت حياتي كمدًا، وكان الشتاء في إبانه، وفي السماء سحاب جون انعكس ظله الثقيل على الأرض، وهبَّت ريحٌ باردة، وقفتُ ملتفًّا في معطفي الأسود، أرفع للبيت المحبوب من آن لآخر بصرًا مشوقًا يائسًا، وعلى حين فجأة سمعت صوتًا رقيقًا يقول: من فضلك يا أستاذ …
فالتفتُّ ورائي بدهشة، ولكن دهشتي تضاعفت ومازجها خوفٌ كثير حين رأيت أمامي أحد الرجلين اللذين اتهمتهما بحب حبيبتي، ذلك الرجل الوقور الذي يقطن في عمارتها وغمغمت بارتباك: أفندم؟
فقال بصوته الهادئ الرقيق، وبلهجة تنمُّ على الوقار: تسمح نمشي قليلًا معًا!
فتساءلت بحيرة وإن حدس قلبي الخبر: لماذا؟
فقال مبتسمًا: لديَّ أمرٌ أود أن أحدثك عنه.
فلم أجد مناصًا من أن أقول: بكل سرور.
فقال وهو يرفع بصره إلى السماء: الجو بارد جدًّا، فهلا وافقت على أن نستقل الترام إلى ميدان إسماعيل، وهناك نجلس في مشرب الشاي فأحدثك دقيقتَين؟ ألديك مانع؟ وركبنا ونزلنا، وجلسنا. حدثتني نفسي سلفًا بموضوع الحديث، وداخلني إحساس بالخوف، بيد أن شعوري بأن الحديث سيدور حول حبيبتي حملني على الذهاب معه بلا تردد، بل وبرغبة لا تقاوَم، ولكني تساءلت طويلًا عما هو قائل؟ وعما يرمي إليه من وراء حديثه، وألقيت عليه أول نظرة من قريب ونحن جالسان حول مائدةٍ صغيرة. كان في الأربعين، معروق الوجه، دقيق القسمات صغيرها، وكان يحلي أصبعه بخاتم ذي فصٍّ ماسي، ويضع على عينيه نظارةً سميكةً أحدَّت من نظرة عينيه، ويعبث بسلسلة ساعته الذهبية المدلاة من عروة صدارته، سألني بأدب عما أفضله من المشروبات، ولما لم أُحر جوابًا طلب شايًا، ثم قال: اعذرني عن تطفلي هذا، ولكنك ستقدر موقفي بلا شك إذا علمت بما حداني إلى دعوتك، واسمح لي قبل كل شيء أن أقدم لك نفسي .. محمد جودت مدير أعمال بوزارة الأشغال.
ووقعت كلمة «مدير» من نفسي موقعًا مروعًا، فقلت: تشرفنا يا بك! أنا كامل رؤبة لاظ موظف بوزارة الحربية.
وجاء النادل بأقداح الشاي، ولكني كنت أفكر في الفرق الكبير الذي يفصل بيننا كموظفَين؛ هو مدير أعمال، وأنا كاتب على الآلة الكاتبة بإدارة المخازن. ولمحت وراءه مرآةً مثبتةً في الجدار، ورأيت صورتي معكوسةً على صفحتها، فنظرت إلى وجهي المستطيل وعينيَّ الخضراوين، وسرعان ما سرى عني شعور بالارتياح والإعجاب! أما صاحبي فقال لي: يا أستاذ كامل، إني دعوتك لمشاورةٍ أخوية، وأرجو أن تقدر رغبة رجل مثلي — اعتبره أخاك الأكبر — في التفاهم الصريح. لست بالمتجني على أحد، ولكني أرجو أن نكون صرحاء!
واصطنعت الدهشة وقلت: أرجو أن تفصح يا سيدي عما تريد وستجدني رهن إشارتك.
فضحك ضحكةً قصيرةً خافتةً، ثم قال بعد ترددٍ قليل: أتصفح عني إذا سألتك سؤالًا ليس لي حق في توجيهه؟
رباه إني أتلهف على سماعه .. أجل إني أوقن بأنه لن يحمل لي نبأً سارًّا ومع ذلك بدا لي كأشهى المنى. قلت مبتسمًا في ارتباك: بكل سرور يا بك!
فارتفق المائدة شابكًا أصابع يديه، وقال: لاحظت أنك تبدي اهتمامًا خاصًّا بشخصٍ ما، ولعلك أدركت من أعني (هنا خفق قلبي خفقةً عنيفة) فلا تؤاخذني إذا سألتك عن حقيقة اهتمامك هذا، هل هناك رغبة أو نية أو صلة؟!
أوشكت أن أتظاهر بالدهشة وأعلن تجاهلي؛ ولكني عدلت عن ذلك في اللحظة التالية. طالما التقت عينانا في المحطة، وطالما رأيته يراقبني وأنا أتطلع إلى الشرفة، كما رآني أراقبه يسدد عينيه لنفس الهدف، فهو يعرف كل شيء، ويعرف أنني أعرف، فما جدوى التجاهل إلا أن يكشف عن كذبي؟ فقلت متكلفًا ابتسامةً كاذبة: حضرتك أخطأت الفهم، فقدرت أني أبدي اهتمامًا بشخصٍ ما على حين أني أنظر إليه كما أنظر إلى سواه. إنها محض عادةٍ سيئة!
وضحكت متظاهرًا بالاستهانة، فابتسم إليَّ، وقرأت في عينيه عدم التصديق، ثم بادرني قائلًا: إنك جنتلمان كما قدرت، فأرجو أن تخبرني صراحةً هل لك بالآنسة علاقةٌ ما؟ إذا أجبتني بالإيجاب شددت على يدك مهنئًا وانصرفت إلى حال سبيلي.
فقلت وقلبي يتقطع ألمًا: ليس لي بها أية علاقة.
فتردد لحظات ثم سأل في حرج غير قليل: ألم تفكر في طلب يدها؟
تناوبتني أحاسيس متباينة؛ شعرت أول الأمر بعذاب لا يوصف، ثم داخلني سرورٌ خفي لأني أيقنت أن الرجل الذي يخاطبني رعديد مثلي، وإلا لشق طريقه إلى بيت حبيبتي دون أن يعبأ بي، بل أيقنت أنه يخافني، فأرضى ذلك غروري إرضاءً خفَّف عني بعض ألمي. ثم وجدتني مدفوعًا إلى الادعاء والكذب بقوة لا تقاوم، فقلت بيقين: لو فكرت فيما تقول لما منعني مانع من طلب يدها من زمنٍ طويل!
وساد صمت .. ومضى يتفرس في وجهي وقد تألقت في عينيه نظرة ارتياح. أي مانع يمنعني؟ يا للسخرية! إن كل شيء يبدو كحلمٍ غريب، هل حقًّا نحن نتكلم عن حبيبتي؟ وهل حقًّا أني لم أفكر في طلب يدها وليس لي من رغبة في ذلك؟ رباه ما أشد عذابي! وتملكني شعور باليأس لم أشعر بمثله طول حياتي الحافلة باليأس. وأخيرًا خرج «البك» من صمته قائلًا: أكرر المعذرة عن تطفلي .. الحق أن نيتي قد صدقت أخيرًا على طلب يد الآنسة بعد أن زالت من طريقي أسباب صدتني طويلًا عن التفكير في الزواج، وبدا لي أن أحدثك به حتى لا أضع رجلي في غير موضعها، والآن لا يسعني إلا شكرك.
إنه من فصيلة العجزة — هكذا حدثني قلبي — إلا أنه صادف من هو أعجز منه، فهو سعيد الحظ بلا ريب. فلم يعد لبقائي من مسوغ، فنهضت مستأذنًا في الانصراف وأنا أقول: مبارك يا سيدي.
فنهض في أدب، وبسط لي راحته، وشد على يدي بامتنان فخلته يشد على عنقي، وشعرت نحو السرور الضاحك في عينيه بحقدٍ ناري، ثم ودعته وغادرت المشرب. وساقتني قدماي على غير هدًى فاستسلمت لهما؛ لأنه لم يكن لي غاية أقصدها، وأخذت نفسًا عميقًا وقلت لنفسي: الحمد لله. وأعدت القول بصوتٍ مسموع كأني أهنئ نفسي! ولعلي كنت أهنئ نفسي حقًّا على اليأس، وأمنيها بالخلاص من القلق والعذاب واللهفة التي لازمتني منذ أشهرٍ طوال، أو منذ سكن الحب قلبي. وقلت لنفسي أيضًا: إني سعيد، وليس أحق مني بالسرور أحد، انتهت آلامي إلى الأبد! وخيل إليَّ أنني لو ألقيت بنفسي من جسر الملك الصالح — كما كان ينبغي أن أفعل في يوم مضى — لحلقت بدل أن أهوي من شدة السرور! ذقت لذة اليأس في سرورٍ هذيانيٍّ غريب، ومرت بي لحظاتٌ جنونية، والآن علمت لماذا توارت عن عيني؟! فأخذت أفيق من نشوتي الجنونية الكاذبة. ثم نشبت في قلبي أنياب الغيرة السامة، أيمكن أن يتم هذا حقًّا؟! لم أستطع أن أصدق هذا. لماذا؟ .. ربما كان مرجع هذا إلى ثقتي التي لا تتزعزع في الله الرحيم ورعايته، ولكن من كان يصدق أن ينتهي بنا الحظ إلى الحال التي نعيش عليها؟! وتنهدت من الأعماق في يأسٍ مرير، ثم سرت في جسمي رعدة من البرد القارس الذي تنبهت إليه لأول مرة بعد مغادرتي المشرب، فأحكمت المعطف حول نفسي خوف البرد لكثرة ما يتهددني الزكام في الشتاء. وألمت بي رغبة غريبة، هي أن أجد نفسي طريح الفراش! .. وتخيلت بارتياح رقادي تحوط به العناية والحنان! وعلى حين فجأة انهارت أعصابي تحت الضغط الشديد الذي تحملته، فوجدت ميلًا لا يقاوم إلى البكاء، فاستسلمت له متشجعًا بالظلمة التي تلفني وبكيت، ثم ازددت استسلامًا فأجهشت في البكاء حتى انتحبت وشهقتُ كالأطفال.
٣٠
في الساعة العاشرة من صباح اليوم التالي كنت في طريقي إلى الحلمية؛ إلى أبي. كيف انتهيت إلى هذا، خاصة وأنه لم يكد يمضي شهر على الزيارة المخيفة؟! إنه اليأس .. قضيت ليلةً مسهدةً معذبةً لم يغمض لي فيها جفن، وتفكرت في أمري طويلًا حتى تجسمت لي الأفكار شخوصًا تصرخ بي أن اذهب إلى أبيك، مهما كلفك الأمر، وليكن ما يكون. ولم يكن التردد بممكن في مثل حالتي؛ لقد فقدت رشادي، وأذهلني الألم عن مشاعري الطبيعية بالتردد والخجل والخوف، فكان أبي — على رغم كل شيء — الأمل الوحيد الباقي لي.
واخترت أن أزوره في الصباح لأني أملتُ أن أجده قبل سكره في حال خير من تلك التي وجدته عليها في الزيارة السابقة المشئومة، وفضلًا عن هذا كله فلم يكن بي من صبر أستطيع أن أنتظر به حتى الأصيل، فتلفنت إلى إدارة المخازن معتذرًا ومضيت لطيتي. وكان الصداع يدق غلاف رأسي بمطرقته، بعد ليلة سهاد وهمٍّ، بيد أني تماسكت واستمددت من يأسي قوةً لم أعهدها في نفسي من قبلُ. وبلغت البيت بعد العاشرة بقليل، فوقف لي عم آدم احترامًا، فحييته ودخلت بلا طلب استئذان، إما لأني أبيت أن أستأذن في دخول بيت أعده بيتي، وإما لأني تناسيت ذاك في قلقي وغمي. ومضيت إلى الفراندا وارتقيت السلم متنحنحًا، ولكني وجدتها خاليةً، فوقفت مرتبكًا، وأدركني آدم فدفع بابًا يفضي إلى الداخل وسبقني وهو يقول: كامل بك حضر.
وتنحى لي، فاجتزت العتبة بقدمَين ثابتتَين. وجدت نفسي في حجرةٍ كبيرةٍ مستطيلة تنتهي ببابين في الجدار المقابل، علقت بينهما صورة بالحجم الطبيعي لأبي في عز شبابه، وقد غُطيت أرضها ببساطٍ نفيسٍ منمنم، وصُفَّت على جانبها الكنبات، وأُسدلت الستائر على نوافذها وأبوابها .. ورأيت أبي متربعًا على كنبة تتوسط الجناح الأيسر للحجرة، وأدوات الشراب أمامه على منضدةٍ أنيقة كأنها — لعدم انفصالها عنه — عضو من أعضائه. ولم يكن بمفرده، كان الحلاق على كثب منه يجمع أدواته في حقيبته، ثم حياه بأدب وذهب، وعلى أثر ذهابه تراجع عم آدم ورد الباب، واتجه بصري وأنا أقترب منه صوب القارورة فوجدتها لم تمس، وداخلني لذلك ارتياح وأمل. ومددت له يدي فتناولها بكفه الغليظة، وجرت على شفتيه ابتسامةٌ باهتة وهو يقول: أهلًا بك، أأنت في إجازة؟
لم أرتح إلى استقباله، ولكني غضضت عن ذلك، والحق أن آلام الليلة الماضية، والصداع الناشب في رأسي، ويأسي المرير، تغلبت على ما طُبعتُ عليه من خجل وخوف وتخاذل، فقلت: نعم في إجازةٍ خاصة كي أقابلك في الحال.
فرمقني بنظرة لم يحاول إخفاء ما لاح فيها من قلق؛ مما أثار حنقي وغيظي، وتساءل باقتضاب: أمرٌ هام؟!
تناسيت كل شيء إلا ألمي المبرح وأملي الباقي، فقلت بانفعال نمت عنه نبرات صوتي: هام جدًّا، أو بالأحرى هو حياتي ومستقبلي.
فردد قولي دون أن يخرج من جموده وذهوله الذي استحال طبيعةً أخرى له: حياتك ومستقبلك!
فقلت برجاء وإشفاق: زواجي الذي حدثتك عنه! إن رجلًا يوشك أن يطلب يد الفتاة التي أريد أن أتزوجها، فإذا لم أتقدم في التو والساعة أفلتت الفرصة من يدي، وضاعت حياتي!
أتراه قاذفي بإجابةٍ ساخرة كعادته؟! وانقبض قلبي في فزع؛ ولكنه لم يكن هاذيًا ولا معربدًا، ومع ذلك بدا جامدًا سقيمًا ذاهلًا، بل ميتًا. كان كل شيء يسوغ لي اليأس، بيد أني أبيت أن أيئس، وثبت ذهني المكدود على فكرةٍ واحدة عميت عما عداها في السباق الجنوني الذي أكابده. انتظرت على جزع حتى قال: اطمئن، فإن حياة الإنسان لا تضيع لضياع امرأة.
فهتفت بحرارة: إني أعلم الناس بحياتي!
فقال بعدم اكتراث: أنت وشأنك يا بني .. لن أتدخل فيما لا يعنيني!
فقلت بعناد: إني في حاجة قصوى إلى المال، سبق أن أخبرت حضرتك بذلك.
فسألني بلهجة نمت عن الملل: وماذا قلت لك؟
فتملكني الحنق، وبدا لي في صحوه أفظع منه في سكره، وقلت مدافعًا عن نفسي بإصرار وقنوط: لا بد أن أحصل على المال الذي أريد .. أرجو أن تقدر حرجي وشدتي، فإذا ضاعت مني هذه الفرصة انعدم أملي في الحياة.
وألقى نظرةً على القارورة، ثم قطب قليلًا وقال: أنت تطلب مالًا وليس عندي مال!
– هذا غير معقول!
– هو الحق الذي لا شك فيه!
وأيقنت من لهجته واستهانته وتبرمه أن السماء أقرب إلى إثارة اهتمامه وعطفه، وتألب عليَّ القنوط والصداع والحنق، فقلت بصوتٍ مرتفع ملأ الحجرة الكبيرة: إنك لم تنفق عليَّ مليمًا واحدًا، فماذا يضيرك لو تنازلت لي عن بضع مئات من الجنيهات؟!
ونفخ الرجل عابسًا، واشتد احمرار وجهه، ثم قال بصوتٍ غليظ: يبدو لي أنك لا تفهم ما يقال، ولا تعي ما تقول، قلت لك ليس عندي مال .. ليس عندي مال .. ليس عندي مال!
وأفلت مني زمام نفسي فكورت قبضتي وضربت فخذي وصحت به: أليس ثمة رحمة في قلبك؟!
فحدجني بنظرة كأنما يقول لي لقد أعياني إقناعك، وقال باقتضاب وعدم مبالاة: كلا!
فرمقته بنظرةٍ جامدة وشت بلا شك بأحاسيس الكراهية والحنق التي تفور بصدري حتى رأيته يعبس ويتجهم وجهه، ثم صاح بصوت كالخوار: ألا تريحونني كي أعيش البقية الباقية من حياتي في هدوء؟!
فصحت به كمن فقد وعيه: متى أزعجنا حياتك؟ أنت الذي أزعجت حياتنا … إني في حاجة لبعض المال الذي تنفقه على الخمر بغير حساب، ولا بد أن آخذ ما أحتاج إليه.
فقبض على الكأس الفارغة بأصابع متشنجة وزعق قائلًا: هذا كلام مجانين! أتسبني في وجهي؟ أتهددني؟ اغرب عن وجهي ولا تعد إلى هذا البيت ما دمتُ حيًّا!
فاشتد بي الغضب وصحت بانفعالٍ شديد: هذا بيتي، وما به من مال فهو مالي، ولن تمنعني قوة عما أريد، أفاهم أنت؟ أفاهم أنت؟
فنهض قائمًا والشرر يتطاير من عينَيه، وصفق بقوة جنونية وصرخ فيَّ قائلًا: اغرب يا ولد عن وجهي، وإياك أن تعود إلى هذا البيت! آدم .. آدم!
وفتح الباب ودخل عم آدم كأنه في الانتظار، واقترب منا وهو يقول: أفندم يا بك .. خير إن شاء الله.
وبردت فجأةً كأن «دشًّا» انهال عليَّ. سكت عني الغضب، وخمد الهياج، وولى قلبي فرارًا، وقبضت يد الخوف الباردة على عنقي فتسمرت في مكاني مرتبكًا ذاهلًا زائغ البصر؛ ذهب كامل الذي اصطنعه الغضب واليأس، وبقي كامل الآخر كما خلقته الطبيعة. ولم يرحم الرجل الهائج ضعفي فصاح بالبواب قائلًا: أوصل هذا إلى الباب، ولا تسمح له بالدخول مرةً أخرى؛ إنه يتهددني بالقتل.
وحملقت في وجهه بذهول وانزعاج، لا أكاد أصدق أذني، فلاح لي في هياجه الجنوني كشيطانٍ رجيم. وصرخ في وجهي: اغرب عن وجهي.
ولكني لم أُبدِ حراكًا، أو بالأحرى لم أستطع أن أبدي حراكًا، تمنيت لو تنشق الأرض وتبتلعني، ومتُّ خوفًا وكمدًا وخجلًا. وانتظر الرجل عابسًا، فلما رآني لا أتحرك ولَّاني ظهره وغادر الحجرة إلى الداخل على حين تقهقر البواب إلى الفراندا. وجدت نفسي وحيدًا فعضضت على شفتيَّ، واستعدت وعيي، فاستطعت أن أنهض قائمًا في وجوم، ثم غادرت الحجرة متحاميًا النظر ناحية البواب. وحثثت خطاي في الحديقة، والبواب يتبعني مغمغمًا بالاعتذار والتأسف، منتحلًا للبك الأعذار قائلًا: «إنه دائمًا هكذا.»
وابتعدت عن البيت دون أن أنبس بكلمة.
٣١
قطعت نصف النهار الأول متسكعًا في الطرق مختنق الأنفاس من اليأس والحنق والقهر والخزي والخجل .. وعدت إلى البيت في الموعد المعتاد حتى لا تتساءل أمي عما جاء بي قبله. وغلبني النوم بعد الغداء فاستغرقت فيه حتى أول المساء، ثم غادرت البيت مثقل النفس كأنما أحمل الأرض على رأسي، وتساءلت: أين أذهب؟! فما وجدت إلا جوابًا واحدًا. نادتني الحانة نداءً مغريًا، واستصرخني قلبي أن ألبِّي وأطيع. بيد أنني لم أغفل عن الحقيقة الراهنة وهي أن ميزانيتي — ذلك الشهر — ستختل حتمًا بعد السكرة المشتهاة فلا أجد ما أنفقه حتى قبض المرتب الجديد .. على أن النداء ظل عنيفًا لا يقاوَم، وبدا لي في تلك اللحظة التعيسة أن نشوة ساعة خير من حياة لا خير فيها .. وتحسست يدي ساعتي الذهبية فقفز إلى خاطري أن أبيعها إذا أعوزني المال، وداخلني ارتياح فابتسمت لأول مرة في يومي. على أنني تساءلت في اللحظة التالية عما أقول لأمي إذا افتقدت ساعتي، ولا بد أن تفتقدها يومًا؟ ولكني نفخت ضجرًا وهتفت حانقًا: «أمي، أمي .. دائمًا أمي! سأفعل ما أشاء». واستقللت الترام بلا تردد. وفي الطريق هفت على نفسي ذكرى جدي لغير ما سببٍ واضح، فذكرت أيام الرغد والهناء التي فقدتها بفقده، ثم وجدتني أتمنى لو كان قبض يده الكريمة عني ونشَّأني على البخل والتقتير، أما كنت أكون أقدر على تحمل حياتي الراهنة! وقرأت الفاتحة على روحه المحبوبة. ثم غادرت الترام في العتبة وقصدت سوق الخضر حيث توجد حانتي المتواضعة، وما انتهيت من نزع معطفي والجلوس إلى مائدةٍ خالية حتى جاء النادل اليوناني بالدورق. حانتي شعبية بلا ريب؛ ولكنها محترمة لدرجةٍ ما، فإلى جانب الحوذية والمجلببين تجد لمةً من الموظفين الكهول الذين لا تسمح لهم ظروف المعيشة وأعباء الأسر بارتياد الحانات الغالية. ومن هؤلاء موظفٌ عجوز مغرم بالغناء والطرب، ما يكاد يسكر حتى يسترسل في ترديد الأدوار القديمة مثل: «في العشق يا ما كنت أنوح» و«يا ما أنت واحشني»، ولم يكن صوته يخلو من تطريب وأداء يبشُّ له الجلوس، ويتطوع نفر منهم لترديد المذهب في انسجامٍ لذيذ. أخذت في الشرب، وكالعادة تولاني الشعور بالارتياح والمرح؛ ذلك الشعور الذي لا أجده إلا بين السكارى في الحانة، المكان الأوحد الذي أتخفف فيه من وقار الخجل والعي والحصر والقلق والمخاوف، ونعمت بطمأنينة وسرور كأنني أُرد إلى أهلي وعشيرتي بعد اغترابٍ ثقيل، وتمنيت لو كان في الإمكان ألا أبرحهم مدى الحياة. وما لبثت أن غمرتني النشوة الساحرة، وأُفعم وجداني طربًا. ولم يكن الموظف الفنان قد بدأ الغناء بعدُ، وكان يحدث رفاقه بصوتٍ مرتفع يسمعه الجالسون جميعًا، ولا بأس من أن يشتركوا فيه كما يشتركون في الغناء. قال: تصوروا يا هوه أن الطبيب ينصحني بالكف عن الخمر!
– لماذا كفى الله الشر؟
– وجد عندي ضغط دم وتصلبًا في الشرايين.
– اشرب حلبة على الريق تضمن صحتك طول العمر.
– وقال لي إذا واصلت الشرب ستهلك لا محالة.
– العمر بيد الله!
– فقلت وإذا لم أواصل الشراب فسأهلك يومًا لا محالة.
– إجابة تستاهل عليها دورق كونياك على شرط أن تدفع ثمنه.
– هل تصدقون أني رأيت هذا الطبيب ذات مساء جالسًا في سانت جيمس يشرب ويسكي؟!
– وهكذا الأطباء جميعًا! ينتش أحدهم جنيهك ويقول لك: «إياك والخمر!» ويمضي به إلى سانت جيمس ويشرب قارورتين!
واعتدل الموظف العجوز في جلسته قليلًا، وراح ينقر على المائدة ويهزُّ رأسه، ثم غنى قائلًا: «انصف محبك يا جميل»، واتجهت نحوه الأبصار، وأخذت الجوفة أهبتها للترديد. وكنت أشرب، وأجاذب من يجاذبني الحديث، وأضحك ملء قلبي .. ودار رأسي كالعادة بسرعة، ورقصت النشوة في قلبي، وطرت إلى سماء السرور واللامبالاة. ومكثت على ذلك زمنًا طويلًا أو قصيرًا لا أدري لأن السكران يفقد حاسة الزمن، ثم ودعت الصحاب وغادرت الحانة ورنين الطرب يلاحقني. وضربت على وجهي زمنًا آخر، ثم ناديت عربةً وركبت دون مبالاة بالميزانية المنتحرة، وأمرته أن يذهب إلى المنيل. وسويت المقعد الخلفي ومددت ساقي عليه في جلسة سلطنة وأبهة غير شاعر ببرودة الجو، وداخلني ارتياح لحركة العربة الحالمة، وسرعان ما خامرني ميل إلى العبث فقلت للحوذي في حذر كاذب: إن امرأة تنتظرني في الطريق وسآخذها معي!
فقال الرجل: رهن أمرك يا بك!
فقلت لنفسي في سخرية: إن كل شيء على ما يرام .. عربةٌ مريحة وحوذيٌّ طيع، وليلٌ ستار، فلا ينقصنا إلا المرأة. ثم قلت مستسلمًا لداعي الكذب: هي سيدة من الطبقة الراقية، فهلا وجدت لنا طريقًا آمنًا؟
فقال ضاحكًا: أظن جاردن ستي آمن طريق قريب!
فهتفت به: خاب فألك، إن قصرها بجاردن ستي!
فقال باهتمام: أمامنا جزيرة الروضة؛ وإن كان الجو باردًا وأنا رجل عجوز لا أحتمل البرد!
فقلت مشجعًا: سأعطيك جنيهًا كاملًا!
وشكر الرجل لي بحماسة، وقد تهيأ له أنه عثر على كنز، وجعلت أضحك في سري وأتحسس بأصابعي الريال الذي لم يبقَ لي غيره حتى نهاية الشهر. ومرَّ زمن ثم رأيت العمارة المحبوبة — عمارة حبيبتي — تقترب، ودبَّت في قلبي يقظةٌ غريبة وعلقت بها عيناي. لم أعد أملك حرية النظر إليها — وكان كل عزائي — بعد ما كان بيني وبين خطيبها المرتقب! لم يعد بوسعي أن أتطلع إلى الشرفة أو النافذة. ترى هل خاطب سعادة مدير الأعمال أباها؟ هل صارت حبيبتي مخطوبةً حقًّا؟ ألم تذكر المحب القديم — الصامت العاجز — وهي تنتقل إلى دنياها الجديدة؟ ألم تجد نحوه شيئًا من الأسف؟ وشعرت برغبة في الانتقام من الدنيا جميعًا، وتولاني إحساس بالذهول والانقباض فلبثت جامدًا حتى بلغت العربة شارعنا، فأمرت الحوذي بالوقوف وغادرت العربة، ونقدته ثمانية قروش، فتناولها في دهشة وتمتم متسائلًا: والمشوار الآخر؟
وانطلقت مني ضحكةٌ خافتة على رغمي، ومضيت إلى حال سبيلي. وارتقيت السلم في تثاقل وتعب، وفتحت الباب بمفتاح في جيبي ورددته بلا حذر، ثم سرت إلى حجرة النوم وأنرت الكهرباء، فوقع بصري على أمي وهي مستسلمة لنومٍ عميق ينم عمقه على الجهد الذي تبذله في يومها الشاق الطويل، فوقفت لحظةً أتفرس في وجهها، ثم هتفت بها قائلًا: نينة!
وفتحت عينَيها وهي تغمغم: من؟ .. كامل!
فقلت بهدوء واستهانة: إني سكران!
فحملقت في وجهي بانزعاج، ثم جلست في الفراش باضطراب وقالت: إنك ترعبني بدعابتك.
فقلت بغير مبالاة: ليس في الأمر دعابة على الإطلاق، لقد شربت دورقَين كونياك أوتار.
وانزلقت من الفراش، واقتربت مني بارتياع وعيناها لا تتحولان عن عينيَّ حتى شعرت بأنفاسها تتردد على وجهي، ثم امتُقع لونها وقالت بصوتٍ متهدج: لم فعلت هذا بنفسك؟ .. كيف تطيع الشيطان بعد أن تبت إلى الله؟
فلم أنبس بكلمة، واشتد بي الذهول، واستدركت هي تقول: اخلع ملابسك .. دعني أساعدك!
وراحت تنزع عني ملابسي وأنا صامتٌ ذاهل .. لماذا فضحت نفسي على ذاك النحو الغريب؟ .. لم أكن في حالة سكر يتعذر معها ضبط نفسي، بل من المؤكد أنني رجعت في ليالٍ سابقة في حالةٍ أشد سكرًا فما أحدثت منكرًا، وما تهاونت في حذري كي لا تستيقظ من نومها، فما الذي دهاني تلك الليلة؟ والأعجب من هذا وذاك أنني كنت خالي الذهن حتى بعد أن دخلت الشقة، ولم يثب إلى خاطري أن أوقظها إلا عندما وقع بصري عليها، فلما أن لبَّت ندائي قلت ما قلت بلا تردد، وربما بلا إدراك، ولكني كنت مدفوعًا بقوة لا تقاوَم! .. ولم أستشعر ندمًا وقتذاك، وجعلت أتفرس في وجهها المتألم وهي تنزع ملابسي جامد الإحساس متحجر الشعور. ثم ابتعدت عنها صوب المشجب فتناولت البيجاما وارتديتها صامتًا، وصعدت إلى فراشي واندسستُ تحت الغطاء .. واقتربت مني، ووضعت راحتها على جبيني، وسألتني بصوتٍ مرتجف النبرات: أتشكو شيئًا؟ هل أصنع لك قهوة تسند رأسك؟
فقلت لها: شكرًا، لا أريد شيئًا على الإطلاق.
٣٢
مضى على تلك الليلة وما خلفت من شجن أسبوع، أو أكثر لا أذكر، وكنت قد انتهيت من عملي اليومي وجلست أنتظر موعد الانصراف في ملل وتعب، وقبيل الساعة الثانية بقليل استُدعيت إلى التليفون فانتقلت إليه في دهشة لأنه لم يحدث قبل هذه المرة أن طلبني أحد بالتليفون، ولأنني لم أكن أنتظر أية مكالمة تليفونية إطلاقًا، ووجدت المتحدث شقيقي مدحت وقد قال لي باقتضاب: والدنا توفي، احضر إلى الحلمية!
وعقدت الدهشة لساني، فلم أزد أن قلت: سأحضر في الحال!
وأعدت السماعة إلى موضعها ولبثت واقفًا في مكاني، واتجهت نحوي الأبصار وسألني الزملاء عما هناك؟ فقلت في ذهول: مات أبي!
وتلقيت التعازي كالمعتاد، وما لبثت دهشتي أن استحالت خوفًا؛ لأن الموت يخيفني دائمًا، وغادرت الوزارة وانطلقت صوب المحطة. مات أبي إذن! هذه حقيقة لا شك فيها. وأخذت أفيق من وقع الدهشة، وأستشعر نسائم ارتياحٍ عميق تهفو على نفسي! بيد أن صورته تمثلت لعيني في وضوح بصلعته المستديرة ونظرته الغائبة، وخيل إليَّ لحظةً أني أستمع إلى صوته الأجش وضحكته الساخرة. ترى متى مات؟ وكيف مات؟ ألا ما أغرب الموت! إن الموت لا يتخلى عما له من خواص المأساة حتى في حال رجل كأبي عاش جل عمره عيشة الأموات بعيدًا عن الدنيا والناس، فعيشة الأموات شيء، والموت نفسه شيءٌ آخر. وطرحت على نفسي هذا السؤال: من عسى أن يحزن لموت أبي؟ .. مدحت؟ راضية؟ بدا لي أنه سيغادر الدنيا غير مودَّع بحزن أو أسًى، وبدا لي ذاك مأساةً أفظع من مأساة الموت نفسها. أليس مستنكرًا أن يحيا إنسان في هذه الدنيا أكثر من سبعين عامًا ثم لا يترك وراءه راثيًا؟! وجدت عند ذاك عطفًا وحزنًا! وإنها لعاطفةٌ غريبة لم تختلج له في صدري من قبلُ، ولعلها كانت وليدة الارتياح لا الأسى؛ لأنه في مثل حالتي قد تجود النفس بالحزن لتداري سرورها، أو لتعبر عن هذا السرور بطريقٍ ملتوٍ، ولعلها عاطفةٌ صادقة أفصحت عن نفسها بعد أن ذهبت — بموته — العوائق التي كانت تعتاقها. مضيت إلى الحلمية، ولما أقبلت على البيت القديم رأيت نفرًا من الأسرة يجلسون صفًّا على الكراسي الخيزران، يتوسطهم رجل وقعت عليه عيناي أول مرة وعلمت أنه عمي بعد ذلك، وكان مدحت يجلس إلى يمينه ويليه زوج أختي. وسلمت واجمًا مرتبكًا حتى نهض شقيقي ومضى بي إلى الحديقة وقال لي: كان يومًا شاقًّا مريرًا، ولكن انتهى كل شيء!
فسألته: لماذا لم تستدعني قبل ذلك؟
فتنهد مدحت وقال: كنا في شغلٍ شاغل، ولولا أن راضية ذهبت بنفسها إلى أمنا فجاءتا معًا لما علمتَ حتى الآن بالخبر. ألا تدري ماذا حصل؟ لقد تلقيت برقيةً في الصباح الباكر من عم آدم يطلب إليَّ الحضور توًّا لأن والدي لم يعد إلى البيت منذ ليلة أمس، فحضرنا جميعًا، وأخبرنا عم آدم بأن والدنا غادر البيت قبيل غروب الأمس وأنه لم يعد على خلاف عادته، وانتظره الرجل قلقًا حتى قبيل الفجر، ثم أرسل لنا البرقية في الصباح الباكر، وأنا أعلم أن والدنا كان يحلو له الخروج من آن لآن عند الأصائل، وهو ثمل — كما تعلم — فيسير قليلًا على قدمَيه ثم يستقلُّ عربة تنطلق به حيثما اتفق ثم يعود إلى البيت بعد ساعة أو ساعتين، ولكنه لم يحدث أبدًا أن قضى الليل خارج بيته، ولذلك أثار غيابه قلق الرجل وأوقعنا في حيرةٍ شديدة. ولم نكن نعلم له من صديق أو جهة، ولكن وقع في ظننا أنه ربما يكون ذهب إلى راضية فمضينا إليها، ولكنها لم تكن رأته منذ مفارقتها البيت، ولم نشأ أن نضيع الوقت سدًى فاتفقنا أن تذهب هي إلى أمنا من باب التقصي، وأن نستفسر — أنا وعمك — عنه في قسم الخليفة، وهناك أخبرنا الباشجويش أن حوذيًّا جاء إلى القسم أمس يحمل رجلًا له أوصاف أبينا وقد فارق الحياة، وقال الحوذي إنه استقل عربته في ميدان باب الخلق وسار به كرغبته في اتجاه الإمام، ولما أراد أن يستفسر منه عن وجهته بالتحديد في أثناء الطريق وجده كالنائم، وناداه ليوقظه فلم يغن عنه النداء، فأوقف العربة وانتقل إليه وهزَّه برفق، ثم تبين له أنه فارق الحياة. فلم يرَ بدًّا من أن يحمله إلى القسم، وقد قبضوا على الحوذي على سبيل الاحتياط، وحُمل أبي إلى القصر العيني حيث اتضح موته ميتةً طبيعية بالسكتة القلبية، وانتقلنا إلى القصر العيني فأدخلونا إلى بهو الجثث المشرحة …
وسكت مدحت وقد لاحت في عينيه آي الألم والتفجع، ثم استدرك في شبه ثورة مكتومة: يا له من منظر! .. لا أدري كيف عرفنا أبي! .. كان شيئًا آخر!
واغرورقت عيناه بالدموع، ولم أكن رأيته إلا ضاحكًا؛ فاشتد بي التأثر وطفرت الدموع إلى عيني.
ولزم الصمت حتى استعاد رباطة جأشه، ثم أخبرني بما تم الاتفاق عليه من تشييع الجنازة في الساعة الرابعة، ثم قال لي: إنه راقد الآن في مخدعه، فاذهب لتلقي عليه النظرة الأخيرة!
وخفق قلبي خفقةً عنيفة، وتملكني خوفٌ شديد، ولكني لم أستطع رفع بصري إليه، ولم أجد مناصًا من التظاهر بالترحيب بفكرته، فاتجهتُ صوب الفراندا متعثرًا في خوفي وارتباكي، وارتقيت السلم مزدردًا ريقي، فلمحت شقيقتي ولمحتني في وقتٍ واحد، والظاهر أنها أخبرت أمي بحضوري؛ فجاءت على عجل وقابلتني في الفراندا وسألتني في قلق عن وجهتي، فقلت: أريد أن أرى أبي!
فقالت برجاء وإشفاق: هلا عدلت عن هذا يا كامل؟ .. إن قلبك أضعف من أن يحتمل مشهد المنتقلين إلى رحمة الله!
وتنهدت في ارتياح، وارتفع عن عاتقي حمل ثقيل .. لم يكن ما بي شيء غير الخوف. وهل يستطيع أن يواجه الموت في أبشع حالاته وأفظعها قلب تتولاه الرجفة حيال فأر أو خنفساء؟! ورجعت إلى الخارج وجلست بين عمي وأخي صامتًا، وقبل الموعد المحدد لسير الجنازة بنصف ساعة أخذ المشيعون يتوافدون علينا، فجاء بعض الجيران وموظفو إدارة المخازن بالحربية، ولما لم يكن لأبي معارف، ولم يكن لعمي أصدقاء في القاهرة، فلم يزد عدد المشيعين على عشرين. وقال عمي متأثرًا إنه سيحيي ليلة المأتم في بيته بالفيوم. ثم أزفت اللحظة الأخيرة، وارتفع صوات أختي راضية يمزق الصمت الثقيل؛ فاهتزَّ قلبي تأثرًا ودمعت عيناي. ولم نلبث أن انتظمتنا الجنازة. وغشيتني بادئ الأمر كآبةٌ ثقيلة استثارها في نفسي منظر النعش، وظل الموت، وما عاودني من ذكريات جدي ووفاته. ثم جعلت الغشاوة تنقشع والسكينة تعاودني، واسترقت النظر إلى من يحيطون بي، فرأيت وجوهًا هادئةً، وأخرى باسمةً لسبب أو لآخر، فسرِّي عني وثابت إليَّ نفسي، وذكرت بغتةً كيف كنت أسير في الصباح صوب الوزارة خالي الذهن مما يترصدني من أحداث اليوم، وكيف أسير الآن وراء النعش؟! فعجبت لحياتنا الغريبة، وخيل إلي في تلك اللحظة أن الحياة تبرز لسانها في شطارة وتهكم مغرقةً في الضحك! ثم ساءلت نفسي عن أي الحالَين أفضل؛ حال الصباح أم حال المساء؟! ولم أستطع مقاومة موجة رقيقة من الارتياح والسرور. على أن شعوري الديني العميق احتجَّ احتجاجًا صارخًا وبثَّ في حناياي الخوف والقلق، فتعوذت بالله من الشيطان الرجيم، ورحت أتهرب من إحساس السرور والارتياح الذي يلاحقني، فقطبت متجهِّمًا وأنا لا أدري، ولكن دون جدوى، فسرعان ما هزأ عقلي بهذه المحاولات الصبيانية وانطلق يفكر في الثروة المنتظرة. وذكرت ما سبق أن حلمت به من بيع البيت، فتساءلت: ترى هل يتحقق الحلم؟ هل أصبح مالكًا لألف من الجنيهات ونيف؟ ولكن هل تلكأ منافسي في اتخاذ الخطوة الحاسمة أم قُضي الأمر وليس ثمة أمل! أتكون الثروة المنتظرة وسيلتي للسعادة المرموقة، أم تكون أداةً جديدةً من أدوات القدر التي يستعملها في السخرية من المخلوقات الضعيفة؟! لقد سخر من فقري وعجزي، وإنه لقادر على أن يسخر من ثرائي وقوتي، ليريني أني على الحالتين مقضي عليَّ بالحسرة والتعاسة. وفتر حماسي وخمد، وعراني وجوم وقلق، ودعوت الله في رجاء وإشفاق أن يجعل فتاتي من قسمتي ونصيبي .. وانتبهت من أفكاري على توقف سير الجنازة أمام الجامع .. وأدخل النعش للصلاة عليه، على حين انفصل عنا المعزون مشكورين، ثم أودع النعش سيارة الموتى، وانطلقت بنا وبه إلى الإمام، وانتهى المطاف …
واجتمعت الأسرة ليلًا في الحجرة الكبيرة التي قابلتُ فيها أبي لآخر مرة، فجلست وعمي وشقيقي وزوج أختي في جانب منها، وجلست أمي وأختي وزوجتا عمي وأخي في الجانب الآخر. وكان عمي رجلًا عمليًّا — وقد ذكَّرني مظهره بأبي — فتحدث عن الإجراءات الواجبة لإثبات الوراثة، واقترح أن يقدمنا إلى صديق له في وزارة الأوقاف لييسر لنا قبض مرتباتنا الشهرية. وتحدث أخي مدحت فقال إنه يرى أن نبيع البيت ما دام أحدنا لا يرغب في سكناه، ووقع رأيه من نفسي موقعًا حسنًا لم أحلم به، فوافقت عليه بحماس نسيت أن أداريه، ولم تمانع راضية، وقال عمي: إنه بيتٌ قديم ضخم لا يغري إلا شاريًا مثريًا، يهده ويشيد مكانه عمارةً كبيرةً على طرازٍ حديث، على أنه لا يمكن أن يباع بأقل من أربعة آلاف جنيه. أربعة آلاف .. آه لو يكون منافسي تأخر! وكبر عليَّ أن أتصور أن يخيب الله رجائي بعد أن حقق أحلامي على هذه الصورة الباهرة. إن ثقتي بالله لا حدَّ لها، وهو الخبير المطلع. ولاحت مني التفاتة نحو أمي فوجدتها صامتةً غارقةً في أفكارها وقد ارتفع حاجباها الخفيفان وانفرجت شفتاها عن أسنانها الصغيرة اللامعة، ترى فيم تحلم؟! وما حقيقة مشاعرها حيال المتوفى؟ .. هل أعادها هذا البيت القديم إلى عهود حياتها المنطوية؟! وشعرتُ نحوها بعطف وحب، ثم ذكرت الأفكار التي تتملكني فداخلني إحساس بالقلق والخوف!
ولما اقترب الليل من منتصفه اقترح أخي أن نبيت ليلتنا بالبيت؛ لكن أمي آثرت أن نعود إلى بيتنا على أن نرجع مع الصباح. وبذلك غادرنا البيت القديم وسرنا جنبًا إلى جنب صوب المحطة، وحدثتني في الطريق قائلةً: أما كان الأفضل أن تُبقوا على البيت.
فقلت بدهشة: وماذا نصنع به؟ إنني في أشد الحاجة إلى نصيبي من ثمنه!
فقالت: حسبك راتبك الشهري، أما هذا القدر الكبير فما أدري والله ما حاجتك إليه؟!
ترى هل استشعر قلبها خوفًا؟! وساورني القلق والاستياء، واختلست منها نظرةً؛ ولكني لم أتبين في الظلمة ما يبدو على وجهها، وواصلت حديثها قائلةً في لهجة تنمُّ عن الإشفاق: إياك وأن تفرح لموت أحد! لا تذكر أباك من الآن فصاعدًا إلا دعوتَ له بالرحمة، فما أحب لك أن تُسرَّ لموت إنسان مهما كان هذا الإنسان!
عجبت لهذا الكلام يلقى عليَّ من الفم الذي بثَّ فيَّ المقت لأبي، لكن لم يخطر لي على بال أن أذكِّرها بهذه الحقيقة العجيبة. ثم عدنا إلى بيتنا دون أن ينبس أحدنا بكلمة.
٣٣
لم أعد الفقير المعوِز الذي كنت .. رُفع عن كاهلي عبء الحاجة والحرمان، غدوت ذا دخل لا بأس به، غير الثروة التي ستوافيني في خلال شهر أو شهرَين، ولكن مسني جنون لم يكن لي به عهد؛ جنون محب لا يقعده الفقر! كان لي من الفقر رادع يحدُّ من طموحي، ويجعل من حبي حسرةً طويلةً منطويةً في ذات نفسي، ولذلك سلمت بالهزيمة حيال منافسي محمد جودت دون مكابرة، وانطلقت في الطريق أنشج كالأطفال، فلما قُتل الفقر غدا الحب مطمعًا غير محال. فتناسيت العوائق الأخرى، وركبني جنون جديد؛ جنون من تبدو له السعادة ممكنةً، ولا يحول بينه وبينها إلا أن يتغلب على خجله فيقتحم سبيله ويجرب حظه. لزمت المحطة طويلًا في عصر اليوم التالي للوفاة، وجعلت أتطلع إلى النافذة المحبوبة برغبةٍ جنونية، ما عدت أرى حبيبتي، وما أدري إن كان الذي أخشى قد وقع، ولئن كان فلن أجني من ثروتي إلا السم الزعاف، ولكن هبها لاحت وراء النافذة فما عسى أن أصنع؟! هل تواتيني الشجاعة على أن أومئ لها بطرفٍ خفي؟ .. لشد ما ينقبض قلبي خوفًا وجفولًا! لست من ذلك في شيء .. لو كان بي ذرة من شجاعة لاقتحمت باب العمارة دون تردد ولاستأذنت في مقابلة البك وعرضت عليه ما يجول بخاطري. هل يعد هذا من الخطورة بحيث يستدعي كل هذا الخوف؟ وهبه على أسوأ فرض قد اعتذر من عدم القبول، فلماذا أعدُّ هذا الرفض أشد من الموت وأقتل من القتل؟! .. لماذا لا يكاد يجول بخاطري حتى أتصبب عرقًا ويتنزى قلبي في صدري؟! يا ألله! .. أما يتزوج الناس كل يوم بالعشرات والمئات؟! .. كيف يتلمس الأزواج الوسائل ويقتحمون السبل؟! ليس بيني وبين مبتغاي إلا أن أطرق هذا الباب. فإما سعادة الأمل أو راحة اليأس، فإلام أتردد وأحجم؟! إنه بيت وليس بحصن، وإني طالب زواج ولست بعدو، فلماذا أخاف كل هذا الخوف؟! ليست غايتي أن أغزو قارةً ولا حتى أن أخوض معركةً، ليس المطلوب أن أكون نابليون أو هانبيال، لا يعدو الأمر أن أقدم نفسي، وأن أعرض سؤالي، وأنا محوط بالرعاية التي يتلقاها ضيف من مضيفٍ كريم، ثم ليكن الجواب ما يكون فما يجاوز على أسوأ حال الاعتذار الرقيق! قلت هذا لنفسي في يسر وتأنيب؛ ولكن ما إن تجسم لي الخيال حتى التهب مني الجبين واشتدت ضربات قلبي، وأحسست رعدةً تسري في أطرافي، وحضرتني بغتةً ذكرى ساعة الخطابة المشئومة بكلية الحقوق التي طوحت بي بعيدًا عن الجامعة، فتنهدت من الأعماق في قنوطٍ قاتل. إن الإقدام فوق طاقتي، وربما كان بوسعي أن أقضي العمر على هذا «الطوار» باكيًا، أما عبور الطريق وطرق الباب فما لا أستطيع. وبلغ مني الهلع أن انقلب القلق الذي يساورني حمى تحرق القلب والرأس، ثم انقضت أيام قلائل عشتها فيما يشبه الهذيان، نسيت الثروة التي وقعت عليَّ .. خمد حماسي للحياة والأمل، وتركز تفكيري في شيءٍ واحد لا يتحول عنه، جعلت أدور حوله دون أن أجرؤ على الدنو منه، أو أستطيع الابتعاد عنه، ووجدت على أمي وجدًا لم أحاول إخفاءه، فقلت لنفسي في حنقٍ بالغ: لو لم أخشها لبعثتها تخطب لي وتكفيني شر الحمى التي تسعر في كياني.
متى تنقشع هذه الغمة؟ لم أكن لأرى لها من نهاية لولا حادثٌ عارض! كنت عائدًا من الحلمية، فنزلت في العتبة حين الغروب، وصعدت إلى ترام الجيزة الذاهب عن طريق الروضة كالعادة. وكانت القاطرة مكتظةً بالجالسين والوقوف، فرحت أتزحزح حتى أسند ظهري إلى باب مقصورة الدرجة الأولى. ولما غادر الترام الميدان بقليل سمعت نقرًا على الباب فأدركت أن أحد الراكبين يستأذن لفتحه، فابتعدت عنه قليلًا دائرًا على عقبي لأفسح للقادم طريقًا، وفتح الباب عن وجه أعرفه، رأيت أمامي حبيبتي دون غيرها! وثب قلبي وثبةً عنيفةً زلزل لها صدري، وغبت عن كل شيء في الوجود إلا هذا المنظر البهيج الذي ارتعدت له جوارحي فرحًا وخوفًا، ورفعت إلى وجهي عينَيها عرضًا فالتقت عينانا لحظةً قصيرةً، وبدا لي أنها ترددت قليلًا على عتبة المقصورة، ولكن لم يكن وراءها موضع لقدم، فغادرت المقصورة على رغمها، والتمس بصرها فيما ورائي مكانًا تقف فيه، ولكن كان تكتل الواقفين متماسكًا، فاضطرت أن تحتل الموضع الذي كنت شاغله وأسندت ظهرها إلى الباب، ووقفت أمامها ممسكًا بمقبض الباب، على مرمى الأنفاس منها، هي هي دون غيرها، جادت بها السماء لتبل جوانحي. من الحقائق ما هو أعجب من الأحلام، وهذه أعجب الحقائق. ماذا بي؟ .. ترى أهذا سرور أم خوف أم وقدة نار؟ لولا دقة الموقف وشدة حيائي لطاب لي أن أبكي! غبت عن كل شيء، فلم أعد أحس للناس وجودًا على تكتلهم، وحتى حبيبتي نفسها لا أذكر لون فستانها ولا ماذا كان بيدها .. يبدو لي أن للقلب بصرًا إذا اشتد تفرسه غطى على بصر الأعين، فينقلب الإنسان أعمى وهو بصير، ولا أدري كيف واتتني الشجاعة فاسترقت إليها النظر، ورأيتها فخفق قلبي بغير رحمة وهيأ لي أن وجودي هو الباعث على هذا التودد الفاتن وذاك الارتباك المليح، وتنهدت على رغمي فتموجت خصلة من شعرها لوقع أنفاسي، ورفعت إليَّ عينيها ثم خفضتهما بسرعة فرارًا من عينيَّ، آه .. عثرت أخيرًا على من يفر مني! .. وشاعت في رأسي نشوة ألذ من نشوة الخمر وأحمى، وركبني جنون لا عهد لي به، فثبتُّ على وجهها عيني في جسارةٍ خارقة، بل هي بالنسبة إليَّ جنونية، ثم وثبت إلى شعوري رغبةٌ غريبة أن أنطلق وأن أبوح بما يضغط أنفاسي، وازدردت ريقي في توترٍ عصبيٍّ عنيف، وجعلت أتحفز وأتوثب في قلق وهياجٍ نفسي مروع، وأيدني الجنون الذي يضطرب في روحي، ودفعني ما عانيت في الأيام الماضية من لهفة قلق وقنوط، ثم تملكني إحساس يشبه إحساس المنتحر إذا تجمع للوثبة الأخيرة، وتحركت شفتاي بصوت خرج همسًا قائلًا: أريد أن أقول لك كلمةً!
رباه .. ترى هل بلغ سمعها؟ .. أجل .. رمقتني بعين دهشة وقد تورد وجهها ورمشت عيناها!
ومر وقتٌ قاسٍ غليظ .. جف حلقي وتوالت ضربات قلبي في سرعة وعنف، أية هاوية أوردني جنوني؟ لقد هوى المنتحر وجاء دور الاستغاثة. مع ذلك داخلني ارتياحٌ عميق لأني زحزحت أضخم سد اعترض حياتي. تكلمت .. نطق الحجر ولو بعد حين، لن أموت على أية حال وسري دفينٌ صدري. ولكن الترام لا يمهلني طويلًا، وإنه وشيك الوصول إلى محطة حبيبتي، وها هي ترمي بنظرها خلل النافذة، وها هي يدها تتلمس مقبض الباب لتفتحه، سينتهي كل شيء! وركبني الجنون تارةً أخرى فشددت على مقبض الباب أمنع فتحه! من أين لي بهذه الجراءة؟! وبدا في الوجه الجميل الاستياء، ورمقتني غاضبةً، فهمست برجاء كأنه البكاء: كلمة واحدة!
وتوقعت لحظات قاسيةً أن تنقضَّ الصاعقة على رأسي .. أن تزجرني أو تنهرني فتستثير غضب الحاضرين .. ثم عليَّ السلام! ما بي قوة لاحتمال مثل هذا الموقف، ولئن وقع لأموتن حيث أنا! ووقف الترام ويدي قابضة على الباب، ثم تحرك ثانية وهي بمكانها مقطبةٌ مستاءة، ولكن دون أن تبدي اعتراضًا جديًّا أو ثورةً علنيةً! وسرت في جسدي رعدة السرور والظفر والجنون، وخيل إليَّ أني أتحول إلى عملاقٍ جبار يخرُّ له الموت نفسه صريعًا بضربةٍ واحدة. وانتظرت حتى ابتعد الترام محطتين، ثم فتحت الباب وأنا أهمس: «تفضلي»، فدارت على عقبيها بحركةٍ عصبية وسارت تشق لها طريقًا وسط الزحام وأنا أتبعها، واعترض نشوتي خاطر ألا يكون استسلامها حياءً وارتباكًا وتفاديًا من الفضيحة؟! ألا يحتمل أن تكون قد كظمت غضبها حتى تصبه عليَّ في الطريق بعيدًا عن أعين النظارة؟ وأوشكت قواي أن تخذلني، وغادرت الترام وراءها وأنا قلقٌ مضطرب. كانت الظلمة غاشيةً والطريق كالمقفر إلا من سيارات تذهب وتجيء، وابتعدت عني بسرعة وهمت بعبور الطريق إلى الطوار، فحزني الإشفاق من إفلات الفرصة إلى الدنو منها، متشجعًا بالظلام، ثم قلت بصوتٍ متهدج: معذرةً .. لا تؤاخذيني على تهجمي!
– ماذا تريد؟ .. وما هذا الذي فعلته أمام الناس؟
واشتد بي الارتباك، وكنت أسمع صوتها لأول مرة فهزتني به غنةٌ لطيفة على حدته وغضبه، وقلت: أسألك المغفرة .. إني أود أن أقول لك كلمةً من زمنٍ طويل ولم تتهيأ لي الفرصة إلا اليوم!
وشعرت بصعوبةٍ شديدة في التعبير والكلام، وبأن إحساساتي الحارة يخونها الإفصاح، ووجدت قهرًا وضيقًا. وزاد من ضيقي أنها ولتني ظهرها بغير اكتراث وعبرت الطريق إلى الطوار عجلةً، فتبعتها بسرعة مندفعًا، وقلت: أرجوك .. لحظةً واحدةً، أصغي إلي، كلمةً واحدةً ثم يذهب كلانا إلى حال سبيله!
فقالت دون أن تنظر إليَّ أو تكف عن السير: بأي حق تكلمني يا هذا؟
فهتفت بدون وعي مني: إني أعرفك منذ أكثر من عامين!
فقالت بلهجة تنمُّ عن الانزعاج: ما هذا الافتراء؟!
أيمكن ألا تكون عرفتني؟! يا لي من غبي! .. ألم تذعن لإرادتي حتى نزلنا في هذه المحطة؟! يدل هذا على أنها ترغب في سماع كلمتي! .. إن الفرصة سانحة ولكني أفسدها بالعي والحصر والارتباك. واستجمعت قواي وقلت بصوتي المتهدج المضطرب النبرات: إني أتلهف على قول كلمة منذ أشهر وأشهر .. ماذا يضيرك لو أصغيت إليَّ؟!
لماذا لم أتكلم بدل أن أسوق هذه المقدمات؟ اللهم إني أستعينك على حل عقدة لساني! وبدا لي أن حبيبتي فطنت لخجلي المميت. لم أدرك البواعث التي حملتها على التوقف، ولكني رأيتها تتحول نحوي وترمقني بعينَيها الجميلتَين اللتين أحبهما أكثر من نور البصر، ثم تسألني بحدة: ماذا تريد؟
ماذا أريد؟! لم يتيسر لي القول بعدُ؟! ها هي تنتظر الكلمة التي أتعبتها في استئذان قولها، ألم أكن أعددتها؟ وجدت رأسي فراغًا وكأنني فقدت النطق. ماذا ينبغي أن يقال؟ وازدردت ريقي الجاف في شبه قنوط، ثم بدا منها ما يدل على نفاد الصبر، والتحفز للسير، فخرجت عن صمتي هاتفًا: صبرًا، أرجوك .. أنا أريد أن أقول .. إني راغب في .. (وقفت عبارة «طلب يدك» في زوري) .. إنك تفهمين بلا شك، أليس كذلك؟! فهل يمكن هذا؟!
فتأففت وقالت: لا بد أن أعود إلى البيت فلا تتبعني من فضلك!
وتولاني الهلع فقلت مندفعًا بلا تردد هذه المرة: إني أفكر .. أعني .. إني أرغب في طلب يدك إذا سمحت لي!
وتنهدتُ بصوتٍ مسموع، وغمرني ارتياح واستسلام، تكلمتُ أخيرًا ونفست عن صدري وليكن ما يكون!
ومضت ثانية من الصمت العميق مثل الهدوء الذي يعقب عاصفةً هوجاء، ثم أخذت تسير في خطواتٍ قصيرة دون أن تنبس، فعاودني الجزع وتبعتها وأنا أقول كمن يستجدي الجواب: هذه كلمتي!
فقالت بصوتٍ منخفض خيل إليَّ أنه بلغ أذني هادئًا لا أثر فيه لحدة أو غضب: لا يليق بك أن تتبعني هكذا.
فقلت بعجلة ولهوجة: إني استأذنتك فلا تتركيني بغير جواب!
فقالت بضيق: لست أنا الذي أخاطَب في هذا الشأن!
فخفق قلبي بعنف وفاض به سرور لا يوصف وقلت: إني أدرك هذا، بيد أنني خفت أن يكون أحد قد سبقني!
فقالت بصوت لا يكاد يسمع: هب هذا حصل …
فهتفت في إشفاق وحسرة: أأفلتت الفرصة من يدي؟!
فنفخت قائلةً: لا تتبعني إلى أكثر من هذا؛ لأني أقترب من البيت!
فسألتها وقلبي يفزع بكل قواه إلى التملص من قبضة اليأس: أليس ثمة رجاء؟
فقالت وهي تحث خطاها: لست أنا الذي أخاطَب في هذا الشأن!
وتوقفتُ عن السير، ولبثت هنيهةً جامدًا ذاهلًا. ثم صحت وأنا أفرقع بأصابعي: يا لي من غبي! لو أنها أرادت الرفض لما أعوزها الجواب القاطع! ألم تذعن لي في الترام؟ ألم تصغ إليَّ منذ دقائق؟ ألم تقل لي إنها ليست هي التي تخاطَب في هذا الشأن؟ ففيم أطمع وراء ذلك؟ إنها دعوةٌ متواريةٌ لطيفة. وشاع في نفسي سرور كالخمر، وخُيِّل إليَّ أنني أترَّنح كالثمل!
٣٤
وعدت إلى البيت وذكريات الساعة الماضية تسجع في قلبي أعذب الألحان. تملكني شعور بالقوة لا حدَّ له، وازدهاني الغرور والزهو، وحييت في الدقيقة الواحدة دهرًا طويلًا من السعادة الصافية. وقلت وأنا أرتقي السلم «سأفاتح أمي بالأمر كله!». قلتها بلا خوف ولا تردد، ربما بلا رحمة أيضًا، وطرقت الباب، ففتحت لي بنفسها وهي تتمتم مبتسمةً كعادتها: أهلًا بنور العين!
وجدتها على الأناقة التي أحب أن تلقاني بها، وتفرست في وجهها الوديع الوقور المشرق بابتسامة الترحيب، فبدت لي خطورة ما أنا مقدم عليه، واعتراني وجوم وخوف، وقلت لها في تردد غابت عنها أسبابه وبواعثه: لننتقل عما قريب إلى مسكنٍ لائق، لأعيدن إليك خدمك وحشمك!
فابتسمت وقالت: هذه أسعد أيام حياتي لأني أقوم فيها على خدمتك.
وخلعت ملابسي، وعدت إلى الصالة فجلسنا على كنبة متجاوَرين وأنا أقول بقلبي: «اللهم عونك ورحمتك!» واستحوذ عليَّ القلق والحياء، إنها مهمةٌ شاقةٌ محزنة، ولكن ما منها بد. واسترقت إليها نظرةً فوجدتها آمنةً مطمئنةً، غافلةً عما أضمره لها، فوخزني الندم، وكادت تتخلى عني قوة التصميم، بيد أنني أشفقت من عواقب التردد والاستسلام لدواعي الخور، فرميت بنفسي في الهاوية قائلًا: أماه أريد أن أحدثك بأمر هام!
ورمقتني بنظرةٍ غريبة، خلتها مريبةً متوجسةً، حتى حسبتها قد كشفت حقيقة الأمر كله بقوة إلهام خارقة .. أنمت نبرات صوتي على ما يدور بنفسي؟! .. أم فضحتني نظرة عيني؟! أم لم يكن هناك شيء مما حسبت وشبه لي الوهم ما لا حقيقة له؟! أما هي فقالت بهدوء وتساؤل: خير إن شاء الله!
وصممت أن أجوز منطقة الخطر دفعةً واحدةً، فقلت مستشعرًا خوفًا لا مراء فيه: سأتوكل على الله وأتزوج!
رنت كلمة «أتزوج» في أذني رنينًا غريبًا، أنكرته، وأخجلني كأنما تفوهت بلفظةٍ جارحةٍ معيبة! رفعت هي عينيها إليَّ في دهشة، واتسعت حدقتاها، ولاح فيهما ذهول وغباء كأنها لم تفهم شيئًا، ثم تساءلت: تتزوج؟!
وكنت قد تخطيت أكبر عقبة فأمكنني أن أقول: أجل .. هذا ما انتويته.
وندت عنها ضحكةٌ متقطعة بالاضطراب والارتباك أشبه، وقالت بصوتٍ متهدج: ما أسعدني بذلك! هذه هي السعادة حقًّا. ترى هل جاءتك هذه النية اليوم؟ الآن؟ لماذا لم تخبرني قبل اليوم؟! مبارك، يا بني.
وأزعجني تهدج صوتها، واضطراب نبراتها، وانفعالها الظاهر، فقلت: إني أستأذنك لأني أحب دائمًا أن تكوني راضيةً عني.
فهتفت في لهوجة: وهل تتصور أن أبخل عليك ساعةً واحدة برضاي؟ يا ألله، أبعد هذا الحب كله أجزى عنه بالتشكك في إخلاصي؟ .. ستجدني راضيةً عنك ولو قتلتني، أتنسى أن حياتي كلها لك؟
فازدردت ريقي وقلت وأنا أختلس منها نظرة قلق: إني أعلم هذا وأكثر يا أماه.
فلاح في وجهها وجومٌ شديد، وبدا عليها أنها تحاول عبثًا أن تضبط عواطفها: هذا ما يعلمه القاصي والداني، وأية أم لا تفرح لزواج ابنها، ولو كانت وحيدةً ليس لها سواه! هذه حكمة الحياة أن أحتضنك العمر كله ثم أسلمك شابًّا رائعًا لعروسك، إني أبكي من الفرح.
اغرورقت عيناها وهي تتكلم، ونظرت إليَّ خلال دموعها وكأنها ارتاعت لوجومي، فقالت معتذرةً: معذرةً يا كامل، ليست هذه بدموع .. إنها دموع الفرح، بيد أنك فاجأتني مفاجأةً، ولم تتلطف في إخباري، ولكن لا داعي للتلطف، ألا ترى أني أعتذر بما هو أقبح من الذنب؟ ليغفر لي ذنبي حبي الكبير وحسن نيتي وقلبي الذي وهبتك إياه وإن لم تعد بك حاجة إليه .. وإنك لتعلم بأني إذا انفعلت أفلت زمام لساني من يدي. إني أهنئك بما اخترت لنفسك، ولكن هل نبتت هذه الرغبة الآن فحسب؟ إني لا أطيق أن أتصور أنك رغبت في الزواج من قبلُ ولم تسعفك الوسيلة. أكنت ترغب في الزواج من زمنٍ طويل؟
فقلت وأنا أداري بابتسامةٍ ميتة: كلا يا أماه ما فكرت في ذلك إلا من زمنٍ قصير حين بدا لي أني كبرت.
فندَّت عنها ضحكةٌ هستيرية، وصاحت: اسمعوا يا هوه، كامل يبدو أنه كبر! وأنا؟! لا بد أني عشت أكثر مما ينبغي!
فتأوَّهت قائلًا: أماه، إنك تحزنينني.
– لا عاش من يحزنك .. الأم التي تحزن وليدها لا تستأهل نعمة الحياة .. ولكنك تقول على نفسك بالباطل وتزعم أنك كبرت .. يا لك من طفل مكابر! .. لكأني أراك تحبو، وأنت تركب منكبي، ثم وأنت تختال في بزة الضابط وضفيرتك تتهدل على كتفك، فكيف تدعي الكبر؟!
فقلت مغتمًّا: ألست على عتبة الثامنة والعشرين؟!
– أصغر أبنائي على عتبة الثامنة والعشرين! يا لي من امرأة عجوز! لتكن مشيئتك .. ومهما يكن من عمرك فستكون أصغر الأزواج، وسأفرح بك فرحًا ليس وراءه مذهب لفرحان. ولكن ما بالك واجمًا .. أساءك كلامي؟ يعلم الله أني لا أحسن الكلام، ولكن الموت أحب إليَّ من الإساءة إليك!
فقلت بقلبٍ ثقيل: سامحك الله يا أماه!
فابتسمت .. إي والله ابتسمت وقالت مصطنعةً المرح: لندع هذا جانبًا، ولنقدم الأهم على المهم .. أصغ إليَّ يا كامل، تزوج بالهناء والسرور، وسأخطب لك إذا أمرتني.
فترددت لحظةً ثم تملكني الضيق فقلت: ليس ثمة اختيار، فقد وقع اختياري.
فرنت إليَّ بدهشة، ولاذت بالصمت مليًّا، ثم تساءلت: متى تم ذلك؟
– منذ زمن يسير!
فلاحت في عينَيها نظرة لوم وعتاب كأنما عزَّ عليها أن أكتمها هذا الأمر الخطير، ثم خفضت عينَيها في استسلام، وسألت بصوتٍ هادئ، بل هادئ جدًّا: من؟
– لا أدري بالضبط، الراجح أنها مدرسة، وهي تقطن العمارة البرتقالي أمام القصر العيني.
فعاودتها الدهشة، وتساءلت: ألم تحدث بأمرها أحدًا؟!
– مطلقًا!
فتفكَّرتْ مليًّا ثم واصلت حديثها: أليس من المحتمل أن تكون مخطوبةً، (وهنا خفق قلبي بعنف) .. ثم ألا تدري عن أهلها شيئًا؟ .. من أبوها؟
– لا أدري!
– ألم أقل لك إنك طفل .. الزواج أخطر مما تظن. لعل وجهها أعجبك، وهذا شيء لا وزن له. المهم أن تعلم أية فتاة هي وأي قوم أهلها، وما مكانتها؟ وما أخلاقهم؟ الشاب في الواقع يتزوج من أسرة لا من فرد، وينبغي أن يطمئن قبل أن يخطو الخطوة الأخيرة إلى من ستغدو أمًّا لأبنائه ومن يكونون أخوالًا لهم.
وتولاني الارتباك، وأحسست بحنق لأول مرة فقلت بيقين: أسرتها كريمة .. لا يداخلني في هذا شك.
– ومن أدراك؟
فقلت بلهجة من لا يحتمل في ذلك جدلًا: إني واثق.
فبدا في وجهها الاستياء وقالت: مدرسة! إن بنات الأسر الطيبة لا يشتغلن مدرسات! والمدرسة إما أن تكون عادةً دميمةً أو مستهترةً مسترجلة.
فوخزني ألم في صميم الفؤاد وهتفت بحدة: يا لها من آراء فاسدة! .. أنت لا تدرين شيئًا عن الدنيا التي نعيش فيها، لقد تغير كل شيء، ولا شك أنها فتاةٌ كاملة ومن أسرةٍ عالية!
وغلبها الانفعال على هدوئها المصطنع فقالت بنرفزة: لا داعي لإهانتي من أجل فتاةٍ مدرسة لا تعرف عنها شيئًا! وما قصدي إلا إرشادك لما فيه خيرك!
اشتد بي الحنق، ولو أنني استسلمت له لتفوَّهت بما أندم عليه، ولكنني ضبطت نفسي وقلت برجاء: معاذ الله أن أقصد إهانتك، فأرجو أن تمسكي عن كلام يسوءني!
فدارت انفعالها بابتسامة، واستعادت هدوءها مرةً أخرى، وقالت بتسليم: إن ما يسوءك يسوءني، وما يسعدك يسعدني، ونصيحتي إليك إذا شئت أن تتقبلها أن تعرف لرجلك قبل الخطو موضعها، وفقك الله لما فيه الخير والسعادة.
فضغطتُ على يدها برقَّة، وقلت بصوتٍ ملؤه التودد: إن رضاكِ عني بالدنيا وما فيها!
فابتسمت قائلةً: سيدعو لك قلبي آناء الليل وأطراف النهار!
وساد الصمت مليًّا حتى حسبت الأمر انتهى عند هذا الحد، ولكنها بدت مهتمةً متفكرةً كأن خاطرًا يلحُّ عليها أن تفصح عنه، وخالستني نظرةً قلقة أكثر من مرة، ثم خرجتْ عن الصمت والتردد بأن قالت في حذر وإشفاق: ألا يحسن بك أن تؤجل الشروع في الخطبة حتى يحول الحول على موت أبيك؟ إن أخوف ما أخافه أن يقال عنك إنك خطبت ولما ينتهِ الحداد على أبيك، كأنك كنت ترصد موته على لهفة؟!
ولم أكد أصدق أذنيَّ! .. وبدا لي قولها نوعًا من المكر المكشوف لا أحبه ولا أطيقه، وعاودني الحنق والغيظ، وكدت أنفجر غاضبًا، ولكني استمسكت بالصمت حتى ولَّت العاصفة، ثم قلت: لن يتم الزواج على أية حال قبل مضي عام!
وانتهى الحديث عند ذاك كما تمنيت، وشعرت بأني تخطيت أكبر عقبة في سبيلي. وكان ينبغي أن أكون سعيدًا، وقد كنت سعيدًا بلا شك؛ ولكن شاب سعادتي إحساس بالقلق طالما عذبني في حياتي. إنه لا يفتأ يطاردني حتى في أحفل ساعاتي بالسرور، وما من مرة أجمع الرأي فيها على قرار حتى أجد همسه يفت في عضدي وينغص صفوي .. بيد أن سعادتي هذه المرة كانت أجلَّ من أن يؤثر فيها مؤثر.
٣٥
وفي صباح اليوم التالي ذهبت إلى المحطة وبي أملٌ جديدٌ مسكر. وكأنها كانت تنتظرني، رأيتها وراء زجاج النافذة معصوبة الرأس بمنديلٍ أبيض. واستخفني الفرح فابتسم مني الفم والعينان والقلب، وتسامت إليها عيناي في شجاعة غير معهودة. وما كان أشد سروري وسعادتي حين رأيت الوجه الصبيح يجود بابتسامة. انتهى عهد التعاسة والحرمان، وانقشعت ظلمة النفس، ولاحت طلعة حبيبتي بعد اختفاءٍ طويلٍ معذِّب، وصرنا أصدقاء نتبادل الابتسام! يا لها من حقيقة لا تصدق! حتى هذا الصباح كنت أخاف أن يكون لكلام الأمس معنى غير الذي فهمته. أما بعد هذا الانتظار المثير وهذه الابتسامة المشرقة، فأستطيع أن أستسلم لنداء السعادة في صفاء لا يشوبه شك. ذهبت إلى الوزارة كالثمل .. ما أغربك يا دنيا! إن من يتعسه الحظ برؤية تجهُّمك لا يتصور أنكِ تجودين بمثل هذه الابتسامة. وتمليت الحقيقة التي لا تصدق؛ ابتسامة حبيبتي، فقلت لنفسي: إن معنى هذا أن أبواب السماء مفتحة تسحُّ على قلبي هناءً، ولكن لا يجوز أن أجمد أو أن أصمت بعد اليوم، وفزت بابتسامةٍ أخرى عند الأصيل، وثالثة في صباح اليوم التالي، وشعرت بأنه ينبغي أن أقطع الجمود بالعمل الحاسم. وجاء صباح الجمعة بعد ذلك اليوم، فغادرت البيت في معطفي الأسود بادي الأناقة، ممتلئًا تصميمًا وعزمًا. ووجدت حبيبتي في الشرفة تتشمس. فتبادلنا تحية الابتسام ثم ألقيت على ما حولي نظرةً حذرةً، وأومأت إليها أن تنزل لمقابلتي، يا لها من جراءة! من كان يصدق هذا؟ وثبت نظري عليها في إشفاق وخوف، ورنت إليَّ بهدوء، ثم جرت على شفتَيها ابتسامةٌ لطيفة وتراجعت إلى الداخل، هل تجيء لمقابلتي؟ .. رباه لقد قضيت ليلة الأمس كلها في عمل «البروفات» لهذه المقابلة المأمولة. ولاحت الشقيقة الصغرى في الشرفة، ثم تبعتها الأم بعد قليل، وجعلتا تنظران نحوي، هل تعلمان؟ هذا ما أتمناه حتى آمن خطر محمد جودت. وبدت حبيبتي وراء النافذة وهي ترتدي معطفها، فخفق فؤادي خفقةً عنيفةً، وانتظرت كمن في حلم. ومن عجب أن إحساسي بالسعادة تغير فجأةً، فتر، كأنه صوتٌ جميل اعترضته سعلة، وساورني قلق لم أدرِ سببه، وحيرة مؤلمة كأنني أحاول أن أتذكر أمرًا هامًّا يضن به النسيان، ثم شعرت بخطورة الخطوة التي أرفع رجلي لأخطوها، فاستحوذ عليَّ التردد والخوف، ونازعتني نفسي إلى الهروب! بيد أنها كانت لحظةً عابرةً ولَّت عني بسرعة، فاستعدت الثقة والسرور، وتنهدت في ارتياحٍ عميق، ورحت أقطع الطوار محبورًا سعيدًا في انتظار حبيبة القلب المشوق .. ثم رأيتها تبرز من باب العمارة في معطف سنجابي فارعةً أنيقةً مليحةً، وجاءت المحطة تخطر في خطواتها الوقور، ووقفت بعيدًا عني. وكانت الأم في الشرفة كأنها تبارك اللقاء وتضفي عليه شرفًا، فشعرت — إلى سعادتي — بالمسئولية. وجاء الترام الذي سيقلُّنا، فنظرت إليه بامتنان ودعوت له بالسلامة ولسائقه بالسعادة وزيادة الأجور! وصعدنا معًا، ورأيتها تتجه على غير عادتها إلى مقصورة الدرجة الأولى فتبعتها على الأثر، ولم يكن بالمقصورة إلا رجل وامرأة، فجلست فتاتي موردة الوجه من الحياء، ولعلها انتظرت أن أجلس إلى جانبها، وأن أسلم عليها، ولكن خانتني الشجاعة فجلست على المقعد المقابل في ارتباك وحياء وسخط على نفسي. وسار الترام يطوي الطريق، وأنا أخالسها النظر في صمت وصبر، حتى عبر الترام جسر عباس، فنهضت قائمةً وغادرت المقصورة وأنا في إثرها، ونزلنا في المحطة التالية. وسارت صوب شارع يمتد وشاطئ النيل، فتبعتها، وتدانيت منها بقلب خافق، متعثرًا في خجل قهار، وقلت بصوت لا يكاد يسمع: صباح الخير!
فابتسمت دون أن تلتفت إليَّ وغمغمت في مثل حيائي: صباح الخير!
وغمرني رد التحية بسرور، فسرنا جنبًا إلى جنب وأنا أقول في نفسي بحرارة: «يا سيدة يا أم هاشم نظرة!». كنت خائفًا حقًّا شديد الارتباك والخجل. وحاولت أن أتذكر «بروفات» أمس، ولكن الاضطراب غلبني على أمري فوجدت رأسي خاويًا ولساني منعقدًا، وقطعنا مسافةً غير يسيرة دون أن أنبس بكلمة. كيف أبدأ الحديث؟ ما عسى أن أقول؟ وتولاني ضيقٌ شديد لأني أدركت بطبيعة الحال أنه ينبغي أن أتكلم، وأنه لا يليق بي أن أصمت هكذا، ومع ذلك فلم يفتح الله عليَّ بكلمةٍ واحدة، وبدا كأن الكلام وظيفة لم أمارسها قط. وكأنها أدركت سر ارتباكي، فنظرت إليَّ وعلى شفتَيها ابتسامةٌ رقيقة، فابتسمتُ في حياءٍ شديد، ولم أجد ما أقوله إلا أن أعيد التحية قائلًا: صباح الخير.
فازدادت ابتسامتها اتساعًا وقالت: صباح الخير.
رباه! أأفلس معجمي، وعدت إلى العذاب مرةً أخرى؟ إني أشعر كأن يدين حديديتين تشدان على عنقي، ولن أتحمل هذا الموقف المزري أكثر من هذا. وتملكني اليأس فغلب في نفسي الخجل واستغثت بها قائلًا: اعذريني! .. لا أدري ماذا أقول .. هذه أول مرة أخاطب فتاة!
ولم تتمالك نفسها فندت عنها ضحكةٌ قصيرة، ولعلها تشجعت بحيائي نفسه، فتغلبت على حيائها، وقالت في دعابة: بل هذه ثاني مرة إن صدقت!
آه! إنها تشير إلى مطاردتي لها منذ ثلاثة أيام! وذكرتها بدهشة، كأنني لم أكن بطلها الجريء. مهما يكن من أمر فقد شجعتني دعابتها وخففت عني الارتباك والحياء، وأمكنني أن أقول: لا تسيئي بي الظن، فوالله لو أسعفني لساني لما وسعتني الدنيا كلامًا!
وضحكت وهي تصعد فيَّ نظرها وتصوب، ثم قالت: ألا ترى أننا لم نتعارف بعدُ؟
أستطيع أن أجيب عن هذا السؤال .. ليت الحديث يكون أسئلةً من ناحيتها وأجوبةً من ناحيتي! وقلت بارتياح: كامل رؤبة لاظ بوزارة الحربية.
وتمنيت لو كان في الإمكان أن أخبرها بإيرادي الشهري وثروتي المنتظرة، أما هي فقالت: رباب جبر، مدرَّسة بروضة الأطفال بالعباسية.
وأعجبني الاسم، فأحببته كما أحب صاحبته، وغمغمت كأنما لأستعيد وقعه في أذني: رباب!
ووجدت أنسًا وشجاعةً فقلت ببساطة: تصوري! .. إني أداوم على اختلاس النظرات من وجهك من عامين وحتى اسمك لا أعرفه!
فلاحت الدهشة في وجهها الجميل وقالت: عامين!
فسرتني دهشتها وقلت بحماسة: أجل من قرابة عامين، ألم تفطني إلى هذا؟!
فقالت ضاحكةً وأنا أجمع انتباهي في أذني لأتملى الصوت الذي شاقني استماعه طويلًا: منذ أشهر فقط! ما أجمل صبرك!
هذه وخزة بلا ريب! كأنها تقول لي: وما الذي أسكتك حتى أوشكت الفرصة أن تفلت من بين يديك! وانتهزت الفرصة لأصرح بما وددت لو كنت صرحت به، فقلت وقد أصبح الكلام ممكنًا عما قبل: منعتني ظروفٌ قاسية، لم يكن بوسعي أن أتقدم وأنا غير كفء لك، ثم تغيرت الظروف وتحسنت الحالة فلم أتردد عن اعتراض سبيلك في الترام في جنون أخرجني عن وعيي، فالحق أني لم أنتظر وأنا قادر إلا أيامًا معدودات وإن كنت … (كدت أقول: وإن كنت أحببتك منذ عامين. ولكني عجزت) وإن كان ما تعلمين منذ عامين.
ونظرت فيما أمامها مبتسمةً ابتسامةً خفيفةً وقالت: ماذا أعلم يا ترى؟!
فلذت بالصمت لحظات أستجمع قواي، وقلت: ما تعلمين من أني …
ورسمت شفتاي «أحبك» دون أن تنطقا بها، ولكنها رأت وفهمت بلا أدنى شك. وخفضت بصري حياءً، ودق قلبي بعنف. وانتزعتني من الوجود غيبوبةً عابرةً غيَّبتني عما حولي. واسترقت إليها نظرةً فألفيتها صامتةً رزينةً موردة الوجه. هذه لحظة مقدسة. أجل، إن الزمن لينوء بما يحمل من جلائل اللحظات التي مرت بالإنسانية في تاريخها، ولكن هذه اللحظة من أجلِّ ما عرف الزمن رغم هذا كله. ولن ينقص منها أنها معادة وأنها تحدث كل يوم آلاف المرات في بقاع الأرض الواسعة، فهي الشيء الوحيد المعاد الذي لا يملُّ، وما ينبغي أن يمل وهو يتضمن سر الوجود الأعظم؛ ألا وهو الحب. لم يكن بوسعي أن أضمها إلى صدري — لا لمرور قافلة جمال تحمل برتقالًا — ولكن لأنه لم يكن بوسعي أن ألمسها على الإطلاق، وقطعنا شوطًا صامتين، وحال حيائي دون مواصلة الحديث في هذه النقطة بالذات، وعاودت التفكير في المسألة من وجوهها الأخرى فقلت مبتسمًا: وماذا تم من أمر محمد جودت؟
وحدجتني بدهشةٍ عظيمة، وسألتني: من أدراك بها؟
فقصصت عليها نبأ المقابلة التي تمت بين محمد جودت وبيني، وهي تصغي إليَّ باهتمامٍ شديد، ثم قالت: إنه رجل فاضلٌ محترم، وموظفٌ كبير، وقد رحب به أبي؛ أما أمي فقابلت عرضه بفتور لأنه يكبرني كثيرًا، ولأنه سبق أن تزوج وله بنت في الخامسة عشرة، وقد حادثت أمي عن لقائنا في الطريق منذ ثلاثة أيام .. فاشترطت أن يعرفوا عنك كل شيء قبل أن تعلن عن رأيها.
وخفق قلبي في مزيج من سرور وقلق، وسألتها وإن لم أكن في حاجة إلى السؤال: وهل تعلم بمقابلتنا هذه؟
فابتسمت ولم تُحر جوابًا. وذكرت «وظيفتي» بعدم ارتياح وخجل، ولكن لم يخطر لي على بال أن أكذب أو أبدل من الواقع فقلت: إني كما قلت لك موظف بالحربية، ولكن لي دخل ستة عشر جنيهًا من أوقاف، وأملك إلى ذلك قدرًا من المال يجاوز الألف الجنيه، وليس في سيرتي ما يشين، وسترين إذا ما تحروا عني أني التزمت الصدق حقًّا!
فابتسمت قائلةً في إخلاص: لا شك في هذا مطلقًا.
ورنوت إليها بامتنانٍ عميق، وذكرت في تلك اللحظة آلامي وما عانيت من تشوق إليها وحسرة عليها، فهزني سرور يجلُّ عن الوصف. بيد أنني تساءلت في خوف: ترى هل أروق في عيني الأم؟ .. ألا تستصغر وظيفتي، أو لا تجدني أهلًا لهذه الأستاذة المحبوبة؟ .. وانقبض قلبي ذعرًا، وحدثتني نفسي بأن أفاتحها فيما يكدر صفوي، ولكن عقلني الحياء. ثم خطر لي خاطرٌ جديد فسألتها على الفور: هل تواصلين العمل في وظيفتك إذا تم الأمر كما أرجو؟
– ولم لا؟ إني أحب عملي حبًّا جمًّا، وكثيرات من زميلاتي …
وأدركت ما كانت على وشك قوله، فخفق قلبي بغبطة ونظرت إليها نظرةً حييةً ملؤها الحب والأمل، ثم قلت برضا: هذا حسن!
ساد الصمت قليلًا فعلا وقع أقدامنا على أرض الطريق المفروشة بأشعة الشمس، ولاحت مني التفاتة إلى النيل فرأيت صفحته السمراء تترقرق تحت لؤلؤ النور المنثور، وأخذت أتصفح وجوه المارة القلائل الذين يمرون بنا في حياء وارتباك. وقد لطفت الشمس من برودة الجو وبثت في حنايانا نشاطًا وحبورًا، فشعرت بطيب الحياة كما لم أشعر به من قبلُ، وامتلأت امتنانًا حتى وددت لو ألثم الثرى شكرًا. بيد أنني لم أنسَ ما يشغلني من خطير الأمور، أو ما يبدو لي من خطيرها، فلذلك سألتها: أرشديني الآن إلى ما ينبغي فعله.
فسألتني في دهشة قائلةً: ماذا تعني؟
فقلت بحيرة: ينبغي أن أتقدم لطلب يدك.
فنظرت فيما أمامها بحيرة ولم تنبس. وكنت في حيرة من أمري فسألتها: كيف .. كيف يخطب الناس عادةً؟!
فندَّت عنها ضحكةٌ رقيقة، وقالت برقَّة: بوساطة السيدات، أو بالاتصال الشخصي، ألم تدر شيئًا عن هذا؟
وذكرني قولها «وساطة السيدات» بأمي، فانقبض قلبي فيما يشبه الذعر. ثم تساءلت: ترى هل أستطيع أن أقوم بما يتطلبه الاتصال الشخصي من لباقة وشجاعة؟ وذكرت عند ذاك أني لا أعرف شيئًا عن أبيها فسألتها: هلا تكرمت وأخبرتني عن والدك.
فحدجتني بنظرة ملؤها الشك وغمغمت: ألا تعرف عنه شيئًا؟
فقلت ببساطة وصدق: كلا وا أسفاه!
وأدركت أنها كانت تظنني نشطت لمعرفة ما ينبغي معرفته عن الأسرة التي أطمح للاندماج فيها، وعجبت كيف أنني لم أحرك ساكنًا طوال عهد حبي، قانعًا بالنظر واللهفة واليأس؟! وقالت رباب بلهجة لا تخلو من زهو: جبر بك السيد مفتش ري بالأشغال!
فقلت بإجلال: تشرفت.
واستشعرت ثقل التبعة الملقاة على عاتقي، ولكني لم أجد بدًّا من أن أقول: سأقابله بنفسي، متى يحسن أن أقابله؟
– في بحر الأسبوع القادم؛ لأنه سيسافر بعد ذلك في رحلةٍ تفتيشية كعادته، هو لا يكاد يغادر البيت عقب عودته من الوزارة.
وكنا قد توغلنا في الطريق طويلًا، فاقترحت أن نعود، ودرنا على عقبينا عائدين. ولم نتبادل في عودتنا إلا كلماتٍ قلائل، وكنت من السعادة في حلم، ولكنني لم أغفل لحظةً عما أنا مقبل عليه من جلائل الأمور!
٣٦
واستحوذ عليَّ الخوف والقلق، وعاودني ذلك الإحساس الخانق الذي قهرني يوم دعاني أستاذي بكلية الحقوق إلى منصة الخطابة؛ هل تستطيع قدماي أن تحملاني إلى بيت جبر بك؟ هل أستطيع مكاشفة الرجل بما في صدري؟ اللهم أدركني برحمتك، فإن الحب يُركبني مركبًا صعبًا لا قِبل لي به. ولما ضقت بالواقع المخيف روَّحت عن نفسي بالأحلام، فرأيتني في جزيرةٍ مهجورة، وليس بها حي إلاي وحبيبتي، حيث الحب لا يسيم المحب خطبةً ولا كلامًا ولا اتصالًا بأحد، وهفت نفسي في محنتي إلى تلك الجزيرة المهجورة.
ومضى السبت والأحد في عذابٍ نفسيٍّ عنيف، فصممت على أن أستجير من عذاب الفكر بلقاء الخطر وجهًا لوجه. وغادرت البيت عصرًا بعد أن أخذت زينتي، وقطعت الطريق واجف القلب وأنا أتلو آية الكرسيِّ. ولما عبرت الجسر ولاح لي عن بُعد جانب من العمارة؛ ثقلت قدماي وكدت أرجع من حيث أتيت، ولكن كان تصميمي رائعًا، وكان إشفاقي من أن تستبطئ حبيبتي قدومي لا يدع لي فرصةً للتردد. وجعلت أشجع نفسي قائلًا: إنه لو لم يكن ثمة أمل لما رضيتْ حبيبتي بأن تلقاني يوم الجمعة، ولما مهدَت السبيل لمقابلة أبيها. ودفعتُ قدميَّ الثقيلتَين فأخذت أقترب رويدًا من العمارة. ولم يكن بالنافذة ولا الشرفة أحد؛ فارتحت لذلك لأني أضطرب في سيري تحت وقع الأعين، ثم وجدتني مقبلًا نحو البواب؛ فوقف الرجل متسائلًا، فقلت: جبر بك السيد.
فقال: الدور الثاني.
وارتقيتُ السلم في رهبة وخوف، متوقفًا عند كل بسطة لأتمالك أنفاسي، حتى طالعني باب الشقة المغلق فخارت قواي، ووسوست لي نفسي أن أعود، أن أفرَّ بنفسي، أن أؤجل الزيارة الخطيرة ليومٍ آخر؛ ولكني نفيت عني فكرة التأجيل بغضب، وبدا لي أن أنزل وأن أخفف عن توتر أعصابي بالمشي ومعاودة ترتيب أفكاري، وهممتُ بالتراجع، ولكنني تساءلت في اللحظة التالية: ألا يرتاب البواب في أمري إذا رآني نازلًا بعد دقيقة من مخاطبته، ثم رآني بعد دقائق عائدًا إلى العمارة؟ .. وعدلت عن فكرة النزول، ووقفت مع ذلك ساكنًا لا أُبدي حراكًا. وجمد بصري على الباب حتى خلت ثقبه عينًا تحدق في وجهي بسخرية. وانتقلت عيناي إلى زر الجرس وثبتتا عليه بخوف وهلع. ما عسى أن يحدث لي لو فُتح الباب فجأةً عن وجه من الوجوه التي أعرفها وتعرفني! وتمنيت في تلك اللحظة لو كانت حياتي واصلت مسيرها الوئيد دون أن تصطدم بهذا الحب الذي قلبها رأسًا على عقب! وجاءني بغتةً صوتٌ رفيع من الداخل يصيح: «افتحي الراديو يا صباح»؛ فارتعدت أوصالي وأرهفت السمع في خوفٍ متزايد. ويلي منك يا أماه! أما كان الأفضل أن تكوني في مكاني هكذا؟ ثم قرع أذنيَّ وقع قدمَين صاعدتَين فتضاعف اضطرابي ولم أجد من التقدم مناصًا، وتدانيت من الباب، ورفعت يدي إلى زر الجرس، وتريثت لحظةً في اضطراب، ثم ضغطتُ عليه فرنَّ رنينًا مزعجًا، وتنحيت جانبًا، منتظرًا في حالة يرثى لها. وفُتح الباب وبرز وجهٌ أسود كالفحم لجارية في الخمسين، فحدجتني بعينَين براقتَين وقالت: أفندم؟
وقلت وأنا أتمنى أن يكون البك خارج البيت لسبب أو لآخر: جبر بك موجود؟
ولكنها أجابت قائلةً: نعم يا سيدي .. مين حضرتك؟
فاستخرجت من محفظتي بطاقةً وقدمتها لها قائلًا: أرجو أن يأذن لي البك بمقابلةٍ قصيرة!
ومضت الجارية بالبطاقة، وانتظرتُ خافق الفؤاد مضطرب النفس، وتخيلت البك وهو يقرأ البطاقة بصوتٍ مرتفع فيتبادل الجميع النظرات والابتسامات، ويهرعون إلى مكانٍ آمن يرونني منه حين دخولي، فالتهب وجهي حياءً وازددت اضطرابًا، وبرز رأس الجارية مرةً أخرى وهي تقول: تفضل.
ودخلت خافض الرأس، فأرشدتني إلى باب على يمين الداخل مباشرة، فدخلت حجرة الاستقبال؛ وهي حجرةٌ أنيقة ذات أثاثٍ كحلي، فاتجهتُ إلى مقعد يفصل بين كنبتَين وجلست، بعيدًا عن سمت الباب. لم أكد أصدق أني بلغت حقًّا مجلسي هذا من البيت. وجعلت أرهف السمع في خوف وقلق وهلع. وتمنيت لو يتأخر البك ريثما أستردُّ أنفاسي، ثم دفعني العذاب إلى تمني حضوره سريعًا لوضع حد لآلامي. ولا أدري كم انتظرت حتى سمعت وقع أقدامٍ تقترب! دخل البك فنهضت قائمًا، ثم سلَّم عليَّ في أدب وترحيب، وأومأ إلى المقعد وهو يقول: تفضل بالجلوس!
وجلس على الكنبة غير بعيد. كان طويلًا نحيلًا، في الخمسين من عمره، له قامة حبيبتي وعيناها؛ فسرعان ما أحببته، وكان يتلفع بعباءةٍ فضفاضةٍ ضاربة للحمرة، ويسطع من راحتَيه عطرٌ زكي، ونظر إليَّ مبتسمًا وقال مرحبًا: شرفتنا يا أستاذ كامل .. أهلًا وسهلًا!
فقلت بامتنان: شكرًا لك يا بك!
ترى هل علم بالغرض من الزيارة؟ .. هل سمع قبل الآن بهذا الاسم الذي قرأه في البطاقة؟
على أنه مهما يكن أمره فلا مناص من مفاتحته في الموضوع كما لو كان يجهله. وكنت قد كتبت صورةً مما ينبغي قوله كما تصورته، وقرأتها مرارًا حتى حفظتها قبل مغادرة البيت، فقلت بصوتٍ منخفض: إني آسف على إزعاجي سعادتك بهذه الزيارة على غير سابق معرفة!
فقال والابتسامة اللطيفة لا تفارق شفتَيه الرقيقتَين: إني تشرفت بمعرفتك يا أستاذ كامل! .. ترى أحضرتك من حيِّنا هذا؟
فقلت وقد سُررتُ بما هيأ لي من سبب للحديث: نعم يا بك، إني من سكان منيل الروضة.
– حيٌّ هادئٌ لطيف.
فقلت وقد آنست إليه: وإني من مواليده أيضًا، وقد أقام به جدي الأميرالاي عبد الله بك حسن منذ أكثر من سبعين عامًا.
فقال متفكِّرًا: عبد الله بك حسن! .. أظنني سمعت بهذا الاسم! أهو جدك لوالدك؟
فقلت مضطربًا: كلا، إنه جدي لأمي، أما أبي فمن أسرة لاظ.
– وهل كان ضابطًا أيضًا؟
فقلت وقد تزايد قلقي: كلا .. كان أبي رحمه الله من الأعيان.
فابتسم قائلًا: حسبته كذلك لأن أهل المهنة الواحدة كثيرًا ما يرتبطون بالزواج فيما بينهم.
وأمَّنت على قوله، وسكت الرجل فلم أجد ما أقوله، وعدت إلى تذكُّر محفوظاتي فحضرتني الجملة الخطيرة التي يتوقف عليها حظي في الحياة، ولكن خانني لساني، فلذتُ بالصمت، وما لبث أن عاودني الاضطراب والهلع، والتهب رأسي حياءً وارتباكًا، وفي تلك اللحظة جاءت الخادم الصغيرة — التي تعرفني حق المعرفة — تحمل صينية الشاي، فوضعتها على منضدة مُكفَّت سطحها بمرآةٍ مصقولة، وتراجعت وهي تداري ابتسامةً خفيفة! ورحبتُ بدخولها وبالشاي الذي حملته لأنهما استنقذاني من حرج الصمت الذي ثقلت وطأته عليَّ. وملأ البك قدحَين ودعاني للشراب، فتناولت قدحي شاكرًا ورحت أرتشفه متمهلًا وعقلي لا يني عن التفكير. وفرغت منه على رغمي، ووجدتني مرةً أخرى حيال جبر بك وابتسامته اللطيفة الغامضة التي تستحثني في صمت على الكلام؛ لا بد مما ليس منه بد، وإلا انقلبت الجلسة إلى مهزلة تستثير السخرية. لأصطنعن شيئًا من الرجولة أمام الرجل الذي أروم مصاهرته أن أصغر في عينَيه. ولممت أطراف شجاعتي وقلت وإن تهدَّج صوتي وتخلخلت نبراته: سيدي، أردت .. أعني .. الحق أني أرجو التشرف بمصاهرتك!
ولم تكن الجملة التي كتبتها وحفظتها لتفترق عما قلتُ كثيرًا، وقد اعتراني الاضطراب بعد أن فتحت في بالكلام، ولكن الله سلم وأفصحت عن رأيي بعبارة لا بأس بها، ونظرت إلى الرجل فوجدته ما يزال مبتسمًا، وتريث لحظات استُغلظ وقعها في نفسي المروعة، ثم قال بأدبٍ جم: أشكر لك حسن ظنك بنا!
وصمت لحظاتٍ أخرى متفكرًا، ثم واصل حديثه قائلًا: ولكني أرجو أن تمهلني أسبوعَين لمشاورة أصحاب الشأن الآخرين.
فبادرته قائلًا: طبعًا .. طبعًا .. ولا يسعني إلا شكرك على كرم أخلاقك وحسن ضيافتك.
ونهضت قائمًا مستأذنًا في الانصراف، ولكنه دعاني للبقاء فترةً أخرى، فاعتذرت شاكرًا له جميل أدبه، وسلمت وذهبت. وتنهدت في الخارج من الأعماق، وشعرت كأن حملًا ثقيلًا رُفع عن عاتقي. وبدا لي الأمر هينًا لا يستدعي بعض ما عانيت من خوف وقلق وهلع، فابتسمت في ارتياح، ثم استرسلت ضاحكًا!
٣٧
تملَّيت نشوة الارتياح والظفر حتى المساء، ثم عاودني القلق؛ ذلك الرفيق القديم الذي لا يملَّ عشرتي .. أيرضى جبر بك بموظفٍ صغير مثلي زوجًا لابنته؟ .. ألا ترجح كفة محمد جودت رغم دخلي من الأوقاف؟ .. إنه مهندس كجبر بك، وجار وصديق، ولست من ذلك كله في شيء، ولكن رباب لا تودُّه، ولو كان بها من رغبة فيه لما قابلتني وشجعتني على مقابلة أبيها. ورطب هذا الخاطر قلبي المحترق وردَّني إلى نشوتي، ولكنه لم يستطع أن يستأصل الشك والقلق من قرارة نفسي. وتتابعت أيام الانتظار وما أزداد إلا كآبةً وتشاؤمًا، ولذلك أخفيتُ سري عن أمي حتى لا تعلم بإخفاقي إذا كان مقدورًا، وكابدت الانتظار ومرارة الشك في وحدةٍ مخيفة. ومن عجب أننا لم نعد إلى موضوع الزواج منذ ذاك المساء العنيف. وقد اعتور سلوكها شيء من التحفظ والتغير لم يخفيا عن إحساسي الدقيق، وبدت في أحايينَ كثيرة كالطفل الغاضب، وانطوت على نفسها. وكنت إذا أقبلت عليها محدثًا تلقَّتني بريبة لا تزايلها حتى تطمئن إلى نوع الحديث. وأحنقني تغيُّرها؛ ولكني لزمت معها الأدب والتودد. وفي أثناء ذلك أسرَّ إليَّ زميل من الموظفين بأن «بعضهم» يتحرى عني كما أخبره موظف بإدارة المستخدمين، وسرعان ما ذاع بين موظفي إدارة المخازن أني شارع في الزواج، وجعلوا يُعرِّضون لي بما في أنفسهم مداعبين، فأزداد امتعاضًا وحنقًا، ولما انقضت فترة الانتظار مضيتُ إلى مقابلة جبر بك السيد، ولكني لم أذهب إلى بيته — حال دون ذلك خوفي من الخذلان — فقابلته في وزارة الأشغال، ورحَّب بي الرجل ترحيبًا جميلًا وأعلن لي موافقته! هكذا انتهى عذابي ورُدَّت إليَّ الروح. وفي تلك المقابلة اتفقنا على يوم الخطبة. وإذا كانت حياة الإنسان خليطًا من الشقاء والسعادة فقد بدا لي أن أيام شقائي قد ولَّت، وأني سأُجزى عن صبري وتعاستي ومخاوفي سعادةً صافيةً فيما بقي لي من عمر. ورجعت إلى البيت ودعوت أمي وأخبرتها بما تم، وقد استمعت إليَّ في استسلام ودهشة، وقالت لي متسائلةً: ولماذا أخفيتَ عني الأمر كله؟
فقلت متضاحكًا في ارتباك: لم أكن أقدِّر أن ينتهي مسعاي إلى ما انتهى إليه …
فقالت بحدة: يا ألله! أكنت تتصور أن يرفضوا يدك؟! يا لك من طفلٍ غرير! ألا تعلم أن الفتيات لا حصر لهن، وخيرًا من فتاتك ألف مرة، يرضين بك عن طيب خاطر!
فقلت بلهجة نمَّت عن عدم رغبتي الاسترسال في النقاش: إني أنتظر تهنئتك يا أماه!
فمالت نحوي حتى لثمت خدي وتمتمت: إني أحق منك بالتهاني.
ودعت لي طويلًا، وكان وجهها كالصفحة المصقولة لا تخفى بها خافية، ولم تكن تحسن مداراة ما يعتمل في نفسها، فلمست في نظرة عينَيها خيبةً عميقة نغَّصت عليَّ صفوي؛ بيد أنني تجاهلتها وتظاهرت بتصديق كلماتها، وسرعان ما شُغلت عنها بسعادتي. وكتبت في نفس اليوم لأخي خطابًا أخبرته بما كان ودعوته لشهود الخطبة، وزرت أختي راضية ودعوتها كذلك، وذهبنا جميعًا في اليوم الموعود. ولست أدري كيف واتتني شجاعتي ذلك اليوم. لقد شبكت ذراعي بذراع شقيقي مدحت ورجوته أن يكون مرشدي، ولشدَّ ما أتعبته بجمودي وارتباكي وخجلي.
لم أنبس بكلمة طوال السهرة، ولم أرفع عيني عن الأرض، ولبثت محاصَرًا بأعين المستطلعين رجالًا ونساءً، ولم تزايلني الرهبة حتى بعد انصراف الأقارب واقتصار الموجودين على الأهل. وقد ضحكت حرم جبر بك وقالت لي: أنت خجول يا سي كامل .. وقد أدركت الآن السر في أنك كنت تحوم حول عروسك أشهرًا طوالًا كالخائف!
وخفق قلبي لقولها، واختلست من أمي نظرةً لأرى وقعه في نفسها، فوجدتها مشتبكة مع جبر بك في حديث. وجلست طوال الوقت بجانب رباب دون أن أستطيع إرواء قلبي الظامئ لرؤيتها. وما ألقيت عليها إلا نظرةً سريعةً حيية حين دخولها الحجرة في هالة من نور وبهاء، ثم غبت في حيائي وارتباكي، ولما انفضَّ الحفل العائلي وغادرنا البيت ضحك أخي مدحت في الطريق مقهقهًا وقال لي بدهشة: ينبغي أن نجد علاجًا لخجلك، فوالله ما رأيت مثلك رجلًا.
ولم آبه لانتقاده وسخريته؛ كنت سعيدًا!
٣٨
… ثم هان عليَّ عناء الزيارات، اعتدتها وآنست إليها. أمكنني أن أضغط على زر الجرس دون أن ينخلع قلبي، وأن أمضي إلى حجرة الاستقبال دون أن أعثر بطرف سجادة أو قطعة أثاث، وأن ألقى آلي الجدد غير خافض الرأس ولا ملهوج الحديث؛ بل أمكنني أن أتحدث أيضًا وأن أضحك إذا دعا الداعي للضحك، في حدود طاقتي. وأسرتي الجديدة أسرةٌ لطيفةٌ حقيقة بالمودة، حبيبتي عنوانها، وحسبها هذا شهادةً وثناءً، وقد توثقت الأسباب بيني وبين جبر بك السيد فصرنا صديقَين، وقربت الألفة بيني وبين نازلي هانم فكأننا ابن وأم. وأسرني الصغيران محمد وروحية بظرفهما، حتى الخادم الصغيرة والجارية السوداء حظيتا بنصيب من ودي، فأحببتهم جميعًا حبًّا دلَّ على ما بقلبي من هيام بحبيبتي وشوقٍ مكبوت للمعاشرة والتودد.
وكان جبر بك السيد من أولئك الرجال الذين لا يبرحون بيوتهم إلا للضرورة القصوى، فإن لم يكن في الوزارة أو في رحلة تفتيشية بالأقاليم فهو في بيته وبين زوجه وأبنائه. بدا لي من أول يوم لتعارفنا مهذَّبًا رقيق الحاشية، ولم يخفَ عن عيني — على ضعف ملاحظتي — أنه من الأزواج المطيعين، وأن زوجه هي الآمرة الناهية في البيت؛ ولكن ذلك لم يضعف من منزلته، ولعله حظي من حب أبنائه بما لم تحظَ به الأم نفسها، ولم يخلُ من ميل للفخر والمباهاة على تجاوزه الخمسين، وما أسهل أن تلاحظ ذلك إذا سمعته محدثًا عن عمله ومركزه وصلاته بأقرانه ومرءوسيه، أو منوهًا برحلاته التفتيشية وملاحظاته، وما أكثر ما ينتقد المهندسين الشبان ممن تلقوا علومهم في إنجلترا وألمانيا! فيقول: إن علم الهندسة في مصر هو علم الهندسة في أوروبا، وإن القدم لا ترسخ في العلم إلا بالتجربة والممارسة؛ الأمر الذي يتجاهله الشبان. وكان في تلك الأيام قلقًا على مركزه بالوزارة، ولا يفتأ شاكيًا ما يلقى من اضطهادٍ سياسي مرده في رأيه إلى صلته بالوزير الوفدي السابق، حتى إنه صرح مرة بأنه يفكر في طلب تحويله إلى المعاش والاشتراك في النشاط السياسي، ولكنه لم يستطع الاسترسال في شرح رأيه لتصدي زوجه له بالمعارضة الحاسمة التي لا تحتمل مناقشة. وكنت أجد حياله شعورَين متضادَّين؛ شعورًا بالضآلة لتفاهة مركزي في الحكومة وقلة حظي من الثقافة، وشعورًا بالزهو لانتسابي لرجل مثله عظيم في قدره ومركزه وعلمه. أما نازلي هانم فعلى نقيضه؛ ميالة للقصر، مفرطة في السمنة، وكانت على اقترابها من الخمسين ذات وسامة لا بأس بها تدل بلا ريب على ما كانت تتمتع به من جمال في صباها. وكانت على سمنتها المفرطة بالغةً في نشاطها ويقظتها وسهرها على رعاية بيتها وأبنائها وزوجها، وقد شكا زوجها مرةً إليَّ حرصها الزائد عن الحد على تنسيق البيت وتنظيفه ومراقبة الخادم والطاهية، وإفراطها في ذلك إفراطًا هو أدنى إلى الوسوسة والإرهاق، ولكنه لم يخلُ في شكواه مما يشي بإعجابه ورضاه. وبدت لي ظريفةً في غير ما تكلف، ولشدَّ ما ضحكتْ من ذكريات تطلعي الصامت إلى الشرفة والنافذة، وقارنتْ بين حيائي وبين وقاحة الشبان، وعلقت على ذلك قائلةً: فمن حسن الحظ أن تكون لرباب، ومن حسن الحظ أن تكون رباب لك، فهي ليست كفتيات اليوم أيضًا.
هذا حق، حبيبتي ليس كمثلها شيء، هي الحياة والذكاء والجمال، وإن الأيام لتزيدني بها تعلقًا وهيامًا وإعجابًا، ما أرخم صوتها! وما أرشق إيماءتها! وما أجمل رزانتها! وكانت إلى هذا كله أنوثةً ناضجةً كاملةً، وإن عينيها لتطالعاني بالإخلاص والمودة والصدق من غير ما حاجة إلى خفةٍ مصطنعة أو تكلفٍ غير بريء. ولم أكن أفوز بها في خلوة أبدًا، ولم تتهيأ لي فرصة للانفراد بها منذ إعلان خطبتنا. وشاقني كثيرًا أن أخلو إليها، وأن أتملى بإدامة النظر إلى وجهها الصبيح في أمن من الرقباء. على أنني لم أخلُ من خوف من مثل هذه الخلوة المأمولة، وما أنا حري بأن أعانيه فيها من عي وحصر وحرج واضطراب، فقنعت بالمبذول لي في حظيرة الأسرة، راضيًا آمنًا، مكتفيًا إلى حين بالنظرة الخاطفة والمحاورة المقتضبة، سعيدًا بالنشوة التي يبثها وجودها في قلبي وروحي. ووجدت حديثها لطيفًا طبيعيًّا، لا أثر فيه لشهادتها العالية — وهو ما كنت أحاذره وأشفق منه — فلا تفلسف ولا ادعاء ولا حذلقة.
وتم الاتفاق فيما بيننا على أن يكون الزواج في العطلة الصيفية، ولم يألوا جهدًا في إعداد الجهاز، واقترحت نازلي هانم أن ينتقلوا إلى شقةٍ كبيرة على أن أنضم إليهم، ولكن الاقتراح أزعجني وذكَّرني بأمي، فاعتذرت من عدم استطاعتي قبوله قائلًا إني لا يمكنني التخلي عن أمي. وعند ذاك قالت نازلي هانم: والدتك سيدةٌ محترمة ولطيفة، ولكن يبدو لي أنها لا تميل إلى المعاشرة!
وفهمتُ ما تعنيه، والحق أن أمي لم تزر بيت خطيبتي منذ إعلان الخطبة إلا مرةً واحدةً تحت ضغط وإلحاح، فقلت في ارتباك غير قليل: لقد اعتادت أمي الوحدة .. ولم تألف الزيارات قط.
وقصصت عليهم جانبًا من حياتي، متحاميًا الفجوات التي لا تطيب ذكراها.
ولا أنكر أن ملاحظة نازلي هانم أزعجتني، وذكَّرتني بأمور أخافها، فدعوت الله مخلصًا أن يقيني مغبة الشقاق في حاضري ومستقبلي.
وفي مرة، وكنت جالسًا إلى فتاتي وأمها فقط، واتتني الشجاعة فذكرت عهد تطلعي الصامت إلى «رباب»، وعجبت كيف انتهت إلى هذا الختام السعيد وهو ما لم أكن لأحلم به! وضحكت حبيبتي وقالت: ومع ذلك فلم تكد تخطو خطوةً واحدةً حتى تم كل شيء في غمضة عين!
وقالت نازلي هانم: طالما تساءلنا: ماذا يريد هذا الشاب؟! ولشدَّ ما حذَّرت «رباب» أن تكون من الشبان الذين يطاردون الفتيات في الطريق! وقدرنا في وقتٍ ما أنك مشغول بالتحري عنا كما يفعل طلاب الزواج. فلما طال ترددك بعد ذلك داخلني استياء وتساءلت عما لم يعجبك فينا؟!
فقلت مرتبكًا متألمًا: ما فعلتُ شيئًا من هذا، وحتى الأسماء ظللت على جهلي بها حتى اللحظة الأخيرة!
وكان لديَّ من المال ما يعدُّ بالقياس إليَّ ثروة، فأغدقت على حبيبتي الهدايا، وجعلت من شقيقتي راضية مشيرتي في هذه الأمور التي أخفيتها عن أمي، فمحَّضتني المشورة وأرشدتني إلى «الواجب»، وخاصةً في المواسم كعيد الفطر وعيد الأضحى، فأصبحت بفضل رأيها خطيبًا مشرِّفًا.
وظلت العلاقة بيني وبين أمي على ما يرام، على الأقل في الظاهر، وحرصتُ على أن أشركها في مهمة الإعداد للحياة الجديدة لتبدو وكأنها تباركها، فكلفتها بأن تبحث لنا عن شقةٍ جديدة، ووقع اختيارها على عمارة في شارع قصر العيني على بعد محطاتٍ ثلاث من عمارة حبيبتي، ولم يبدر منها ما يعكر صفوي، ولكنها بدت كشخصٍ مغلوب على أمره، تزحزح على رغمه إلى هامش الحياة، فانطوت على نفسها انطواءً لم أجد في معالجته حيلة، وقطَّع قلبي. ولكن لم يكن في وسع شيء في الوجود أن يعتاق تيار السعادة المتدفق الذي يُسكِرني ليل نهار. والواقع أن تلك الفترة من حياتي هي أسعد ما لقيت في الدنيا من أيام!
٣٩
وقالت لي نازلي هانم يومًا، وكانت الأسرة قد أعدت عدتها للزواج: إن رباب أول عهدنا بالأفراح، فينبغي أن تكون ليلتها بالغة المسرَّة.
وولَّى قلبي فرارًا، ولم يعد بدٌّ من مواجهة الأمر الخطير الذي طالما تحاميته إشفاقًا وجبنًا، وتساءلتُ في قلق: أترين ضرورة في إحياء ليلة الزفاف؟!
فرمقتني بنظرة استنكار كأن تساؤلي أدهشها وقالت: طبعًا!
فغمغمت في ذهول: قيان وزفاف ورقص وغناء!
– ينبغي أن تكون ليلةً فريدةً غنَّاء!
وتملَّكني الخوف، ورفعت إليها عينَين ملؤهما الرجاء والاستعطاف، ثم قلت بيأس: لا يمكنني أن أزفَّ بين المدعوين! هذا فوق ما أستطيع.
فلاحت في وجهها الدهشة والانزعاج وقالت بغرابة: لستُ أفهم شيئًا! .. هل يعجزك الحياء لهذا الحد؟
فقلت بضراعة، وبحرارة من يدافع عن نفسه حيال الموت: لا أستطيع .. لا أستطيع .. صدقيني يا سيدتي، إن الموت أهون عليَّ من الزفاف بين المدعوين والقيان!
– هذا شيء عجيب، إنك تكون أول رجل يهرب من الزفاف!
فقلت بأسًى وقد شعرت بألسنة الخجل تلهب جبيني وخدي: ربما، ولكن ما باليد حيلة، إني أستحلفكِ بالله أن ترحميني!
فتساءلت في إنكار: وما عسى أن نفعل؟
فقلت بلهفة وقد عاودني الرجاء: نكتب العقد في جمع من الأهل فحسب، ثم أمضي بالعروس إلى بيتنا.
– وكيف يكون هذا فرحًا؟!
ولو كان الأمر غير ما يتصل بالخجل لسلمت دون عناء، والحق أني سريع للمطاوعة مهما كلفني الأمر من تضحية إلا إذا كنت بموقف الذائد عن حيائي؛ هناك أنقلب إلى الاستماتة والتشبث. وقد استمددت من يأسي وخوفي قوةً فتوسلت وضرعت وألحفت حتى كفَّت السيدة عن المناقشة وهي تهزُّ رأسها عجبًا. ولم يكن بي خوف أن يظنوا بي تهربًا من تكاليف الزفاف؛ لما أبديت من سخاء كخطيب كان حديث الجميع، على أن جبر بك السيد أخبرني بعد ذلك بأنه مصمم على دعوة نفر من خاصة أصدقائه، وأنه سيولم للجميع وليمة عشاء فاخرة، ثم أخبرني بعد حين بأن أحد أصدقائه من هواة الغناء والموسيقى، تطوع بإحياء الليلة في حدودها الضيقة، وقال مخففًا عني وقع الخبر: وهكذا يحيي ليلتك موظفٌ كبير!
فقلت محزونًا: يؤسفني والله ألا أحقق رغبتكم في إحياء ليلة زفاف باهرة؛ ولكني لا أحتمل أن أُزفَّ!
فهزَّ كتفَيه في عدم اكتراث وقال مبتسمًا: لا أحب أن أضايقك، فلك ما تشاء!
وحُمل الجهاز إلى الشقة الجديدة، وفُرشت حجرةٌ خاصة لأمي، وانتقلنا من المنيل إلى الشقة الجديدة قبل الليلة الموعودة بأسبوع. وأشرفت شقيقتي على فرش شقة العروس بنفسها. وبَهرت شقة العروس عينيَّ فجعلت أتنقل بين الحجرات في غبطة وفرحٍ سماوي. ولما جاء دور المخدع اجتزت بابه بعد تردد، وفي حياءٍ شديد ورهبة؛ يا له من منظر خليق بأن يهزَّ الفؤاد هزًّا! جعلت أقلِّب ناظريَّ فيما حولي وأنا بين مستيقظ وحالم؛ فراش كالذهب، وأغطيةٌ حريرية في لون الورد الزاهر، ومرآةٌ مصقولةٌ رقراقة. دبَّت الحياة في قطع الأثاث فلم تعد جامدة ولا صلبة، وحاكت ألوانها الجذابة تَوَرُّد الخدود والْتماع الأعين، وندَّت عن حواشيها المسدولة همساتٌ خافتةٌ منغومة خفق لها الفؤاد خفقانًا متتابعًا.
•••
وفي صباح اليوم الرهيب ساءلتُ نفسي: متى أعود بعروسي وقد خلفتُ ورائي الناس والضوضاء؟ ليت التقاليد كانت تقضي بأن ينتظر الرجل عروسه في بيته من غير هذا العناء كله! بدا لي يومًا عسيرًا لم يخلق لأمثالي، فلم يفارق قلبي الشعور بالرهبة والخوف. وتقضَّى نصفه الأول في تهيئتي، فمضى بي شقيقي مدحت إلى حلاقٍ مشهور عدت من لدنه على أحسن حال، حتى قالت لي أختي في دعابة: أنت أجمل من عروسك! .. أليس كذلك يا أماه؟
وهمت أمي بالكلام، ولكنها أطبقت شفتَيها دون أن تنبس، وجعلتُ أتساءل عما أرادت قوله. وارتديت بدلة العرس السوداء على حرارة الجو، ثم ذهبنا إلى بيت العروس قبيل العصر بقليل، ومعي أمي وأخي وأختي وزوجها وعمي وبعض بناته وخالتي وأسرتها. ولما اقتربنا من مدخل العمارة رأيت الأرض قد فرشت رملًا فاقع اللون، وتدلَّت مصابيحُ كهربائيةٌ كبيرة من عُمدٍ ملونة، فداخلني اضطراب وقلت لنفسي: «هذا خروج عن الاتفاق!» وارتقينا السلم وقد أبَيتُ إلا أن أسير في المؤخرة شابكًا ذراعي بذراع مدحت .. وما كاد أولنا يدخل الشقة حتى استقبلتنا عاصفة من الزغاريد المجلجِلة، فشددت على ذراع أخي وشعرت برغبة في التواري، ولكن أين؟ وخفضت عينيَّ، وسرت، بل جرَّني أخي إلى حجرة الاستقبال، دون أن أرى شيئًا مما يحيط بي، وإن أحسست بأذني وأنفي أن البيت مكتظ برواد السرور! .. وأُجلست وأنا متشبث بذراع مدحت وقد همست في أذنه: أرجو ألا تفارقني!
فردَّ عليَّ هامسًا: تشجَّع وإلا بدت عروسك دونك خجلًا!
ولم أكد أتنفس الصعداء لمرور لحظة الاستقبال المفزعة حتى جاءني جبر بك السيد ليقدمني لصفوة المدعوين، فوقفتُ مرتبكًا كالعادة، وراحت يدي تسلم، ولساني يردد كالآلة: «تشرفنا .. تشرفنا.» ثم جلست مرةً أخرى دون أن أحفظ اسمًا واحدًا. ودار حديثٌ طويل، لم يفزع عقلي لفهمه فضلًا عن الاشتراك فيه، ولم يغب عني حرجي، فتضاعف ارتباكي، وخيل إليَّ أن الجميع يتغامزون بي، أو يهزءون بي في سرائرهم. ومرَّ الوقت قاسيًا حتى دُعيت إلى كتابة العقد، وخفف عني أن تم ذلك في حجرة تكاد تكون خاليةً، ولكن انفجرت الزغاريد في تسابقٍ عنيف، وعاودتني مرةً أخرى رغبتي في التواري، وعدت إلى مجلسي الصامت، ومرَّ الوقت، ولم يكن بالنسبة إليَّ إلا صمتًا وفكرًا محترقًا ولهفةً على الفرار. ثم دُعينا إلى سماط أُعدَّ على سطح العمارة في الهواء الطلق. والعشاء عناءٌ جديد لمثلي، ولكنه محتمَل بخلاف الحديث؛ لأن المدعوين يشتغلون بالطعام عما عداه، فيجد من كان مثلي فسحة للطمأنينة والسكينة .. وعدنا إلى مجالسنا، شابكًا ذراعي بذراع أخي، ثم بدأ الغناء. وكان المغني الهاوي وفرقته — من الهواة كذلك — يتصدرون حجرة الاستقبال .. وقد غنَّى «ياما انت وحشني» بصوت لا بأس به، فاق في نظري صوت فنان حانة سوق الخضر. وجاء جبر بك للجوقة بقنينتَين من الويسكي، وقدمت كئوسٌ مترعة لآخرين، وقد همس مدحت في أذني: ألا تشرب كأسًا أو كأسين؟
فنظرت إليه نظرة لم يفهم معناها وقلت بإنكار: محال!
قلتها بلهجة تنمُّ عن الاستفظاع، ثم خلوت إلى ذكرياتي في صمت. لشدَّ ما همت بنشوة الخمر! أفليس عجبًا أنني لم أذقها منذ الساعة التي اجترأت فيها على مخاطبة حبيبتي؟ .. هجرتها في غير ما عناء كأنها لم تكن، ولم تنازعني النفس إليها ولا مرةً واحدة! وتتابع الغناء والحديث، وعلا الضحك. وكنت حريًّا بأن آنس الجو، وأن يذهب عني الضيق وتوتر الأعصاب، لولا شعوري بخطورة الساعة التي تتربص بي! .. متى أتلقى عروسي؟ وأين؟ .. وهل يحدث هذا في خفية عن الأبصار؟! ومرَّ الوقت، ثم انتبهت بغتةً على جبر بك السيد وهو يقف حيالي ويضع يده على كتفي قائلًا بصوتٍ منخفض: هلمَّ يا سي كامل أَزِف الوقت.
ورفعت إليه بصري في ارتياع وغمغمت: آن وقت الذهاب!
فقال ضاحكًا: ليس في الحال، ولكن بعد زفةٍ بسيطة.
فسَرَت في جسدي رعدة وهتفت في هلع: كلا .. كلا .. اتفقنا على ألا تكون زفة!
– ليس الأمر كما تتصور، فقد أقمنا في الصالة الكبيرة منصةً للعروسين، فتجيء بعروسك وتجلسان عليها .. الجميع يريدون أن يروا العروسَين، فما ذنبي أنا؟!
كان كلامه ينقلب في مخيلتي صورًا، فرأيتني أمشي وسط الجميع إلى حجرة العروس وأعود بها والمدعوون يحيطون بنا مهللين، ثم نجلس فريسة للأعين! .. رباه .. سأقع مغمًى عليَّ.
وقلت بحرارة: ولكن هذه الزفة! .. ليس في مقدوري! .. أرجو يا بك أن تعفيني .. لا أستطيع!
– الأمر أسهل مما تتصور، ولا بد مما ليس منه بد، وإلا ماذا يقول المدعوون؟!
فهتفت في فزع: دعهم يقولوا ما يقولون. لا أستطيع .. سأنتظر العروس على بسطة السلم ثم نذهب إلى بيتنا!
ولم يتمالك الرجل نفسه فضحك وصاح بي حتى علا صوته على صوت المغني: بسطة السلم .. يا لك من عريس عجيب!
وكان مدحت يصغي إلينا صامتًا، فضغط على ذراعي وقال لي بحزم: ما هذه الأفكار الصبيانية؟! .. ألا تريد أن تجيء بعروسك؟! ألا تستطيع أن تشق طريقك بين نخبة من السيدات الفضليات؟ أتريد البك على أن يعتذر عن عدم ظهورك بأنك خجول لا تستطيع الظهور أمام المدعوات؟! وافضيحتاه!
وتشجَّع جبر بك بكلام شقيقي، أما أنا فحدجت أخي بعينَين غير مصدقتَين، لم أكن أتصور أن تجيئني الطعنة القاتلة من اليد التي أعتمد عليها. وضحك أخي لفزعي وذهولي، وأراد أن يتكلم؛ ولكني قاطعته محزونًا يائسًا: كيف تدفعني إلى ما لا قِبل لي به؟ أتريد أن تجعلني أضحوكةً المدعوات؟!
وتأثر جبر بك للهجتي الحزينة البائسة، فقال برقَّة: المدعوات جميعًا من الأهل، وقد تعرفتَ إليهن يوم الخطبة، وسترى صدق قولي!
لم يزل الفزع يتملكني، وتناهى بي الضيق فقلت بتوسل: نشدتكما الله أن ترحماني!
وكأن أخي أدرك أن الكلام لا يجدي، فوجَّه خطابه لجبر بك قائلًا: يمكن أن نتفق على حلٍّ وسط؛ فتجيء العروس إلى المنصة بين صويحباتها، وأذهب مع أخي إليها، فيجلسان معًا بين الأهل ردحًا من الزمن قبل الذهاب!
وأومأ إلى البك ألا يعارض، فذهب الرجل، والتفتُّ إلى أخي مغيظًا محنقًا وقلت له: يا لك من أخٍ خائن! .. كيف تسمي هذا حلًّا وسطًا، وما هو إلا التنكيل بي؟!
فندَّت عنه ضحكةٌ مجلجلة ذكرتني بأبينا وقال لي: إنك تعرُّ بلدًا، فدع النضال، وسنذهب معًا .. ليتني أجد كل يوم زفةً فأشق سبيلًا طريًّا بين النساء!
وصمت لحظةً قصيرة، ثم لكزني في كتفي وعاد يقول: إذا حدثتك نفسك بالنكوص فاهرب واستغنِ عن العروس!
واستسلمت إلى الواقع في يأس وضيق وهلع. وعزفت الفرقة نشيد الزفة، فخفق قلبي بارتياع وشعرت بدنو الخطر. وقرعت أذنيَّ الزغاريدُ الآتية من الصالة فانهارت قواي، والتفتُّ إلى مدحت قائلًا: أما من حيلة؟ أما من طريق؟
فشدَّ على ذراعي ونهض وهو يقول: طريقٌ واحد يفضي إلى المنصة كأنك طفل يساق إلى الختان!
وسار، فتحركت قدماي وقلبي يغوص في صدري!
وقال لي همسًا ونحن نجتاز الباب: ارفع رأسك، حملق في وجوه الحسان حتى يغضين حياءً!
ولكني تقدمت على مهل خافض الرأس. لم أشك في أن منظري استثار الضحك المكتوم. وبلغ مسمعي صوتٌ نسائي يتساءل: «أيهما العريس؟» فأجابت أخرى: «الطويل!» كان المكان مكتظًّا، وقد رأيت عديدًا من السيقان والأحذية البيض على جانبَي الطريق الذي أُفسح لنا. ثم سمعت صوت أخي يهمس في أذني: بلغنا المنصة، اصعد إليها، وحيِّ عروسك واجلس.
ارتقيت درجتَين، ورفعت عينيَّ في حذر وإشفاق، فرأيت حبيبتي جالسةً تحت ظل من الأزهار، في ثوب العرس الأبيض، وعلى رأسها هالة من الفل والياسمين، تنسدل منها على الظهر ذيول من الحرير. كانت بهاءً ونورًا وفلًّا وياسمينًا، وقد غضَّت بصرها ولاحت على ثغرها ابتسامةٌ خفيفة. وصرت منها على قيد خطوة، وتذكرت قول أخي: «حيِّ عروسك واجلس!» .. كيف أحييها؟ أأسلم باليد؟ .. أو أوجِّه إليها تحية المساء؟ وترددت مرتبكًا، ورأيت في ابتسامتها الخفيفة الخجلة ما ينمُّ عن انتظار تحيتي، ثم شعرت بما غاب عني لحظاتٍ قصارًا، أو عاودني الشعور بالأعين المحدقة بي تكاد تحرق ظهري، ففقدت جناني، وجلست على المقعد الخالي دون أن أنبس بكلمة أو أحرك يدي.
أخطأت بلا شك! ماذا تقول النسوة؟ .. ماذا تظن حبيبتي؟ .. آه يا له من موقف! .. لو عرفت هذا من قبلُ ما فكرت في الزواج أبدًا! .. الموسيقى تعزف، والزغاريد تجلجل، وأريج الروائح الزكية يتطاير في الجو. الموت أهون من الزواج! هل أظل الدهر ضحية للمنصات؟ بالأمس قضت منصة الخطابة بكلية الحقوق على مستقبلي، والليلة تكاد تقضي منصة العروس على حياتي! ترى ماذا يقلن عن عينيَّ اللتين لم تزايلا الأرض؟! وذكرت بغتةً أمي، ترى أين تجلس؟ إنها تراني في هذه اللحظة بلا ريب، وتضاعف حيائي، وتولاني شعور من يُضبط وهو يقترف عيبًا. ووجدت إحساسًا لا قبل لي بمقاومته يدفعني إلى البحث عن موضعها، وارتفعت عيناي في رفق وحذر، ولكنها كانت أقرب مما أتصور .. كانت تجلس في الصف الأول الذي يحدق بالمنصة، فالتقت عينانا، وتبادلنا ابتسامةً رقيقةً. وطار خيالي إلى صورة من الماضي البعيد، فرأيتني أقف وراء سور المدرسة الأولية وهي بموقفها على الطوار المقابل للسور، ترنو إليَّ بعين التشجيع والتوديع، فشعرت بغمز على قلبي.
وتنفست الصعداء حين أقبلت نازلي هانم نحونا وقالت مبتسمة: الآن إلى بيتكما مصحوبَين بالسلامة.
ثم خاطبتني هامسةً: ستذهب الجارية صباح مع سيدتها الصغيرة؛ لأنها لا تحتمل مفارقتها .. وإني أوصيك بها خيرًا، وستجد فيها خير طاهية.
وتنحَّت المرأة جانبًا مغرورقة العينين، ونهضنا من مجلسنا، وأخذتُ بيد عروسي وغادرنا المكان في سيرٍ وئيد، والزغاريد والأنغام تودعنا حتى باب العمارة. وكان أحد أصدقاء جبر بك قد وضع سيارته تحت تصرفنا حتى نبلغ دارنا. واحتوتنا السيارة معًا، ثم انطلقت بنا. والتفتُّ نحوها متنهدًا فكأني أراها لأول مرة، وقلت بارتياح: يا له من موقفٍ قاسٍ!
– يا لك من خجول! .. ألهذا الحد؟!
فندَّت عني ضحكة أداري بها ارتباكي، وجعلت أتملَّى غبطةً تملأ القلب والعين والروح.
٤٠
أغلقتُ باب المخدع بيدٍ مضطربة. كان هذا الجناح من الشقة خاليًا صامتًا، تفصله صالتان صغيرتان متداخلتان عن الجناح الآخر حيث توجد حجرتا أمي والاستقبال … وكان مخدعنا مربعًا يتوسطه الفراش، وعلى يمين الداخل مباشرة مقعدٌ طويل ذو لونٍ وردي، وفي الجدار المقابل التواليت والمشجب. مضت رباب إلى آخر الحجرة وجلست على مقعد التواليت بين صورها المعكوسة على مراياه التي ترسم حولها نصف دائرة، وراحت تنزع إكليل الفل والياسمين؛ بينما وقفتُ في وسط الحجرة مرتفقًا حافة الفراش الخشبية، مرددًا بصري بين ظهرها الرشيق وصورها المتنافسة في الحسن. هذه الحجرة هي دنياي، وحسبي بها من دنيا، وهذه الفتاة هي نصيبي من الكون وحسبي بها من نصيب، هي حبي وسعادتي وأملي، ولن أسأل الدنيا مطمعًا بعد اليوم.
انتهت حبيبتي من نزع إكليلها، وأخذت تسوِّي ما بُعثر من خصلات شعرها الكستنائي في تمهل من يرغب في اكتساب أقصى ما يسعه من وقت. ولكن ستنتهي حتمًا فترة الانتظار، فما العمل؟
رباه إن قلبي يقظٌ متوثب، وإني لأجد رعدةً ترعش ركبتيَّ، وإني لأتساءل في حيرة عن الخطة التالية بنفسٍ هيابة وحياءٍ شديد يدور مع دمي. وأدركت رغم اضطرابي أنه ينبغي أن نبدِّل ملابسنا، ولكني لم أدرِ كيف يتم هذا وكلانا في حجرةٍ واحدةٍ مغلقة! وبدت لي وكأنها تنتظر مني شيئًا، فقد انتهت من تسوية خصلاتها وإن تظاهرت بالعكس، ولاح في وجهها الارتباك والحرج. وإني أعلم أمورًا ولكن فاتتني التفاصيل، وأعوزتني الحيلة والعزيمة. ليتني استخبرتُ أخي مدحت، أو ليته كان لي أصدقاء أرجع إليهم في أمثال هذه الأسرار، ولكن قاتل الله الحياء الذي يقيم بيني وبين أخي والناس سدًّا، تبًّا له! لماذا لا يزايلني وقد صرنا وحدنا؟!
وبلغ ضيقي بصمتي وجمودي منتهاه، وثار بي الغضب على نفسي، فصممت لأتكلمن — وهو أضعف الإيمان — وقلت بصوتٍ غريب أنكرته أذناي: ما أجملكِ!
هذه أول كلمة غزل أتفوَّه بها في حياتي! .. وقد سددت بصرها نحو صورتي الماثلة في المرآة وابتسمت، ثم غضَّت بصرها، وشبَّكت ذراعَيها على صدرها. لم يعد يجدي التظاهر بتسوية الشعر فشبَّكت ذراعَيها في استسلام المنتظر. وازددت حرجًا، وعضضت على شفتي قهرًا وغيظًا. وبدا لي تغيير ملابسنا كأكبر مشكلة في الوجود، فهل نبقى على هذه الحال الأليم حتى مطلع الصبح؟ .. لماذا لا أمضي نحوها فأضمَّها إلى صدري حتى تحلَّ المسألة نفسها بنفسها؟ .. ولكن كيف أقدم على هذه الخطوة العظيمة؟! إني أستطيع أن أتخيل، وأن أحادث نفسي؛ أما الإقدام على عمل فهو المحال. وامتلأ قلبي غيظًا وألمًا، وازددت إحساسًا بالعجز والخزي، فصممت أن أخرج من صمتي على الأقل، فقلت: هلَّا بدَّلتِ ملابسكِ يا عزيزتي؟
فقالت بعد تردد: ليس أمامك.
لعلها توقعت دعابةً أو مغازلة ردًّا على قولها، ولكني لم أفكر في شيء من هذا وتركز تفكيري في إيجاد مكان أتوارى فيه ريثما تخلع هي فستان العرس. وتراجعتُ قليلًا جاعلًا الفراش بيني وبينها، ثم جلست على أرض الغرفة مختفيًا عن عينَيها وأنا أقول: بدِّلي ملابسكِ يا عزيزتي!
وحسبتُني قد ظفرت بالحل السعيد. وانتهزت الفرصة فمضيت أخلع ملابسي في هدوء محاذرًا أن يبدو مني شيء، ووضعت البدلة على الفراش، وتناولت البيجاما وكانت ملقاةً على المقعد الطويل، وحشرت فيها نفسي وأنا لا أزال ملازمًا موضعي على الأرض. وانتظرت مليًّا ثم سألتها برقَّة: هل انتهيتِ يا عزيزتي؟
فأجابتني بصوتٍ مهموس: أجل!
فنهضتُ قائمًا .. وهنا وقع بصري على صورتي في المرآة، فرأيت الطربوش ما يزال على رأسي فنزعته مبتسمًا! ونظرت صوبها في حياء فوجدتها بمجلسها السابق وقد التفَّت في روب من الحرير الأبيض، وأدارت المقعد مستقبلة به الحجرة. وعدت إلى موقفي مرتفقًا حافة الفراش، رانيًا إليها في غبطة وهيام، وكلما رفعت إليَّ عينَيها غضضتُ بصري في حياء. انتهينا من تغيير ملابسنا، لكن ليس هذا كل شيء! .. بدت الليلة وكأن لا نهاية لمشاكلها .. بيد أن قلبي يرغب أن يضمَّها إليه، فماذا يغلُّني؟!
إن هي إلا خطوة أقطعها، فهل تُكلِّف خطوةٌ واحدة كل هذا العناء؟ كان قلبي متلهفًا متعطشًا، وكان خجلي حارًّا محيرًا؛ أما جسمي فكان ميتًا لا حراك به! أأظل هكذا أبدًا؟ .. لماذا لا أداري موتي بالحديث؟ .. ولكن ما عسى أن أقول؟! .. لقد عقد الاضطراب لساني، وكل دقيقة تمر تتركني أشد ضعفًا واضطرابًا. وعلى حين بغتة انحرف ذهني إلى حجرة أمي دون داعٍ، وتساءلتُ: ترى هل نامت؟ هل تتخيل ماذا أفعل الآن؟ وتضاعف اضطرام الخجل بنفسي، وشعرت بما يشبه الاختناق. سلمت من جانبي باليأس والعجز، وتساءلت: هل نبقى على هذا الوضع المضحك حتى الصباح؟ ووجدت في أعماقي نزوعًا إلى الهرب، ولهفًا عليه، وكدت أتمنى لو لم يكن ما كان! .. وأفقت من أشجاني على صوت حبيبتي وهي تقول: الجو حار!
وتحولت صوب النافذة لتفتحها، ووجدت فرصةً مواتية فدفعت نفسي وراءها وأكملت عنها فتح المصراعَين، وهمَّت حبيبتي بالعودة فقلت كالمستغيث: هلا وقفنا في النافذة قليلًا!
ولبَّت حبيبتي نداء الاستغاثة، فوقفنا جنبًا لجنب لا يفصل بيننا إلا قيراط. وكانت النافذة تطل على الناحية الخلفية للعمارة، وتقع تحتها مباشرة حديقة كنيسة تقوم بجنباتها أشجارٌ عالية تتصاعد همسات حفيفها في صمت الليل. وهفَّت على وجهينا نسمةٌ رطيبة أتطلع إليها كما يتطلع الطفل إلى القمر! ها هي ذي لا يفصلنا إلا قيراط. وملتُ بجسمي في تؤدة وحذر، فتماسَّت ملابسنا، ثم شعرت رويدًا بملمسٍ طري، والتصق الجنبان، وندَّت عني تنهدةٌ مسموعة أيقظت حيائي فتريثتُ قليلًا، وخفت أن تصدَّني أو تبتعد عني حياءً فأُغلب على أمري ولا يعود ثمة أمل، ولكنها لبثت بمكانها وارتفقت حافة النافذة.
ودفعتُ بيسراي إلى الوراء قليلًا، ووجهتها وراءها حتى رسمت خلف خاصرتها نصف دائرة، وجعلت أضيقها على مهل وحذر وخوف حتى مسَّت ثنيات الروب الحريري، فسَرَت من مسِّها لقلبي رجفة وندت عني للمرة الثانية تنهدةٌ مسموعة. ثم توثبت بمجامع قلبي وأحطت خاصرتها بذراعيَّ .. ولم تُبدِ حبيبتي لا معارضةً ولا حراكًا. ونفضتُ عني أفكار التردد والهزيمة، وشددتها نحوي مستعينًا بذراعي اليمنى، وتلقيتها في حضني وأسندت جبينها إلى صدري، فهويت بشفتيَّ على مفرق شعرها، وغمغمت وأنا لا أدري: أحبكِ.
ولبثنا في عناقنا، والله أعلم بما لبثنا ثم تراجعنا متماسكَين إلى الفراش، وصعدنا إليه وذراعاي لا تتخلَّيان عنها. وأسندنا منكبينا إلى نمرقتَين عاليتَين، وحبيبتي وما عليها من روب على صدري وبين ذراعيَّ، ومن عجب أن بصري لم يتطفل عليها فاتجه إلى السماء خلال النافذة. وامتلأت نفسي حياةً لا عهد لي بها، أما جسمي فظل جامدًا باردًا لا ينبض ولا تدب به حياة، كأن نفسي استأثرت بكل قطرة من حياتي. أسكرتني نشوةٌ روحيةٌ باهرةٌ غنَّاءُ طروبٌ سامية، وظللت على حالي حتى مطلع الفجر، ولم أدرِ كيف استرق النوم خطاه إلى جفنيَّ!
٤١
استيقظت ونور الشمس يملأ نصف الحجرة تحت النافذة المفتوحة، فوقع بصري على المرآة، وعاودتني ذكريات الليلة الماضية في لمح البصر. ودارت عيناي في الحجرة فوجدتها خالية، وأدركت أن حبيبتي غادرتها وأنا أغطُّ في نومي، فتندَّى قلبي حنانًا وبعثت لها بتحية ودعاء، وقلت لنفسي: إن متاعب الخطبة والزواج والزفاف قد انتهت، ولن يضمر لي المستقبل إلا صفاءً لا يكدره مكدِّر. وراجعت ذكريات الأمس فساحت نفسي في متاهة النشوة والسعادة. بيد أنه لم يغب عني أنني لم أبدأ بعدُ، وأنني لم أكتب حرفًا واحدًا في كتاب الزواج الضخم. وغادرت الفراش ونظرت في الساعة فوجدتها قد جاوزت العاشرة، فهالني تأخيري، وذكرت في التوِّ أمي، وتساءلت عما تظن بهذا الاستيقاظ المتأخر؟! وشعرت بحياءٍ أليم، زاد من ألمه أنه لم يحدث ما يستدعي التأخير قط، وأحسست بضيق نغَّص عليَّ سعادتي، وكأنني أدرك لأول مرة أن الليلة الماضية لم تخلُ من فشل وإخفاق. على أنني قاومت هذا الإحساس الخائن، ورغبت عن الانفراد به فغادرت الحجرة. وقابلتني في الصالة الجارية صباح — التي انضمت إلى أسرتنا — فهنأتني «بالصباحية». وأخبرتني بأن العروس تنتظرني في حجرة السفرة فمضيت إليها، ووجدتها جالسة كالوردة اليانعة، فانشرح صدري بمنظرها وأقبلت نحوها متهللًا وقبلتُ خدها. وتناولنا إفطارنا معًا المكوَّن من اللبن والشاي والبيض والجاتوه. وتبادلنا على المائدة حديثًا عاديًّا، فسألتها: متى استيقظتِ؟ وأجابتني بأنها استيقظت في الثامنة، وبأنها تستيقظ في العادة مبكرة مهما تأخر بها وقت المنام. ثم جاءت أمي فهنأتنا معًا، وجالستنا بعض الوقت. وانتقلنا إلى حجرتنا، وقضينا النهار في حديث عذب لا يُملُّ. وذهبت عني الوحشة فآنست بها وقصصت عليها قصة حبي من البداية إلى النهاية، وكنا نفصل حديثنا بالقبل السعيدة المتبادلة. وسألتها متى أحسَّت بوجودي في دنياها، فقالت إنها فطنت لحوَماني حولها وتطلعي إلى الشرفة منذ عام أو أكثر قليلًا، وإن أمها لاحظت ذلك في نفس الوقت تقريبًا، ثم صرت بعد ذلك حديث البيت، فكانت الخادمة الصغيرة إذا لمحتني من النافذة آتيًا من طريق المنيل قالت لهم ضاحكة: «عريس ست رباب!» وكانوا يزجرونها بشدة، ولما طال بي المطال دون أن أتقدم خطوة ظنوا بي الظنون، ونهتها أمها عن الظهور بالنافذة أو الشرفة في الأوقات التي أكون فيها بالمحطة. وسألتها بلهفة: ألم تشعري نحوي بعاطفةٍ ما؟
فابتسمت ابتسامةً رقيقة، فتحت فاهًا لتتكلم، ولكنها أطبقت شفتَيها دون أن تنبس. وكان بي نهمٌ شديد لسماع ما يبلُّ جوانحي، فألححت عليها أن تتكلم، فقالت بصوت لا يكاد يسمع: لا أدري .. لا أدري متى أحببتك.
وشعرت بتخديرٍ عميق وددت لو أنام به دهرًا. وجعلت وجهها بين راحتيَّ متمليًا شفتَيها اللتين برزتا تحت ضغط يديَّ، ثم وضعت عليهما شفتيَّ، وذبتُ في قبلةٍ طويلة، وجدت حبيبتي فتنة؛ حديثها عذب، وبديهتها حاضرة، وذكاؤها باهر حتى بدا حديثي على ضوء حديثها فاترًا باهتًا. وبدت لي لطيفةً خفيفة الروح، فلم يكن وقارها إلا تأدبًا واحتشامًا. ولا أدري لماذا كنت أتخيلها مثالًا لضبط النفس، بل وللبرود أيضًا؟ ولكني لمست في قبلاتها حرارةً تذيب القلب، وفي نظرة عينَيها عاطفةً عميقة وإحساسًا مرهفًا. وانطلقتْ على سجيتها بأسرع مما توقعتُ، وربما شجعها على ذلك ما رأت من شدة حيائي.
ولما جاء الليل وأغلقت الباب وراءنا قلت لنفسي وبي رهبة زحفت عليَّ مع الظلام: «الليلة يتم الأمر بإذن الله.» لم تكن لي تجارب على الإطلاق، ولم أعرف من الحياة الجنسية إلا العادة الجهنمية التي لم أكد أنجو منها، ولكني عرفت أمورًا بالسماع عفوًا — في الوزارة — لا أدري إن كانت تغني عني شيئًا. ورأيت حبيبتي واقفةً حيال المرآة تمشط شعرها، فراقني منظر قامتها الرشيقة الفارعة، وتدانيت منها، ولففت ذراعي حولها، فاستدارت حتى شعرت بمس صدرها على قلبي .. وضممتها إلى صدري في حنان وهيام .. إنه الحب، ولكنني أدركت بغريزتي أنه ينبغي أن أستنزله من السماء كثيرًا كي أقوم بواجبي! .. ولكن كيف؟! إنها تسكن إلى صدري كأنها طيف من نسج السحاب الطاهر، وإني أبدو كروحٍ خالصة لا يحيط بها جسد، فكيف أجد جسدي؟! وسرعان ما انسربت إلى نفسي مشاعر قلق وخوف وتوتر أذكتها جميعًا تجربة الأمس الفاشلة. ولم تكن تراءت لي كتجربةٍ فاشلة إلا في هذا الصباح، وكذبت رأيي أو كدت في أثناء النهار، ولكنني عدت إليه في تلك اللحظة بتسليم ويقين ويأس، ثم استحوذ عليَّ الحياء القاتل فأثلج دمي وأوهن عزيمتي، وركبني خوفٌ شديد من الفراش الذي لا أجد لنفسي عذرًا عليه، بينا أجد شبه عذر بعيدًا عنه.
ومرَّت هذه الخواطر برأسي وحبيبتي ما تزال بين يديَّ، فانقلبتُ تمثالًا جامدًا من شر الفكر، وضاعت سعادة السعادة هباءً .. وتنهدت، ولعلها ضاقت بالوقفة، فوخزتني بتنهدتها ولم أعد أطيق جمودي. ورفعتها بين يديَّ، وسرت بحملي المحبوب إلى الفراش، وأنمتها في رفق ثم اضطجعت إلى جانبها. ودفعني الشوق إلى تقبيل شفتيها وخدَّيها وعنقها بسرعة وغزارة، فداخلتها رقة وأحاطت عنقي بذراعها البضة والتصقنا طويلًا، وتناهى بها العطف والحنان، واصطرعت بقلبي أحاسيس الحب واليأس واللذة والخوف، فكأني في متاهة حمَّى يذهب بي هذيانها ويجيء بين أخيلة السرور وأشباح المخاوف. إني في حلمٍ سعيد، ولكن الخوف لا يزايلني واليأس يثير في وجهي غبارًا، وكيف لي بالنجاة وجسمي ميت لا حياة فيه؟! وأحرق جفاف الخوف حلقي، ووقفت حيال عجزي ويأسي حائرًا أتساءل، ولكني لم أفكر لحظةً واحدة في التقهقر، وأين المفر؟ .. بل دفعني اليأس إلى أن أنزع الروب عنها، فجرت يدي إلى عقدة زناره وحللتها، وشعرت بصدرها يرتجف تحت صدري، فأزحت جانبه عن صدرها فبدا جسمها الرشيق في قميص من الحرير الأبيض لا يكاد يستر شيئًا، وبادرت ترجع طرف الروب تستتر، فأزحته مرةً أخرى فانحسر عن القميص الشفاف، ورنوت إلى هيئة الجسم الفاتنة بعينَين لم يترك لهما الاضطراب إلا قليلًا من الإبصار. كان حالي مما يرثى له، ولم يكن عذاب محتضَر يجاهد يائسًا للاستمساك بحياة جسده بأسوأ من عذابي. ورغم هذا كله ثابرت على عنادي، واستمددت من يأسي وعذابي قوةً وإن لم تكن تُجدي. إن الخجول لا يفرُّ إبان المعركة؛ لأن الفرار مخجل حيال الغريم .. أجل إنه يتحامى المعركة، ويفرُّ منها بعيدًا عن الأعين، فإذا ولج ميدانها وغدا محطًّا للأنظار بات الفرار — كالعراك سواء بسواء — فوق احتماله. لذلك أجلست حبيبتي ونزعت الروب من ذراعيها وتركتها قميصًا شفافًا وجسدًا باديًا .. وأدارت عني رأسها، وأخفته في الوسادة .. ولم تكن تعلم بأن نفسي تحترق يأسًا، وبأن هذا المشهد ما هو إلا مهزلة؛ فتضاعف ألمي وخجلي. ومع ذلك مددت يدي مرةً أخرى كأنني ما زلت أطمع في أمل لا أدريه .. مددتها وهي ترتجف من اليأس والبرودة، فندَّ عن حبيبتي صوت يهمس: إني خائفة!
واخجلتاه! .. ممَّ تخاف؟! .. لقد ألهبتني همستها كسوط حملت أطرافه بالرصاص، ومع ذلك لم أتوقف .. لم تثنني لا المقاومة ولا الصدود .. حتى بلغ النظر غايته! ماذا دهاني؟ .. ليس الموت فحسب ما بي .. إنه شيءٌ جديدٌ مفزعٌ مزعج، ماذا دهاني؟! رباه حبيبتي جميلةٌ لطيفة، ولكنه الجهل والخيال الأعمى! كنت غرًّا أعمى لم ترَ عيناي نور الحياة، فتخيلت عنه خيالاتٍ صبيانيةً، فلما أن رأت النور الحقيقي أنكرته! إنها مأساة. ولعله لولا موتي لما كانت مأساة على الإطلاق. وقد علمتني تلك التجربة القاسية أن الحب يخلق الجمال كما يخلق الجمال الحب .. ومهما يكن من أمر فقد ركبني الفزع فوق ما بي من يأس وخجل ولم يعد ثمة أمل. ولبثت جامدًا وحبيبتي دافنة وجهها في الوسادة، مستسلمة تحت رحمة جلادها .. لبثت جامدًا لا أدري ماذا أفعل ولا كيف أتراجع، ووجدت في لحظةٍ رهيبة قوةً عصبيةً متوترة تدفعني إلى الضحك، لولا أن تماسكت وشعرت في اللحظة الثانية برغبة في البكاء، ولولا أن البكاء مخجل لروَّحت بالدمع عن نفسي الملتاعة .. ثم استثقلت الجمود كما خفته، فضممتها إلى صدري وقبلتها ومشاعر العطف والحزن — علينا معًا — تسيل من شفتيَّ، كان رثاء بالقبل. ومرَّ الوقت كأن دقائقه وثوانيه أسنان منشار يحزُّ عنقي، ومرت دقائق وربما ساعات .. ثم انقلب الحال مملًّا مضنيًا، وفي حركةٍ لطيفة تخلصتْ من ذراعي .. وتغطت بثيابها، وبدا لي النوم نهايةً مضحكة، ولكن ما حيلتي؟! رقدت حبيبتي دون أن تلتقي عينانا، فلم أدرِ متى رنق الكرى بجفنَيها. ولبثتُ مسهدًا متعبًا لا أدري بأي وجه ألقاها في الصباح؟ أي شيطان أغراني بالزواج؟ .. ألم يكن عذاب الحسرة القديم خيرًا من هذا العذاب؟ .. كيف خانني جسمي؟ أليس هو الجسم الذي يلتهم نارًا في العادة الجهنمية؟! وإلام يدوم هذا اليأس؟! .. ظل رأسي كقطعةٍ محماة من الحديد يتطاير عنها شرر الأفكار.
٤٢
حبيبتي عطف ورحمة. وقد طالعتني في الصباح بالابتسامة المشرقة، ووثبت هنا وهناك ببشر وسرور ومرح، فلم يداخلني شك في أنها عروسٌ سعيدة. ولو بدا لي أنها تتظاهر بالبهجة لتخفف عني الحرج لما وسعتني الدنيا شقاءً، ولكنها كانت تصدر في مرحها عن وحي فطرةٍ بسيطةٍ سليمة لا تعرف التصنع ولا التمثيل. وشعرت بصدق وحق بأن فتاتي تحبني، وبأنها قلبٌ كبيرٌ مليء بالحنان والعطف والأنوثة؛ فعاودني الأمل، وقلت لنفسي: إننا ما زلنا في البداية، وإن مسرات لا حصر لها تنتظرنا إذا عبرنا الخطوة الأولى الشاقة. وقضينا النهار معًا؛ بعضه في الحديث، وبعضه الآخر في مشاهدة الرسوم والألعاب التي مهرت في إبداعها لأطفال الروضة. وحين المساء زارتنا أسرتها، وجلسنا جميعًا في حجرة الاستقبال ومعنا أمي أيضًا. وتحدثنا طويلًا، والتهمنا بلذة الشيكولاتة والملبس، وحاولوا أن يجروا أمي إلى الحديث، ولكنها — مثلي — لم تكن محدثةً ماهرة، فبدت متحفظةً، وخيِّل إليَّ أن محضرها لم يترك أثرًا حسنًا في نفوسهم، وأن رباب شاركتهم في نفس الشعور، وما لبثت أن سرت العدوى إليَّ، وكنت أجد نحوها إحساسَين متناقضَين؛ إحساسًا بالرغبة في وجودها معي وهو ما ألفته وطُبعت عليه، وآخر بالخجل الأليم لوجودها في بيت الزوجية. والحق أني ما كنت أذكرها حتى يتندى جبيني خجلًا. ولما انفض السامر وأقبل الليل استقبلته بكآبة وخوف، وما كاد باب حجرتنا يغلق وراءنا حتى نضب معين السرور والبشر من قلبي، وغاض منه الأمل الذي ابتعثه مرح النهار، وبدا لي أن فتاتي تعاني بعض ما أعاني، وأنها تداري قلقًا لم تنفع لباقتها في مداراته. تولَّت عني الثقة في أقل من ثانية، وتخايلت لعيني ذكريات الليلة الماضية، وتمنيت لو كان في الإمكان أن ننام دون أن نجرب محاولةً جديدة، وأيقنت بالإخفاق قبل البدء. على أنني لم أجد بدًّا مما ليس منه بد .. وأعدت التجربة بحذافيرها من قُبل وعناق وإخفاق! أجل إخفاق وإخفاق وإخفاق. مسكينة حبيبتي، لقد استسلمت بادئ الأمر فيما يشبه الخوف، ثم انتهت بأن لمت نفسها في حياء وارتباك. انتهينا في ساعةٍ متأخرة كما انتهينا أمس، فنامت هي، وبقيتُ مسهدًا متفكرًا. ماذا بي؟! … إني أحبها بكل قوة نفسي، بل إني أعبدها عبادة، ولئن يخلو بيتي منها بعد اليوم لأهلكن لا محالة، أتكمن المأساة فيما دهاني به النظر من انزعاج لم أتوقعه؟! ولكن هذا محض افتراء؛ لأن موتي سابق للنظر، فليس فيما رأيت دخل فيه، بل إني آلف الحقيقة التي غابت عني سريعًا وتكاد تنهزم خيالات الوهم الصبيانية حيال الواقع الحقيقي، ولم يتغير مني شيء .. وقد أثر فيَّ حياؤها وارتباكها — وهي ترتدي ثيابها — تأثيرًا عميقًا، فأقسمت لا أقربن ثيابها حتى يغير الله ما بي!
ومضت بنا الأيام في حبٍّ طاهر، فامتزج روحانا، حتى صارا روحًا واحدًا في جسمَين غير متصلَين. ولولا حبها العميق، ومرحها الطليق، وبساطة قلبها الكبير، لمتُّ غمًّا وكمدًا!
وإنها لأيامٌ عجيبة، وإنه شهر عسل غريب! وكانت حبيبتي مثالًا للشعور الحي والرقة البالغة والحب الصادق. وكثيرًا ما كنت أسترق إليها نظراتٍ متفحصةً مستريبة، فلم أجد منها إلا الصفاء والوداعة والرضا، فكاد يقع في روعي أنه لا يعوزنا شيء. وأستطيع أن أقول: إنني لم أنعم بالراحة إلا في تلك اللحظات. وفيما عدا ذلك كانت حياتي جحيمًا مستعرًا لا يدري به أحد، لم تعد سعادتي إلا أويقاتٍ طارئةً كأنها إفاقات من يعاني سكرات الموت. وشعرت بشدة حاجتي إلى المشير؛ ولكن حيائي وقف في طريقي سدًّا منيعًا كالجبل الراسخ، فاستحالت عليَّ المشورة، حتى مجرد تخيلها كان يشبُّ فيَّ نارًا ويبعث في نفسي إحساسًا قاهرًا للفرار والاختفاء. وفضلًا عن هذا وذاك فلم يكن لي صديق، وكانت أمي — وهي صديقي الوحيد في دنياي — أبعد من أن أذكرها في هذا الأمر خاصة، فكابدت عذابي وحيدًا صامتًا يائسًا. وكان نهارًا محتملًا، بل بهيجًا بفضل حبيبتي التي تذيب روحها راكد الهم، حتى إذا جاء اليل غشيتنا كآبة لم تنفع حيلة في تبديدها. كان كلانا يشعر بالحرج والضيق والخوف، ولم تواتني الشجاعة على معاودة التجربة بعد إخفاق الليلتَين المتعاقبتَين، فكنت أقنع بأن نضطجع جنبًا إلى جنب، وأضمها إلى صدري، منتظرًا الرحمة في خوف وقلق وهلع، حتى ينتشلني النوم من عذابي، ولذلك لم يزل الحياء حجابًا بيني وبينها، ولو أتيح لنا الامتزاج لرفع الحجاب رويدًا رويدًا، فلم أستطع أن أشكو إليها بثي وهمي، وطالما نازعتني نفسي إلى الترويح عنها بالكلام، فما أكاد أفتح شفتيَّ حتى أطبقهما في ارتباك وخجل. وفي إحدى هذه المرات قالت لي بصوتٍ مهموس: هل ترغب أن تقول شيئًا؟
ووجدت وراء تساؤلها دعوةً إلى الكلام، فخفق قلبي بعنف وقلت في اضطراب أخفيته بجهدٍ شديد: أرغب دائمًا أن أقول إني أحبك!
هذا حق في ذاته، ولكني كنت أرغب بلا ريب أن أقول شيئًا آخر، وأحسست بأنها تقرأ صفحة أفكاري الخفية، فجثم الكذب على صدري كالكابوس، وغمغمت بعد أن جاهدت حيائي جهادًا مريرًا: إن ما مضى من حياتنا المشتركة لا يقاس إلى ما ينتظرنا من عمرٍ طويل.
وخُيِّل إليَّ أن وجهها تضرج بالاحمرار، وإن كنت أراه على ضوء المصباح الساهر الخافت، وداعبت شعري بأناملها، ثم قبلتني قبلةً عذبةً على شفتي، وسألتني في أذني: أيضايقك شيء؟
فالتهب جسمي خجلًا وألمًا، وقلت بإخلاص: معاذ الله!
وصمتُّ على رغمي مليًّا، وقلبي يخفق بشدة وعنف، ثم قلت وبودي لو أتوارى عن ناظرَيها: إنها مسألة وقت!
هكذا تعاقبت الأيام، ومرةً أخرى أقول: إنه لولا حبها العميق ومرحها الطليق وبساطة قلبها الكبير لمتُّ غمًّا وكمدًا.
•••
وذات مساء — وكان مضى على زواجنا ثلاثة أسابيع — لاحظت أنها تخالسني نظرات تنم عن الحيرة، وأن لديها ما تقوله، فقلت لها مدفوعًا برغبةٍ قوية في استدراجها إلى الكلام: في عينيك كلام!
فقالت مبتسمة في ارتباك: أجل.
فمضيت إليها وكانت جالسة على المقعد الطويل وجلست لصقها، وقلت مستسلمًا للشعور الطارئ نفسه: هاتي ما عندك.
– أمي.
وانفجر الاسم في أذني كالقنبلة، إنه لفظٌ واحد ولكنه يتضمن كتابًا، وإني على رغم غبائي أفهم ما يعنيه. ولعل الأم تواجهها بهذا السؤال الطبيعي المعروف، فتسمع ردًّا على سؤالها جوابًا واحدًا لا يتغير «كلا بعدُ!»
ولما طال السكوت قالت حبيبتي برقة: إنها لا تفتأ تسألني، ولا أدري ماذا أنفد صبرها؟!
وقتلني الخجل، وتميزت غيظًا، ثم قلت بهدوء: هذه شئوننا الخاصة، أليس كذلك؟
فقالت كمن تعتذر: طبعًا .. إن هي إلا تريد أن تطمئن علينا .. هذا كل ما هنالك.
فسألتها محزونًا مغتمًّا: وماذا قلت لها؟
فقالت باهتمام وعجلة: لم أقل «شيئًا» مطلقًا .. فقط صارحتها بأن لا داعي للعجلة.
– وماذا قالت؟!
فتفكرت مليًّا كأنما لتزن كلماتها، ثم قالت: قالت لي إن للموقف رهبته، وخاصة بالنسبة لشابٍّ طاهرٍ خجول، وإنه إذا دعا الحال فلدينا صباح الجارية.
فاتسعت عيناي دهشة وقلت بذهول: صباح!
فأومأت برأسها بالإيجاب في ارتباك، فتساءلت بدهشة: وماذا تستطيع صباح؟
وترددت لحظة، ثم أنشأت تشرح لي ما غمض عليَّ أول وهلة، وأنصتُّ إليها باهتمام حتى أدركت كل شيء، وأخذت أفيق من ذهولي رويدًا رويدًا. ولست أخفي أني شعرت بارتياح إلى اقتراح الأم، فهو يزيل عقبة من سبيلي، ويخليني من بعض المسئولية، ويعفيني من مراقبة الأم، ولا أظنها تسأل بعد ذلك عن شيء .. وسألت زوجي بحياء: وكيف نخبر صباح؟
فقالت ببساطة: لقد حضرت صباح جانبًا من حديث أمي.
فهتفت بحياء وانزعاج: كيف؟ .. كيف بالله؟!
فقالت مبتسمة: لا عليك من هذا، إنها أمي أيضًا ولا نخفي عنها شيئًا.
وتبادلنا نظرًا طويلًا صامتًا .. ثم سألت في إشفاق: وهل علم أحد من الآخرين؟
قالت بلهجة لا تدع مجالًا للشك: مطلقًا!
فداخلني ارتياح، ولكن شعرت بحاجة إلى مزيد من الاطمئنان، فقلت بلهجة ذات معنى: أرجو ألا تخرج «أسرارنا» من هذا الباب!
فحدجتني بنظرة عتاب وتساءلت: أيداخلك في هذا الشك؟!
٤٣
ولكن ليس هذا كل شيء في الزواج، وكيف يكون كل شيء وهو «واجب» قامت به صباح؟! وتساءلت في سذاجةٍ مضحكة عما ينقص حياتي الزوجية؟ وهل هو ضروري لهذه الحياة؟! ومن عجب أنني ترددت عن الجزم! وتساءلت: ألسنا سعداء؟! نحن نعيش في هناء وغبطة، ويحب كلانا صاحبه حبًّا لا حدَّ له، ولا يداخل أحدًا شك في سعادتنا، فلماذا تزعجني الأوهام؟! ولكن الإنسان موكل دائمًا بالتفكير فيما ينقصه، حتى لينسى ما بين يديه بما هو بعيد عن يديه، فلم تزايلني الوساوس، ولم أستنم لحياتي. وفي ليلة من الليالي، وكنت مضطجعًا على ظهري أراود النوم وقد رنق الكرى بجفنَي حبيبتي، طاف بي الفكر مسارح بعيدة حتى نسيت ما حولي أو كدت، فساورني شعور بالوحدة، قوَّاه في نفسي ما يحيط بي من ظلمة، ورويدًا وجدت حياة تدب في جسدي، كتلك الحياة التي كانت يستثيرها الظلام والوحدة. وسرعان ما استخفني الفرح فكدت أصيح من فرط سروري، ثم أقبلت على حبيبتي النائمة أوقظها بالقبل حتى فتحت عينَيها في انزعاج استحال دهشةً، ومرت ثوان قبل أن تستفيق من دهشتها، ثم مدت ذراعيها إلى عنقي فضممتها إلى صدري بلهفة وشوق، ولكني ما كدت أفعل حتى عاد كل شيء إلى أصله، وزحف الموت البارد على جسدي حتى شمله في أقل من ثانية، وانقلبت إلى حيرةٍ خرساء وخجلٍ مُخزٍ! وتبادلنا نظرةً غريبة على ضوء المصباح الخافت، وبدا في وجهها أنها لا تفهم شيئًا، فسألتني: أكنت تحلم؟
ما أصدقها من كلمة وإن قيلت اعتباطًا، ولشد ما زلزلتني تلك الحادثة زلزلةً عنيفةً قضت قضاءً مبرمًا على ما كان يتراءى لي أحيانًا من أملٍ واهٍ، وعرضت لي خلواتٌ أخرى في ظلام الليل وحبيبتي غارقة في نومها، وعاودني دبيب الحياة الغريب، ولكن لم تواتني الشجاعة مرةً أخرى على إيقاظها، ووجدتني أتردى من جديد في الهاوية التي انتشلني الزواج منها قرابة شهر، وعدت وأنا لا أدري إلى أسر العادة الجهنمية التي لم يعرفها زوج قبلي. ألا ما أشد حيرتي وقهري! كيف يقع لي هذا وقلبي يعبدها عبادة؟! .. بل كيف ونظرة إلى وجهها أنفس عندي من الدنيا وأنعمها؟! إنها حياتي وسعادتي ودنياي جميعًا.
•••
وجدتها يومًا وكأنها تعاني رغبة الإفصاح عن شيء يعتلج بنفسها، فخفق قلبي قلقًا وخوفًا، ولكن لم يسعني أن أتجاهل ما رأيت مفضلًا أن ألقى الخطر وجهًا لوجه على أن أضيف جديدًا إلى ما أكتمه في نفسي من القلق والوساوس، فسألتها: ماذا وراءك يا عزيزتي؟
فلاح في وجهها التردد والضيق ولاذت بالصمت، فتضاعف قلقي وقلت بفؤادٍ منقبض: هاتي ما عندك، لا تخفي عني شيئًا!
فنفخت قائلةً: أمي!
ووقع قولها من نفسي موقع الفزع والهلع، ما بال هذه المرأة لا تريح ولا تستريح؟! ولشد ما أبغضتها في تلك اللحظة، على أنني تساءلت متظاهرًا بقلة المبالاة: ما لها يا رباب؟
فقالت بصوتٍ منخفض وهي تنظر فيما بين قدميها: لا تفتأ تسألني: هل جدَّ جديد في الطريق؟!
ومن عجب أني فهمت المراد من هذا المجاز! فهمته بغريزتي، أو بالخوف الكامن في نفسي وبلا أدنى تردد، ولكني تساءلت متجاهلًا: ماذا تعنين يا رباب؟
فأومأت إلى بطنها وهمست قائلة: تعني هل جدَّ جديد هنا؟!
تولاني فزعٌ شديد، فأطرقت مرتبكًا محزونًا، عمَّ تسأل المرأة؟ لعلها تريد أن تعرف شئونا أخرى ضمنًا، وحنقتُ عليها حنقًا فظيعًا، واختلست من رباب نظرةً فوجدتها ساهمة الطرف .. صامتةً .. أحقًّا يضايقها تساؤل أمها، أم هي تبلغنيه وفي نفسها غرض؟ أباتت بدورها تشارك أمها قلقها وجزعها؟ .. ولماذا تتوارى خلف أمها؟ إن المكر لا يجمل بمن كانت في مثل جمالها وطهارتها! وما كان أغناها عن اللف والدوران. هكذا حملني الفزع على عدم تقدير موقف فتاتي المظلومة. واشتد بي الحرج حتى أرهقني وأعياني، ثم تركز اهتمامي في شيءٍ واحد، وهو أن أسبر مدى ما تعرف نازلي هانم من أسرارنا، فسألتها قائلًا: وماذا قلتِ لها؟
فقالت ببساطة: قلتُ لها الحقيقة!
فتشنج قلبي تشنجةً حادةً وصحت بفزع: الحقيقة!
فحدجتني بدهشة وتساءلت: ما لك؟!
– فهتفت في انزعاج: أحقًّا قلت لها الحقيقة؟!
فقالت بعجلة ولهوجة: أجل قلت لها: إنه لم يجدَّ شيء بعدُ!
وتنفست الصعداء! إنها تعني حقيقة غير التي تشغل بالي. على أنه بقي في النفس شيء .. فقلت بحرارة: «رباب» أهذا كل ما قالت؟ لا تخفي عني شيئًا وأنت قلبي وحياتي.
فقالت بارتباك وقد قرأت البراءة في عينيها: عمَّ تتساءل يا كامل؟ إنني لم أقل لها كلمةً واحدةً زيادة عما قلت لك. لقد سألتني عن هذا الأمر فلم يسعني إلا أن أجيب بالحق والصدق، وهو أمر كما تعلم لا ينفع فيه الكذب، فهل تراني أخطأت؟ أم كنت تريدني على أن أتظاهر بالحبل؟
فقلت في ارتياحٍ نسبي: كلا يا عزيزتي .. لقد أحسنت بصراحتك!
لن أذوق طعم الأمان ما دامت هذه المرأة على مقربة منا .. رباه، إني أحتضن همي وحدي لا صديق ولا مشير، ولقد ضقت ذرعًا بأمها وبأمي وبنفسي! وعاودني السؤال القديم: هل ما ينقصنا ضروري للحياة الزوجية؟ هل تجد حبيبتي مثل هذا الإحساس الحيواني الذي دفعني إلى اعتناق العادة الآثمة؟! أيمكن أن تعتري حبيبتي الطاهرة المحتشمة هذه الشهوة الوحشية؟ إن هذا لأبغض مما أتصور!
•••
وانتهت إجازتي فعدت إلى إدارة المخازن بالوزارة، واستقبلني الموظفون استقبالًا حافلًا، لم يكن لي بينهم صديق، ولكن المناسبة — عودة عروس من شهر العسل — أنستهم تحفظهم فأقبلوا عليَّ بين مهنئ ومداعب، وتلقيتهم في صمت وارتباك وخجل، وتكلموا كثيرًا. وتطوع أحدهم بتحذيري من الإفراط، واستفاض الحديث حتى ألهاهم عني، وخاضوا في طبيعة الرجل وطبيعة المرأة، واستشهدوا بالأمثال والحوادث والحكايات. أنصتُّ إليهم خفية وأنا أتظاهر بفحص الآلة الكاتبة بقلبٍ مكلوم ونفس معذبة، وكم تمنيت أن يستشهد أحدهم بحالة «كحالتي»، ولكن حالتي لم تقع لأحدهم في حسبان، وامتلأت نفسي بما سمعت حتى دارت بي الأرض. إن رباب امرأة فهل يصدق عليها ما يصدق على النساء إن صح ما يقوله هؤلاء الموظفون؟ أيمكن أن تضيق بحياتها أو تملَّ عشرتي؟! ولكنها سعيدة؟ ما رأيت وجهها إلا متألقًا بنور السعادة، وما رنت عيناها إليَّ إلا بالحب والإخلاص! إن وجهها لا يعرف الرياء، وإنه لصفحةٌ نقية ومرتادٌ طاهر لا يكتم كذبًا ولا يداري إثمًا. كذب هؤلاء الموظفون! إنهم حيوانات فلا يرون الناس إلا حيواناتٍ مثلهم. بيد أنني غير مطمئن، ولن أذوق الطمأنينة مهما أقنعت نفسي بها، لقد نبت دمل الشك. ولما خلوت إلى حبيبتي ذلك اليوم جعلت أنظر إليها طويلًا متفكرًا دون أن أنبس، حتى ضحكت وقالت لي: هل عاودك الحنين إلى النظر الصامت القديم؟
وهفت على فؤادي نسمةٌ لطيفة من قديم الذكريات حين فؤادي مضطرم وأملي مشرق، وهذه البلوى لا تدور لي في خلد. وتمليت الذكرى مليًّا، ثم سألتها في إشفاق: رباب .. أأنت سعيدة؟
فنظرت إليَّ باستغراب وقالت بصوتٍ ينم عن الصدق: سعيدة جدًّا.
فتساءلت وعيناي تطرقان من فرط الحياء: أتحبينني؟
وكانت على بعد شبر مني فتزحزحت حتى التصقت بي ورفعت إليَّ وجهًا موردًا وغمغمت: أجل أحبك!
فأحطت خاصرتها بذراعي وقبلت شفتيها وخدها، وتناولت يدها الصغيرة الجميلة وجعلت أقبل أناملها أنملةً أنملةً في حنان وهيام، وكنت في الواقع أمهد بما قلت لما أرغب في الإفصاح عنه مما ضقت بكتمانه، ولما هممت بالكلام خانتني شجاعتي وانعقد لساني .. أردت أن أبثها همي، وأن أعترف لها بأن ما يعتريني حيالها طارئٌ غريب لا أدري كنهه، وأنني لم أكن كذلك؛ بل إنني لست كذلك إذا خلوت إلى نفسي، وأن أسألها المشورة والمعونة .. هذا ما كنت أريد البوح به، ولكن خانتني العزيمة فنكصت مغلوبًا على أمري. ثم سلمت بالهزيمة كعادتي، وجعلت أسوغها لنفسي قائلًا: إن البوح بهذه الأسرار حري بأن يسيء إليها ويغضبها، وربما قضى على سعادتها قضاءً مبرمًا.
وعندما آوينا إلى الفراش حدثتني نفسي بأن أعاود التجربة، ولكنني ترددت، وترددت طويلًا حتى تملَّكني الخوف فولَّى قلبي فرارًا .. لقد بتُّ أخاف جسمها بقدر ما أحبها، وتأملت حياتي في صمت الليل وظلمته، فبدت لي غريبةً متنافرة، وضاق صدري فلم أجد من متنفس له غير البكاء، فبكيت طويلًا!
٤٤
وخطر لي أن أستشير طبيبًا، وجاء الخاطر فجأة، بل لعله كان محض مصادفة، ولم أكن فكرت في استشارة طبيب لخجلي الشديد من ناحية، ولاعتقادي بأن حالتي لا شأن لها بالطبيب من ناحيةٍ أخرى، ولكن بصري قد وقع يومًا وأنا في طريقي إلى الوزارة على لافتةٍ كبيرةٍ مثبتة على شرفة بشارع قصر العيني قد كتب عليها بالخط الكبير: «الدكتور أمين رضا، أخصائي في الأمراض التناسلية من جامعة دبلن»، ولم أكن رأيتها من قبلُ، فحدثتني نفسي فجأة باللجوء إلى الطبيب. ومع ذلك لم أستسلم للفكرة بغير تردد. ثار خجلي وخوفي، وكادا يثنياني عما خطر لي، ولكن تلهفي على النجاة كان أقوى من خجلي هذه المرة، فصممت على الذهاب ذات مساء، وذهبت!
كان الطبيب مشغولًا بفحص مريض، فجلست في حجرة الانتظار، وكانت الحجرة خاليةً فداخلني ارتياحٌ عميق، وإن شعرت بالاستهانة بالطبيب. ولم يطل بي الانتظار، فدعيت بعد دقائق إلى حجرة الكشف ووجدتها آية في فخامتها وأناقتها، كاملة العدد، وبها من أدوات الرهبة ما ردَّ إليَّ الهارب من ثقتي. وإلى يمين الداخل مباشرة جلس الطبيب إلى مكتبٍ كبيرٍ مزدحم بالكتب والكراسات. كان شابًّا في الثلاثين على أكثر تقدير، نحيف القوام، طويل القامة، مجعد الشعر، ذا بشرةٍ سمراء وقسماتٍ دقيقةٍ واضحة، وعينين حادتين تلتمعان وراء نظارةٍ أنيقة. وكان مما يلفت النظر إليه شاربٌ كثيف فاحم غطى فمه وأكسبه وقارًا ليس من سنه، حييته فردَّ تحيتي باقتضاب، وحدجني بنظرةٍ مستفهمة قرأت فيها الترفع والكبرياء، وثقةً بالنفس تبلغ حد الغرور؛ فلم أرتح إليه. وكان منظره عامةً مخيبًا لأملي؛ لأني توقعت أن أرى شيخًا مهيبًا بسامًا كطبيب ذهبت بي أمي إليه مرةً منذ أعوام طوال، فاستأت ووددت لو لم أكن قدت نفسي إلى هذا الشرك. وقال لي بهدوء: تفضل بالجلوس!
فأذعنت وأنا أرمقه بقلق. وجعل ينظر إليَّ منتظرًا أن أبدأ بالكلام. ولكن فكري تشتت وجفَّ حلقي ولبثت ملازمًا الصمت حتى قال متسائلًا: أفندم؟
فاستجمعت قواي، ولكني لم أزد على أن قلت: جئت للكشف.
فسألني بدهشة: ماذا تشكو على وجه التحديد؟
وعانيت عذابًا شديدًا قبل أن أقول: إني رجل متزوج …
ثم سكتُّ، أو بالأحرى انعقد لساني، ولكني استثقلت السكوت، على حين استحثتني عينا الطبيب الحادتان؛ فاعترفت بكل شيء! تكلمت بادئ الأمر باضطراب وتعثر، ثم تشجعت بما لاح في وجهه من أمارات الجد والرزانة فتدفقت بلا توقف، وشعرت كأنما ألقيت عن عاتقي حملًا ثقيلًا، وكأنما بات هو المسئول من الآن فصاعدًا عن الشقاء الذي نغَّص عليَّ صفوي. وسألني الطبيب: متى تزوجت؟
فقلت: منذ قرابة شهر ونصف.
– متى وجدت هذه الحال؟
قلت بامتعاض: من أول ليلة.
– هل انتابتك قبل الزواج؟
– لم يكن لي تجارب مطلقًا!
وسألني عن الأخرى فترددت لحظة ثم أجبت بالصدق. وسألني عن بعض التفصيلات فأجبته صراحةً، ولم أخفِ عنه إفراطي المخيف. وعاد يسألني: ألم تمارس عادتك بعد الزواج؟
وأعجبت به لسؤاله الذي بدا لي فراسةً ثاقبة فقلت: بلى!
فقال متفكرًا: كأن طبيعتك لا تتغير إلا حيال زوجك.
فقلت بحيرة وأسًى: أجل!
فسكت مليًّا ثم قال: سأطرح عليك أسئلةً صريحة وأرجو أن تجيبني بالصدق: هل تحب زوجك؟
– جدًّا!
– أبها شذوذ من أي نوع كان، أو برودة في الطبيعة؟
– أبدًا!
– هل نشأتما نشأةً واحدةً منذ الصغر؟
– إنها ليست من ذوات قرباي.
وألقى عليَّ بعد ذلك أسئلة استفظعتها، ولكن لم يكن بي شيء منها، فأجبته بصدق وصراحة. ونهض قائمًا، ثم أجرى عليَّ فحصه في أناة وعناية، فاحتملته بقلبٍ واجف ونفس يصطرع بها الأمل واليأس. وعدنا إلى جلستنا السابقة، فراح يقيد في كراسة ما يعنُّ له، ثم اعتدل في جلسته وقال لي: جسمك سليم. أجل إنك أسأت إلى نفسك بعادتك المرذولة، فتركت بك أثرًا يحتاج لغسيلٍ خاص، ولكن لا علاقة لحالتك الأخرى بهذا فيما أعتقد، فليس عجزك بناشئ عن سببٍ فيزيقي، ولعلك تعاني أزمةً نفسية، أليس في بلادكم عيادات نفسية؟
فلم أفقه معنى للشطر الأخير من كلامه، وعجبت لقوله «بلادكم» كأنه أجنبي عن هذه البلاد! وقلت له بدهشة: أنت أعلم مني بما تسأل عنه يا دكتور!
فقال مبتسمًا: الحق أني حديث عهد بالوطن، ولم أفتح عيادتي هذه إلا منذ أيام.
فأدركت لماذا وجدت عيادته مقفرةً؟ ولماذا لم أرَ لافتته من قبلُ؟ بيد أنني بت أدرك كذلك أن هذه المرمطة التي ابتليت بها قد انتهت إلى لا شيء، فعاودني القنوط والكمد. واستطرد هو قائلًا: ليس بك من نقص مطلقًا، وإنك تستطيع أن تقوم بالواجبات الزوجية، وستقوم بها يومًا ما، فلا تدع لليأس سبيلًا إلى نفسك. كثيرًا ما يحدث هذا لبعض الشبان ثم لا يلبثون أن يعودوا إلى حالتهم الطبيعية بعد فتراتٍ متفاوتة، فانتظر يومك بثقة لا شك فيها. وأنصحك أن تمر عليَّ للغسيل حتى تزول حالة الاحتقان الخفيفة.
أصغيت إليه باهتمام وبكل جوارحي، وتنازعني اليأس والأمل بعنف وقسوة. متى يأتي هذا اليوم؟! وهل يأتي حقًّا؟! انتهى الطبيب من عمله وقوله، ولكنني لم أُبدِ حراكًا وظللت متشبثًا بمكاني، وثبتت عيناي عليه في استغاثة وضراعة، ثم سألت: ماذا عنيت بالعيادة النفسية؟
– أوه .. إنها عيادات من نوعٍ حديث ولا أحسبها توجد في بلادنا؛ ولكن لا تلقِ بالًا لما قلت، ولا أظنك في حاجة إليها.
– قلتَ إنني ربما كنت أعاني أزمةً نفسية، فما معنى هذا؟!
– قلت لك لا تلقِ بالًا لما قلت، قد غاليت في تقديري، ولستُ على أية حال طبيبًا نفسيًّا فلا أخوض بك أمورًا عسى أن تضر أكثر مما تنفع. إن علاجك بيدك فلا تيئس، ولا تفقد ثقتك بنفسك، واقهر الخوف والقلق، وانتظر الشفاء بثقة لا شك فيها!
وسألته سؤالًا أخيرًا: أرأيك هذا حاسم لا شك فيه؟
فأجابني بثقة: أجل!
وغادرت العيادة خيرًا مما دخلتها. عدت وبي أمل ورجاء، وقلت لنفسي: إن الطبيب لا يكذب ولا يخطئ؛ فاستخفني السرور، وقطعت الطريق إلى البيت مشيًا على الأقدام. ومررت في طريقي بالعمارة التي تقطنها أسرة زوجي؛ عمارة الذكريات، فحلق بي الخيال بعيدًا، وعلى حين فجأة فتر حماسي واستحوذ عليَّ القلق، ولم ألبث أن انقلبت إلى التجهم، بيد أنني رحت أردد على مسمعي ما أكده لي الطبيب متلمسًا الثقة بأي سبيل.
٤٥
وبالرغم من قلقي الدائم كنت أعلل النفس بالشفاء. وواصلنا حياتنا البريئة يحدوني هذا الأمل. وكنت أسترق إليها النظر إذا اشتد بي القلق وأسأل نفسي: ترى أهي سعيدة حقًّا كما تبدو لي؟ أما تزال تحبني؟ أما هي فكانت تبدو سعيدةً راضية، محبةً مخلصة، ولم تعد إلى ذكر أمها، فلم أدرِ إن كانت المرأة انقطعت عن تساؤلها أم كانت حبيبتي تخفي عني ما يدور بينهما من حديث. لشدَّ ما أحبها يا ربي! إن امتزاجنا في حياةٍ واحدة لم يُذهب عني سحرها، بل أسكنها أعمق مكان في قلبي. وإني لأهيم بها وهي لصقي على المقعد أو الفراش كما كنت أهيم بها وهي تلوح في الشرفة أو وراء زجاج النافذة. وإنه لمن التعاسة حقًّا أن ينغِّص عليَّ سوء الحظ تلك الأيام الحافلة بأشهى فرص السعادة والهناء.
وكأن سوء الحظ لم يقنع بما رماني به في نفسي، فرماني بأمي أيضًا!
وأمي على تأدبها لم تكن لتفلح أبدًا في مدارة عواطفها، فإن لم يخنها لسانها خانتها عيناها، وإن لم تخنها عيناها نمَّت عليها ما التزمت من حالٍ غريبةٍ سلبية. انطوت على نفسها، وجعلت من حجرتها سجنًا لا تكاد تغادره، وكأنما فرغت للعبادة والصلاة، ولم تخفَ على رباب هذه الجفوة الطويلة، وكانت على دماثتها ورقَّتها تنقلب حيال أمي كأية امرأة من النساء انفعالًا وغضبًا، فكانت لا تفتأ تقول لي: «لشد ما تكرهني أمك!» ولم تقبل أمي أن تغير من سلوكها، معتلةً بأنها لم تعد صالحةً للمجاملة والاختلاط. وكنت إذا ذهبت للجلوس معها تلقتني برقَّة وابتسام، وحدثتني بخضوع واستسلام، فسرعان ما أشعر بغرابة الجو، وبأن حجابًا ثقيلًا يقوم بين نفسينا، وبأني حيال شخصٍ آخر غير الأم التي عرفتها طوال تلك الأعوام. وما أكاد أفاتحها بأن زوجي تضيق بتحفظها حتى تقول لي بحدة: «إن زوجك تكرهني، هذا كل ما هنالك.» كنت أتجلَّد وأتصبَّر والألم يُمضُّ نفسي والكآبة تغشى روحي.
وذهبتْ مرةً إلى أختي راضية لقضاء يومين، وكأن المكان أعجبها فمكثت اليوم الثالث، وأوشكت أن يلحق بها اليوم الرابع. كانت أول أيام نفترقها في حياتنا المشتركة؛ فثقل على قلبي فراقها، ووجدت وحشة لا تُطاق في خلو البيت منها، وذهبت إلى شقيقتي لأعود بها، فلم تُخيِّب رجائي وعدنا معًا.
وقلت لها في الطريق متوددًا: لم أحتمل البيت بغير وجودك!
فافترَّ ثغرها عن ابتسامةٍ صافية، وكانت تتأثر بالكلمة الطيبة تأثر الأطفال، ولكنها قالت لي: يُخيل إليَّ أن وجودي في بيتك لا معنى له، وأنه يضايقكم.
فأحنقني قولها، وقلتُ باستياء: سامحكِ الله على ما ترميننا من تهمةٍ باطلة، لقد تغيرتِ يا نينة بلا موجب فتغيرت الحقائق في نظرك، ولا يسعني إلا أن أقول مرة أخرى سامحكِ الله.
فنظرت نحوي بغرابة وقالت بهدوء ويقين: إن زوجك تكرهني، وبالتالي فهي لا تود بقائي في البيت، وقد ظننت أنا ما تودُّه زوجك ينبغي أن تودُّه أنت.
وشعرت بأنها لا تترفق بي متعمدةً، فكاد ينفجر غضبي لولا رغبتي الصادقة في المسالمة والمصالحة، فكظمت نفسي وقلت واجمًا: إن زوجي لا تكرهك، وهي على العكس من هذا، تظن أنها موضع كرهك لما تبدين نحوها من تحفظ وجفاء ومقاطعة. حرام عليك أن تقولي قولًا ينغِّص عليَّ حياتي!
فبدا على وجهها الارتباك ولم تنبس بكلمة. رباه! لشد ما تغيرت! ألا يمكن أن تمنحني ابتسامتها المشرقة بدلًا من هذه الابتسامة الباهتة؟ .. ألا تعود إلى فتح صدرها لي في ثقة وطمأنينة؟ ترى هل ينبغي أن أكاشفها بآلامي لتعلم بأنني لم أتزوج في الواقع، وأنني أشقى إنسان في الوجود فتصفح عني وتعود إلى سابق عهدها؟
ورجعت من الوزارة يومًا فوجدت زوجي باكية، فهالني الأمر، وأقبلت نحوها في جزع وألم وانزعاج. وكانت صباح حاضرة فأخبرتني بأنها — صباح — كانت تباشر عملها في المطبخ حين دخلتْ عليها أمي وجرحتها بانتقادٍ مر، فتدخلت زوجي لتصلح الأمر، فما كان من أمي إلا أن رمتها بكلامٍ قارص غادرت المكان على إثره باكية!
وذهبتُ من فوري إلى حجرة أمي ثائر الأعصاب، فما روعني إلا أن أجدها محمرة العينَين من البكاء، ولمحتْ عبوس وجهي فهتفت في توجُّع: هل أرسلتك لتؤدبني؟!
فرفعت رأسي إلى السماء وقلت من الأعماق: «يا رب السماء، خذني وأرحني من الدنيا ومن عليها!»
ولكنها صاحت بي: بل يأخذني أنا، إني عجوز لا خير فيها. أما كان يجمل بزوجك أن تؤجل شكواها حتى تخلع ثيابك وتأكل لقمتك؟ .. ولكن هيهات أن تذعن لغير عنادها وتجبرها!
فقلت في استياء وغيظ: إنها تبكي بكاءً مرًّا!
فصاحت بي وكأنها فقدت أعصابها: لقد سبَّتني وشتمتني حتى شبعت، وها هي تستقبلك بدموعها الكاذبة لتوغر صدرك، وقد أفلحت!
ما أضيع الحق بين النساء! لقد أعياني الكلام والنضال ولم أنتهِ إلى شيء. وأعجزني أن أصلح بينهما، فنكد عيشنا طويلًا وساد البيتَ جوُّ خصام، وكففت يدي يائسًا تاركًا للأيام أن توفق بأناتها فيما أخفقتُ فيه.
•••
وبدأت أشعر في حياتي الزوجية بفراغ! ولم يداخلني شك في أن زوجتي تشاركني هذا الشعور. ولم يعد الليل وحده الذي يثقل على أعصابنا، فما كان انفرادنا الطويل نهارًا مما يمكن أن نطيقه على وتيرةٍ واحدة إلى الأبد؛ لذلك اقترحت عليها أن نقتل الوقت بأسباب التسلية حتى يحين موعد افتتاح الدراسة وتجد ما يشغلها، وتقبَّلت اقتراحي بسرور ودعتني لزيارة آلها الكثيرين، فتنقلنا من بيت لبيت وزارونا بدورهم، ثم اقترحت عليَّ أن نذهب إلى السينما يومين في الأسبوع فقبلت، ولا أدري إن كنت أروم التسلية حقًّا أم أهرب من حياتي الضائعة؟! ووجدت في السينما راحة وإن كنت بطبعي أوثر الوحدة والعزلة، ولكني ضقت على عجل بالزيارات التي أفقد فيها نفسي وأقع فريسة للحياء والارتباك والعيِّ والحصر، وما لبثت أن تخلفت عنها تاركًا زوجي وحدها تقوم بها.
وكان بوسعي أن أحملها على العدول عنها أسوة بي، ولكني لم أرد أن أحرمها سببًا من أسباب التسلية وتزجية الفراغ، ولعلني بتُّ أخاف في أعماقي أن تضيق بالوقت كما أضيق به. كنت أود بكل قلبي أن أهيئ لها جميع أسباب الراحة والسرور، وما كنت أتردد لحظة عن بذل جميع ما أملك في سبيل مرضاتها، لقد صارت رباب كل شيء، ولم أعد شيئًا مذكورًا.
ولكن بدا لي أن أمي لا ترتاح لحياتنا هذه، وقد قالت لي يومًا: لا يجمل بك أن تسمح لزوجك بقضاء كل هذا الوقت خارج البيت!
وضاق صدري بملاحظاتها فقلت باقتضاب: أنسيتِ أن زوجي موظفة؟
فقالت بلهجتها الانتقادية: وإن كانت …
وأشفقت من أن يتأدى بنا الجدل إلى ما لا تحمد عقباه، فقلت برجاء: انسيها يا أماه تستريحي وتريحي!
فغلبها الانفعال وقالت: لو كنتَ لسان دفاع لي كما أنت لها لما احتقرتْني وسبَّتني!
ولُذت بالصمت لعلها تمسك، ولكنها استطردت تقول: إنها تتيه بلا موجب، فكيف لو كانت أمًّا؟!
فقاطعتها صائحًا كالوحش وقد هوى كلامها على رأسي كالمطرقة: اسكتي .. لا تنبسي بكلمةٍ أخرى!
وحدجتني بارتياع دون أن تنبس، ثم أطرقت .. ولكني لم أرثِ لها ولم أرحمها؛ إذ أفقدني الغضب والألم وعيي.
وحدث عقب ذلك بأيام أن شعرتْ بتعب ألزمها الفراش، وقال لنا الطبيب الذي استدعيناه إنه القلب، ونصحها باتباع إرشاداته دوامًا لتتفادى من النوبات في المستقبل.
وطال رقادها بالرغم من أن الطبيب أكد لنا عدم خطورة الحال، ولكن بدا لي أنها تعين المرض على نفسها، وأن روحها توشك أن تنهار. ووقع في نفسي أني المسئول عن مرضها، فعانيت مرارة التأنيب والندم في حزن وصمت، وكأنما أردت أن أكفِّر عن ذنبي فسهرت بنفسي على رعايتها وتعاهدتها بالخدمة والدواء، ولم تألُ رباب في القيام بواجبها. لقد آلمتني حقًّا ولكن عن حسن نية، أما أنا فقد آلمتها عامدًا تحت تأثير غضبٍ مخيف. ومرت بي أيامٌ قاسية مظلمة، كنت أرنو إلى وجهها الذابل الشاحب بفؤادٍ كسير، وراحتها بين يديَّ، ولساني يلهج بالدعاء. وكانت متعبةً خابيةً، ولكن قرأت في عينَيها نظرةً راضيةً سعيدةً، كأنما نسيت بعطفي وحبي جميع آلامها.
٤٦
وهلَّ الخريف بجوه اللطيف وسحابه الرقيق، واستقبلت المدارس عامًا جديدًا، وكنت وزوجي نخرج معًا في الصباح، ونستقلُّ ترامًا واحدًا. وكانت الذكريات تنثال على قلبي في وجد وحزن، حتى قلت مرة: في مثل هذه الأيام كنت أهرع إلى المحطة أكاد أموت شوقًا إلى اجتلاء محياكِ!
فابتسمت رقيقة وقالت: وكنت أنتظر بمثل هذا الشوق!
لله محبوبتي! .. ما وجدت مثلها مُحِبةً راضيةً مسرورةً.
كانت حبيبتي سعيدةً مخلصة في غير ما تكلف أو رياء. أكانت تجد آلامًا ثم تتغلب عليها بما طبعت عليه من مودة وطهر؟ ومن أدراني بما كان يعتلج في أعماق صدرها؟ وما كان يدور في خاطرها عني وعن حياتها؟ ولكنها كانت سعيدةً صادقة محبة، وهل من داعٍ يدعوها إلى ذاك التظاهر المتواصل بالسعادة إذا كانت تعيسة أو كارهة؟! بيد أنه لم يداخلني شك كذلك في نضج أنوثتها وعمق عواطفها. كانت أبعد ما تكون عن النزق والطيش، ولكنها كانت عامرة القلب بالحيوية والحرارة والعطف. لعلها كانت تحيا حياة يحدوها الأمل نفسه الذي أتطلع إليه صابرًا متصبرًا. على أن الحق الذي لا مرية فيه أنني كنت مشغولًا بهمومي على حال لم تدع لي إلا قليلًا للانشغال بهموم غيري. ربما رجع ذلك قبل كل شيء إلى أنانيتي الفطرية، وكان لجهلي كذلك نصيبه. ولعلي كنت أحسب أنني الضحية الأولى — إن لم تكن الوحيدة — في تلك المأساة.
وفي أوائل ذلك الخريف دعانا جبر بك ونازلي هانم إلى وليمة غداء أقامها للأهل والأقارب لمناسبة شفاء محمد — شقيق زوجي — من مرضٍ ألمَّ به.
وذهبتُ وزوجي على حين تخلفت أمي معتذرة بالنظام الجديد الذي تتبعه في غذائها منذ أشار عليها الطبيب بذلك. مضيت مرتبكًا كالعادة؛ لأن وليمة غداء أشد على نفسي من المرض، ولأنها — هي وأمثالها من المجتمعات — تعيد إلى ذهني ذكرى منصة الخطابة بكلية الحقوق. وقد تعمدت أن نذهب مبكرين لنسبق المدعوين جميعًا، فلا أتعرض لنظرات أعينهم حين دخولي حجرة الاستقبال. ونجحت خطتي فوجدنا البيت قاصرًا على أهله .. هم أهلي أيضًا، وإني لأحبهم جميعًا وإن بتُّ أخاف نازلي هانم خوفًا شديدًا يثير في نفسي أشد الألم. وأخذ المدعوون يتوافدون؛ فجاء أعمام رباب الثلاثة وأخوالها الأربعة مصحوبين بزوجاتهم وأبنائهم، وحضرت كذلك خالتاها؛ واحدة مصطحبة زوجها، والأخرى — وهي أرملة — برفقة كبرى بناتها. ومضت نازلي هانم لتستقبل قادمًا جديدًا فسمعتها تقول له: «لماذا تأخرتِ يا سي أمين؟»، فردَّ القادم عليها معتذرًا بصوتٍ خيل إلي أني سمعته قبل ذلك، فتطلعت إلى الباب باهتمام .. ودخل المدعو الجديد فعرفته من أول نظرة. رأيت أمامي ذلك الدكتور الذي زرته منذ شهرين وبحتُ له بسر شقائي كله! ثبتت عيناي عليه في ارتياع بادئ الأمر، ثم تمالكت نفسي بسرعة وقوة، وإني على إخفاء ما يعتلج بصدري لقادر، ولكني لم أجد حيلةً مع قلبي الذي راح يدق بعنف تباعًا. تملكني الهلع وخجلٌ قاتل، وثقل على صدري ضيقٌ غليظ كأنما هويتُ إلى أعماق بئرٍ سحيقة. وإذا بنازلي هانم تقدمني له، ثم تقدمه لي قائلة: هذا قريب لم تسعدنا الظروف بتقديمه إليك؛ لأنه عاد من أوروبا حديثًا، ولأنه يندر أن يتفضل علينا بزيارة: الدكتور أمين رضا ابن عمتي.
وتصافحنا كالمألوف … التقت عينانا لحظةً قصيرةً، فلم أقرأ في عينيه إلا نظرة ترحيب باسمة، لم تشِ عيناه بأنه تذكرني، وظل ملازمًا سمته المترفع المتحصن ضد الانفعالات. ولما انتهى من مصافحة الجالسين، جلس إلى جوار جبر بك وراحا يتحدثان، وتُهتُ أنا في أفكاري الفزعة الشاردة .. ترى هل تذكرني؟! .. لعله نسيني شأن الأطباء الذين يلقون وجوهًا بعدد الدقائق! .. ولكنه طبيبٌ جديد قليل الرواد! .. ومع ذلك فلم يبدُ في عينيه أنه عرفني على الإطلاق .. أم يكون عرفني وتجاهلني رأفة بي؟!
ليتني أجد وسيلة للتحقق من هذه النقطة! وهبه عرفني فهل يمكن أن يبوح بسري لقريبته نازلي هانم؟ .. ما أبعد هذا عن التصور! ولكن ما أبعدني عن الطمأنينة كذلك! وجدتني غريقًا في بحر لجي من الوساوس والمخاوف، فهل كنت في حاجة إلى مزيد؟!
ودُعينا إلى الطعام فخرجت من أفكاري وإن علقت بي آثارها، كالخارج من نار. وجلسنا حول المائدة، وعند ذلك التفتت نازلي هانم وقالت مبتسمة: أنت خجول يا سي كامل، ولكن حذار فالولائم لا ترحم الخجولين.
وعلق بعضهم على قولها فسخطتُ عليها واشتد بي الضيق، على أنهم لم يلبثوا أن شغلوا عني بما بين أيديهم من لذيذ المأكل. ولم أكد أشعر بالارتباك الذي يركبني في أمثال هذه المجتمعات لشرود ذهني فيما هو أجلُّ وأخطر، فلا يفلُّ الارتباك إلا الارتباك. ثم عدنا إلى حجرة الاستقبال ودارت علينا القهوة، وتناولت الفنجان وقربته إلى فمي، وعلى حين بغتة طار خيالي إلى الحانة القديمة بشارع الألفي وتراءى لعيني قدح الخمر! .. كيف جاءتني هذه الذكرى، ما الباعث عليها؟ .. لقد وجدت دهشةً صادقة، ولكني شعرت كذلك بارتياحٍ عجيب، كسرور الحبيب بالحبيب، الخمر .. النشوة .. السرور .. ألا ما أشد حاجتي إلى مهرب. كان خاطرًا مفاجئًا غريبًا، ولكنه كان قويًّا لا يقاوم .. وعدت بانتباهي إلى ما حولي في حذر وخوف. واتجهت عيناي إلى الطبيب فوجدته منهمكًا في الحديث، يلقي أقواله بثقة وفصاحة وترفع، وكثير من الحاضرين يتوثبون للنقاش في اهتمام وسرور. وجرَّ الحديث إلى الحياة في بلاد الإنجليز فقال الدكتور إن دراسته شغلت جل وقته فلم يتمتع بحياته هناك كسائح إلا فيما ندر؛ على أنه استطاع رغم ذلك أن يخبر عن كثب متانة الأسس التي ينهض عليها بنيان الحياة السياسية، وما يتمتع به الشعب من مستوًى عالٍ للمعيشة، وحريةٍ شاملة تتناول كل شيء، قال له جبر بك: كأنك واظبت في إنجلترا على الاهتمام بما كنت تهتم به في مصر قبل بعثتك.
وقال أحد المدعوين ضاحكًا: أجل يا جبر بك، ذكره بعهد كلية الطب والثورة الوطنية.
وقال آخر: من كان يظن أنه سينتهي بك المطاف إلى بلاد العدو، وأنك ستعود منها حاملًا له هذا الإعجاب كله؟
فقال الدكتور مبتسمًا: العداوة لا تناقض الإعجاب.
فعاد جبر بك يسأله: ألم تزل كما كنت وفديًّا متطرفًا؟ .. لقد سجنت يومًا بسبب الوفد!
فقال الشاب وقد مطَّ بوزه برمًا: أرى الآن المصريين جميعًا يعيشون في سجنٍ كبير، والحق يا سيدي أن الأخبار الوحيدة التي كانت تسوءنا ونحن في إنجلترا هي أخبار مصر!
وقالت نازلي هانم مبتسمة: إنك مغرم بتحميل نفسك الهموم على اختلافها كأنك المسئول عن الدنيا ومن عليها! ركز اهتمامك في عيادتك وحياتك ومسألة زواجك على وجه الخصوص، ألا ترى أنك في الثلاثين وهي سنٌّ فاصلة؟!
وهنا قالت إحدى خالتَي رباب: اطمئني يا أختي فلعلك تسمعين أخبارًا سارة قبل استدارة هذا العام. ودار الحديث حول كريمة أحد كبار الأطباء .. وقالت لي رباب همسًا — وكانت تجلس إلى جانبي: إن هذه الفتاة التي يتحدثون عنها حسناء مفرطة في الحسن، والوريثة المنتظرة لثروةٍ طائلة، وأنها زاملتها عهدًا في الدراسة. والظاهر أن أحد أخوال رباب كان ممن تجذبهم أحاديث السياسة، فما كاد حديث الزواج ينتهي حتى قال مخاطبًا الدكتور: لا داعي للتشاؤم فكل شيء مصيره إلى الصلاح وإن طال الزمن، وها نحن على أبواب انتخاباتٍ جديدة، ولعل الرياح أن تهبَّ هونًا ورخاء.
فاشتدت عينا الدكتور وقال بحدة: من الخير لهذا البلد أن تحكمه حكومةٌ فاسدة؛ ذلك أن الحكومة الصالحة لا تستطيع أن تفعل شيئًا ذا بال في حدود الأوضاع القائمة، فالخير أن تستبدَّ الحكومة الفاسدة حتى تعجل بالنهاية .. النهاية المحتومة!
فضحك جبر بك وقال: ما زلت ساخطًا متبرمًا، ألا تجد في مصر ما يستحق إعجابك وتقديرك؟
فأدار الدكتور عينَيه البراقتَين في الحاضرين وقال مبتسمًا: بلى .. أم كلثوم!
وضجوا جميعًا بالضحك. وجعلت أصغي إليه باهتمام واستغراب، ولكني لم أكد أفقه معنى لما يقول. وعجبت لمن يشغلون أنفسهم بهذه الأمور وأمثالها، أليس في حياتهم هموم تشغلهم عنها؟ وتمثل لي في حديثه رجل علم ورأي وثورة، بادي الغرور والعجرفة. وكم كانت دهشتي كبيرة حين ذكر أم كلثوم كالشيء الوحيد الذي يستحق إعجابه في البلد، وتساءلت في حيرة: أيعشق الغناء حقًّا من كان ذا جد وصرامة وحدة كهذا الدكتور المجنون؟! ولما كنت أحب الغناء فقد ارتحت لهذه المشاركة الوجدانية، بعد أن أعياني أن أجد صلة شبه بيني وبينه! وكان الدكتور أول المنصرفين، فقام الحاضرون جميعًا لمصافحته، وصافحته بدوري وأنا أتفحص عينَيه بخوف واهتمام، فلم أجد فيما وراء نظراتهما المترفعة ما يريبني. ثم غادرنا نحن البيت في نحو الخامسة. عدنا مشيًا على الأقدام، ولم تكفَّ حبيبتي عن التعليق على المأدبة والمدعوين طوال الطريق، ولكني لم أستطع أن ألقي إليها انتباهي، واستسلمت لتيار أفكاري الزاخر المضطرب، كيف ألقى الحظ العاثر في طريقي بهذا الدكتور المجنون؟ وكيف قادني القدر إلى الاعتراف له بسري الذي أخاف عليه آذان الحيطان؟!
٤٧
أوصلتُ رباب إلى باب العمارة ثم عدت أدراجي إلى المحطة معتذرًا ببعض أعمالٍ خيالية! استقللت الترام إلى العتبة، ثم مضيت إلى شارع الألفي بك. كان قلبي يخفق في خوف ورهبة كما خفق أول مرة. حملتني قدماي إلى هذا الشارع، وتراءى لعيني خيال الكأس مفترَّة الثغر عن إغراء عنيف .. كنت نسيتها فلم تخطر لي على بال منذ بلغ قلبي مناه، حتى رأيتها اليوم في فنجان القهوة، فحرك أعماق الفؤاد. أمي + زوجي + الدكتور أمين رضا = الخمر، هذه هي المعادلة التي استقرت في نفسي. على أنني ترددت حين أصبحت من حانتي القديمة على قيد خطوة، وتساءلت في حزن وقلق: ألا يعدُّ إقدامي هذا خيانةً لزوجي؟ ولكني أنكرت على نفسي هذا المنطق الغريب وشققت طريقي إلى الداخل. وتراءى لي فجأة خيال أبي، وانثالت على ذهني صور من ذكرياته، فاستعرضتها في هدوء، وفي غير ما شماتة أو كراهية، ثم جلست إلى المائدة وأنا أغمغم: «رحمه الله وغفر له!»
وجاء النادل مسرعًا فحياني وهو يقول لي: أين كنت من زمان؟
فأجبته مبتسمًا وقد سررت لتحيته: الدنيا.
ثم أريته خاتم الزواج فقال: مبارك .. مبارك .. وهل أنجبت طفلًا؟
وشعرت بامتعاض وألم، وهززت رأسي سلبًا، ثم طلبت كأسًا من الكونياك وشربت في اعتدال، حتى شعرت بدبيب النشوة في القلب والرأس، وارتسمت على فمي ابتسامة سخرت من جميع آلامي، فقلت لنفسي: أهلًا وسهلًا ومرحبًا، وحرصت على ألا أجاوز الحد، ثم غادرت الحانة زهاء السابعة، ولم أكد أنتهي إلى شارع عماد الدين حتى تذكرت حانة سوق الخضر! وكان رأسي بحالة تستهين بالعقبات فتساءلت في شبه تأنيب: أأنسى في رغدي الحانة التي آوتني في فقري؟ وأوقفت تاكسي وركبته وانطلق بي إلى حانة الموظفين المفلسين والحوذية. ووجدتها في حالة غناء وعربدة كما توقعت. وكان الموظف العجوز يغني «ياما بكرة نعرف»، فيردد الجميع «وبعده نشوف»، ولما لمحني قادمًا توقف عن الغناء وصاح: هس يا أولاد الحلال.
وعرفني الرفاق القدماء فتصافحنا في حرارة، وما كدت أطمئن إلى مقعدي حتى سألني العجوز متغنيًا: كنت فين يا حلو غايب؟
فقهقهت ضاحكًا وقلت: الدنيا!
فقال أحد الصحاب: فلنلعن الدنيا التي ترغم الحبيب على نسيان أحبابه .. فلعنتها معهم عن طيب خاطر. وحدث أن رأى أحدهم خاتم الزواج في إصبعي فهتف: دخلت دنيا يا بط …
وكان لإعلان الخبر أثرٌ شامل فسألني الموظف الفنان: كيف وجدت هذه الدنيا؟
وأفزعني تحوُّل الحديث إلى هذا الموضوع الخطير، ولكني لم أجد بدًّا من أن أقول: حلوة! .. ألست متزوجًا يا سيدي؟
فضحك الرجل حتى بانت أسنانه المثرمة وقال: المرأة إذا جاوزت الشباب لم تعد امرأة!
فقال آخر مؤمِّنًا على قوله: صدقت، المرأة أقصر المخلوقات عمرًا وإن هرمت.
وقال غيره: إن زوجي تدبر لي شجارًا نظير كل سهرة في الحانة، وقد قلت لها: إني على أهبة الاستعداد لأن أهجر الحانة تحت شرطٍ واحد وهو أن تهجر هي الدنيا!
وبدوا جميعًا ساخطين على حياتهم؛ فداخلني عزاء لم أجده من قبلُ، وعجبت لهذه الأسباب الغريبة التي تؤاخي بين السِّكِّيرين. ثم لاحظت تغيب «فران» شريب اشتهر بيننا بإدمانه وصمته، فسألت عنه؟ فأجابني العجوز الفنان: لم تعد الخمر لتؤثر فيه، فهو يمضي مساءً كل يوم إلى البدال ويشرب كحولًا صرفًا!
وواصلوا ما انقطع من الغناء، ورحت أشرب كالأيام الماضية. ما أعجب قدرتي على الشرب! إني ضعيف رعديد حيال كل أمر، ولا ثقة لي في عقلي ولا في قلبي، أما معدتي فقادرة على ابتلاع حانة! وغادرت الحانة في العاشرة مودَّعًا بأطيب التحيات، وتنقلت من طريق لطريق لا تسعني الأرض من فرط النشوة والسلطنة، ثم هفا عليَّ طيف حبيبتي فتخيلتها بعين السكران، وقد طال بها انتظاري فاستسلمتْ للرقاد؛ فانتشت نشوتي، وخفق فؤادي خفقان الوله، وهتفت بنفسي الأشواق، وبحثت عيناي الزائغتان عن تاكسي، ثم مضيت إليه لا ألوي على شيء وطلبت إلى السائق أن يسرع بأقصى ما لديه من سرعة، فطار بي يطوي الأرض طيًّا، وغادرته عند العمارة، وارتقيت السلم في عجلة، ثم دخلت الشقة وسرت إلى حجرتي بلا تردد، وأدرت مفتاح الكهرباء فوقع بصري على حبيبتي وقد استغرقت في نومٍ هادئ، وقد تحرك رأسها لدى سطوع النور وغمغمت: «من؟» ثم واصلت نومها دون أن تستيقظ، وخلعت ملابسي في عجلة واضطراب ويداي ترتعشان، وأنفاسي تتردد في دهشة وسرور وجزع، وهرعت إلى الفراش، واندسست تحت الغطاء، ضممتها إلى صدري ووضعت شفتيَّ على شفتيها حتى فتحت عينَيها، وأمطرتها قُبلًا بنهم ورغبة وسرور حتى أفاقت وبادلتني القُبل، وبدا ما بيننا كأنه حلمٌ سعيد يضنُّ به المنام … حلم لا يصدق، بيد أنه كان حلمًا قصيرًا لم يستغرق ثانيتين من الدقيقة. وأفقت من سحره في طمأنينة وسلام، وبي من السعادة نشوة أضعاف ما بي من الخمر، واضطجعت في حبور، وأغمضت جفني مستسلمًا لأمتع الخواطر والأحلام. على أن أحلامي لم تنسج وشيها هذه المرة من مادة الخيال، ولكنها استمدَّته من الواقع، من صميم حياتي، وألذُّ العيش ما كان حلمه السعيد صدى للواقع الراهن! لقد تلقيت السعادة بامتنان العابد، وأيقنت أن همومي قد انجلت إلى الأبد. وفي صباح اليوم التالي جعلت أرنو إلى حبيبتي بثقة وسرور، وشعرت حقًّا بأني زوج، وبأني رجل .. ولم تزايلني أحاسيس السعادة والفخار طوال اليوم، وعندما أتى المساء ذهبت إلى شارع الألفي بك، ثم عدت إلى حبيبتي طائرًا على جناحي نشوتي، وعللت من الكأس المترعة، بالسرور نفسه والسرعة نفسها، ثم اضطجعت ضجعة المطمئن، ما كان لمثلي أن ينسى ما تجرع من غصص العذاب، ولكن السعادة الحقة تستثير عطفنا حتى على ذكريات العِذاب.
٤٨
وتقضَّت أسابيع — لعلها لم تجاوز الشهرين — في سعادة وطمأنينة. وإني إذ أعود إلى ذكرى تلك الأيام يمضُّني شعور بالألم والأسى؛ لا حسرة على سعادة ذهبت، ولكن أسفًا على أكبر خدعة ابتليتُ بها في حياتي. لم يكن هنالك ما يستوجب سعادةً على الإطلاق. وإذا كنت قد تمتعت بالسعادة زمنًا رغدًا، فما ذلك إلا لأني كنت غرًّا جاهلًا أعمى. وما من بأس أن يتمتع الأعمى بسعادةٍ وهمية على شرط أن يواصل عماه، أما إذا رُدَّ إليه البصر ورأى سعادته سرابًا فهل يجني من ذكريات سعادته إلا حسرةً مضاعفةً وهمًّا مقيمًا؟! وهذه هي حالي بلا زيادة ولا نقصان، وما فطنت إليها إلا في بطءٍ شديد يوافق جهلي وبلادتي.
لاحظتُ أن «رباب» تمضي النهار كله وشطرًا من الليل خارج البيت، بين مدرستها وبيوت أهلها وأقاربها. وقد رافقتها بادئ الأمر رغم طبعي النَّفور، ثم شقَّ عليَّ الأمر فنكصتُ على عقبيَّ، ولم أعد أصحبها إلا فيما ندر من الزيارات. وعادت أمي تعلن عن ملاحظاتها في مرارة وأسًى، وأنا أدافع عن زوجي بلا فتور، وإن تجاوب لانتقادها في نفسي صدقٌ عميق. وكنت فيما مضى أشجع زوجي على هذه الزيارات لتتسلى بها عما أشعر به من نقص حياتنا المشتركة، أما الآن فلم يعد من موجب في نظري للإفراط فيها. ولممت أطراف شجاعتي يومًا وقلت لها: كأنكِ تقاطعين بيتنا يا عزيزتي، فهلا أقللتِ من هذه الزيارات المتواصلة؟
وحدجتني بنظرةٍ مريبة وسألتني بحدة لم أعهدها من قبلُ: أما زالت تشغل نفسها بانتقادي؟
وفهمت أنها تعني أمي، وساءني أن تضمر لها هذا النفور، فأجبتها متلطفًا: إن أمي لا تتدخل فيما لا يعنيها، وهذا رجائي أنا دون غيري، والحق أني لا أطيق بيتنا إذا كنتِ خارجه.
فقالت وقد استردت هدوءها: هلم نخرج معًا، لماذا تضيق بالناس؟
فقلت برقَّة: هكذا أنا!
ولا أدري ماذا غيَّرها إثر كلمتي تلك فقالت بحدة: إن الحياة لا تُحتمل على غير هذا الوجه.
آه يا حبيبتي، لم تكن رقَّتك لتسمح بمثل هذا الضيق، فما الذي حدث؟ وليس هذا كل ما في الأمر، فإن قلبي أحيانًا يرى ما لا تراه عيناي. ينبغي أن أشق ستار العمى وأن ألقى الحقيقة على مرارتها وجهًا لوجه .. يخيل إليَّ أن «رباب» لم تسعد بشفائي كما سعدتُ به، أعجب بها من حقيقة تحيرني! ولكن إلامَ أكذِّب نفسي! إنها تبدو كأنها تخاف الليل وتتحاماه، ولا نكاد نخلو إلى نفسينا حتى يعتورها قلق تُفصحه عيناها الصافيتان، ثم تفتأ — في هذه الأيام الأخيرة خاصة — تعتذر بشتى الأعذار؛ فمن تعب إلى توعك إلى رغبةٍ ملحَّة في النوم. وإذا أذعنت لي فإنما تذعن في تسليم لا سرور فيه، ثم تنتتر جسمها من جسمي في شبه استياء وغضب! وأقرُّ إلى هذا كله بأنها لم تعد فتاتي الضاحكة المستبشرة الصافية. شاب ضحكَها التكلفُ، ودبَّ في سعادتها الفتور، وانقلب ودُّها توددًا. حاشاي أن أقول إنها أعلنت سخطًا أو أساءت أدبًا، حبيبتي فوق هذا كله، ولكني أحسُّ قلقها بقلبي، وأدرك حيرتها بغريزتي. رباه إن الدنيا جميعًا لا تساوي خردلة إذا تألمت حبيبتي، فماذا بها؟ .. إني أفتقد حبيبتي فلا أجدها، ولا بد أن أجدها، أو أموت كمدًا!
وبلغ شقائي غايته إذ ترك نفورها في نفسي أثرًا عميقًا، تغلغل في حناياها، فحرك الداء القديم، وولَّى الشفاء الساحر، ولم تنفع فيه الخمر. وتناهى بي الحزن حتى أشفيت على الجنون، أيعاودني العجز؟ وهل أرد إلى ذلك اليأس المميت؟ وقلت لها مرة في قنوط: رباب .. ماذا بك؟ .. لست الحبيبة التي عهدتها.
فلاذت بالصمت، وغضَّت بصرها حيرةً وارتباكًا، فقلت بتضرع متسائلًا: إن قلبي لا يكذبني، فخبريني ماذا غيَّرك؟
فهمست قائلة وقد لاحت في عينيها نظرةٌ ساهمة: لا شيء.
فهتفت من الأعماق: بل شيء وأشياء، إني زوجك يا رباب وحياتي كلها لك، فلا تخفي عني شيئًا. آه يا رباب إني أبكي أيامنا الماضية.
فتنهدت ولاح في وجهها الارتباك والألم، ثم غمغمت في حذر وإشفاق: وإني أبكي أيامنا أيضًا!
فتولاني الذهول والانزعاج وسألتها في حيرةٍ شديدة: كيف يا رباب؟ .. إني لا أفهم شيئًا، أما كان ينبغي لحياتنا أن تكون أوفر سعادة!
نمَّ وجهها على أنها تعاني من ضروب الحيرة مثلما أعاني، فازددتُ ذهولًا وانزعاجًا، وانتظرت أن تميط اللثام عما يحيرها فتجلو لي ما يحيرني بالتالي. وانتظرت في قلق وإن بات قلبي يحدس أمورًا يفرق لها رعبًا ويأسًا وخزيًا. ولما طال بي الانتظار قلت: لماذا لا تكاشفيني بذات نفسك!
إنها ترغب في البوح بما ينوء به صدرها الرقيق ولكنها لا تجد سبيلًا إلى الإفصاح أو لا تواتيها الشجاعة عليه، وإني أزداد خوفًا وقنوطًا حتى تناهى بي الجزع فقلت: رباب .. إنك لا ترتاحين لما جدَّ في حياتنا!
فحدجتني بنظرةٍ غريبة، ثم خفضت بصرها وراحت تقضم ظفرها في حيرة وارتباك. برح الخفاء .. بيد أن صمتها أخذ يضايقني فتساءلت فيما يشبه الضجر: أليس الأمر كذلك؟
ورنت إليَّ بنظرة توسل واستعطاف وقالت بصوت لا يكاد يسمع: لنعد كما كنا .. كانت حياةً طيبة!
وكأن لطمة هوت على وجهي فغضضتُ عينيَّ حياءً وقنوطًا. ومع أن رغبتها هذه حقيقة بأن تهيئ لي عذرًا أداري به ما عاودني من عجز، إلا أنني تلقيتها بخزيٍ مميت. ولعلها قرأت ما لاح في وجهي من أمارات الألم فقالت برقَّة: لست أعني شيئًا يمكن أن يكدرك، ولكني أهفو لحياتنا الماضية؛ كانت حياةً طاهرةً سعيدة!
فقلت كأنني أكمل حديثها: ولم يكن بها ما ينغِّص صفوك؟
فطرفت عيناها، وتجلَّت فيهما نظرة عطف وقالت برقَّة: كنا سعداء أليس كذلك؟ .. ولم يكن ينقصنا شيء على الإطلاق!
لا أدري لماذا آلمتني رقَّتها؟ ثم تذكرت بعض ما سمعت في إدارة المخازن فقلت: ولكن لا يمكن أن تتم سعادة المرأة إلا بهذا!
فتورَّد وجهها وقالت بسرعة ويقين: كلا .. كلا .. أنت مخطئ في هذا.
ورنوت إليها في حيرة! ترى أحقًّا تَصدُقني القول؟ ولكن ما عسى أن يحملها على الكذب؟! لم أكن إلا غرًّا جاهلًا، ولن تجد كالغر الجاهل صيدًا سهلًا للهجة التأكيد، فأثر فيَّ قولها تأثيرًا عميقًا.
هل أكذب حبيبتي وأصدق سخفاء الموظفين؟! ألم يعبر قولها هذا عن رأيٍ قديم اعتنقتُه قبل أن يحولني عنه مجون الزملاء بإدارة المخازن؟ .. وفضلًا عن هذا وذاك فليس بوسعي وصالها بعد أن باحت، وبعد أن عاودني العجز ما عاودني؛ لذلك كله تظاهرت بالارتياح، واصطنعت ابتسامةً. ثم قلت بتسليم: ليس لي وراء سعادتك مطلب يا رباب!
وسُرِّي عنها، ولاح في عينَيها نظرة ارتياح، وتدانت مني حتى التصقت بي وقبلتني!
عدنا كما كنا. عدت زوجًا عذريًّا ذا عادةٍ ذميمة، ورحت أقول لنفسي: إنه لا ذنب لي فيما انتهينا إليه؛ إني رجلٌ كامل ولولا طبعها هي ما انتابتني هذه النكسة! بل إني أتحمل هذه الحياة الغريبة إكرامًا لها! يا له من عزاء كنت في مسيس الحاجة إليه! ولكن هل حقًّا صدقت نفسي؟! ومهما يكن من أمر فإن ذكرى عهد السعادة لم تغب عن ذهني لحظةً واحدةً. كيف انقضى ذاك العهد بتلك السرعة التي لم أتوقعها؟ وكيف آذى حبيبتي حتى خرجت عن صمتها بهذه الشكوى السافرة؟ أليس معنى هذا أني شقي ولا حيلة لي في شقائي؟ آه .. لشد ما نازعتني النفس إلى الحرية والفرار! وعاودتني ذكريات تشردي في الطرق بحنان ولهفة!
هل عاد كل شيء إلى أصله؟!
وما زال الحب يجمعنا في عناق وعطف، وعادت حبيبتي إلى مرحها وحبورها وهي تقضي يومها ما بين مدرستها وبيوت الأهل والأقارب، وبحسبي أن أراها سعيدةً مسرورةً. ولعل طبعها اعتراه تغيرٌ طفيف يبدو في سهومها الحين بعد الحين كما يبدو في سرعة غضبها لأقل همسة تصدر من أمي.
هل كنت سعيدًا؟
كانت حبيبتي سعيدةً فيما يبدو لي، فكان طبيعيًّا أن أعد نفسي سعيدًا. حقًّا لم تنقطع بي الوساوس، ولكني متى عرفت الحياة بلا وساوس؟ .. واطَّرد تيار الحياة تتقاذفني أمواجه، يسعدني سرور حبيبتي، ويُشقيني حزن أمي، أقضي وقتًا ثقيلًا في الوزارة، وأنفق ساعاتٍ حالمةً في الحانة على فتراتٍ متباعدة. وحتى ضميري الذي عانيت طويلًا من شعوره بالخطيئة لم آلُ أن أغضي على أنَّاته وتأوُّهاته بضحكات السرور والعربدة، وكنت كلما ألحَّ عليَّ وخزه أقول لنفسي بصوتٍ مرتفع: إني سعيد، وكل شيء حسن!
ومضى الشتاء، فالربيع، ثم الصيف، وعدنا نستقبل الخريف والعام الدراسي الجديد بما يبتدرنا من عزيز الذكريات.
٤٩
وعرض لي أمر بدا تافهًا؛ ولكنه كاد يقلب حياتي رأسًا على عقب، ومن عجب أنه تكشَّف لي عقب مصادفة، فحق لي أن أتساءل: أكانت حياتي تستهدف وجهةً أخرى لو لم تعرض لي تلك المصادفة؟ ولكل ما هي المصادفة؟ ألا تبدو الحياة أحيانًا سلسلة متصلة من المصادفات؟ ماذا ألقى برباب في طريقي غير المصادفة؟ وهل كان يتاح لي الزواج منها لو تأخر موت أبي شهرًا واحدًا؟ بل ماذا كان يحدث لي لو أصرَّ أبي على استردادي كما فعل براضية ومدحت؟ على هذا المنوال أتساءل: ألم يكن من الممكن أن تطَّرد حياتي على وتيرةٍ واحدة حتى الموت لو لم يطل اللقاء بيني وبين أمي دقائق معدودات ذلك اليوم الذي لا ينسى؟!
كنا في أواخر الخريف، وكان الوقت عصرًا، وقد ودعتُ رباب وغادرت الحجرة لقضاء سهرتي المسائية، والتقيت بأمي في الصالة وكانت متوعكةً، فمضيت معها إلى حجرتها ولبثت معها نتحدث فطال بنا الحديث، ثم نهضتُ مستأذنًا وغادرت الحجرة، ولاحت مني التفاتة إلى حجرتنا — وكان بابها مفتوحًا كما تركتُه — فرأيت رباب جالسةً على حافة الفراش تقرأ خطابًا، وأدركت لتوَّي أن ساعي البريد جاء به حين كنت منفردًا بأمي وإلا لعلمت به وقت وصوله، وظننته مرسلًا إليَّ من أخي؛ لأن رباب لم تكن تتلقى خطابات، فعدت إلى حجرتي مستطلعًا، وشارفت بابها ورباب مغرقة في القراءة فلم تنتبه لي حتى قلت لها: أهذا الخطاب لي؟
ورفعت رأسها نحوي في دهشة، وطوت يدها الخطاب بحركةٍ آليةٍ سريعة، وسألتني في اضطرابٍ ظاهر: هل نسيت شيئًا؟
فقلت وقد تولَّاني قلقٌ لا أدريه: كنت في حجرة أمي، ورأيتكِ عند مغادرتي لها تقرئين هذا الخطاب فظننته لي.
فنهضتْ من مجلسها وتراجعت صوب التواليت، وكانت بلا ريب تحاول أن تضبط عواطفها، ولكن عينَيها وشتا بما تركه حضوري المفاجئ في نفسها من وقعٍ عميق لم تتوقعه، وقالت وقد ندَّت عنها ضحكةٌ مقتضبةٌ جافة لم تُجدِ في مداراة اضطرابها: ليس خطابًا كما تظن، إن هي إلا وريقة سجلت بها بعض ملاحظات تتعلق بعملي المدرسي.
وداخلني خوف تمشَّى في مفاصلي. لعلها لم تجاوز الصدق، ولكن عدوى اضطرابها انتقلت إلى نفسي فشعرت بذاك الخوف الغريب، كأنه نذير شرٍّ مجهول يتجمع في أفقي المكفهرِّ. ما الذي يدعوها إلى الكذب؟ ولكني رأيت في يدها خطابًا بلا ريب! وقد خِفتُ أن أتمادى في إظهار الشك أن يكون الحق معها فأقع في حرج ما أغناني عنه! على أنني لم أتمالك أن قلت: ولكني رأيت خطابًا بيدك.
ووقع قولي من أذنيَّ موقعًا سيئًا، فخيل إليَّ أنني لم أحسن اختياره، وأنه يفصح عن شكٍّ واضح، ورمقتها في إشفاق، وانتظرت أن تبسط لي الوريقة في حركةٍ عصبية وأن ترميني بطرفٍ ساخرٍ مؤنب، ولكنها كانت تعاني أحاسيس أخرى، وكأنما قهرتها عاطفةٌ مجهولة فقالت وهي توليني ظهرها: قلت لك إنها وريقةٌ خاصة بملاحظاتٍ مدرسية.
ثم رأيتها تمزقها بحركةٍ مباغتة، وتحولت صوب النافذة ورمت بها! كانت حركةً مباغتةً أبعد من أن أتوقعها، فتسمَّرتُ في مكاني كأنما حلَّ بي شلل. واستقبلتني بوجهها متظاهرةً بعدم المبالاة، فتملكني حنق وغضب ويأس، وشعرت بأن جدارًا هائلًا قد انقضَّ على حياتي فدفنها تحت ركامه، وأن عينيَّ تتفتحان — بعد أوهام العمى — على حقائقَ بشعة! وهل غير الحقائق البشعة ما يستثير هذا الاضطراب وذلك الخداع الماكر؟ وصحت بلا وعي: كاذبة .. لم تكن وريقة ملاحظات كما قلتِ كذبًا وخداعًا، ولكنه خطاب كما رأيت، وقد مزقتِه لتواري عني سوءة!
وغاضَّ الدم في وجهها فترك صفحته شاحبة كوجوه الموتى، ولكن بدا أنها لا تريد أن تسلم بغير دفاع المستيئس فغمغمت: أنت مخطئ .. وظالم .. لم يكن خطابًا!
فهتفتُ بها مغيظًا محنقًا والألم واليأس يطرقان رأسي بعنف: لماذا مزقتِه؟ .. لماذا تولاكِ الذعر؟ .. تكلمي .. لا بد أن أعرف الحقيقة .. سأنزل إلى الطريق وألتقط القصاصات.
واتجهتُ نحو النافذة في عجلة واضطراب وأطللت على الطريق، فرأيت العطفة الضيقة التي تفصل مؤخرة العمارة عن حديقة الكنيسة، فداخلني يأس وأيقنت أن الهواء قد حمل القصاصات إلى حديقة الكنيسة. واسودَّت الدنيا في عينيَّ، وخيِّل إليَّ أنها تتمخض عن عالم من الشياطين الراقصة في تيار من لهيب. كيف أنتزع الحقيقة من بين شفتَيها؟ ودرتُ على عقبيَّ فوجدتها بموقفها، يحاكي وجهها وجوه الموتى، وتلوح في عينَيها نظرة ذعر وارتباك، فاشتدت قسوة قلبي، ورميتها بنظرةٍ طويلةٍ رهيبة، وقلت بإصرار وحنق: إنه خطاب، ولن أرجع حتى تعترفي لي بكل شيء!
تراجعت متأوِّهة حتى استندت إلى مرآة الصوان وقالت بصوت تمزقه الشكوى: بالله لا تسئ بي الظن، لا شيء البتة يستوجب غضبك أو ارتيابك، أواه لا تنظر إليَّ هكذا!
ولكني لبثت أرمقها بنظرةٍ صارمةٍ قاسية ونفسي تتلهف على الحقيقة، فإما النجاة وإما الهلاك. رباه إني لفي كابوسٍ طاغٍ، وهل كان يقع في ظني أن أقف منها هذا الموقف إلا في كابوس؟! واستدركتْ تقول بصوتٍ متقطع الأنفاس: لا تنظر إليَّ هكذا! لقد أخطأتُ حقًّا ولكنك أنت المسئول عن خطئي! لقد فاجأتني فركبني الاضطراب، فتورطت في كذب لا داعي له!
رباه ما أحوجني إلى النجاة، ما أشد تلهفي على قطرة غيث تبلُّ جوانحي! .. وقلت في حيرة: كان خطابًا!
فبادرتني قائلةً: أجل! وكان يبدو لي أمره تافهًا حتى وقع في نفسك الارتياب، وتجهَّم وجهك فتخيلت الأمر التافه جللًا خطيرًا فالتمست مخرجًا في الكذب، وكان ما كان.
فسألتها وما أزداد إلا حيرةً: إذا كان خطابًا، فمن أرسله؟
فقالت وبها مثلما بي من الحيرة: لا أدري!
فنفخت قائلًا: ما هذه المعميات؟!
تولى عنها الذعر رويدًا، وتشجعت بانفثاء غضبي فقالت بصوتٍ ملؤه الأمل: دعني أقص عليك قصة هذا الخطاب المشئوم بالحرف الواحد: لقد تلقيته صباح اليوم بالمدرسة، ففضضته بدهشة لأني لم أعتد تلقي الخطابات، ووجدته غفلًا من الإمضاء، ولم يكن به سوى سخفٍ وقح، خطَّه قلم شخصٍ سمج! وملكني الحنق بادئ الأمر، ثم لم أعد أُبالِه، وصممت على الاحتفاظ به لأُطلعك عليه، وفي ظني أني أعد لك مفاجأة تضحك منها طويلًا، ولكني غيرت رأيي عقب عودتك وخفت أن يثير بنفسك ما لا داعي له من الاستياء، وأخفيت عنك أمره حتى ظننتك غادرت البيت فاستخرجته من حقيبتي وأعدت تلاوته وفي نيتي أن أمزقه، ولكنك فاجأتني وقت تلاوته، ولم يغب عني حرج مركزي، ولم يعد بوسعي الاعتراف بالحقيقة، فتورطت كما قلتُ لك في الكذب، وجنيت من كذبي ما جنيت مما لا أستحق.
أصغيت إليها وكلي آذان، ولما انتهت من قصتها لبثت بموقفي جامدًا متحيرًا .. خفت وطأة الجنون الذي ركبني ولكني وقفت بباب التصديق والطمأنينة مترددًا. وجدت نفسي في حيرةٍ قاتلة دعوت الله أن يكشفها عني، وأن يهبني بصيرةً نيرة أنفذ بها إلى أعماق هذا الصدر الجميل الذي كأنما خلق لتعذيبي. وأرهقني التفكير والتردد فقلت وكأنني أسائل نفسي: من مرسله؟!
وكأن السؤال آلمها، فغضَّت بصرها مقطبةً وقالت: قلتُ كان غفلًا من الإمضاء!
فانفلت لساني يقول: هذا غير معقول.
فضربَت الأرض بقدمها وقالت وقد لاح في وجهها الألم والتعاسة: أتكذبني يا كامل بعد أن صارحتك الحقيقة؟ إني لا أحتمل هذا .. فاستطردتُ قائلًا وقد نال مني تألمها: أعني ماذا يفيده الخطاب إذا لم يترك به إشارةً تدل عليه؟ ألم يرسل لك خطابًا قبله؟
– … هذا أول خطاب أتلقاه!
– وماذا كان به؟
فغضَّت بصرها وهي تقول بضيق: كلامٌ سخيف عن الإعجاب والجمال!
ووثب إلى خيالي منظر يديها وهما تمزقان الخطاب، فلسعني الشك وانتفض جسمي في هلع فصحتُ بها وكأنني فقدت وعيي: لماذا مزقتِه؟ .. لماذا مزقته؟
فنفخت فيما يشبه اليأس، ولزمت الصمت مليًّا، ثم قالت بهدوء واستسلام: لقد تسلمت هذا الخطاب المشئوم في المدرسة، ولا أظنك تشك في هذا لأنه من الجنون أن يرسله إلى البيت! والآن اطرح على نفسك هذا السؤال: ما الذي يدعوني إلى الاحتفاظ بالخطاب وحمله إلى البيت إذا كان به ما يريب؟ لماذا لم أمزقه في المدرسة بعد قراءته؟!
وعقد الصمت لساني حيال وجاهة الحجة، ولعلي أسفت على ما بدر مني من صياحٍ كاسر. أما «رباب» فعادت تقول: لو كنت مذنبةً لما وجدتني بهذا الموقف السيئ، ولما علمت بشيء، وهيهات أن أغفر لك سوء ظنك بي!
فآلمني قولها، وداخلني شعورٌ أليم بالخجل، فخفضت بصري أن ترى به آي الهزيمة. على أن ألمي لم يُنسني ما أحب أن أجلوه من غامض الأمور، فقلت بصوتٍ منخفض: إن قولك مصدق .. ولكن لعل صاحب الخطاب لم يوقع بإمضائه لظنه أنه من السهل الاستدلال عليه، كأن يكون ممن يعترضون سبيلك مثلًا!
ولم يخفف لين نبراتي من ألمها، بل لعله جعلها تتمادى فيه، وقالت بامتعاض: من عادتي أن أسير فلا ألوي على شيء ولا ألقي بالًا لإنسان.
لم أكن في حاجة إلى قولها وقد خبرته بنفسي، ولكن لاح لعينيَّ شبحا الرجلَين اللذين قاسماني الإعجاب بها فيما مضى، فقلت متسائلًا: ألا يحتمل أن يكون جارك الذي شرع في طلب يدك .. أعني محمد جودت؟
فقالت بلا تردد: هذا رجلٌ وقور لا ينزل لهذه الأساليب الوقحة، وفضلًا عن ذلك فهو وشيك الزواج كما علمت منذ قرابة شهر في بيت أبي.
فتفكرت قليلًا ثم قلت متحيرًا: كان يوجد رجلٌ سمين يواظب على التهامك بعينيه في ذلك العهد الذي كنت أحوم فيه حولك، أفلا يجوز أن يكون هو؟ فزوت ما بين حاجبيها مستذكرةً، ثم قالت وهي تهزُّ رأسها: لا أعلم عنه شيئًا!
وحاولت أن أذكرها به؛ ولكنها بدت وكأنها لم تحسَّ له وجودًا، فقلت بيأس وغيظ: أريد أن أعرفه كي أؤدبه.
فقالت بصوتٍ دلت نبراته على التعب: ليكن من يكون! لو لم يدفعني الارتباك إلى تمزيقه لكنا نقرؤه الآن ضاحكَين، فهلا نسيته وحسبنا ما نالنا من كدر!
فعضضت على شفتي، وجنحت إلى الصمت مغيظًا مقهورًا، فاستطردت قائلةً: إنه أمرٌ تافه، بل أتفه من أن يستحق كل هذا الاهتمام.
فتنهدت قائلًا وأنا لا أدري: ليتك لم تمزقيه!
والْتمعت في عينيها نظرة غاضبة وتساءلت بحدة: ألا زال يساورك الشك؟
فقلت بعجلة: كلا .. ولكني لن أهدأ حتى أؤدبه!
فقالت بضجر: ولكنا لا نعرفه، فما العمل؟
وأحنقني قولها، ولكني تحاميت الإفصاح عن حنقي أن أستثير غضبها. وكأن الوقوف أرهقها فمضت إلى كرسي التواليت وجلست عليه، وشعرت عند ذاك بألم في ظهري، فدلفت من الفراش واقتعدت حافته. إنها صادقةٌ بريئة، والأمر جد تافه، فليتني أستطيع أن أمحو من مخيلتي صورة يديها وهما تمزقان الخطاب! لعل المجرم أحد أولئك الفضوليين الذين يراقبونها في ذهابها وإيابها! فليتني لم أخلق فريسةً سهلة لأنياب الغيرة. إني أعرف نفسي جيدًا، وإني لأغار من الوهم ومن لا شيء! فأين مني جزيرة نائية لم تطأها قدم رجل!
وطار الخيال بغتةً إلى حجرة أمي فسرت في جسدي قشعريرة وخلتها تقول لي: «ألم أقل لك؟»، فنفخت كمن يزيح عن صدره كابوسًا، ولاحت مني التفاتة نحو «رباب» فوجدتها تحملق في وجهي بدهشة، فخطر لي خاطرٌ جديد لم أتوانَ عن الإفصاح عنه فقلت برقَّة: رباب، لماذا تواصلين خدمتك في الحكومة؟! لماذا تتجشمين هذه المشقة بلا ضرورة؟ لماذا لا تقنعين ببيتك كغيرك من الأزواج؟
فتفرَّست في وجهي بإمعان وأناة، ثم قالت بهدوء: ألا تثق بي؟
فابتدرتها قائلًا: معاذ الله؛ ولكني …
وقاطعتني قائلة: إذا كنتَ لا تثق بي فالأولى لي أن أغادر بيتك!
– رباب!
فلم تبالِ جزعي وقالت: إذا كنت ما تزال تثق بي فسأبقى في وظيفتي.
فقلت بتسليم: لك ما تشائين!
فقالت باللهجة نفسها: لا أحب أن أسمع كلمةً أخرى عن هذا الموضوع.
وقد كان. وغادرت البيت، وأخذت أضرب في الأرض على غير هدى حتى تناهى بي الإعياء، فرجعت إلى البيت، وتلاقينا وكأن لم يكن بيننا شيء، وتناولنا العشاء معًا، ثم آوينا إلى حجرتنا والتقت أعيننا في نظراتٍ ذات معنًى.
ولم نتمالك أن انفجرنا ضاحكين، ومضينا إلى الفراش فاضطجعنا وقبلتها قبلة النوم. ولا أدري لماذا نازعتني نفسي إلى معاودة ما تعاهدنا على اجتنابه. والأعجب من هذا أنه لم تكن بي ذرة من ثقة، ومع ذلك كدت أهمُّ .. لولا أن ردني الخوف إلى وعيي! ثم خطر لي أن أسألها عما يجعلها تقضي على نفسها بالحرمان؟ وانفجرت شفتاي ولفظ صدري القول، ولكنه جمد على طرف لساني! إنه الخوف أيضًا.
٥٠
وعندما فتحتُ عينيَّ في الصباح الباكر عاودتني ذكريات الأمس، فتأملتها في دهشة، وقد خيل إليَّ أنه لم يكن هنالك ما يستحق كل ذلك العناء والألم. وقلت لنفسي: لو أنها مزَّقت الخطاب في الروضة لما علمت به أبدًا، وفي هذا آية صدقها، ثم تمثلت لعيني وهي تمزق الخطاب وترمي به من النافذة، فكأنما هي تمزق قلبي وتنثر شظاياه في الهواء؛ وسَرتْ في جسدي رعدةٌ عنيفة، وهززت رأسي غاضبًا كأني أنفض الأوهام وغادرت الفراش. ولما فرغنا من فطورنا وجلسنا على المقعد الطويل نحتسي الشاي، استرقتُ إليها نظرةً فرأيت وجهها المحبوب هادئًا باسمًا ينمُّ عن جمال وسلام، فعضَّني الندم على ما فرط مني في حقها وقلت لنفسي: «حقًّا إن الشيطان غويٌّ رجيم.» وفي اللحظة التالية لاح لي خاطر كالبرق، أليس من الجائز أن تكون قد تسلمت الخطاب في البيت وأنه لم يكن بوسعها أن تمزقه في مكانٍ آخر؟ ولكني سرعان ما نبذته؛ إذ إنه غير معقول — كما قالت بحق — أن تبلغ الحماقة من شخص أن يرسل خطابًا غراميًّا إلى بيت الزوج! ألا سحقًا للأوهام، إن حبيبتي أهل لكل ثقة، والثقة هي كل شيء، ولولاها ما حال دون الشر حائل.
وخرجنا معًا .. وركبنا الترام .. لعل كثيرين يرمقوننا بعين الحسد، فهل يتصورون كيف نحيا معًا؟! ألا ما أعجب العوالم التي تنطوي عليها النفوس! وأعجب من هذا أمر رباب، فكيف ترغب عن المعاشرة الزوجية بهذا الإصرار الغريب؟ لشد ما يشوقني أن أغوص في أعماقها. عند ذاك شعرت بحاجتي إلى مرشد أقصُّ عليه وأصغي إليه. لم أشعر من قبلُ بمثل ما شعرت به وقتها من الوحدة والعزلة وقلة الحيلة. وكان طبيعيًّا أن أذكر مرشدي الوحيد في الحياة؛ أمي .. ولكن سرعان ما تملكني إحساسٌ قوي بالخجل والغيظ، حتى لكأن نشر همومي على الملأ أهون عليَّ من أن أسارَّ أمي بها.
هل أستطيع أن أجلو السر بنفسي؟ أيكون الله قد خلقها خلقًا طاهرًا لا تطيب له الحياة إلا بالعفة؟! هذا فرضٌ محتمل يؤيده الواقع. ولست آسى عليه، فلولاه لكنت في مأزقٍ حرج. والحق أن اتصالي بها — حتى في أسعد أوقاته — لم يخلُ من قلق وخوف غامضَين. وقد عاودني العجز في إبان جنوحها إلى النفور، ولكني كنت آبى إلا أن أصور نفسي في صورة الضحية لشذوذ حبيبتي، والفداء لسعادتها .. ولما بلغت هذا الحد من التفكير — وكنت أشارف الوزارة — اضطرب ذهني وشعرت بقلقٍ طاغٍ لم أدركه. بدا لي الأمر وكأنه يستدعي الطمأنينة التامة، ومع ذلك لفَّتني حيرةٌ معذبة فدخلت الوزارة ذاهلًا .. من عسى أن يكون الوغد الذي كتب الخطاب؟ معقول جدًّا ألا يكون الرجل الوقور محمد جودت، فمن يكون؟ لماذا لا يكون الفتى الآخر ذا الجسم البدين والنظرة المتغطرسة؟ وليس هذا ببعيد؟ إنه في متناول يدي، وإني لأعرف موقفه الذي ينتظر به كل صباح .. ترى هل حقًّا جهلته أم كانت تتجاهله؟ على أنني تمنيت بقلبي ألا يكونه؛ إذ لم يخفَ عني لحظةً أنه قادر على أن يبطش بي بضربةٍ واحدة، وقلت لنفسي ساخطًا: لو أنها أبقت على الخطاب لأمكنني كل شيء. أي شيء أعني؟ لا أدري على وجه التحقيق، لكني وجدت عليها مرةً أخرى بعد أن عد الأمر منتهيًا. والله ما مزقته إلا خوفًا من اطلاعي عليه. رباه هل أتردى ثانية في الجحيم؟ حذارِ أن تتمادى! إن من يسمح لنفسه بالشك في رباب لا يستحق أن يكون إنسانًا. ألا يحسن بي أن أسألها في التليفون عما إذا كانت تلقَّت خطابًا جديدًا؟ نازعتني إلى ذلك رغبةٌ جامحة، ولكن حال دون تنفيذها الخوف .. ودعاني صوت من الأعماق إلى الهرب! ولكن ممن أهرب؟ وإلى أين؟ إما أن أكون مجنونًا أو سخيفًا. إننا زوجان سعيدان في الواقع، ولكن عقلي شقي، فآه لو أستطيع حذف الأمس من الأيام. آه لو تمحى ذكرى تمزيق الخطاب من خيالي. وإليك خاطرًا جديدًا؛ إذا كانت قرأت الخطاب في المدرسة فلماذا أعادت قراءته في حجرتنا؟ .. ألذَّها أن تعيد تلاوته أم كانت تستوثق من الميعاد؟ أوشك جبيني أن يتفجر من حمى الفكر!
ولما غادرت الوزارة أسعفني هواء الطريق اللطيف بروح من عنده، فتنفست تنفسًا عميقًا، وأحسست انتعاشًا ردني إلى السكينة. وجعلت أردد: ما أحمقني! وفي البيت لاقتني رباب بابتسامةٍ وضاءة، فانبسطت أساريري، وسألتها ضاحكًا: هل من جديد؟
– أتعني خطابًا جديدًا؟
فقلت وما أزال ضاحكًا: نعم.
فقالت مبتسمة: كلا انقطع البريد!
وغادرت البيت عصرًا وليس لي غاية، وما كدت أستقر بمكاني في الترام حتى نشأت في صدري رغبةٌ جميلة، هي أن أزور «السيدة» طالما كانت ملجئي وملاذي، ولم أتردد عن تنفيذ هذه الرغبة التي ملكت نفسي. وعندما عبرت عتبة المسجد سرَت إلى صدري نسمة ارتياح سعيدة، وطافت برأسي ذكرياتٌ محببة إلى قلبي. رأيتني بعين الخيال أسير ممسكًا بيدي أمي إلى الضريح الطاهر. وذكرت يوم جاءت بي لأتوب عن الذنب الذي أكاد آلفه وأعتاده. يا لها من ذكرى أعقبت ندمًا وخجلًا حتى شعرت برغبة في التواري والفرار! ولكنني واصلت السير، فطفت بالضريح قارئًا الفاتحة، وتشجعت إدلالًا بمنزلتي منذ الصغر عند صاحبته الطاهرة، فوضعت راحتي على الباب وغمغمت في ضراعة: «يا أم هاشم، أنت أعلم بقلبي وطيبته، وبأني لم أضمر في حياتي أذًى لإنسان، فاجعلي جزائي من جنس عملي. هذا دعائي يا ست». وانتبذت ركنًا وتربعت على الأرض. سطعت أنفي رائحةٌ ذكية لعلها كانت رذاذًا يرشه أحد المجذوبين، وتجاوبتْ في الأركان أصوات الدعاء يرددها الطائفون، على حين مضى شيخ غير بعيد يرتل بصوتٍ مهموس آيات من الذكر الحكيم، وذكرت كيف انقطعتُ عن فرائض الدين حتى لم أعد أواظب إلا على الصوم في حينه، ألست حقيقًا إذا عدت إلى هدي الصلاة أن يطمئن قلبي ويخفَّ عن ظهري وقر القلق والمخاوف. وكان قلبي على ألمه يتفيأ ظل النبوة الظليل، ويعبُّ من نميرٍ صافٍ مثلوج، ويغمره سكونٌ عميق يدعوني إلى الاستزادة من صفاء الساعة الهنيء. وفي نشوة من نشوات السلام تراءت لي آلامي كخيطٍ رقيق من نسيج القضاء المهيمن على كل شيء، فنزعت إلى الرضى والتسليم. ودوَّم بنفسي صفاء روحي سما إلى ذروة من البهجة فوق المنى، فكأن القلب يعلو غصنًا من أغصان الجنة تهدل عليه حمامة السلام. ولبثت في نشوتي زمنًا لا أدري كم لبثت حتى اندسَّ إلى خيالي على حين غرة صورة رباب وهي تمزق الخطاب وقد تملَّكها الهلع، فأفقت بقسوة وعنف كمن يفيق من نوم على زلزالٍ عنيف، وتنهدت من قلبٍ مكلوم، ثم نهضت قائمًا، وتلوت الفاتحة مرةً أخرى وغادرت الجامع، وقد وقع بصري لدى خروجي من الباب على رمَّال ممن يستطلعون الغيب .. إني أومن بهؤلاء الناس إيمان أمي بهم. وقد انتظرت حتى انفضَّ من حوله جماعة من السائلين واقتربت منه على حياء، وسألته أن يقرأ لي الطالع. وراح الرجل ينكت بإبهامه في نقرات الرمل وينقل فيما بينهما قواقعه. كان نحيلًا كالمومياء، شاحب اللون، متلفعًا بكساءٍ أبيض، فقال من فمٍ لم تبقَ فيه إلا ثنيتاه العلييان: كثير الهم والفكر.
فقلت لنفسي: لقد صدق، وأرهفت السمع بانتباه، فاستطرد قائلًا: ولك عدوٌّ ماكر.
فخفق قلبي: أليس هو صاحب الخطاب؟! وواصل حديثه قائلًا: إنه يمكر مكره وسيردُّ الله كيده إلى نحره!
ألا يعني هذا أن «رباب» بريئة؟
– وستجيئك ورقة تسرُّ بها طويلًا!
– أتعني خطابًا؟
– ربما، إني أرى أمامي ورقة.
ما معنى هذا؟! كان الأمر يزداد غموضًا، وسألته: هل تأتي من قبل العدو؟
– كلا .. كلا .. ناحيةٌ أخرى فتنجلي بها همومك.
– أية ناحية؟
– يأتيك الخبر من حيث لا تدري.
فتولتني الحيرة وتمنيت لو يزيد بيانًا، ولكنه عاد يقول: إذا جدت صعاب فسيذللها هذا الحجاب بإذن الله.
وأعطاني لفاقةً صغيرةً جدًّا من الورق مربوطة بخيطٍ رقيق، ثم قال: ضعه على القلب، وتوكل على الله!
•••
ذكرت في طريق العودة ما عانيت من ألم منذ عصر الأمس، فأيقنت أن سعادة عام لا تزن شقاء يومٍ واحد، لم أهتدِ إلى مرسًى، وما أزداد إلا حيرةً وتبلبلًا. إن ما يظلني أحيانًا من طمأنينة ما هو إلا سحابة صيف، ولن يهدأ لي جانب حتى ألقى الحقيقة وجهًا لوجه، ما كنت أحب أن تلوَّث نفسي بالشك في الوجه الصبيح الطاهر، ولكن بذرة الشك قد ألقيت في أعماقها ولن تزال تنمو وتثمر شوكها الجهنمي. لقد شددت بقوة اليأس على أهداب الطمأنينة فتهتَّكت وتخرَّقت، وما أطيق أن أحتمل الحياة مترددًا بين ساعة سلام خادعة وساعات عذابٍ طويل، فما من محيد عن أن أرى وراء الحجب، قد يكون في ذلك هلاكي، ولكن الحياة تقضي علينا في أحايينَ كثيرة بأن نجري وراء هلاكنا كأنه ألذُّ المنى. إني أحبك يا حبيبتي، ولعل القدر قد رماني بهذا الحب ليقضي به عليَّ، ولكن هل أملك رد قضائه؟ لعلي أدرك الآن لماذا لم يكن يزايلني القلق حتى في أصفى ساعات سعادتي، أكان قلبي يشهد لمحات من المقدور وراء ستار الغيب؟ .. على أنني لا أحب أن أتمادى في التشاؤم، فقد يكون المخبوء على غير ما توقع قلبي، وقد أجد به ما أتلهف عليه من طمأنينة وسلام.
فما العمل إذن؟ الصواب أن ألتمس إجازةً من الوزارة، ثم أفرغ للمراقبة في خفاء لا يدري به أحد. أيهون عليَّ أن أتجسس على «رباب»؟! ألا ما أشق هذا على نفسي! ولكن كل شيء يهون إلا عذاب الشك!
٥١
توثبت للعمل وبي من الألم ما لا يعلمه إلا الله، فخرجنا معًا كعادتنا كل صباح وركبنا الترام معًا، ثم نزلت في محطة الوزارة وناديت «تاكسي»، وأمرت السائق بالذهاب إلى العباسية. سبقتها إلى مكان عملها لأهيئ لنفسي موضعًا يصلح للمراقبة. وكانت الروضة تقع بشارع كمال — المتفرع من الطريق العام إلى اليسار — على يمين الداخل بعد فوات بيتين من مدخله، وقفت في المحطة أتفحص ما حولي، فرأيت شارعًا فرعيًّا يقابل شارع كمال على الناحية اليمني من الطريق تقوم على ناصيته قهوةٌ صغيرة، بدا لي أن أجلس في هذه القهوة حيث يسهل رؤية المدرسة من بعيد، ومراقبة زوجي حين دخولها وحين خروجها. واتجهت إليها — وكان بابها يفتح على الشارع الجانبي — واخترت مجلسًا على عتبة المدخل يمكنني أن أرى منه ما أريد رؤيته، وأن أتوارى إذا دعا الحال بزحزحة الكرسي قليلًا إلى الوراء. وأدركت من نظرةٍ واحدة مقدار حقارة القهوة، فكانت موائدها قديمةً وكراسيها باهتةً رثةً وروادها من النوبيين، ولكن لم أبالِ هذا، بل وجدت به مدعاةً للطمأنينة. جلست وعيناي لا تتحولان عن شارع كمال، وكلما جاء ترام من المدينة اشتد انتباهي ويقظتي. ولم يطل بي الانتظار، فما لبثت أن رأيت زوجي وهي تعبر الطريق متلفتة يمنة ويسرة لتتفادى من المركبات حتى بلغت «الطوار» الأيمن لشارع كمال، ثم سارت بمعطفها الرصاصي المنمنم، بطولها الفارع الرشيق ومشيتها اللطيفة المهذبة، في احتشامها المعهود ووقارها المحبوب، ثم انعطفت إلى مدخل المدرسة وقد وقف لها البواب احترامًا. غلبني الخجل والألم لموقفي ذاك، وترطب قلبي المحترق بالعطف والحب وأنا أذكر كيف بهرني هذا الجمال الوقور أول مرة، اللهم إذا كانت حبيبتي ملاكًا فلتحرقني بنقمتك، وإذا كانت شيطانًا فلتحرقنا جميعًا، ولتحرق الدنيا معنا، فما يكون بها شيء يستحق الرحمة، وارتفعت عيناي إلى السماء وغمغمت: «ربي! إذا شاءت حكمتك أن تذر سموم الغدر في حنايا هذا الجمال، فلتغفر لي الجنون والثورة!».
وتفحصت الطريق أمامي متسائلًا في رهبة: ترى هل أرى بعد ساعات من يقف منتظرًا بموضع من هذا الطريق؟ هل أراهما وهما يتبادلان إيماءةً أو ابتسامةً أو يلحق أحدهما بالآخر؟ ما عسى أن أصنع لو انقضَّت هذه الصاعقة على رأسي! وانتفض جسمي غضبًا ورعبًا! وتخيلت الكارثة كما لو كانت قد وقعت، تخيلتها حتى تجسمت لناظريَّ، ثم تساءلت مرةً أخرى عما عسى أن أفعل! ليس أسهل من البطولة والنصر والبطش في أحلام اليقظة، ومع ذلك فلم يسعفني الخيال بنفحة منها، ولعله تحرج لأن الخطر الذي تهددني لم يكن بعيدًا بحيث يسمح له بالاستمتاع بأحلامه، كان على العكس قريبًا محتملًا، فشكم الأحلام، وتمثل لي الموقف البشع في حدود الواقع، فتصورته بقلبٍ هياب ونفسٍ مخلخلة القوائم، تمثل لي العدو شخصًا حقيقيًّا في طريقٍ مزحوم بالمارة فما أسعفني الخيال على التصدي له جهارًا ونشر فضيحتي على الملأ، أو خوض معركة لا أشك أني سأكون فيها من الخاسرين! تصور زوجًا مخدوعًا صريعًا بلكمة من خادعه! تبًّا لي! لكم حنقت في تلك اللحظة على ضعفي! غضبت غضب من يروم دكَّ الجبال، وتنهدت تنهد من يعجز عن رفع حصاة، ولكن ما من الإقدام بد! أأرى «رباب» مع صاحب الخطاب ثم أقف مكتوف اليدين؟! محال .. لأهجم إذن على غريمي وليكن ما يكون، أو أقنع بمشاهدة الجريمة الساعية في الأرض، ثم أنتظرها في البيت حتى تعود وأقول لها بهدوء واستهانة: «لقد رأيت كل شيء بعيني، عودي إلى بيتك بسلام!» لماذا أقدمتُ على هذه الخطوة الجنونية؟ لماذا تزوجت؟ ما كان ينبغي لمثلي أن يتزوج. وارتفعت في القهوة ضجة ضحك فانتشلتني من الأحلام، فعدت إلى وعيي متعبًا كالمريض، وألقيت نظرة على الوجوه السود الدائبة على ثرثرة لا تنقطع بأصواتٍ غريبة مكهربة، ونظرت بين يديَّ فإذا بفنجان القهوة لم يمس، فرفعته إلى فمي ورشفت منه رشفاتٍ باردة، وعدت ببصري إلى الطريق حتى استقرَّ على باب الروضة. إن «رباب» تباشر الآن عملها في طمأنينة، ومن يدري فلعل هذا الرعب كله أن يتمخض عن لا شيء، ولعلي أن أذكر موقفي هذا يومًا فلا أداري خجلي. أتكذب هاتان العينان الصافيتان؟ أيغدر هذا القلب الطاهر؟ وتتابعت الدقائق في تفكيرٍ متواصل، حتى انتبهت على طقطقة نافذة وهي تفتح، فاتجه بصري بحركةٍ عكسية إلى الجانب الآخر من الطريق، فرأيت النافذة في الطابق الثاني من عمارةٍ كبيرة وقد أطلَّت منها امرأة، ولعلها عجبت لجلوس أفندي مثلي في قهوة النوبيين، فنظرت صوبي باهتمام، كان في عينيها جراءة، فارتد بصري في حياء. ومع أن عيني لم تثبتا عليها إلا لحظات إلا أنهما عادتا منها بصورةٍ واضحة لوجهها الغليظ وصدرها المكتنز، وداخلني إحساس بالقلق؛ لأن النافذة تطل على مجلسي مباشرةً، وقد رفعت عينيَّ في حذر شديد، فرأيتها تدخن سيجارة وتنظر إلى شيء بين يديها على حافة النافذة، فتشجعت بتحول عينيها عني وأدمت إليها النظر. كانت فوق الأربعين إن صدق نظري — وقلَّ أن يصدق في تقدير الأعمار — وكانت على رغم تأنقها وتزينها أقرب للدمامة منها للحسن، ذات وجهٍ مستديرٍ غليظ، وعينَين بارزتَين ثقيلتَي الجفنَين، وأنفٍ قصير أفطس، وشفتين ممتلئتين، ووجنتين متكورتين منتفختين، وشعر جعد لامع. وما لبثت أن غابت من النافذة فكاد يذهب عني القلق، ولكن باب شرفة تجاور النافذة فتح على مصراعيه وبرزت المرأة منه تجر كرسيًّا، ثم وقفتْ قليلًا مرتفقة حافة الشرفة، فرأيت جسمها المكتنز المائل إلى القصر، ثم جلست على الكرسي واضعة رجلًا على رجل. كانت الشرفة أقرب إلى الطريق العام من النافذة، فأمكنني أن ألحظ من فيها دون حاجة إلى عطف رأسي، فاختلست نظرات من ساقيها المرتويتين السمراوين، وشبشبها الأحمر الفاقع، وأنقذني وجودها من تيار أفكاري الجهنمي، وإن استحوذ عليَّ ذلك القلق الطارئ، وراحت تنفخ الدخان من شفتَيها الغليظتين وتقلب عينيها فيما حولها، وكلما التقتا بي تفحصتاني بجراءة منقطعة النظير حتى شعرت بحرارة الخجل تلهب وجهي، وتساءلت في ارتباك: متى تختفي؟ فلقد أربكني تفرسها في وجهي، ولعله ترك في نفسي أثرًا آخر غريبًا لا يخلو من ارتياح حذر وانفعالٍ جنسي لم أعرف له سببًا. وكنت كلما رفعت إليها عينيَّ حولت رأسها نحوي وحدجتني بنظرةٍ وقحةٍ ثاقبة كأنها ترى بأذنيها، أو أنها تتمتع بحساسية خارقة تنقل إليها النظرات التي تصوب نحوها من أي مكان كان، فركبني الخوف والحذر، وحرصت على ألا أرفع بصري القلق إليها. ترى هل يطول بي هذا الحذر والتوتر؟ وعلى حين فجأة رن صوتها — صوت ممتلئ رنان — وهي تقول وكأنها تخاطب أحدًا في الطريق: «إني قادمة يا ماما»، ثم نهضت قائمة ومضت إلى الداخل! ولم أتمالك أن ابتسمتُ في استغراب واستنكار، فقد هالني أن تقول: «ماما» وهي المرأة التي جاوزت سن الشباب، كما أدهشني أن تستجيب لنداء أمها بهذا الصوت الذي رن في الطريق بلا داعٍ، وكان بوسعها أن تذهب إليها دون أن تنبس بكلمة، أو أن تخاطبها عقب دخولها إلى الحجرة، فبدت لي — إلى جراءتها — غريبة الأطوار، محبةً للظهور ولفت الأنظار، متجاهلةً لسنن العقل الذي تعتلي ذروته. على أنني سررت لذهابها، ولتخلصي من سطوة نظراتها، وعدت إلى نفسي، وإلى الطريق الذي عليَّ أن أراقبه حتى ينطوي النهار. وتتابع الوقت فأتعبني تثاقله، واستحوذ عليَّ الضجر. ألا يحسن بي أن أمضي هنا وهناك حتى يقترب موعد انصراف الروضة؟ ولكن من يضمن لي ألا تحدث أمور في أثناء تجوالي؟ فلأظل رهين مجلسي هذا حتى يقضي الله أمرًا كان مفعولًا. ولبثت بمكاني متجرعًا الصبر دقيقةً فدقيقةً، وجاءني صوت من الشرفة، فرفعت عينيَّ، فرأيتُ المرأة وهي تنقل الكرسي إلى موضع من الشرفة تملؤه أشعة الشمس ثم تستقر عليه .. ولاحت منها نظرة إلى القهوة، فلما وقعت عليَّ لاح بعينيها الاهتمام والدهشة وكأنهما تتساءلان عما دعاني إلى ملازمة مكاني بهذه القهوة الحقيرة طوال هذا الوقت، وتعمدت أن تظهر لي دهشتها بغير ما حياء، فلم يبقَ إلا أن تسألني عما يبقيني في مجلسي ذاك؟ وأشعلت سيجارة، وراحت تدخن بتلذذ، وتتسلى بالنظر إليَّ من وقت لآخر. وصممت على أن أركز انتباهي في هدفي، فأرسلت بناظريَّ إلى الطريق، ولكن ظل شعوري في شغلٍ شاغل! وتبددت قوة إرادتي في مقاومة ما يجذبني إلى رفع بصري، وغلبني الحياء والارتباك إذ تهيأ لي — لضيق الشارع — أنني والمرأة في حجرةٍ واحدة. ولم أخلُ من إحساس بالارتياح منشؤه أنني أجد نفسي محط نظرة امرأة لأول مرة في حياتي، ولم يعد يخفى عليَّ ذلك الانفعال الجنسي الذي بعثه في أعصابي وجهها الغليظ وساقاها المرتويتان، ولئن كانت جرأتها قد أزعجتني فلم تعدم في نفسي إثارة من ارتياحٍ غامض، لعله نوع من الإعجاب الذي لا يريد أن يفصح عن نفسه، وتساءلت في دهشة: ترى لو كان لجميع النساء ما لهذه المرأة من جرأة أكنت أقطع ما خلا من زماني موحوحًا بغير رفيق؟! وانسقت وأنا لا أدري إلى مقارنة هذه الجرأة الجذابة بذاك الاحتشام الجميل الذي تتحلى به زوجي المحبوبة، ولكني سرعان ما أنكرت المقارنة الوقحة، فامتلأت سخطًا وتقززًا. ولبثت المرأة بمجلسها ساعةً، ثم عادت إلى الداخل وأغلقت باب الشرفة، فتنهدتُ في ارتياحٍ عميق وغمغمت: «لا أرجعها الله!» وانفرد بي الانتظار، ومر الوقت في إعياء وسأم، فجعلت أتسلى بمراقبة ستة أو سبعة من النوبيين هم كل من بقي بالقهوة من الزبائن، وقد واصل ثلاثة منهم الثرثرة، على حين جمد الآخرون على مقاعدهم كتماثيل من البرونز. وحينما أرمي بنظري إلى الطريق العام أحصي المارة نساء ورجالًا، وأشاهد مركبات الترام الذاهبة الآتية، أو أتساءل كلما قرع أذني أزيز ترامٍ آتٍ من بعيد أن يكون رقم ٣ أم رقم ٢٢، وهل يجر مركبةً مكشوفةً أو مغلقةً؟ ثم أحصى مرات الصواب والخطأ. ولما آن وقت انصراف الروضة عاودتني اليقظة، ثم اشتدَّ بي القلق والجزع، وجالت عيناي في جنبات الطريق، ثم استقرتا على باب المدرسة، ولشد ما خفق قلبي حين رأيت جماعة من المدرسات يغادرن الروضة، وعلى أثرهن خرجت «رباب» بصحبة فتاة من زميلاتها، واتجهت نحو شارع العباسية وهما تتحادثان وتضحكان، وافترقتا في الطريق العام؛ فاتجهت الفتاة إلى اليسار، وسارت زوجي إلى المحطة، ولما كانت وقفتها بحيث يتجه وجهها صوب شارع القهوة الجانبي فقد تراجعت بالكرسي إلى الوراء منتحيًا عن مرمى بصرها، وتفحصت الطوار بعناية وقلبي يكاد يثب من موضعه من شدة الحفقان، فقد حدثتني نفسي بأنني سأتلقى الضربة القاصمة بعد لحظات. وكان على «طوار» المحطة شتيت من الرجال والنساء، ولكن زوجي انتبذت طرف الطوار البعيد ووقفت وقفتها المحتشمة لا تميل برأسها نحو أحد، وتنظر من آنٍ لآخر من وراء كتفها صوب الجهة التي يأتي منها الترام، لم أرَ ما يريبني، ولم تتحول عنها عيناي لحظةً واحدة حتى جاء الترام وصعدت إليه، وبارحت مكاني متعجلًا وناديت تاكسي وركبته، وطلبت من السائق أن يتبع الترام عن بعد. وجلست لصق النافذة اليسرى وعيناي إلى مقصورة السيدات، حتى بلغنا العتبة، ونزلت زوجي من الترام واخترقت الميدان إلى محطة الترام رقم ١٥ الذاهب عن طريق الروضة، فدرت بالتاكسي حتى وقف بي على كثب من قسم الموسكي، رأيتها تقف في زحمة من الخلق فجعل بصري يدور في الحلقة التي تحيط بها ويثبت عليها في سرعة وجنون. وجاء الترام فصعدت إليه، ومضى بها، فتبعتُه محطةً بعد محطة حتى طوى الطريق إلى محطة عمارتنا، ورأيتها تغادره وتعبر الطريق صوب البيت! وانطلق بي التاكسي محطةً أخرى، ثم غادرته وعدت إلى البيت مشيًا على الأقدام، وشعرت في طريق عودتي براحةٍ مشوبة بخجل، وتساءلت في حيرة: ترى هل فتاتي بريئة أم ينطوي الغد على ما لم أعثر به في يومي؟ ولما انتهيت إلى الشقة وجدت أمي قلقةً لتأخري، وكذلك «رباب»، فأخبرتهما بأن العمل يستدعي بقائي في الوزارة لهذه الساعة مدة أسبوع على الأقل. وحين الأصيل أخذت «رباب» في ارتداء ثيابها وقالت لي إنها ستزور أمها، ودعتني — كعادتها كلما خرجتْ — إلى مرافقتها، وتساءلت: كيف يمكنني مراقبتها في المساء؟ ليس الأمر سهلًا كما في الصباح، فالبيوت التي تتردد عليها في أحياء متقاربة، وهي تقصدها مشيًا على الأقدام، فيما ندر. فلا أستطيع أن آمن على نفسي — إذا تبعتها — من الافتضاح، ولكني إذا لزمتها في تجوالها أمنت المساء، ولم أدع لها فرصة لأمر، مما يضطرها إلى مقارفة الإثم — إن كان ثمة إثم — في نصف النهار الأول فتقع في شباكي من حيث لا تدري .. لذلك تقبلت دعوتها بسرور وقلت لها ضاحكًا: سأذهب معك تفاديًا من الملل الذي يقتلني في غيابك.
فسرت لقبولي دعوتها وقالت برجاء: ليتك تخرج معي دائمًا، فليس أحب إليَّ من أن نذهب ونجيء معًا!
٥٢
وفي صباح اليوم الثاني خرجنا معًا كعادتنا، وأعدت ما صنعت بالأمس، فاستقللت التاكسي إلى قهوة النوبيين واتخذت مجلسي بمدخلها، وجاءت رباب في موعد الأمس ومضت إلى الروضة، وخطر لي وأنا أتبعها عينيَّ أنه لو كان لها حساسية المرأة الغريبة — لم أذكرها منذ غادرت العباسية بالتاكسي أمس حتى وثب لذهني هذا الخاطر — فالتفتت صوبي ووقع بصرها عليَّ فدارت على عقبيها وجاءت إليَّ في دهشة تسألني عما أتى بي إلى هذه القهوة؟! تصورت هذا المنظر في فزع، فانكمشتُ في مجلسي هلعًا، وعضَّني الندم والألم، ولكن زوجي مالت إلى المدرسة آمنةً مطمئنةً، غافلةً عن العينين اللتين تراقبانها في حذر وارتياب، حتى غيبها الباب عن ناظريَّ، فذهب عني التوتر والخوف، وشعرت برهبة حيال الانتظار الذي كان عليَّ أن أعانيه في تصبر وتجلد نهارًا آخر. وألقيت نظرةً دائريةً ضجرةً على شارع القهوة الجانبي وما يبدو لي من شارع العباسية والقهوة بزبائنها السود؛ تلك الأماكن التي قُضي عليَّ بأن أمكث بينها كالسجين المجنون أتخبط في دياجير الأفكار وشوارد الأخيلة الجهنمية .. ولكنني كنت ذكرت المرأة الغريبة وأنا أراقب زوجي في ذهابها إلى المدرسة، فرفعت عينيَّ إلى العمارة على الجانب المواجه للقهوة، فرأيت النافذة والشرفة مغلقتَين، وتساءلت: كيف لي بتحمل الانتظار نهارًا كاملًا بلا تسلية أقتل بها الوقت؟ وكان تساؤلًا مريبًا أداري به رغبةً في رؤيتها كرهت الاعتراف بها، ولكن ماذا يدعوني إلى إنكار هذه الرغبة؟ وهل هي رغبة في التسلية وقتل الفراغ؟! أجل إن المرأة قد أهاجت في صدري انفعالًا جنسيًّا، ولكن ليس في هذا جديد، فقد كنت ولا زلت أتلقى هذه الانفعالات الجنسية من أقبح الآدميات، وأقذرهن، ولم يغير الزواج من حالي، ولم يشفني من دائي، فرُددتُ إلى عاداتي القديمة جميعًا، وعاودت النظر إلى النافذة مرةً أخرى، وكأني أعاني انتظارين! فلأحاول فهم نفسي أكثر من هذا، لست طالب تسلية فحسب، إني أرغب في رؤيتها مرةً أخرى، لتلتهمني بنظراتها كما فعلت بالأمس، فيعاودني ذاك الشعور العميق بالارتياح والزهو، وأستردُّ بعض الثقة المسلوبة، ولم أكد أستغرق في أفكاري حتى قرع أذنيَّ طقطقة النافذة، فرفعت عينيَّ، فرأيتها وهي تنفتح على مصراعَيها، ولاحت وراءها المرأة، والتقت عينانا، ولم تكن تتوقع رؤيتي بطبيعة الحال، فتجلَّت في عينَيها دهشةٌ واضحة، ولبثتْ دقيقةً أو نحوها وهي ترنو إليَّ، ثم تحولتْ عنها واختفت، وداخلني سرور لا يتناسب مع شقاء المهمة التي جئت من أجلها إلى هذا المكان، واتجه بصري صوب الشرفة المغلقة منتظرًا أن تفتح. وقد كان، فدفعت يدٌ مصراعَيها حتى اصطدما بعنف بالحائط على الجانبين، ثم دخلت المرأة تجر الكرسي بجسمها القصير المكتنز، وقد بدت لي في الروب الوردي كبرميل إلا أنه مفصل تفصيلًا بهيميًّا، ووضعت الكرسي في ركن الشرفة البعيد. وجلست عليه مستقبلةً القهوة بوجهها، ومدت ذراعَيها على حافة الشرفة الخشبي وجهًا لوجه، وليس بالشارع الجانبي دكان، ولا يكاد يمر به أحد إلا فيما ندر. وأما زبائن القهوة فعاكفون على ثرثرتهم في الداخل لا يرون شيئًا، ومائدتي بموضعها من المدخل وحيدة، فخلتنا منفردَين على نحوٍ ما. وشعرت في اللحظة التالية بالارتباك والحرج، ولم أدرِ كيف يمكنني البقاء هكذا تحت رحمة عينيها الوقحتَين، فتمنيت لو لم تحقق رغبتي الخفية. وجعلت أنظر إلى الطريق البعيد تارةً، أو أعطف بصري من فوق كتفي إلى داخل القهوة تارةً أخرى، شاعرًا في أثناء هذا وذاك بوقوع عينَيها الثقيلتين على وجهي. إني راغب في وجودها ما في هذا من شك، ولكني لم أحتمله، وما من مرة أسترق إليها نظرةً إلا وأجدها متفرِّسة في وجهي في هدوء وإمعان وبلا حياء أو تردد، وإن هذا ليملؤني سرورًا وخفةً؛ ولكنه يسومني ما لا طاقة لي به من خجل وارتباك. إن عينيها تنظران طويلًا ولكنهما لا تنظران فحسب، إنهما تتحدثان بأجلى لسان، كلما التقت عينانا خلتها تخاطبني فأغضُّ الطرف وكأني أفر فرارًا. ونظرت نحوها مرةً فوجدتها تشعل سيجارة، وأطفأت عود الثقاب بهزتَين، ثم رمت به نحوي لولا أن أرجعه الهواء، وأخذت نفسًا عميقًا وقد ابتسمت عيناها، فخفق قلبي بعنف وازدردت ريقي بصعوبة .. ماذا تريد هذه المرأة؟ .. كيف تواتيها الجرأة على هذا النظر العارم الوقح؟ بل كيف تطاردني هذه المطاردة الصامتة وهي لم تسبق لها بي معرفة، ولم ترني إلا مرة بالأمس ومرةً أخرى اليوم؟! واستحوذ عليَّ الاضطراب، وشغلت بالشرفة انشغالًا تامًّا، فلم أعد ألقي على باب الروضة إلا نظراتٍ سريعةً لا تكاد ترى شيئًا. ورأتني أنظر نحوها فوضعت رجلًا على رجل جاذبةً عينيَّ قهرًا إلى جانب عريض من فخذيها أحدث التقاؤهما واشتباكهما طيات سمراء مثيرةً؛ فشعرت بمثل سورة الخمر وجفَّ حلقي وطغت عواطفي على حيائي، فذاب كما يذوب الثلج تحت أشعة الشمس النارية، فحملقت فيها بلا خجل ولا تردد، وما لبثت أن نهضت قائمةً وغادرت الشرفة! تركتني في ثورةٍ جامحة. وقلت لنفسي ساخطًا: أية هاوية تنفغر تحت قدميَّ؟! ثم ثُبتُ إلى الهدوء رويدًا فأمضَّني الأسف والخجل وألقيت على الشرفة نظرةً غاضبةً وغمغمت كما غمغمت بالأمس: «لا أرجعها الله!» قد يكون الانتظار مؤلمًا ولكنه خير من هذا الشر الذي يتهددني. ولم يكن يساورني شك في أنها ستعود، وكان بوسعي أن أغادر القهوة إلى غير عودة، وأن أبحث عن مكانٍ جديد يصلح للمراقبة والانتظار، ولكني أقنعت نفسي بأن هذه القهوة المتوارية هي أصلح الأماكن قاطبةً لمهمتي. ولم تطل غيبة المرأة فعادت إلى مجلسها وفي عينيها نظرةٌ باسمة، وتملكني الغضب لا لعودتها ولكن للسرور الذي استخفَّني، وقلت: امرأةٌ وقحة ما رأيت أغلظ ولا أقبح منها، ولكني عدت أخالسها النظر وأتمنى لو تأخذ راحتها وتضع رجلًا على رجل. وعدت أتملى إيثارها لي بالنظر والاهتمام، فازدهاني عطفها وشعرت بنهم الجائع إلى الاستزادة منه، وهل كان هذا الاهتمام إلا لجمال وجهي ورشاقة قوامي؟! وقلت لنفسي في غرورٍ صبياني: لعلها معجبة بالأعين الخضر والبشرة البيضاء والقامة الفارعة. وعلى حين بغتة انسلَّ إلى خاطري صوت هامس يتساءل في سخرية: «وهل أغنى عنك جمالك شيئًا؟!» وتمثلت لعيني تعاستي الزوجية فكأن قطعةً كبيرة من الثلج وقعت على فورة حماسي فأخمدتها وخنقت أنفاسي. فترت نشوتي وحلَّ محلها شعورٌ بالغ بالشقاء والخيبة، وتناسيت الشرفة، وهرعت أفكاري إلى الروضة فتمنيت لو تنكشف لي الحقيقة مهما كانت بشعةً قاسية لأنتهي من الأمر كله. تمنيت — إذا لم يكن من الأمر بد — أن أرى صاحب الخطاب يلاقي رباب ويحادثها اليوم لا غدًا ولا بعد غد، بل كان في ذهني شيء آخر — في تلك اللحظة — لا أدري كيف أعبر عنه. كأنني تمنيت أن يصدق سوء ظني! لست مخطئًا، كان هذا هو الواقع، ولكن كيف أفسره؟! هل ثقل عليَّ الشك فرغبت أن أنجو منه ولو بهذا الثمن الفادح؟ أو ضقت بهذا العجز الغريب الذي جعل من حياتي الزوجية مهزلةً، فتمنيت أن أجد في جريمة زوجي مهربًا من حياتي؟! أو كان ضميري الرازح تحت وطأة الشعور بالإثم يلتمس عقابًا وتكفيرًا؟! على أنه لم يكن إلا إحساسًا عابرًا، ولم يبقَ منه أثر في اللحظة التالية، وغشيتني بعد ذلك كآبة وامتعاض. ولم تلبث المرأة أن غادرت الشرفة تلبيةً لنداء من الداخل، كما دلَّت عليه استجابتها فلم تعد للظهور. وانتظرت طويلًا تتناوبني الأفكار والأخيلة المفزعة حتى انطوى يوم الانتظار ورأيت رباب — كالأمس — قادمة نحو المحطة. ولم يجدَّ جديد فرجعنا؛ هي في الترام وأنا في التاكسي. وعند المساء اقترحت عليَّ أن نذهب معًا إلى سينما رويال فقبلت بلا تردد، وذهبنا معًا.
٥٣
وفي صباح اليوم الثالث حملني التاكسي إلى نفس الهدف، وذكرت في الطريق المرأة الغريبة فتمثلت لعيني بوجهها الغليظ وجسمها القصير المكتنز. ولم أكن أذكرها لأول مرة ذاك الصباح، فقد لاحت لخاطري في البيت وأنا آخذ زينتي أمام المرآة، فكانت داعيًا لمضاعفة العناية بتمشيط شعري وعقد رباط رقبتي، وتولاني إحساس بالخجل والذنب والقلق، وألقيت تبعة هذه الورطة على رباب وسوء تصرفها الذي ساقني إلى هذه المراقبة الحمقاء! ولكن هل أستطيع أن أتمنى عدم ظهورها في الشرفة صادقًا؟ هل يمكنني احتمال يوم الانتظار الطويل بغير وجودها، وبغير وقاحتها الممتعة؟ واتخذت مجلسي من القهوة فجاءني النادل ذو الجلباب الباهت، والطاقية المائلة إلى قذاله كاشفةً عن ذؤابةٍ متصلبة، والنعل المنجرد، وحيَّاني تحية لعله لا يلقيها إلا للزبائن القدماء، فطلبت القهوة التي أحسوها بتقزز واستكراه، وتساءلت ممتعضًا: ماذا وراء هذا التجسس المقيت؟! ألا يجمل بي أن أقلع عما أخذت نفسي به ظلمًا وسوء ظن؟ لقد عاشت زوجي يومين كاملَين في متناول بصري فهل وقفت منها على ما يريب؟! هل لاحظت عليها ضيقًا أو تبرمًا؟ أليس كالعهد بها صفاءً ومودةً وسعادةً؟! وطاب لي الفكر فداخلني شعور بالطمأنينة والارتياح، ومرَّ وقت فسارع إليَّ الملل، ونظرت في الساعة، ترى هل أستخبرها عما فات من زمن أم أسألها متى تفتح النافذة؟ ومهما يكن من أمر فقد فُتحت النافذة ولاحت وراءها المرأة بغلاظتها وتبرجها. اتسعت عيناها البارزتان دهشةً ورفعت حاجبَيها المزججَين كأنها تقول: «أما زلت ملازمًا مكانك!» ثم خفضت رأسها لتواري عن عيني ابتسامتها، وخفق قلبي خفقانًا سريعًا في سرور، وعاودني الخجل من نفسي فجعلت أقول لضميري بأنني لا أتطلع لإثم، وإن مثلي حقيق بأن يسر إذا ما وجد من امرأة اهتمامًا. أجل إني بريء، وما جئت هذه القهوة إلا لغرض لا شأن له بهذه المرأة، وسأنقطع بعد يوم أو يومين عن هذا الحي كله فلا أعود أذكرها بخير أو بشر. أما المرأة فقد اختفت من النافذة، ثم فتحت الشرفة ودخلت بكرسيها، وجلست في الركن المواجه لي، وفي عينَيها ابتسامة من لم يعد بحاجة إلى تعارف. بتُّ اليوم أقدر على احتمال هذا الموقف، ولكنني ما زلت أتظاهر بالنظر إلى الطريق العام مختلسًا من آن لآن نظرةً إلى الساقَين المدملجتَين خلال قضبان الشرفة الحديدية، ولم يفارقني الارتباك بل لعله تضاعف بهذه الابتسامة التي تلوح في عينَيها كلما التقت عينانا، يا لها من امرأة جسور، بوسعها أن تفعل ما تشاء بلا خوف! أما أنا فليس لديَّ إلا غض البصر! أيدور لها بخلد أنني متزوج؟ وأنني ما جئت إلى هذه القهوة إلا كي أضبط زوجي متلبسةً بجريمة الخيانة؟! ترى هل تبقى على اهتمامها بي إذا عرفت هذا كله؟ شعرت عند ذاك بخزيٍ أليم. ثم ساءلت نفسي عنها: من تكون؟ أهي زوجة أم أرملة؟! وماذا تريد؟! وحدث أن ارتفقتُ المنضدة بيساري وافترشت ظاهر يدي بذقني، فما كان منها إلا أن ارتفقت حافة الشرفة بيسراها وافترشت يدها بذقنها وهي ترنو إليَّ في دعابة! وتلقيت الدعابة بخجل جعلني لا أرى شيئًا، وأرسل قلبي ضرباتٍ عنيفةً طنت في أذني. إنها تغازلني صراحة، وأشعر بأن «الرجولة» تقضي بأن أخرج من هذا الجمود؛ ولكني لا أبدي حراكًا. واشتد بي الارتباك فبتُّ في حال يرثى لها، وسحبت يسراي، وشبكتها بيمناي على صدري، فما أسرع أن سحبت يدها وشبكتها بالأخرى على صدرها وقد ازدادت ابتسامتها اتساعًا. وغلبتني ابتسامة فابتسمت وأنا أطرق في خجل لا يوصف. وأطلقت هذه الابتسامة شحنةً حبيسةً من ارتباكي فسُرِّي عني قليلًا، واستطعت أن أحس بما يستخفني من سرور، وشعرت شعورًا قويًّا بالفارق بين عمرينا فلذَّني هذا الشعور، وتمنيت لو يتقهقر بي العمر إلى العشرين أو ما دونها. رباه .. إني أهوى بلا وازع، ولكني لم أعد أبالي شيئًا. ولاحت مني التفاتة إلى شارع كمال فصادفت عند ناصيته شبح فتاة تنعطف إلى اليسار فحال بيني وبينها جدار القهوة. خلتني رأيت معطفًا رصاصيًّا كمعطف رباب؛ فخفق قلبي خفقةً عنيفةً كاد ينخلع لها. ما الذي دعاها إلى مغادرة المدرسة في هذه اللحظة؟ وما الذي جعلها تتجه إلى اليسار على حين أن طريق المحطة إلى اليمين فيما لو فرض أن عذرًا دعاها للعودة؟ .. وانتفضت قائمًا وهرولت مسرعًا إلى الطريق العام بلا تبصر ولا احتراس، ثم نظرت صوب المنعطف الذي سارت إليه ذات المعطف الرصاصي، فرأيتها .. كانت امرأة في الخمسين تحثُّ الخطى على الطوار! وتنهدت من الأعماق وغمغمت كعادتي كلما نجوت من مأزق: «أعوذ بالله من الشيطان الرجيم». وعدت إلى مقعدي وبي ما يشبه الإعياء والخور. لن أنسى هذه الخفقة التي كاد يتصدع لها صدري، فماذا يكون أمري لو وقع المحذور؟! ورفعت رأسي صوب الشرفة فرأيت المرأة تحملق في وجهي دهشةً وعيناها تتساءلان عما حلَّ بي؟! وارتسمت على شفتيَّ ابتسامة! أجل أنساني الانزعاج خجلي فابتسمت. لم يعد يخفى ما بيننا من ابتسام وحديثٍ صامت يعبر تارةً بالعين وتارةً بالحاجب! ولم يعد يخفى عليَّ ما يعتلج في صدري من عاطفةٍ جهنمية. ولو كان ما بي حب لركبني الخوف وقدرت العواقب، ولكن بدا لي الأمر واضحًا لا لبس فيه، فلم تزايلني الثقة. ولبثت ساعةً أو أكثر أتلقى هذا الغزل في صمت وحياء وسرورٍ جنسي عجيب. ثم نهضت المرأة قائمةً وهي تتمطى، فانفرج الروب عن صدر ريان منتفخ يكاد يتهتك من ضغطه القميص الوردي الشفاف، ثم ألقت عليَّ نظرة وداع باسمةً، وغمزت بعينها قبل أن تغيب وراء الباب، تركتني في سعير التهمت ناره ساعات الانتظار الباقية. وفي ميعاد الانصراف غادرت رباب المدرسة واتجهت كالعادة إلى المحطة، وعدنا إلى البيت كلٌّ على طريقته. ولم نخرج مساء؛ إذ زارتنا أختي راضية وزوجها فقضينا سهرةً عائليةً ممتعةً.
٥٤
اليوم الرابع، قالت لي رباب ونحن ننتظر الترام على طوار المحطة: سأتأخر اليوم عن ميعاد عودتي لأني سأعود زميلةً مريضة تغيبت عن المدرسة من يومين.
وألقيت عليها نظرةً مريبة لو رأتها لساءت العاقبة. ثم خفضت بصري بسرعة، كاظمًا عواطفي، وسألتها بصوت ينم عن عدم الاكتراث: أين بيتها؟
– في مصر الجديدة.
– ومتى تعودين؟
– وقت الزيارة ومسافة الطريق .. لن أتأخر عن السابعة.
بدأت تتملص من ظلي الثقيل! واختلست منها نظرة فبدت لي جميلةً رائعة، ثم ركبتني نزوةٌ طارئة فتمنيت لو أهوي عليها بفأس فأشقها نصفَين. وجاء الترام فصعدنا إليه وأنا في أسوأ حال، وغادرته عند محطة الوزارة وناديت التاكسي، فطار بي إلى قهوة النوبيين. واستقبلت النافذة المغلقة بنظرةٍ طويلة، ثم عدت إلى أفكاري. تلك الزيارة في مصر الجديدة! لن أدعها تذهب وحدها. كان تصميمًا لا رجعة فيه، ولكن هل ينجح مسعاي؟ هبني تأثرتها إلى مصر الجديدة ثم رأيتها وهي تدخل بيتًا أو عمارة، فمن يدريني بما يقع وراء الجدران؟ قد تكون في عيادة زميلة حقًّا، وقد تكون في أحضان عشيق! وانتفضت انتفاضةً قاسية، وعضضت على أسناني حتى سمعت صريرها كالطقطقة. ولكني أبيت أن أثبط عزيمتي. لأتبعنها، فلعلي أراهما معًا في الطريق، ولعلي أجد ضبط الجريمة أيسر مما أتصور. ما أفظع هذا! ولكن ما أروحه لي كذلك! فإذا لم يكن من الكارثة بد فمن الرحمة أن تقع سريعًا. واستحوذ عليَّ القلق والجزع، وأيقنت أنني لن أستطيع مع اليوم صبرًا. ولاحت مني التفاتة إلى النافذة المغلقة فتعلق بها بصري فيما يشبه الاستغاثة، وتملكني إحساسٌ عنيف بالضغط الذي يهتصرني، وتلهفت نفسي على منفذ تتسرب منه بعض الأبخرة المزمجرة في أعماقها؛ أي تنفيس ولو جرَّ وراءه الإثم والخزي. وعند العاشرة فُتحت النافذة وطالعني الوجه الغليظ بابتسامةٍ مشرقة، وتحول انتباهي إليها فأنقذني من نفسي، وثبتت عيناي عليها في جرأة لا عهد لي بها، وانبسطت أساريري وأنا لا أدري فردت التحية بمثلها. واختفت من النافذة فسبقتها عيناي إلى الشرفة، ولكن طال الانتظار عن المعتاد، ثم بدت مرةً أخرى في النافذة، فإذا بها قد ارتدت معطفًا وأخذت أهبتها للخروج. وخطر لي خاطر كالبرق، هل تدعوني إلى مرافقتها إلى مكانٍ ما؟ وغمرتني موجة من السرور والحيرة والخوف. ما أحوجني إلى هذه الدعوة! ولكن هل أترك رباب في هذا اليوم الحاسم؟! إنه بالعمر كله، وإن مصيري معلق بمصر الجديدة، فكيف أقاوم دعوة المرأة إذا دعتني؟! وفرغت المرأة من زينتها، ثم وقفت تنظر إليَّ في هدوء وابتسام، ونظرت إلى شيء بين يديها فتتبعها بصري، فإذا بأناملها تطوي ورقةً صغيرة، ثم تثنيها من الطرفين، وتفحصت الطريق بنظرةٍ شاملة ثم رمت بها فسقطت على كثب من قدمي .. وتناولتها بعجلة وبسطتها وقد سطع منها شذا طيبٌ مخدر، فوجدت بها هذين السطرين: «انتظرني اليوم في تمام السابعة مساءً عند الجسر في نهاية خط الترام». وداخلني ارتياح إذ إنها منحتني مهلة عن غير قصد، ولكن ترى هل يسعني إنجاز الوعد إذا ارتبطت به؟ ألا يقع في مصر الجديدة ما يعوقني عنه؟ ولم أجد فسحة للتفكير والاختيار فقد حدجتني بنظرةٍ متسائلة وهزَّت رأسها مستفسرة، فلم أملك أن حنيت رأسي بالإيجاب. وابتسمت إليَّ ابتسامةً حلوة وحيتني بإيماءة من رأسها، ثم أغلقت النافذة، فأدركت أنها ذاهبة إلى زيارة أو نحوها. هكذا ارتبطت بالموعد مدفوعًا بضعفي الذي يجهل المقاومة، وإن كنت لا أدري أين أكون وقت أزوفه، وهكذا سقطت في نفس الخطيئة التي أتهم بها زوجي! أيخلق بي أن أُسرَّ بهذه الخطوة الجسور أم أندم عليها؟ وهل ينتهي اليوم بحب أو بمأساة؟ لشد ما كرهت الحياة في تلك اللحظة. واندمجت في تيار شعوري؛ ألوان من المشاعر المتناقضة من سرور إلى خوف، ومن أمل إلى يأس، ومن حماس إلى فتور، ثم علته موجةٌ طاغية من التلهف على المغامرة لواذًا من الهم الذي ينيخ عليَّ فيكاد يخرم بي الأرض. وطويت الورقة بعد أن تلوتها عشرات المرات، ثم دسستها في جيبي. وانفرد بي الانتظار حتى فتحت الروضة أبوابها ولاحت لي رباب قادمة من بعيد. هذه هي الساعة التي أتربص بها منذ أربعة أيام هي أشقى أيام حياتي. سأتبعها ما في ذلك شك، تاركًا الموعد للظروف وحدها. وتوقعت أن تميل إلى اليسار صوب محطة الترام الصاعد إلى مصر الجديدة، ولكنها عدلت إلى اليمين، إلى المحطة المعتادة التي تنتظر بها كل يوم! وأدركتُ لتوِّي أنها اختلقت قصة الزميلة المريضة لتنتحل عذرًا لغيابها، واضطرب صدري اضطرابًا لم أدرِ معه كيف أتمالك أنفاسي. هل آن لي أن أنتهي من هذا العذاب؟ ورمقتها بموقفها من الطوار بنظرةٍ نارية وأنا أعجب لهذا الاحتشام الزائف الذي يطوي في أعماقه شرًّا فظيعًا وفسقًا مخجلًا! ثم جاء دور المطاردة التي أرجو أن تكون مجدية هذه المرة، فصعدتْ إلى الترام، وناديتُ التاكسي، وجعلت ناظريَّ إلى مقصورتها لا تتحولان عنها، ترى أين تغادر الترام؟ أين تفعل فعلتها؟ لشد ما يكبر عليَّ أن أتصورها في أمثال هذه المواقف المريبة! ولئن تكذبني الحقيقة الواقعة وتكشف لي عن وجهها الشائه الذميم، فما يشبعني ويطفئ غِلِّي أن أدك رأسها بأحجار هذه المدينة الهائلة، ماذا يدفعها إلى هذا الانزلاق الآثم؛ هي التي تعف عن علاقة الزوجية المشروعة؟! أم أنها لا تبغيها إلا عوجًا؟! لشد ما مزقتني الحيرة، لشد ما عذبني الغضب والحقد، على أنني منيت نفسي بالراحة من هذا العذاب كله، والخلاص من هذه الحياة المرة الطافحة بالخيبة والشك. سينتهي كل شيء بعد دقائق معدودات، فلا يبقى داعٍ لأن أسأل نفسي: أهي بريئة أم مذنبة؟ ولا يسوقني وسواس لتجشم أهوال المراقبة والتجسس، وسيخلو البيت إلا من الوجوه القديمة الآمنة، والحياة الهادئة الوادعة. أجل وددت لو أحطم الرأس الذي حطم قلبي، ولكنني أضنَّ بنفسي عن أن تضيع بسبب امرأةٍ آثمة. كان غضبي قويًّا وحشيًّا، ولكن حبي السلامة كان أقوى وأعمق. ألم يكن غريبًا أن تدور أفكاري حول محور الخوف والسلامة حتى في تلك اللحظة المخيفة؟! وتراءت لي العتبة فتساءلت مرةً أخرى: أين تغادر الترام؟ ورأيتها في محطة الميدان شأنها كل يوم، فنزلت من التاكسي خوف أن أفقدها في الميدان المكتظ. ثم رأيتها تخترقه إلى المحطة الأخرى التي تنتظر بها عادة، فدرت مع محيط الميدان ووقفت عند جدار القسم. وما أحنقني إلا أن تقف في احتشامها المألوف هادئةً ساكنة كأنني لا أشتعل من أجلها نارًا .. واستبعدت أن تقابل أحدًا في هذه الزحمة، فتطلعت إلى رؤية الترام الذي تصعد إليه، وتتابعت المركبات بأرقامها المختلفة حتى جاء ترام الروضة فسارعتْ إليه واستكنت في مقصورة السيدات. وتولتني الدهشة، أيكون الأمر في حيِّنا؟! وهرعت إلى تاكسي وتبعت الترام. وجعل قلبي يدق في عنف، وتشتد ضرباته كلما مررنا بمحطة .. ثم دخلنا شارع قصر العيني، وقطعنا محطة وثانية وثالثة ورابعة حتى بلغنا محطة بيتنا، فما راعني إلا أن أراها تغادر الترام. ونظرت من نافذة التاكسي الخلفية فرأيتها تعبر الطريق وتدخل باب عمارتنا! وتوسدت مسند المقعد وأغمضت عينيَّ في إعياء وذهول. ماذا وراء هذا كله؟ هل فقدتُ عقلي؟ أما من نهاية لهذا العذاب؟ وعدت إلى البيت فوجدتها لم تكد تفرغ من ارتداء الروب بعد أن خلعت ملابسها، وبادرتها قائلًا في دهشة: حسبتك في زيارة زميلتك!
فافترَّ ثغرها عن ابتسامة وقالت: لم يكن بها إلا وعكةٌ خفيفة وقد عادت اليوم إلى عملها دون أن تجشم أحدًا مشقة عيادتها.
ترى هل تنتهي وساوسي جميعًا إلى قبضة من الريح؟ ولا أتمنى على الله من شيء إلا أن أسكن إليها في طمأنينة وسلام. وقالت لي وأنا أبدل ثيابي: دعتني خالتي بالتليفون إلى زيارتها مساء اليوم، وكلفتني أن أنوب عنها في دعوتك.
فقلت لها وأنا لا أدري ماذا أقول: إن شاء الله.
وأدركت في اللحظة التالية أنني تسرعت بإجابتي تلك؛ إذ ذكرت الموعد عند جسر العباسية. ولكن هل أروم حقًّا أن أذهب إليه؟! إني الآن بعيد عن النافذة والشرفة وتأثيرهما، أفلا أزال أفكر في المرأة تفكيرًا جديًّا؟ .. أي شيطان يُغرِّر بي؟! إن قلبي لحبيبتي دون سواها، فما بال نداء المرأة الغريبة قهارًا لا يقاوَم؟! وتفكرت طويلًا وما أزداد إلا استسلامًا للنداء الشيطاني، حتى لم يعد يحول بيني وبينه إلا ما أخذت به نفسي من ملازمة زوجي مساءً. ولكن أكانت تدعوني إلى زيارة خالتها لو كانت تضمر سوءًا؟! وعاودت التفكير في جهد لأنه ليس أشقَّ عليَّ من الاختيار بين أمرين. وترددت طويلًا قبل أن أقول: أوه لقد نسيت .. إني مرتبط بموعدٍ هام!
فتساءلت فيما يشبه الكدر: أتعني أنك لا تستطيع الذهاب معي؟!
فقلت وأنا أشعر بأن قدميَّ تنزلق إلى هاوية ما لها من قرار: اعتذري عني للست خالتك!
٥٥
بلغت جسر العباسية قبل الميعاد بدقائق .. كان الجو لطيفًا والظلام شاملًا، فاخترت موقفًا تحت مصباحٍ غازي .. ذهبت إلى الموعد بحال من القلق والتوتر ذكرتني بحالي يوم حملتني العربة إلى حانة شارع الألفي لأول مرة .. كل هذا من أجل امرأة لا جمال لها ولا رشاقة، يخجلني والله أن أظهر معها أمام الناس! ولما اقترب الميعاد ركبني الخوف الذي تناوبني كثيرًا في فترة الانتظار منذ العصر، ماذا يحدث لو تكرر وقوع المأساة؟ .. آ .. لا يزال أمامي متسع للهرب. ولكني لم أُبدِ حراكًا. إن هذه المرأة هي فرصتي الوحيدة لاسترداد الثقة الضائعة. وملكتني روحٌ مغامرة لا عهد لي بها قالت لي: جرِّب، لن تخسر شيئًا، وعلى أسوأ الفروض فلن تخسر شيئًا جديدًا .. واستيقظت من أفكاري على سيارةٍ متوسطة الحجم تقف أمامي بحذاء الطوار، ثم انخفض زجاج نافذتها الجانبية وبرز منه وجه المرأة الغريبة وهي تجلس أمام عجلة القيادة. ابتسمت إليَّ، ودعتني إلى الالتفاف حول السيارة لأجلس إلى جانبها من الباب الآخر، فأطعت في اضطراب، وفي أقل من ثانية كنت إلى جانبها، فجذبتُ الباب والتصقتُ به وأنا لا أكاد أشعر بما حولي من فرط الحياء. وأحسست بعينيها على خدي اليسرى، فلازمت النظر إلى الأمام، حتى ضحكت ملء فيها بصوت يعد إلى غلظة وجهها وجسمها رقيقًا وقالت بلهجة تنم عن التحريض: لم يعد من داعٍ للحياء!
وانطلقت بالسيارة في مهارة ويسر وهي تقول: لنذهب إلى طريق الأهرام!
اندفعت بسرعةٍ فائقة فولَّى قلبي خوفًا، وجعلتُ كلما اعتاقها عن الاندفاع زحام أو إشارة المرور أتنفس الصعداء .. والأعجب من هذا أنها خففت من سرعتها الجنونية حين تركت وراءها الطريق المزحومة. واسترددت أنفاسي، واسترقت إليها النظر، فرأيت جانبًا من وجهها الغليظ عن كثب، وذاك الصدر المكتنز، وتمثل لعيني صورة ساقها البرونزية المرتوية، وذكرت أن قيراطًا واحدًا يفصلها عن ساقي، فاضطرب دمي. وأدهشني هدوءها وطمأنينتها فكأنها تصاحب زوجها أو أخاها، لا رجلًا غريبًا لا يتمالك نفسه من الحياء والارتباك. سألتني دون أن تحول عينَيها عن الطريق: ماذا أدعوك؟
فقلت في اقتضاب: كامل رؤبة …
واكتفيت بذلك عن ذكر اللقب الذي كثيرًا ما يثير الضحك، فتمتمت قائلة: «عاشت الأسماء»، وشعرت بأنه ينبغي أن أسألها كذلك عن اسمها، وتخيرت عبارةً مناسبة، واستجمعت قواي للفظها، ولكنها لم تنتظر، وقالت ببساطة: ادعني عنايات إذا شئت.
وغمغمت في خجل: «عاشت الأسماء»، ولكنها لم تسمع إلا همسًا، والتفتت نحوي فجأة وقالت مبتسمة: يا له من حياء غريب! ألم تعلم بأن الحياء موضةٌ قديمة؟ وإن العذارى أنفسهن نبذنه بلا أسف؟ ففيم تستمسك به أنت؟
فندَّت عني ضحكةٌ مرتبكة ولم أنبس بكلمة، فاستطردت قائلة: ولكن دعنا من هذا الآن فالدواء الناجع لا ينفع إلا في حينه، وخبرني بالله عليك ما الذي دعاك إلى مخالطة النوبيين في تلك القهوة القذرة؟!
وتفكرتُ قليلًا متحيرًا حتى وجدت في الكذب منجًى فقلت: كنت يومًا راجعًا من مشوارٍ طويل، فلم أجد من مكان أستريح فيه إلا هذه القهوة.
– هذا عن أول يوم، وما قولك عن اليوم الثاني والثالث؟
وجاءني على البداهة جوابٌ حسن، فتغلبت على الحياء وقلت بصوتٍ منخفض: إنك المسئولة عن بقية الأيام!
فلحظتني ضاحكة وقالت بمكر: أحقًّا تقول أم أردت التهرب بالغزل؟
فغمغمت: بل قلت الحق.
فرمت بنظرها إلى الطريق في دلال وقالت: فلماذا إذن تلتصق بالباب مبتعدًا عني كأنك تكره لمسي!
وتولاني الاضطراب، ولم أدرِ ماذا أفعل، ثم قلت كالمعتذر: ولكننا في الطريق!
وأغرقت في الضحك ثم قالت: نحن في السيارة لا في الطريق؛ إلا أن الطريق نفسه لا يمنع أمثالنا من الالتصاق إذا شاءوا، لا تتوارَ وراء الأعذار الكاذبة، خبرني ما عمرك؟!
– في الثامنة والعشرين من عمري.
– يا للعار! .. وكم امرأةً عشقت؟
ولذتُ بالصمت شاعرًا بأنه لا قبل لي بها، وكأنها عجبت لصمتي فقالت بإنكار: أتريد أن تقول إنك لم تعشق امرأةً من قبلُ؟! وهل أنا أول امرأة في حياتك؟! قبلُ؟! هل أنا أول امرأة في حياتك؟ .. رباه وعيونك الخضر ألم تجذب أحدًا؟! لا شك أنني أدركتك وأنت مشرف على الغرق، فليجْزني الله على صنيعي خير الجزاء .. رباه من يصدق هذا؟ كيف تعيش؟ وماذا تصنع بحياتك؟
ولم أُحرْ جوابًا، وأثر فيَّ قولها تأثيرًا موجعًا لم تدرك كنهه. ولعلها قرأت في وجهي الارتباك فرحمتني بالصمت مليًّا. ثم سألتني عن عملي، فأجبتها بأنني موظف .. واستدركت قائلًا: إنني في إجازةٍ قصيرة. وساد الصمت مرةً أخرى، وفي أثناء ذلك تزحزحت قليلًا صوبي حتى مسَّ منكبها منكبي في رفق، فبعثت في قلبي المنكمش حياة ويقظة فتتابع وجيبه على خوفي وخجلي، ولما لازمت جمودي والتصاقي بالباب قالت باقتضاب وهي تكتم ضحكةً: مني خطوة ومنك خطوة. ألا زلت هيابًا؟!
ولاقى مني النداء نفسًا راغبة وقلبًا خائفًا، ولكن جالدت الخوف مجالدة وتزحزحت في حذر وإشفاق حتى مس جانبي — من أسفل الساق إلى أعلى المنكب — لحمًا طريًّا يتطاير منه عرف طيبٍ ساحر، ولبثت هنيهة متمليًا مسه اللذيذ وكل جوارحي تنتفض، حتى التفتت نحوي وشعرت بأنفاسها تتردد على خدي، وهمست في أذني: أما زلت هيابًا؟!
كلا، لقد أسكرتني العاطفة. وكانت أنفاسها لا تزال تتردد على خدي، فمال رأسها نحوي حتى غاص فمي في شفتيها الرابيتين، وسرعان ما حولت رأسها عني إلى الطريق أمامها، فأحطت خاصرتها الغليظة بيسراي وانهلت على جانب عنقها تقبيلًا. وانحرفت بالسيارة إلى جانب الطريق وهي تغمغم ضاحكةً: «رويدك!» ثم أوقفتها وهي تقول: لنسترح هنا قليلًا، فهذا مكان آمن.
وألقيت نظرة على الخارج فوجدتها اختارت موقفًا وسيطًا في المسافة بين مصباحَين من مصابيح الطريق، تشمله الظلمة ويكتنفه الخلاء من الجانبَين، وفيما عدا أزيز السيارات التي كانت تمر بنا مرور البرق كان الصمت عميقًا محيطًا، سألتها هامسًا: أليس ثمة خطر؟
فقالت وهي تلف عنقي بيمناها: إنه آمَنُ من بيتك؟
واستدارت في جلستها حتى مس منكبها المسند، وثنت ساقها اليمنى تحت فخذها اليسرى، فصرنا وجهًا لوجه، وانبرى لي صدرها العالي ينحسر عنه عنق الفستان، ومال وجهي نحو صدرها فتوسده في حنان وذهول، وأسكرتني رائحة جسمٍ آدمي أشهى من العرف الذكي، وسكنت إليه ما طاب لي السكون ويدها تعبث بشعر رأسي، ثم رفعت إليها وجهي والتهمت شفتيها، والتهمت شفتيَّ، وكأن كلينا يأكل صاحبه ويزدرده، وولَّى الخوف إذ لم يعد له مسوغ! وامتلأتُ حياةً وجنونًا وثقةً لا حدَّ لها، لا أدري كيف واتتني الثقة! كانت المرأة سيدة الموقف، فوجدت فيها المرشد الذي ضللته حياتي كلها، أعادت إليَّ الثقة والطمأنينة لأنها أخلتني من كل مسئولية وأخذتني بالهوادة والرفق، أدركت في تلك اللحظة — أكثر من أي وقت مضى — أن إلقاء أية تبعة عليَّ خليق بأن يفقدني نفسي، وأنني لا أجد هذه النفس المتهافتة إلا بين يدين ثابتتَين قويتَين. ذابت الدنيا في نشوةٍ جنونيةٍ ساحرة خرجت منها سكران بخمر الظفر والارتياح العميق. وشعرت من الأعماق رغبة إلى هذه المرأة ليست دون الرغبة إلى الحياة، بل هي الحياة نفسها والكرامة والرجولة والثقة والسعادة. افترَّ ثغري عن ابتسامة ظفر وسعادة، ورمقتها بنظرة امتنان لم تدرك عمقه وهيهات لها. إني بين يديها أتمرغ في التراب، ولكنه تراب طيبٍ حنون يجود بالثقة والسعادة. وأدركت أخطاء الحياة الماضية، وذكرت زوجي المحبوبة في حزن وقنوط أوشكا أن يقصفا بعمر الساعة الساحرة، ولم أتردد عن تحميلها تبعة تعاستي كلها .. هكذا بدا لي الأمر. على أن قلبي هفا إليها حتى في تلك اللحظة وفي ذلك المكان! أما المرأة فقد ضربت أنفي بأنملتها وسألتني: مبسوط؟
فقلت من قلبي: جدًّا.
وأخذت يسراي بين راحتيها ورنت إليَّ طويلًا ثم غمغمت: يا لك من طفل رائع!
فتضاحكتُ قائلًا في حياء: طفل في الحلقة الثالثة!
ولاحت في عينَيها نظرة جد واهتمام، وانتبهت إلى أصابعها وهي تتحسس خاتم الزواج، ثم ألقت عليه نظرةً ذاهلة وهتفت بي: أأنت متزوج؟! لم يدر لي هذا بخلد؟!
واستحوذ عليَّ الخوف ونظرت إليها صامتًا. وعادت تقهقه ضاحكة ثم قالت: كيف لم يخطر لي هذا على بال؟! ولكن كيف أصدق هذا؟! رباه .. لماذا جريت ورائي؟ … ألا تعجبك زوجك؟! يا لك من فاسق!
فخفقت عيناي في حيرة وارتباك ولم أنبس بكلمة، فسألتني باهتمام: ألا تحب زوجك؟
وضايقني السؤال، وترددت لحظة لا أدري ماذا أقول، ثم أرغمني حرج الموقف على أن أقول بصوت لا يكاد يسمع: إنها ست طيبة!
فقالت بعجلة: إني أسألك ألا تحبها؟!
وشعرت بأن الكذب ينقلب فضيلة في حضرة النساء، فقلت باستياء أخفيته بابتسامة: كلا!
فانبسطت أساريرها وسألت باهتمام: كم مضى على زواجك؟
فقلت وقد أهاجت سيرة الزواج أشجاني: قرابة عامَين!
– ألم تكن تحبها قبلُ؟
– كلا.
– زوجوك منها بغير سابق معرفة؟
– نعم.
فهتفت بغضب: يا له من إثم لا يغتفر! وهي ألا تحبك؟!
فقلت صادقًا لأول مرة: إنها لا تحب الحب!
واتسعت عيناها دهشة، وفتحت فاها — رأيت في جانب فمها سنتَين ذهبيتَين لأول مرة — وقالت: آه (بصوت ممطوط) .. فهمت كل شيء. توجد نساء على هذه الشاكلة، لم لا، ليس كل النساء بالكاملات.
وتبادلنا نظرةً طويلة في ابتسام وصمت، ثم سألتها ضاحكًا: وأنت، ألست متزوجة؟
فقالت وهي لا تحول عينيها عني: لست إلا أرملة، كان زوجي لواءً عظيمًا يدعى علي باشا سلام، تزوجني على كبر وتزوجته على صغر، ثم مات من بضع سنين فعدت إلى أمي نعيش معًا، والله وحده يعلم مع من أعيش غدًا!
جعلت تصفر بفمها وهي تبسم إليَّ، ثم تناولت حقيبتها واستخرجت منها فرشاة بودرة ومسحت على وجهها وعنقها وصففت خصلات شعرها المبعثرة، وراحت تلقي نظرة على وجهها في مرآةٍ صغيرةٍ مثبتة في جانب السيارة وهي تسألني: متى تنتهي إجازتك؟
– بعد أيامٍ قلائل.
فقالت بهدوء: سنلتقي كثيرًا، كل يوم إن أمكن، ولنا في السيارة متسع حتى نجد مكانًا صالحًا.
واستوت جالسة أمام عجلة القيادة، ولكني أمسكت بمعصمها، ثم أحطت عنقها بذراعي، وضحكتْ ضحكةً قصيرة، وضمتني إلى صدرها الرابي وهي تقول: لماذا تركتني أستعيد زينتي يا شاطر؟!
٥٦
عدت إلى البيت في تمام العاشرة، ولم أسائل نفسي عما إذا كنت قد أخطأت؛ لأن ما استرددته من السعادة والثقة كان فوق الخطأ والصواب، وكانت أمي قد نامت، أما رباب فقد جلست في الفراش تطالع مجلة. ما إن رأيت وجهها الصبيح حتى أشرق بروحي نورٌ بهيج وأحسست بأنني أنتقل من دنيا إلى دنيا أخرى. وآلمني تقزُّزٌ مفاجئ لما صنعت بنفسي، ولكنه لم يتمكن مني، فأنسانيه ذلك الحجاب الكثيف الذي يحول بيني وبين زوجي .. واستقبلتني بابتسامة وأبلغتني سلام خالتها وعتابها، ثم أخبرتني بأن عشائي جاهز على السفرة، فمضيت إليه والتهمته بنهم متعبٍ جائع. وعدت إلى مخدعنا وأنا أتساءل عما تفعل رباب لو علمت بذنبي؟! وأخبرتني بأنها دعيت إلى إعطاء درسٍ خاص لابنة قاضٍ كبير بالسنة الأولى الابتدائية، وسألتني عن رأيي. ومع أنني لم أقف منها على ما يريب إلا أنني لم أرتح للاقتراح، وقلت: حسبك ما تتجشمين من مشقة طول النهار!
فقالت بغير اكتراث: صدقت!
وسررت لموافقتها السريعة، وقلت لنفسي في شبة ندم: «هيهات أن أقع على شبه شك!» واضطجعت إلى جانبها، فنحت المجلة جانبًا، وأطفأت النور واضطجعت بسلام. كان النوم حريًّا بأن يسارع إلى جفنيَّ، لكن حالت دونه يقظةٌ غريبة في النفس، طار خيالي إلى عنايات، والسيارة في طريق الهرم، إني خائن! أعجب بها من حقيقة! فمن يصدق أن يتخذ الزوج العاجز عشيقة؟! تمنيت في تلك اللحظة لو تعلم زوجي بهذه الحقيقة العجيبة، على أنها لم تكن إلا لحظةً عابرةً، وسرعان ما تقبض قلبي خوفًا وخجلًا. لقد تعقبت زوجي وبي شك في خيانتها فعدت خائنًا لا شك فيه، أما هي فما وقفتُ منها على غير الاستقامة والاحتشام. كيف كان نصيبي منها العجز والإخفاق على حين أنني نعمت بين يدَي المرأة الغليظة بهذه السعادة الجنونية؟! لفَّتني حيرةٌ شديدة، تلهفت نفسي على بصيص من النور.
وزاد من حيرتي أنني شعرت شعورًا عميقًا بأنني لا غنى لي عنهما معًا. بل لم أجد سبيلًا إلى المفاضلة بينهما، فهذه روحي وتلك جسدي، وما عذابي إلا عذاب من لا يستطيع أن يزاوج بين روحه وجسده. ماذا تكون قيمة الدنيا بغير هذا الوجه الجميل المتسم بالطهر والكمال؟ ولكن ماذا يبقى لي من لذة ورجولة إذا فقدت المرأة الأخرى؟ وأغرقت في التفكير إغراقًا لم يدع للنوم سبيلًا إليَّ، ومضت تتراءى لعينيَّ رباب ثم عنايات، وانحرف الخيال بغتة إلى أمي بلا داعٍ، فاتخذتْ مكانها في شريط هذه الصور المتلاحقة! وتناهت بي الحيرة حتى شملتني حال من الحزن والكآبة!
بيد أن أحاسيس الليل قل أن تعيش في ضوء النهار؛ إنها في الليل تندمج في تيار لحنٍ غامض ينطلق في جوٍّ أثيري يكتنفه الضباب، فإذا طلع عليه النهار لم يبقَ منه إلا أصداءٌ خفيفة لا تمنعنا من أن نلتمس سبيلها في الحياة. جاء صباح اليوم الخامس فانطلقت كالعادة إلى العباسية، ترى أقتفي أثر رباب حقًّا، أم ألبي ذاك النداء المطاع؟ إن سيرة زوجي لا تدع مجالًا للشك، سرُّها كجهرها، فلا شك أنها صدقت فيما قالت عن الخطاب المشئوم، وإذا كان ثمة خائن فهو أنا.
وذهبت إلى قهوة النوبيين فما أوفقها رمزًا لحبي الجديد، وانتظرت حتى فتحت النافذة فتبادلنا التحية بابتسامةٍ لطيفة. وغابت برهة ثم بدت لي مرةً أخرى وقد أخذت أهبتها للخروج، وأشارت إليَّ إشارةً ذات معنى أن أنتظرها في مكان الأمس. لم أتوقع أن نتقابل صباحًا، بيد أنني لم أتردد فناديت النادل ودفعت له الحساب ومضيت من فوري إلى الجسر، وخيل إليَّ — في طريقي القصير — أنني أدركت حقيقة من حقائق الحياة، هي أنه لا توجد ثمة حركة بين الرجال إلا ووراءها امرأة! المرأة تلعب في حياتنا الدور الذي تلعبه قوة الجاذبية بين الأجرام والنجوم. فما من رجل «حي» إلا وفي خياله امرأة، حاضرة أو غائبة، ممكنة أو مستحيلة، محبة أو كارهة، مخلصة أو خائنة. وفهمت فهمًا جديدًا، كأنه لقوته بكرٌ جديد، معنى قولهم: إن الحب الحياة والحياة الحب. لم تكن حياة ثم كان حب؛ ولكن كان حب فكانت حياة. وأقسمت في تلك اللحظة ألا أعرض عن الحب ما حييت!
وجاءت السيارة فاتخذت مكاني كالأمس، وتساءلت المرأة ضاحكة: ما الذي جاء بك الآن؟ ألم يكن موعدنا المساء؟
فقلت مبتسمًا: أنت .. أنت السبب!
فابتسمت في سرور وقالت: يجب أن نلتزق بالغرا فلا ننفصل أبدًا!
وتصاعد أزيز المحرك ينذر بانطلاق السيارة فقلت برجاء: الدنيا نهار، فهلا عدلت عن الطرق المزدحمة!
– أتخاف أن يراك أحد؟
فقلت بخجل: نعم.
– آه: نسيت أنك متزوج! لا تؤاخذني يا حضرة الزوج، لنذهب إلى مصر الجديدة!
وانطلقت السيارة بالسرعة الجنونية، وسألتني في الطريقة قائلة: ماذا فعلت بزوجك الأمس؟
فقطبتُ وأنا لا أدري، ولم أحر جوابًا، فقالت: لهذا الحد لا تحب ذكرها؟
ثم تساءلت متجاهلة صمتي وارتباكي: ألا تنامان في فراشٍ واحد؟
وحاولت أن أغتصب ضحكة ولكني عجزت، وشعرت بامتعاض كدَّر عليَّ صفوي، فقهقهت ضاحكة وقالت: لشد ما أرغب في رؤيتها!
وأرادت أن تسري عني بطريقتها فداعبت شفتيَّ بأصبعها، وقالت محاكية الأم التي تداعب طفلها: كتكوتي!
ووقفت السيارة أمام مشرب شاي .. فجلسنا معًا نقلب الحديث ظهرًا لبطن في لذة وسرور. وأخبرتني أن اختيارها قد وقع على بيت الخياطة ليكون مهدًا لغرامنا. وعند الظهر غادرنا المكان، وقد أرادت أن تدفع الحساب ولكنني أبيت عليها ذلك، وافترقنا بعد أن تذاكرنا موعد المساء. وتكرر اللقاء .. ولما انتهت الإجازة بعد ذلك بيومين واصلنا لقاءنا في الأماسي، وأقنعتني التجربة الناجحة بأن الحب صحة وعافية. ولم يخفَ على أحد دأبي على السهر، ومع أن رباب كانت تفضل — على حد قولها — أن أمضي سهراتي معها في زياراتها التي لا تنقطع، إلا أنها تحاشت مضايقتي، فباشر كلانا حياته بالسبيل الذي يرضاه. ولم يخفَ ذلك عن أمي أيضًا، وقد قالت لي: لاحظت يا بني أنك لم تكن على حالك الطبيعية في هذه الأيام الأخيرة، وقد خفت أن أعلن لك ملاحظتي أن تغضب، فإذا وجدت في السهر راحة فاسهر، هكذا الرجال جميعًا!
٥٧
وانقضى شهر أو أكثر على حياةٍ سعيدة لا يشوب صفاءها كدر. حل السلام مكان الشك، وعادت علاقتي برباب إلى أصفى ما كانت عليه من الود الطاهر والحب البريء، أما من الناحية الأخرى فقد أسلمت نفسي لعنايات في حبٍّ مضطرب وسرورٍ ظافر. إنها امرأةٌ موفورة الثروة. وما من مرة نذهب إلى مهدنا المحبوب ببيت الخياطة إلا وتنفحها بريال وأحيانًا نصف جنيه، وأبت عليَّ كرامتي إلا أن أكون كريمًا كذلك، ولو في حدود طاقتي. وهيأت لي — وهي لا تدري — معاودة الشراب على حال لا تنقطع، فكانت الخياطة تحتفظ لنا بقوارير الويسكي والصودا دوامًا، بل أوشكت أن تعودني التدخين، وكان لها مزايا وأي مزايا؛ كانت كاملة الأنوثة والحيوية، فهي متعة للعشاق على كهولتها ودمامتها المحبوبة، بيد أنها كانت كذلك على استهتار وجسارة يقشعرُّ لهما البدن. عندها الحب كل شيء، وفي سبيله تستبيح أي شيء. ولعلها لم تكن من النوع الهلوك، ولعلها لم تكن إلا امرأةً هالعةً، تشعر دوامًا بإدبار الحياة الزاهرة، وذبول الشباب اليانع، فلا تطيق أن يمضي يوم بلا حب. وكان أعجب ما في حبي لها أنني فتنت منها بما هو حري أن يعد من النقائص في نظر الغير، بكهولتها ودمامتها وجسارتها، وكانت تملؤني ثقة لا حد لها، فلم أكن أحمل لشيء همًّا. ولولا ما كان ينتابني من قلق منشؤه ذلك الانفصال المخيف بين روحي وجسدي، لتمليت الحياة صفاءً خالصًا، على أنها كانت حياةً سعيدة.
وفي ذات يوم، وبعد فراغي من الغداء مباشرة، ذهبت إلى حجرة أمي لأشرب فنجانًا من القهوة وأجاذبها الحديث كعادتي كل يوم، وسرعان ما لاحظتُ أنها تردد في وجهي عينَيها الصافيتَين في قلق وتفكر، فتفرست في وجهها الذابل الذي فقد مرحه وسعادته، فأدركت لتوِّي أنها تريد أن تقول شيئًا، وداخلني القلق، ولكني قلت مبتسمًا: ماذا وراءكِ؟ هاتي ما عندك!
فلاح التردد في عينَيها لحظات ثم قالت: بالأمس سمعت أمورًا أدهشتني، فهلا خبرتني عما بين رباب والست والدتها؟
كل شيء توقعته إلا هذا، وغامت عيناي بسحب ذكرياتٍ سود، وتساءل قلبي الخافق: هل عادت المرأة إلى لجاجتها القديمة؟! ولم تكن رباب قد أخبرتني شيئًا عن زيارة أمها لها بالأمس إلا أن أقرأتني سلامها.
وعدت إلى أمي أقول لها بصوتٍ هادئ — أو جعلته هادئًا: ليس بينهما إلا كل خير.
فهزت أمي رأسها في ارتياب وقالت: لعله غابت عنك أشياء، أما أنا فلم أستطع استقبال نازلي هانم لأنني كنت متعبةً، ولما جاءت صباح لتخبرني بقدومها تصنعت النوم. وطالت الزيارة، فانسللت من الحجرة لقضاء حاجة، ودنوت من باب حجرة الاستقبال، فما راعني إلا أن أسمع الست وهي تقول في انفعال وغضب: «هذا شيء لا يحتمل!» فترد عليها رباب بعنف قائلة: «لا تتدخلي في شئوني!» فما ملكت أن تراجعت إلى حجرتي.
التهب جبيني حياءً، ثم ركبني الغضب، فشعرت بمقتٍ شديد نحو هذه المرأة الفضولية. واقتحمت أمي عليَّ أفكاري متسائلةً: ألم تعلم عنهما شيئًا؟
فقلت بحزم: لا شأن لنا بهما.
وعدت بعد ذلك إلى مخدعي فوجدت رباب مستلقيةً على المقعد الطويل، فلما رأتني ألصقت ساقيها بمسنده لتفسح لي مكانًا فجلست متفكرًا، كيف أخفت عني ذاك النزاع؟ هل أشفقت من إزعاجي؟ ولعلها لم تلحظ تغير حالي فراحت تقول لي إن اليوم الجمعة، وإنها تقترح عليَّ أن نذهب معًا إلى السينما، فتركتها تتحدث حتى انتهت فسألتها قائلًا: كيف حال والدتك؟
فأجابتني بأنها على ما يرام، فنظرتُ إلى عينيها وتساءلت: هل مرت زيارة الأمس بسلام؟
فلاحت في عينيها نظرة ارتباك وقالت: ماذا تعني؟
فقلت بحزن وكآبة: رباب، لا تخفي عني شيئًا. أعادت والدتك إلى ذاك الموضوع القديم؟
فلاذت بالصمت مليًّا وقد تجهم وجهها، ثم تساءلت بحدة: من أدراك بذلك؟ أريد أن أعرف كل شيء!
فأخبرتها بما قالت لي أمي، وكانت تصغي إليَّ باهتمام ثم انفجرت قائلةً: أمك .. أمك .. ودائمًا أمك!
ووخزني الألم الذي يحزُّ في نفسي كلما لاحت لي آي الكراهية المتبادلة بينهما، وقلت: لا داعي للغضب، لقد سمعتْ ما سمعتْ اتفاقًا، ونقلته إليَّ بقصدٍ حسن كما هو ظاهر. بالله لا تستسلمي للغضب، وخبريني هل عادت أمك إلى ذاك الموضوع القديم؟!
وسحبت ساقيها من ورائي، وألقتهما على الأرض، وأطرقت في تجهم وغيظ وقالت: الأمر الذي لم أشأ تعكير صفوك به أنها اقترحت عليَّ أن أعرض نفسي على طبيب ليرى أسباب عدم الحمل، فرفضت اقتراحها بطبيعة الحال فتشاجرنا! وواصلنا الحديث البغيض مليًّا حتى طلبت إليَّ أن أمسك، وأن أقيل طلبًا للراحة من تعب اليوم، فأذعنت لمشيئتها ومضيت إلى الفراش واستلقيت عليه محزونًا مكتئبًا. ومضى وقت ليس بالقصير قبل أن أغفو، ولا أدري كم غفوت، ولكني استيقظت على شيء أطار عن عينيَّ النوم. وفتحت عينيَّ في انزعاج، فسكَّت مسامعي ضوضاءُ آتية من الصالة، فأرهفت السمع، ولم ألبث أن أدركت أن رباب وأمي تتبادلان أقسى الكلمات في ضجة وصياح. وقفزت من الفراش في هلع ووثبت إلى الباب ثم مرقت منه إلى الصالة، فإذا برباب تصيح وقد تطاير الشرر من عينَيها: هذا تجسس لا يليق بسيدةٍ محترمة.
ووقع بصر أمي عليَّ فخفضت بصرها وهي تقول: لا يسعني أن أجاريك في قلة أدبك!
وهتفتُ برباب قائلًا: «رباب!» ولكنها تحامتني ورجعت إلى حجرتنا في غضب جنوني. ودارت أمي على عقبيها وسارت إلى حجرتها بخطواتٍ ثقيلة، فاتجهت نحوها صامتًا متألمًا. رأيتها تمسك بأكرة الباب ثم تقف دون أن تضغط عليها كأنها عدلت عن الدخول. ورأيتها تضع راحتها على جبينها، فخيَّل إليَّ أنها تنحني رويدًا، وأسرعت نحوها، فما كدت ألمسها حتى سقطت على يدي فتلقيتها بهما في رعب وفزع، وناديتها فلم تجب، وتدلى رأسها وذراعاها، وصرخت مناديًا صباح فجاءت تجري، فحملناها معًا وأنمناها على فراشها. وجئت بزجاجة كولونيا ورششت منها على وجهها وعنقها، ودلكت بها أطرافها، وجعلت أناديها بصوتٍ متهدجٍ مبحوح دون توقف، وغشيها الإغماء دقائق مررن بي كالساعات، ثم فتحت جفنَيها عن عينَين غائمتَين، فهتفت بها وأنا أزدرد ريقي: أماه!
فشخصت ببصرها إليَّ، وأشارت بيدها إلى قلبها دون أن تنبس بكلمة، وانطلقت مغادرًا الشقة إلى البدال في أسفل العمارة، وتلفنت إلى طبيبها أن يحضر، ثم صعدت إلى الشقة وجلست إلى جانبها في حال من الذعر والحزن لا توصف. لم تفارقها عيناي لحظةً واحدة حتى استلَّت نظرة عينَيها الغائمة دمعي الحبيس. شعرت بأنني أشقى إنسان في الوجود، وأُفعمتْ نفسي كآبةً وامتعاضًا. ثم جاء الطبيب وفحصها، وقال: إنها نوبةٌ قلبية تستلزم رقادًا طويلًا، وعنايةً كبيرةً! ووصف الدواء كالعادة. وكنت قد قصصت على الطبيب كيف أغمي عليها عقب شجار مع الخادم! فقال لي: إن الشجار سبب طارئ ولكن الداء قديم، وقضينا ليلة عبوسًا. أما رباب فقد توارت في حجرتنا في شقاءٍ بالغ وقد ناءت بثقل تبعتها، وما زالت تبكي حتى انفطر قلبها من البكاء، فلم يسعني إلا أن أطيب خاطرها وأربت على منكبها قائلًا: حسبك بكاءً، هذا قضاء الله، وربنا يجعل العواقب سليمة.
٥٨
وامتلأ البيت بالعواد، فزارتنا أسرة رباب وجمع من أقاربها، وجاءتنا أختي راضية وأسرتها، وعادت رباب المريضة وقبلت يدها واستوهبتها العفو بعينٍ باكية حتى رجوت أن نبدأ — بسبب هذا الحادث — حياةً جديدةً خالية من كدر القلوب. وتحيَّنت راضية فرصة خلو الحجرة من الأغراب وقالت لي: إني أستأذنك في أن آخذ أمي إلى بيتي حتى تسترد قواها؟
فهالني الاقتراح وقلت بارتياع: هذا مستحيل.
فابتسمت إليَّ متلطفةً واستطردت قائلةً: ألا ترى أنها تحتاج لخدمة وعناية في كل حين، فمن ذا الذي يقوم بخدمتها هنا؟ وأنت مشغول بعملك، وزوجك مشغولة بعملها، وصباح تقوم على خدمة المنزل، فإلى من تكل أمر أمِّنا؟
ولكني استفظعت اقتراحها، وثُرت على ما قدمت من حججٍ قوية، وقلت بإصرارٍ صادر من أعماق قلبي: لن يطول رقادها بإذن الله، ولن تحتاج إلى من يلازمها إلا في الأسبوع الأول كما قال لي الدكتور، ولأجدن خادمًا خاصةً تتوفر للعناية بها.
وحاولت راضية أن تثنيني عن إصراري ولكن لم تُجدِ محاولتها، وانتهى النقاش بأن قررت الإقامة في بيتي حتى أوفَّق لإيجاد خادم. وفي اليوم الثالث لمرض أمي حضر أخي مدحت — وكنت أخبرته بمرضها في خطابٍ مستعجل — وجاءت معه زوجه. وقد اشتدت وطأة المرض على أمي في الأيام الأولى لمرضها. لم تكن تبدي حراكًا، ولا تكاد تنبس بكلمة. كانت إذا فتحت عينَيها المتعبتَين لاحت فيهما نظرةٌ ذابلةٌ غائمة تقلبها بيننا في صمت وتسليم فتُمزِّق قلبي إربًا. ولم نكن نفارقها، وكانت إذا عاودتها يقظةٌ خفيفة تردد عينَيها بيننا، وترسم على شفتَيها الجافتين ابتسامةً، أو تبسط راحتها وترفع بصرها إلى أعلى وتغمغم داعية لنا بصوتٍ منخفضٍ وانٍ. ولكن لم تطل بها الغيبوبة، فتحسنت حالها قليلًا في نهاية الأسبوع الأول من الأزمة، واستطاعت أن تدرك بوضوح أن أبناءها جميعًا يحيطون بها، ولعلها رأتهم كذلك لأول مرة في حياتها. وقد جمعنا الفراش مرة فجلست راضية تنظر إلينا في صمتٍ طويل، ثم طفح وجهها بالبشر، وهمست بصوتٍ ضعيف: ما أسعدني بكم! الحمد لله والشكر له.
ولاحت في عينَيها نظرةٌ رقيقة تنمُّ عن الحنان والتأثر، ثم استدركت قائلة: إذا كان المرض يجمعنا هكذا، فكم أتمنى ألا يزول!
وبدت — على مرضها — سعيدةً، فانتقلت سعادتها إلى قلوبنا. الْتأمت أسرتنا التي قضى الله على عقدها بأن ينفرط منذ البداية؛ بتنا تحت سقفٍ واحد، وأكلنا وشربنا معًا، وانتظمت قلوبنا خفقةٌ واحدة. يا لها من أيام رددت أنفاسنا فيها الإشفاق والحنان والسعادة! بيد أنها كانت أيامًا قلائل. فقد تقدمت صحة أمي تقدمًا حسنًا، وزال الخطر عنها وإن حتَّم الطبيب عليها بألا تبرح الفراش شهرًا كاملًا على أقل تقدير. وعند ذاك ودعنا مدحت وعاد بأسرته إلى الفيوم واعدًا بالزيارة من آن لآن. وعادت راضية كذلك إلى بيتها — وكنت قد وفقت إلى اختيار خادم لأمي — على أن تعود أمَّها كل يوم. انفضَّ السامر، وتفرق الشمل، وعاد كل شيء إلى أصله. ولم يكد يمضي أسبوعان حتى أخذت أمي تسترد حيويتها ويقظتها، وأمكنها أن تجلس إلى الفراش مستندةً إلى وسادةٍ منكسرة. ولشد ما سرَّني أن تقوم رباب بواجبها نحو حماتها، ولن أنسى ما عانت من مرارة الألم والقهر في الأيام الأولى للمرض.
ولما عاودتنا الطمأنينة، ولم يعد أمام أمي إلا رقاد وإن يكن طويلًا إلا أنه مأمون، عدنا إلى سيرتنا المألوفة في الحياة؛ عادت رباب تروِّح عن نفسها بزياراتها المسائية، وانطلقتُ على سبيلي القديم، وقد استأذنتها في الخروج بضع ساعات ترويحًا عن النفس، فأذنت لي بحماس، وأفصحت لي عما كان يساورها من ألم لبقائي إلى جانبها كالسجين. وغادرتُ البيت متفكرًا، متسائلًا: ترى لو كنتُ أنا المريض أكانت تستأذن هي في مغادرة الحجرة ترويحًا عن النفس؟ وبدا لي منطق الحياة قاسيًا، ولكن لا حيلة لنا فيه!
وطرت إلى عنايات. وكانت تتلفن لي كل صباح بالوزارة، فبينت لها الأسباب التي حالت دون لقائنا. وعدنا كما كنا نلتقي في مهدنا فنسكر ونحب. كانت حياةً غريبة، وأخوف ما أخافه أن تكون الذاكرة قد خانتني ولو في القليل من تفاصيلها. أكنت سعيدًا حقًّا؟ كان قلبي موزعًا بين أمي وزوجي وعنايات، وبين الذكريات العميقة والهيام السامي والحب العارم. وحسبتُني قد آويت من زوابع الحياة إلى مرفأٍ هادئ، ولكن القلق القديم عاد يطرق بابي في حذر وتردد كأنما يمنعه الخجل من اقتحامه بلا سببٍ ظاهر. أجل كنت أمضي في طريقي، ثم أتوقف حينًا بعد حين في تردد كأنني أتساءل عن شيء أُنسيته، هل أجدُّ في السير، أم يحسن بي أن ألقي نظرةً إلى ما حولي؟ ثم يتبين لي أنه ليس ثمة ما يستوجب التردد فأمضي على وجهي.
ويومًا وجدت رباب على غير ما عهدتها من المرح والنشاط، فسألتها عما بها؟ فقالت لي: إنها قضت نهارًا متعبًا بالمدرسة، وأنها ترجح أن تكون مصابة بإنفلونزا، وعدلت ذلك المساء عن الخروج. وفي صباح اليوم التالي، وعقب استيقاظها بقليل تقيَّأت بغتةً، واستلقت في إعياء ووهن، فاقترحتُ عليها أن أستدعي لها الطبيب، ولكنها لم توافق قائلة: إنه بردٌ خفيف وستعالجه بغير معونة الطبيب. وجاءت أمها تزورها فلبثت النهار كله بحجرتها. على أن رباب أصرت في صباح اليوم الثالث على استئناف عملها وقالت لي إنها تشعر بأنها استردت صحتها تمامًا. ومضت بالفعل إلى الروضة على رغم نصحي لها بالبقاء في البيت يومًا أو يومَين آخرين. وعادت من الروضة في ميعادها فوجدتها أسوأ مما كانت في الصباح، ولكنها أصرَّت على أنها متمتعة بكامل صحتها، ولم تقنع بهذا فارتدت ملابسها وغادرت البيت يومًا أو يومين آخرين. وعادت من الروضة في ميعادها وكنت في بيت الخياطة، ولما عدت إلى البيت في منتصف الحادية عشرة لم أجد رباب في حجرتنا. وكأن صباح كانت تنتظر عودتي فجاءتني على عجل وقالت لي: ستبيت ست رباب عند والدتها، وقد أرسلوا الخادم لتخبرنا بذلك.
ووقع الخبر من نفسي موقع الدهشة والانزعاج، فسألت صباح قائلًا: وما الذي دعاها إلى ذلك؟
فقالت الجارية بلهجة تنمُّ عن الإشفاق: إنها بخير يا سيدي، ولقد زرتها ورأيتها بنفسي، إلا أن حرارتها مرتفعة قليلًا، فلم توافق الست الكبيرة على تعريضها للهواء، وأصرَّت على أن تبيت عندها حتى تنخفض الحرارة.
وغادرت الحجرة بلا تردد وأنا أقول في حنق: لقد حذرتها من هذا ورجوتها مرارًا ألا تبرح البيت.
وقابلتني في الصالة نفيسة (خادم أمي) وأخبرتني بأن أمي ترجو أن أذهب إليها، فمضيت إلى حجرتها فأفصحت لي عن أسفها وكلفتني بأن أحمل دعاءها إلى «رباب» فشكرت لها، وغادرت البيت حانقًا قلقًا.
٥٩
كان البيت نائمًا تشمله ظلمة إلا نورًا ينبعث من حجرة الأم، فقصدتها لا ألوي على شيء، ووجدت «رباب» مضطجعة في الفراش، والأم جالسة في فراش يقابله بالناحية الأخرى من الحجرة، فقابلتني بابتسامة، وانزلقت الأم من فراشها وأقبلت عليَّ وهي تقول: هذا ما قدرناه! قلنا سينزعج ويجيء من توه، والأمر لا يعدو أن يكون إنفلونزا.
واتجهت صوب فراش «رباب»، وتناولت يدها، وقلت لها معاتبًا: ألم أنصحك بعدم مبارحة البيت؟ ماذا بك؟ لماذا لم تعودي إلى بيتك؟
فابتسمت إليَّ وقالت وهي تشير بأصبعها إلى أمها: أردت أن أعود ولكن «ماما» لم توافق.
فابتدرتني نازلي هانم قائلة: إن حالها لا تدعو للقلق مطلقًا؛ بيد أن تعرضها للهواء أمرٌ شديد الخطورة.
فقلت بحزم: سأدعو الطبيب بلا إبطاء.
فقالت الأم: لم يفتنا هذا، والطبيب نفسه الذي نصح بعدم تعريضها للهواء، ليس في الأمر خطورة البتة، وستعود إلى بيتها بعد أسبوع أو عشرة أيام على الأكثر. وغُلبتُ على أمري فجلست على كنبةٍ وثيرة تتوسط الفراشَين، بيد أن هدوء الأم الظاهر انتقل إليَّ رويدًا، وجعلت الأم تقول: إن الإنفلونزا بسيطة في ذاتها؛ ولكن ينبغي أن نتقي نكستها.
فأصغيتُ إليها بغير وعي، على حين رنوت إلى محبوبتي بعينيَّ وروحي، وتطلعت إليَّ رباب مبتسمةً ابتسامةً فاترةً، يلوح في عينيها الإعياء وقد رانت على نظراتها العذبة اللامعة غشاوة. وساد الصمت حينًا، ثم تذكرت جبر بك فجأة فسألت عنه، فأجابتني الأم بأنه في رحلةٍ تفتيشية يعود منها في نهاية الأسبوع. ولما دقَّت الساعة منتصف الثانية عشرة استأذنت في الانصراف، وقبلت جبين زوجي، وغادرت البيت.
•••
وفي صباح اليوم التالي تركت البيت قبل ميعاد خروجي المعتاد بثلث ساعة، وكانت «صباح» قد استأذنتني في زيارة رباب، فعهدنا بشئون البيت إلى نفيسة، ومضيت من توي إلى بيت جبر بك، فقابلت على السلم محمد وروحية، فسلمت عليهما وسألتهما عن رباب، فأجابتني الأخت الصغيرة بأنها بخير. ودخلت الشقة وذهبت إلى الحجرة فوجدتها في الفراش، والأم جالسة على الكنبة، وردت تحيتي برقة وابتسام، ولكني رأيت في عينيها ذبولًا شديدًا كأنها لم تنم ساعةً واحدةً في ليلتها الماضية، وساورني القلق واستحوذ عليَّ الانقباض؛ ولكنني أخفيت ما قام بنفسي أن أخيفها، وقلت متعمدًا الكذب: أراك أحسن حالًا؟!
فقالت باستسلام أوجع قلبي: الحمد لله!
وجلست على طرف الكنبة قريبًا منها، وثبت على وجهها عينيَّ، كانت عاصبة وجهها بمنديلٍ بني، يبدو وجهها تحته شديد الشحوب، وتلوح في عينيها الذابلتين نظرةٌ ساهمة؛ فغشيتْ صدري كآبة، وضاقت بي الدنيا وبدا لي وجهها قبيحًا كالحًا، ولاحظت نازلي هانم كآبتي فقالت بدهشة: ألم تجرب وعكة البرد قبل اليوم؟ إنك تُدلِّلها يا سي كامل أكثر مما ينبغي!
وسرَّى عني قليلًا بأن التي تستهين بالحال هي أمها، ولو كان بزوجي ما يدعو للقلق لما ملكت الأم نفسها. وملت نحو الفراش قليلًا، ووضعت راحتي على خدها فوجدته ساخنًا، ولكنها ابتسمت إليَّ وقالت: إذا كان بي تعب فالمسئول عنه أرق ألمَّ بي الليلة الماضية، وسأسترد انتعاشي إذا ما نمت ولو ساعتَين.
فقلت لها برجاء: حاولي أن تنامي مهما كلفكِ الأمر!
ونظرت في عينَيها طويلًا، فرنت إليَّ دقيقة ثم خفضت عينَيها بلطف، ولم أجد بدًّا من الانصراف، فنهضت واعدًا بالزيارة عقب عودتي من الديوان، وذهبت.
بلغت الديوان بعد الثامنة بعشر دقائق، وعكفت على عملي، ولكن العمل لم يستطع أن يُغيبني عن نفسي، وعدت بفكري إلى رباب فتمثلت لي نظرة عينَيها الساهمة واستشعرت وحشةً لم أدرِ لها سببًا، وحاولت أن أفنى في العمل ولكني لم أفز بطائل، وغلبتني على أمري نفسي التي تخلق المخاوف من لا شيء؛ فاشتد بي القلق وجعلت أقول لنفسي: إن رباب عجزت عن العودة إلى بيتها، وهي تبدو مهزولةً متضعضعةً فكيف أطمئن؟! كيف أتركها؟! ولم يكن تهافت قلبي حيال أخف الملمات بجديد عليَّ، وطالما جافاني النوم لوعكةٍ خفيفة تنتاب أمي، فلعل ذلك الخوف كان أثرًا من هذا التهافت المقيم. أفظع بها من كآبة ثقيلة! إن قلبي ينقبض في خوف وألم، وكأنه يكاتم صرخة استغاثة تحاول أن تنطلق. لماذا أعذب نفسي بتجرع غصص انتظار لا موجب له؟ وعند ذاك طويت الأوراق واستأذنت في الانصراف معتذرًا بمرض زوجي. وغادرت الوزارة في منتصف العاشرة، فبلغت البيت قبل العاشرة بدقائق .. وكنت كلما اقتربت من البيت ازداد قلبي وحشةً، حتى دخلته فيما يشبه الهلع، ودققت الجرس، وفُتح الباب بعد قليل، ولشدَّ ما كانت دهشتي حين رأيت أمامي الدكتور أمين رضا، وكان هو الذي فتح الباب، وكانت الصالة الصغرى التي يفتح الباب عليها مغلقة الأبواب وليس بها سواه، ولم أكن رأيته منذ اجتماعنا في مأدبة الغداء بهذا البيت. ترى ما الذي جاء به في هذه الساعة المبكرة؟! وما الذي أبقاه وحده في هذه الصالة المغلقة؟ ومددت له يدي وأنا أقول: السلام عليكم!
فمد لي يده قائلًا: «وعليكم السلام.» وكأنني لاحظت أنه يحدجني بنظرةٍ غريبة من وراء عويناته، فقلت له: ألا تتفضل بالدخول؟
فتحول عني وهو يقول: إني منتظر في حجرة الاستقبال.
واتجه بالفعل نحو باب الحجرة، وفتحه ودخل، ومضيت إلى باب الصالة الكبرى وفتحته ودخلت، وسرت نحو حجرة نازلي هانم، ولكنني ما قطعت خطوتين حتى قرع أذني صوتٌ غريب لا أدرى كيف أصفه، أكان تنهدًا طويلًا؟ أكان صراخًا مكتومًا؟ ولكنه كان آتيًا بلا ريب من وراء باب الحجرة المغلقة؛ حجرة رباب! واندفعت نحو الباب، وأدرت الأكرة وفتحته، ودخلت خافق الفؤاد من الهلع، واتجه بصري إلى الفراش فرأيت رباب نائمةً، مغطاةً إلى عنقها، وقد التفَّ منديلها حول وجهها من قمة الرأس إلى أسفل الذقن مارًّا بالأذنين، كانت عيناها مغمضتَين، وبشرة وجهها شاحبةً باهتة يشوبها بياضٌ مخيف. لقد بعث الوجهُ المعصوب في نفسي ذكرياتٍ غامضةً لم أجد وقتًا لتوضيحها، ولكنه حرك رعبًا كامنًا في أعماقي، ثم تبين لي في اللحظة التالية أن نازلي هانم جالسة على طرف الكنبة دافنة وجهها في وسادة الفراش، مغرقة في نحيب موجع، وأن «صباح» واقفة عند أسفل الفراش تولول باكية، فلم تنتبه لدخولي!
رباه! .. هل حقًّا ماتت رباب؟!
٦٠
هتفت كالمجنون: خبَّراني ماذا حدث؟
والتفتت نحوي صباح وصاحت وهي تنشج: سيدي .. سيدي …
ورفعت المرأة وجهها في فزعٍ ظاهر، وحملقت في وجهي بعينَين محمرتَين، ولبثت لحظةً جامدة لا تتكلم ولا تبكي، كأن محضري كان عليها أشد من الموت، ثم شهقت وأفحمت في بالبكاء. رددت بصري بين المرأتين في ذهول، ثم استقر بصري على الوجه المعصوب. كيف أذعن لحكم هذا الواقع المخيف؟! ونازعني قلبي المتفتت إلى أن أرتمي على زوجي، وأن أبكي وأصرخ حتى أموت. بيد أني لم أُبدِ حراكًا، سمَّرتني قوةٌ غريبة في مكاني، وملأتني قسوةً وجنونًا .. واجتاحتني ثورةٌ عارمة تتحدى قوة الموت نفسه وبطش القضاء. أبيت أن أصدق عينيَّ، واستعصى عليَّ الاقتناع. ما معنى هذا؟ ولوَّحتُ بيدي للأم وسألتها بصوت كنت أسمعه لأول مرة: كيف؟ .. كيف؟
فبسطت ذراعَيها في قنوط وقد خنقتها العبرات، ولكن صباح أقبلت نحوي في حال من الهذيان مرعبة وصاحت بصوتٍ مبحوح: العملية المشئومة! .. لعن الله العملية.
وتحوَّلتُ إلى الجارية في ذهول وصحتُ بها: عملية؟ .. أية عملية؟!
وأدركت عند ذاك أنني أشم رائحةً غريبة، فأدرت بصري في الحجرة حتى وقع على خوان في ركن منها صُفَّت عليه أدواتٌ طبية وأوعية وزجاجات وقطن. اقتربت من الخوان وتفحَّصته بعينَين زائغتَين، متى جاءوا بهذا كله؟ ومتى استقر الرأي عليه؟ كيف حدث هذا؟ .. ونظرت إلى المرأة فوجدتها ترمق الجارية بنظرةٍ قاسيةٍ غريبة، فازداد ذهولي وحيرتي، ثم تحجَّر قلبي قسوةً وجنونًا، فألقيت عليها هذا السؤال بصوتٍ رهيب: أية عملية التي تتحدث عنها صباح؟
ونظرت المرأة إليَّ بارتياع وارتباك ثم قالت بصوتٍ مختنق بالعبرات: اشتد حال ابنتي فجأةً فاستدعيت الطبيب فأشار بإجراء عملية في الحال!
فسألتها وقد استحلتُ شخصًا جديدًا مخيفًا غير الشخص الذي عرفه العالم قرابة ثلاثين عامًا: في أي عضو؟
فقالت المرأة: قال الدكتور إنه البروتون!
وكنت أسمع الاسم لأول مرة، ولكني لم أبالِ ذلك، وسألت بالصوت الرهيب نفسه: هل أجرى العملية؟
فقالت وهي تبكي: نعم .. وانتهت بما ترى!
فضربت الأرض بقدمٍ حانقة وصحت بها: ولكني كنت هنا منذ ساعتين ولم يكن بها شيء! ألم تؤكدي لي أن الحال أبسط من أن أجزع لها؟!
فقالت بصوت تخنقه الدموع: اشتدت وطأة الألم فجأة! .. ما حيلتي؟! .. ما حيلتي؟!
فسألتها دون أن تأخذني بها رحمة: ومن عسى أن يكون الدكتور القاتل؟!
فرمقتني بنظرة كسيرة خلال دموعها وغمغمت: لقد بذل ما في وسعه، ولكن قضاء الله سبق!
– من عسى أن يكون؟
فصمتت لحظة كأنها تأخذ نفسها، ثم قالت: الدكتور أمين رضا!
فسرت في جسدي رعدةٌ شديدة، ورددت قولها في ذهول: «أمين رضا!»، ثم هتفت بها في غضب وازدراء: الدكتور أمين رضا؟! إنه شابٌّ مبتدئ! .. ثم إنه إخصائي في الأمراض التناسلية!
فتولاها الارتباك، وراحت تقول: إنه كان أقرب طبيب إليها، وإنها ظنت أن الطبيب يفهم الأمراض كافة مهما كان اختصاصه، وإن الوقت لم يكن يسمح بالتردد … إلخ إلخ. فانتظرت حتى انتهت وأنا أنتفض غضبًا وحنقًا، ثم انطلقت مني ضحكةٌ باردة كرنين النحاس وصحت: طبيب تناسلي ويجري عملية في البروتون! .. لا عجب إذا كنتم قتلتموها!
ودرت على عقبي واندفعت إلى الباب وصحت بصوت كالرعد: يا دكتور!
وكررت النداء، حتى جاء من أقصى البيت ممتقع الوجه، ودخل الحجرة في خشوع لا يوائم كبرياءه المعهود، فشعرت نحوه بحنق وكراهية تضيق عنهما الأرض، وبادرته قائلًا: أخبرتني الهانم أنك أجريت العملية التي قتلت زوجي، فهلا دللتني على ما جعلك تأخذ على عاتقك إجراء عمليةٍ جراحيةٍ خطيرة على رغم أن الجراحة ليست من اختصاصك؟!
وبدا في وجهه الانزعاج، وحدج نازلي هانم بنظرةٍ غريبة أعادت إلى مخيلتي نظرة المرأة إلى صباح فطفح بي الحنق، وداخلني شعورٌ غامض بأنهم يدارون عني أمرًا خطيرًا، وصحت به بوحشية: أجبني!
فالتفت نحوي مقطبًا، وصمت لحظة كأنما يشاور كبرياءه الضائع، ثم قال بصوت منخفض: كانت في حاجة إلى عملية عاجلة!
فقلت وأنا أضرب كفًّا بكف: لماذا لم تدعوني؟ .. لماذا لم تستدعوا طبيبًا جراحًا؟!
فقالت الأم بجزع: لم يكن في الوقت متسع!
فزعقت بها: ولكن كان فيه متسع لقتلها!
وحملقت المرأة في وجهي بجنون وجعلت تردد: «قتلها .. قتلها .. قتلها!». ثم انفجرت بغتة ففقدت صوابها، وانهالت على خديها لطمًا، وقد أرادت صباح أن تحول بين كفيها وخديها، ولكنها ضربت وجه الجارية بقبضة يدها ضربةً هائلة فتراجعت الجارية في فزع، ثم التفتت نحونا ممسكة عن اللطم وصرخت في وجهينا — أنا والطبيب — بصوت كالزئير: أنتما اللذان قتلتماها .. اغربا عن وجهي.
وانفلت الطبيب من الباب، ولبثت وحدي أحدجها بنظرةٍ قاسية لا تأبه لثورتها. «أنتما اللذان قتلتماها». إن المرأة تهذي، ولن تأخذني بها رحمة، ولن يهدأ خاطري حتى أعمل عملًا ترتج له القلوب .. إني حيال جريمة، إلا تكن جريمة فجهل وغباء، ولا بد أن يؤدى الثمن غاليًا. لقد تمخض خضوع العمر في عن ثورةٍ جائحة وغضبٍ ناري وشرٍّ مستطير. نسيت الجثة والحزن وتخايلت الشياطين لعينيَّ، لتنقضَّ الدواهي على رءوس المجرمين.
وكانت المرأة تُعوِل بصوتٍ مزعج، وصباح تنتحب انتحابًا متواصلًا، فتحولت عنهما بحركةٍ مفاجئة، وغادرت الحجرة لا ألوي على شيء، ثم مرقت إلى الخارج مهرولًا كأني أفرُّ فرارًا.
٦١
بدت الدنيا لعينيَّ حمراء قانيةً، وركبني عنادٌ جهنمي دفعني دفعًا لا قبل لي به إلى ارتكاب أي شر أُنفِّس به عن صدري. وكنت في شك من بلوغ أية نتيجة تشفي غليلي، ولكني لم أتردد لحظةً واحدة، وناديت تاكسي وأمرته أن يذهب بي إلى النيابة. ودخلت دار النيابة وليس في ذهني خطةٌ معينة أو تهمةٌ صريحة. وجدتني في زحمةٍ خانقة وصكَّت مسامعي ضوضاء غير مميزة كهدير البحر، فلبثت حائرًا لحظات حتى رأيت شرطيًّا فتقدمت منه وسألته أن يدلني على حجرة وكيل النائب، فقال لي بخشونة: «في الطابق الثاني.» فارتقيت السلم واسترشدت بموظف إليها، ثم استأذنت ودخلت. رأيت مكتبًا في مواجهة الداخل جلس وراءه شابٌّ قصيرٌ نحيل، مكبًّا على أوراق بين يديه، فرفع رأسه حين دخولي، وتفحصني بنظرةٍ ثاقبة، ثم سألني: ماذا تريد؟
صدمني هذا السؤال البسيط فاستحال عقلي خواءً، ووقفت ذاهلًا كأنني لا أدري على وجه التحديد لماذا جئت. ولاح التساؤل على وجه الشاب فأعاد سؤاله قائلًا: ماذا تريد؟
ينبغي أن أتكلم مهما كلفني الأمر، فقلت تاركًا مقودي للساني: زوجي .. (كدت أقول قتلت؛ ولكني عدلت عن ذلك خوفًا) .. ماتت!
فقطب الوكيل فيما يشبه الدهشة وقال: وما شأن النيابة في ذلك؟! ولكن من حضرتك؟
وتنفست تنفسًا عميقًا، ووجدت رهبة الخوف تزايلني، وعرفته بنفسي ثم قلت: إليك قصتي يا سعادة الوكيل: تركت زوجي متوعكة في بيت أمها صباح اليوم، وعدت إلى البيت بعد مغادرتي إياه بساعتين فوجدتها ميتة، وقالوا لي: إن وطأة التعب اشتدت عليها فجأة فاستدعوا طبيبًا قريبًا من أقرباء أمها، فرأى أن حالها تتطلب إجراء عمليةٍ عاجلة فقام بها وماتت على الأثر!
وازدردت ريقي وأنا أرمق الرجل بنظرةٍ طويلة، ولما وجدته غير قانع بما سمع استطردت قائلًا: الواقع أن هذا الطبيب إخصائي في الأمراض التناسلية، فهل يجوز أن يجري عمليةً جراحيةً؟ وإذا انتهت هذه العملية بالوفاة ألا يعد مسئولًا عنها فيجب أن ينال جزاءه؟!
فصمت الرجل لحظةً ثم سألني: هل نقلت إلى مستشفى؟
– كلا .. أجريت العملية في البيت حيث ترقد ميتةً للآن.
– من الذي استدعى الطبيب؟
– حماتي.
– وكيف استدعت طبيبًا تناسليًّا لا شأن له بمرض زوجك؟
– لقد سألتها نفس السؤال فقالت لي إنه أقرب الأطباء إليها، وإنها تظن أن الطبيب مهما كان اختصاصه، فهو يفهم الأمراض جميعًا!
– وهل هو الذي أشار بإجراء العملية؟
– نعم.
– وهو الذي أجراها؟
– نعم! وقد سألته كيف يجري عملية جراحية على حين أنه ليس جراحًا؟ فقال لي: إن الحال كانت تستدعي عمليةً عاجلة!
فتفكر الرجل مليًّا، ثم سألني: هل تتهم هذا الطبيب اتهامًا معينًا؟
فلم أفهم ما يعنيه، ورنوت إليه في حيرة دون أن أنبس بكلمة، فسألني: هل لديك من الأسباب ما يحملك على اتهامه بقتلها عمدًا؟
فخفق قلبي، وهززت رأسي سلبًا، فقال متسائلًا: هل تشك في حدوث خطأ أثناء العملية أدى إلى الوفاة؟
– هذا جائز جدًّا يا سعادة البك، ولن يكون مجرد خطأ، ولكنه خطأ رجل ليس له خبرة بالجراحة، فمسئوليته لا شك فيها.
فعاود التفكير مرةً أخرى ثم قال: لا أستطيع أن أفضي برأي قبل أن يفحص الطبيب الشرعي الجثة، ويوضح أسباب الوفاة.
فاستحوذ عليَّ خوف وكآبة، ولم أطق تصور عبث الطبيب بالجثة، وفاض بي الألم فقلت: هلا استدعيت الطبيب للتحقيق معه أولًا؟
فلم يحفل باعتراضي، وأمسك بسماعة التليفون وطلب رقمًا، ثم سمعته يحادث الطبيب الشرعي، ثم سألني عن عنوان البيت، وطلب إليه أن ينتقل إليه ليفحص الجثة ويكتب تقريرًا عن سبب الوفاة، وأنهى الحديث ثم التفت نحوي قائلًا: إذا كان ثمة مسئولية جنائية فسأذهب للتحقيق.
وغادرت دار النيابة بعد إتمام الإجراءات الرسمية وقد فقدت تهوري، فاستشعرت خطورة ما أقدمتُ عليه. ليس الأمر لعبًا، إنه نيابة وطبيبٌ شرعي وبوليس وفضيحة وقيل وقال، وقد يتمخض التحقيق عن لا شيء فلا يبقى لنا إلا الفضيحة والقيل والقال، بأي وجه ألقى الناس بعد ذلك؟ كيف ألقى أهلها وأهلي والناس جميعًا؟! وألم يكفِ زوجي ما قدر لها من مصيرٍ تعيس حتى أجعلها معرضًا للأطباء الشرعيين ومضغةً للأفواه؟ واحر قلباه! هكذا عدت صوب البيت مثقل النفس بالهم والفكر، ولما طالعتني العمارة توقفت مترددًا وقد أهاب بي نداء أن أنكص هاربًا! ولكن لم يكن لي مهرب، ولم يكن بد من أن أتجرع مرارة الكأس حتى الثمالة!
ودققت الجرس، ثم دخلت واجمًا مستخذيًا.
٦٢
كانت الأبواب مغلقة إلا باب حجرة الاستقبال كان مواربًا، ولم يكن بالبيت أثر من الضجة التي تشمل البيوت حين الموت، فتولتني دهشة عفت على اضطراب نفسي. لقد جاوزت الساعة الحادية عشرة فكيف لم يطيروا الخبر المفجع إلى بيوت الأهل والأقارب! وعاودني شعور بالارتياب والحنق.
فنظرت إلى الخادم الصغيرة التي فتحت لي — وكانت ملتهبة العينين من البكاء — وسألتها: ألم يحضر أحد؟
فهزَّت رأسها سلبًا في صمت وحزن، فأشرت إلى باب حجرة الاستقبال الموارب وسألتها: هل ثمة أحد هنا؟
فغمغمت قائلةً: «الدكتور أمين.» فانتفض جسمي غضبًا ومقتًا. ثم مضت الخادم إلى باب الصالة الكبيرة فدفعته ودخلت وذهبت إلى الحجرة التي ترقد فيها رباب في أقصى البيت. لبثت وحيدًا في الصالة الصغرى لا أدري ماذا أنا فاعل. تنتابني مشاعر الرهبة بما أقدمت عليه وأحاسيس الغضب والمقت التي يثيرها في نفسي الجو المحيط بي. ثم سمعت وقع أقدامٍ آتية من الداخل، وظهرت من باب الصالة الكبيرة نازلي هانم مكللةً في السواد، فألقت عليَّ نظرةً باردةً وسألتني بانفعال قائلةً: أين كنت يا سيدي؟
فاستثار منظرها وسؤالها خوفي وشعور الخزي الذي ركبني منذ فارقت دار النيابة، ولم أعد أطيق حبس السر الرهيب في صدري. نازعتني نفسي إلى الاعتراف، وإلى لقاء الخطر وجهًا لوجه، فقلت بهدوء: ذهبت إلى النيابة وطلبت إجراء التحقيق!
فاتسعت حدقتاها وفغرت فاها، وجعلت تحملق في وجهي كأنها لا تصدق ما سمعت أذناها، ثم غمغمت بذهول: النيابة!
فقلت بهدوءٍ رهيب، وبصوتٍ مرتفع لأسمع من في حجرة الاستقبال: أجل ذهبت إلى النيابة وسيجيء الطبيب الشرعي إلى هنا عما قليل.
وسرعان ما بدا الدكتور خارجًا من الثوى، فوقف غير بعيد ممتقع اللون ساهم الطرف، وعادت المرأة الذاهلة تسأل: وأية تهمة وجهتها إلينا؟
فقلت وأنا أتملى الحقد والتشفي بوحشية: ليس ثمة تهمة، ولكن أجزم بوجود خطأٍ خطير نجمت عنه الوفاة؛ خطأ خليق بأن يقع فيه من ليس له خبرة بالجراحة وهو يتصدى للعبث بأرواح العباد!
وساد صمتٌ متوترٌ أليم تلاقت فيه الأعين وافترقت. ثم شهقت المرأة شهقةً عصبيةً وهتفت بي: كيف هان عليك أن تسلم جثة زوجك للنيابة؟
ووخزني ألمٌ عميق فكادت تنهار قواي؛ ولكني غطيت على الألم بغضبٍ مفتعل وصحت بعنف قائلًا: يهوِّن عليَّ ذلك ألا تضيع حياتها هدرًا!
وفغر الطبيب فاه ليقول شيئًا؛ ولكن الجرس دق بقوة هلعت لها القلوب، فمضيت إلى الباب وفتحته، فبدا شرطي ابتدرني قائلًا: هل توجد في هذه الشقة المرحومة حرم كامل أفندي رؤبة الموظف بالحربية؟
فأجبته بالإيجاب، فتنحى الرجل جانبًا وهو يقول: «سعادة الطبيب الشرعي!» ودخل رجل ربعة يحمل حقيبةً طبية، وتبعه الشرطي على الأثر، وصادف الطبيب الشرعي الدكتور أمين في مواجهته فسأله: هل حضرتك الزوج الذي بلغ النيابة؟
فقلت له وأنا أغلق الباب: أنا الزوج يا بك، وهذا هو الدكتور الذي أجرى العملية.
وردد الطبيب عينيه بيننا في دهشة، وجرت على شفتيه ابتسامةٌ خفيفة، ثم سأل الدكتور أمين قائلًا: أي عملية كانت؟
فقال الدكتور أمين بصوتٍ منخفض: عملية في البروتون!
– وما سبب الوفاة؟
– حدث ثقب في البروتون نتيجة خطأ خارج عن إرادتي.
وقلت عند ذاك في انفعالٍ شديد موجهًا خطابي للطبيب الشرعي: اسأله يا سعادة الطبيب عما جعله يجري عملية جراحية وهو ليس جراحًا!
فتردد الرجل لحظات ثم قال بصوتٍ مرتفع: لقد جئت لمهمةٍ أخرى. أين الجثة من فضلكم؟
وكانت نازلي هانم واقفةً بمكانها على كثب من باب الصالة الكبرى تردد عينيها المحمرَّتَين في وجوهنا في صمت وذهول، فلما أن سمعت الطبيب يسأل عن مكان الجثة ندت عنها آهة وهتفت بلا وعي قائلة: هذا لن يكون أبدًا!
فرمقها الطبيب بنظرةٍ سريعة ثم قال لها برقَّة: تجملي بالصبر يا سيدتي!
وألقت عليَّ المرأة نظرةً مشتعلةً بالغضب، ثم عادت إلى الطبيب تقول برجاء: إن المتوفاة كريمة رجل من كبار موظفي الدولة، جبر بك السيد، كبير مفتشي الوجه البحري، لعلك تعرفه يا سيدي، فارحم ضعف امرأة مثلي وانتظر عودته، لقد أبرقت له بالفاجعة.
فقال الطبيب برقة: ينبغي فحص الجثة بلا إبطاء حتى يمكن التصريح بدفنها في الوقت المناسب، لا تفزعي يا سيدتي فسينتهي كل شيء في دقائق.
وارتمت المرأة على مقعد مغلوبة على أمرها وراحت تنشج باكية، على حين سرت أنا بين يدي الطبيب إلى حجرة رباب! ولما بلغتُ الباب جاءني نحيب صباح من الداخل، فدفعت الباب وناديتها دون أن تواتيني الشجاعة على النظر صوب الفراش، ولبَّت الجارية ندائي فنحيتها جانبًا موسعًا للطبيب الذي دخل الحجرة بلا تردد، ثم رددت الباب وراءه، وسألتني الجارية عن الرجل الذي جئت به، فنهرتها في جزع ودفعتها خارج الصالة. ورحت أذرع المكان جيئةً وذهابًا في اضطراب شمل أعصابي جميعًا، ورانت على صدري كآبةٌ قاتلة، فتصورت جثة زوجي الحبيبة بين يدي هذا الطبيب الغريب، ينزع عنها الأستار، ويعبث بها في برود لا يعرف الرحمة.
لقد ندَّ عني أنينٌ موجع، وشعرت بألمٍ حاد يمزق قلبي إربًا، ومرت بي لحظات ذهول فخيل إليَّ أني فريسة كابوسٍ شيطاني، وتلفتُّ فيما حولي كأنما أتلمس منفذًا للنجاة. ولكن هل نسيت الوجه الشاحب المعصوب يجثم على جبينه شبح الموت الرهيب؟ رباه .. إني أثوب إلى نفسي رويدًا رويدًا، تاركًا دنيا الجنون الذي ركبني إلى عالم الفجيعة الواقع، تمثلت لي الحقيقة المروعة في شيء من الهدوء المحزن، فكأنني أدرك لأول مرة أن رباب قد ماتت حقًّا .. لم تعد من الأحياء. وخَلتْ منها حياتي إلى الأبد .. لن تعود إلى بيتي كما قالت أمها، ولن أصحبها صباحًا إلى الترام، ولن أستقبلها مساءً عقب عودتها من المدرسة وهي تغالب التعب بابتسامة حلوة .. انتهى الشباب الريان، وانطفأ الحب الباهر، وصوحت آمال وآمال، أين مني ذاك التاريخ السعيد الذي بدأ على طوار المحطة، فنسج ذكرياته من مادة الحب الأثيرية، وطاف بي في وديان السعادة، ثم خلقني خلقًا جديدًا، أين مني هذا التاريخ الساحر؟ هل انتهى حقًّا في دقيقة من الزمان بخطأ طبيبٍ أحمق؟ .. وما ذنبي أنا؟ .. الموت كارثةٌ فظيعة بيد أنه غير مقنع! .. ألم أكن أحدثها منذ ساعتَين؟ ألم تكن كالوردة اليانعة منذ يوم أو يومين؟ فكيف أصدق أنها صارت وأولَ ميت منذ ملايين السنين سواءً. ثم إنها حية في نفسي، إني أراها رؤية العين، وأسمعها! وألمسها، وأشمها، إنها ملء النفس والقلب، فهل من سبيل إلى إصلاح خطأٍ بسيط؟!
وحدثت حركة — لا أدري إن كانت جاءت من الصالة الخارجية أو من الحجرة المحزونة — ولكنها أعادتني إلى وعيي، فعلق خاطري بالطبيب وما يفعله. عاودني اضطرابي وقلقي ومخاوفي، ماذا أفعل لو لم يعثر الطبيب بشيء ذي بال؟ كيف ألقى القوم فيما بعدُ؟ لشدَّ ما تمنيت أن ينزل الله عقابه بالقاتل؟ بيد أنني لبثت على حال من الاضطراب لم تترك لي سبيلًا إلى نفسي أو عقلي. وطال الزمن واستطال حتى خيل إليَّ أني شخت وهرمت وأني أموت. ثم فتح باب الحجرة ولاح وراءه الطبيب بوجهٍ جامد لا يبين عن شيء، وتقدم خطوات فصار في منتصف الصالة، فوقفت حياله فاغر الفم شاخص البصر، ومسح بأنامله على جبينه ثم قال بنبراتٍ واضحة: لقد انتهيت من كتابة تقريري، وسأحوله إلى النيابة في الحال، وأظنه يستوجب تحقيقًا عاجلًا!
٦٣
كان ينبغي أن أشعر بارتياح وتشفٍّ، ولكن خارت قواي فجأة فارتميت على أقرب مقعد ومددت ساقيَّ واستسلمت لما يشبه النوم. ولم يحدث في فترة الانتظار التي أعقبت خروج الطبيب إلا اندفاع نازلي هانم وصباح إلى حجرة المتوفاة، وتصاعد النواح والبكاء، ولاحت مني نظرة إلى الصالة الصغرى فرأيت الدكتور أمين رضا يذرعها في بطء وتثاقل، وقد جلس الشرطي على كرسي عند باب حجرة الاستقبال.
وعند منتصف الساعة الواحدة دق الجرس، فنهض الشرطي وفتح الباب، ودخل وكيل النائب يتبعه كاتب وشرطي، وخفق قلبي في ارتياع لرؤية رجال الحكومة، ونهضت قائمًا واتجهت صوب الرجل، ثم رفعت يدي بالتحية. وسأل وكيل النائب عن حجرة المتوفاة، ثم مضى إليها توًّا يتبعه الكاتب، ولم أجد الشجاعة للحاق بهما، فانتظرت خارجًا. ولم يطل غيابهما فعادا مرةً أخرى، ونظر الرجل فيما حوله ثم سار إلى حجرة الاستقبال وأنا في أثره، وجلس على كنبة، واقتعد الكاتب كرسيًّا قريبًا باسطًا أوراقه على نضد، ووجه إليَّ أسئلة عن اسمي وعمري ووظيفتي، وطلب إليَّ أن أروي معلوماتي عن الحادث. فصدعت بأمره، والكاتب يسجل كل كلمة أقولها. ثم استدعى الدكتور أمين رضا، فجاء الدكتور جامد الوجه شاحب اللون، وسمح له بالجلوس أمامه، ثم وجه إليَّ الخطاب قائلًا: بوسعك أن تبقى معنا إذا شئت!
وخيل إليَّ أني وجدت في لهجته ما يشبه الأمر، وكانت رغبتي في حضور التحقيق لا توصف، فجلست على مقعدٍ ملاصق للكنبة التي جلس عليها المحقق وقد ملكتني الرهبة والتأثر. وبدأ الرجل يلقي عليه أسئلةً عامة عن الاسم والعمر والمهنة، ثم قال له: أخبرني كيف اتصلت بهذا الحادث من بادئ الأمر؟
فقال الدكتور أمين بلا تردد: استُدعيتُ إلى عيادة المريضة زهاء التاسعة صباحًا فوجدتها في حالٍ سيئة من الألم، ففحصتها فتبين لي أن البروتون ملتهب وأنه يستوجب عمليةً عاجلة، فقررت إجراءها إنقاذًا لحياة المريضة، وأعلنت رأيي لأمها فوافقت، وفي الحال أجريتها، ولكن حدث أن ثقب الغشاء ثقبًا خطيرًا، وذهبت مجهوداتي في إنقاذها سدًى، فتوفيت!
– هل سبق لك أن عالجت المتوفاة؟
– كلا!
– ولا في هذا المرض الأخير؟
– كلا، وقد علمت أنها رقدت ليلةً واحدة وكانوا يظنونها مصابةً بنوبة برد.
– هل من عادة هذه الأسرة أن تستدعيك فيما يلمُّ بها من أمراض؟
– لم يحصل هذا، إلا أني لم أزاول مهنتي إلا منذ شهورٍ تُجاوز العام، ولا أذكر أن أحدًا من الأسرة قد مرض في هذه الفترة.
– هل تظنهم كانوا يستدعونك في مثل هذه الحال؟
– الواقع أنهم استدعوني في أول حال عرضت لهم.
– ألا يعرفون اختصاصك؟
– بلى؛ ولكن شدة الحال جعلت الأم تستنجد بي، لقرب عيادتي من ناحية، وللقرابة التي تربطني بها من ناحيةٍ أخرى.
– لا أرى في هذه الظروف ما يمكن أن يؤثر في اختيار الطبيب، ثم أنت كيف توافق على تلبية دعاء لحالٍ مرضية تعلم أنها ليست من اختصاصك؟ ألا يشير الأطباء في أمثال هذه الظروف باستدعاء الطبيب المناسب؟
– رأيت اللياقة تقضي بأن ألبِّي الدعوة على الفور، فذهبت وفي ظني أنها حال إغماء أو مغص شديد أو ما شاكل ذلك مما لا يعجز طبيبًا على الإطلاق، وأظن هذا ما دار بخلد الذين استدعوني.
– ولكنك وجدت الأمر أخطر مما تصورت؛ فكيف كان تصرفك؟
فأمسك الدكتور عن الإجابة وخفض بصره في ارتباك وتروٍّ، فبادره المحقق قائلًا: لماذا لم تشر باستدعاء جراح؟
– كانت الحاجة ماسة إلى عمليةٍ عاجلة.
– هل مارست الجراحة قبل ذلك؟
– في الكلية طبعًا!
– أعني بعد ذلك؟
– كلا.
– يدهشني أن أتصور إقدامك على إجراء هذه العملية الخطيرة.
فقال الدكتور أمين وقد تغيرت نبرات صوته قليلًا واعترتها حدةٌ عصبية: قلت إن الحال كانت خطيرة وتستدعي إجراءً سريعًا!
– وكيف أحضرت الأدوات الطبية اللازمة لهذه العملية؟! هل كانت توجد بعيادتك؟
ولأول مرة تردد الدكتور قبل الإجابة، ثم قال: كلا!
– كيف أتيت بها؟
– من زميل.
– جراح؟
– أجل.
– ولماذا لم تحضره؟
– كان مرتبطًا بعمل في نفس الوقت.
– من عسى أن يكون هذا الدكتور؟
فتردد مرةً أخرى، ثم تورد وجهه الشاحب وقال بصوتٍ منخفض: الحق أني أحضرتها من المستشفى؛ مستشفى فؤاد الأول.
– بصرف النظر عما إذا كان هذا التصرف سليمًا أم لا من الناحية الإدارية، ألم يكن الأخلق بك وقد رأيت أنك لا بد منفق وقتًا غير قصير في إحضار الأدوات بطريقة غير مشروعة، ألم يكن الأخلق بك أن تستدعي جراحًا، خصوصًا وأن استدعاءه لم يكن يستنفد من الوقت أكثر مما يستنفده إحضار الأدوات؟
فتفكر مليًّا ثم بارتباكٍ ظاهر: كنت متأثرًا بحال المريضة فلم أفكر في هذا!
– الأقرب إلى المنطق أنه كان ينبغي أن تفكر في هذا بسبب هذا التأثر نفسه؟ وهب الحق كما تقول، فلماذا لم تنقل المريضة إلى المستشفى حيث يوجد الإخصائيون بوفرة؟
– لم توافق أمها على نقلها!
– ألم يكن هذا أقل خطورةً من تسليمها ليدٍ غير خبيرة؟! ولكن لندع هذا الآن …
وبسط المحقق صحيفةً بين يديه، جرى بصره على سطورها، ثم قال وهو يعتدل في جلسته: ما رأيك في هذا؟ إني أراجع الآن تقرير الطبيب الشرعي فإذا به يؤكد أن التهاب البروتون لا يستوجب هذه السرعة التي تتحدث عنها كما تستوجبه بعض حالات الزائدة الدودية مثلًا، فما رأيك في هذا؟
فلاذ الدكتور بصمتٍ عميق، ونمَّ لمعان عينيه عن تفكيره وقلقه. وعاد المحقق يقول: ويقول أيضًا: إن العملية تستدعي بضع ساعات للتأهب لها بتناول المريض في أثنائها شربة عادة، ألم تعلم بهذه المبادئ الأولية في فن الجراحة؟
– علمت أن المريضة تناولت شربة مساء أمس ولم تذق بعدها طعامًا.
– هل أخذتها استعدادًا للعملية؟
– كلا .. أخذتها بسبب ما ظُنَّ بها من برد، أما فكرة العملية فلم تنشأ إلا بعد حضوري اليوم.
واشتد انتباهي عند ذاك، وعجبت كيف لم يذكر لي أحد أن زوجي تناولت شربة. وذكرت كيف أبقيت بهذا البيت مع أنه كان بوسعها أن تعود إلى بيتنا ولو في تاكسي، وداخلني شعورٌ ثقيل بالغموض والحيرة.
وعاد المحقق يقول: إني حيال عملية أجريت بسرعةٍ جنونية لغير ما سبب فني يستدعي ذلك، وبيد طبيب غير جراح كان بوسعه ولا شك أن يدعو جراحًا مختصًّا .. فما معنى هذا؟
وألقى المحقق على الدكتور نظرةً نافذةً باردة، فتردد بصري بينهما في قلقٍ متزايد وخوفٍ غريب. وبعث الاضطراب في نفسي توترًا حادًّا، ثم سمعت المحقق يقول: إني أتساءل عن الضرورة التي حتمت أن تكون أنت الجراح، وفي هذا الوقت بالذات؟
وسكت مليًّا ثم استدرك متسائلًا: وما سبب الوفاة؟
– ثقب البروتون.
فقال المحقق ببرود: يقرر الطبيب الشرعي غير هذا.
فتساءل الدكتور أمين رضا مستنكرًا: فما عسى أن يكون السبب إذن؟
– هذا ما يخلق بك أن تدلني عليه بنفسك!
فقال الدكتور وقد اعتور نبرات صوته ذلك التوتر العصبي: لا أفهم ماذا تعني.
– سأزيد لك المسألة بيانًا .. يقرر الطبيب الشرعي أن البروتون قد ثقب حقًّا، ولكن يؤكد أنه لا يوجد به شيء على الإطلاق من مرض أو التهاب، وأن حاله لم تكن لتستدعي علاجًا على الإطلاق، فضلًا عن عملية جراحية!
– ولكني أجريت العملية بنفسي.
– لم تجرِ عملية على الإطلاق فيما عدا ثقب البروتون.
فقال الدكتور بصوتٍ متهدج وبحدةٍ غاضبة: أتريد القول بأني ثقبت البروتون بلا داعٍ! .. ما معنى هذا؟
– أنت ثقبت البروتون فقتلتها!
– في أثناء إجراء العملية!
– أؤكد لك أنك لم تجر عملية البروتون!
فصاح الدكتور في غضب: أتتهمني بأني تظاهرت بإجراء العملية كي أقتلها؟ .. أتتهمني بالقتل يا حضرة المحقق؟
فقال المحقق بهدوء: إنني أتهمك بالقتل حقًّا، وستوافقني عما قليل على رأيي، وسترى بنفسك — بغير حاجة إلى نصيحتي — أنه لن يهيئ لك بعض النجاة إلا الصدق والصراحة.
انكفأ وجه الدكتور وازداد تجهمًا، وركبته حالٌ تعسة من القهر. أما المحقق فقد ألقى نظرةً أخيرة على تقرير الطبيب الشرعي، ثم استطرد قائلًا: لماذا أحدثت هذا الثقب القاتل بالبروتون؟
فقال الطبيب في تجهُّم، وفيما يشبه اليأس: لقد أجبت على هذا من قبلُ!
– يجدر بك ألا تتغابى وأنت بلا شك شابٌّ ذكي، لقد أحدثت هذا الثقب لتخلق سببًا ظاهرًا «مشروعًا» للوفاة التي ظننتها لا محالة واقعة.
أطرق الدكتور صامتًا وبدا كشخص يعترف مستسلمًا، واستطرد المحقق قائلًا: كنت تجري عملية حقًّا ولكن في موضعٍ آخر من الجسم، ثم حدث ثقب خطأ في هذا الموضع الآخر، فظننت لقلة خبرتك بالجراحة أنه سيقضي على المريضة حتمًا فما عسى أن تفعل؟ لو عُرف سبب الوفاة الحقيقي لكشف الغطاء عن العملية الجراحية وهي غير مشروعة، وهنا هداك عقلك المضطرب إلى حيلةٍ جنونية، وهي أن تثقب البروتون فيُظن أنه سبب الوفاة، ثم تدَّعي كذبًا بأنك كنت تجري عملية في البروتون، بذلك تحكم الستار على جريمة العملية غير المشروعة، أما قتلك مريضًا خطأً فلا يقع تحت طائلة القانون، ولكنك أخطأت، فالمريضة لم تمت من الثقب الأول ولكنك قتلتها وأنت تثقب البروتون!
انتفض الدكتور انتفاضةً عصبيةً عنيفة، وهتف بالمحقق وكأنه فقد وعيه: كلا .. كلا .. لقد توفيت تمامًا قبل أن أثقب البروتون!
وجرت على شفتي المحقق ابتسامةٌ خفيفة .. ألقى على الدكتور نظرةً ظافرة، على حين أطبق الآخر شفتيه في صمت وذهول، ورفع عينيه مرتين إلى وجه المحقق في حنق وقنوط .. بدا لي وكأنه قد صُرع تحت وقع ضربةٍ قاضية فغُلب على أمره. بيد أنني لم ألقِ بالًا إليه؛ كان عقلي ينتفض حرارة حركة وهياجًا، عملية غير مشروعة! عملية البروتون ما هي إلا خدعةٌ زائفة للتستر على جريمة! إما أن أكون مجنونًا أو يكون الرجلان مجنونَين! .. توفيت تمامًا قبل أن يثقب البروتون .. رباه! أكاد أخرج عن طوري فينفلت لساني هاذيًا رغم وجود هذا المحقق المخيف. على أن المحقق خرق الصمت الثقيل قائلًا في هدوء: اتفقنا، وأظن أنه آن أن تعترف بأنه وقع الاختيار عليك بالذات دون أطباء مصر جميعًا لإجراء عملية إجهاض!
لم يتوقف عند هذا الحد، ولكنه واصل حديثه، ولعله ذكر فيما قال البنج وأثره أو شيئًا من هذا القبيل، ولعل الآخر نطق ببضع كلمات كذلك، ولكني لم أعد أعي شيئًا مما يقال. تعلق ذهني بقوله: «عملية إجهاض.» وامتنع عن السير. لقد وقعت عليَّ هذه العبارة فشطرتني شطرَين، ثم مزقتني إربًا، ودوَّت في رأسي حتى ذهلت بها عن كل شيء، غاب الرجال الثلاثة عن ناظريَّ، وغابت الحجرة، ورأيت فراغًا مخيفًا تمتزج فيه الحمرة بالسواد، وتتراقص فيه أشباحٌ مرعبة من الذكريات والخواطر .. عملية إجهاض .. كانت رباب حبلى! الخطاب .. هذا الطبيب الشاب .. يستطيع الشيطان ولا شك أن يؤلف من هذه الحقائق المتناثرة جريمةً مروعة، ساخرًا من شكي الذي دفعني إلى التجسس حينًا، هازئًا بالطمأنينة التي آويت إليها سادرًا حينًا آخر .. إن المحقق يسعى جاهدًا وراء جريمةٍ طبية، وسيعثر في طريقه الشائك بجريمةٍ أدهى وأمرَّ. ألم يحدس قلبي الكارثة من بادئ الأمر؟! أيكون الطبيب هو صاحب الخطاب؟ أم أنهم استشفعوا بقرابته على التستر والكتمان؟ ولكن لا شك أن الأم كانت تعلم كل شيء .. كل شيء عن حياتي الزوجية، وزلَّة ابنتها، ولعلها أرادت أن تطمس آثار الفضيحة بالعملية لولا أن هتك الموت تدبيرها. آه يا رباب! إن كل عذاب نُصاب به في هذه الدنيا حق وعدل؛ لأننا نتفانى في حبها، على حين أنها لا تستحق إلا المقت.
واستيقظت على صوت المحقق وهو يهتف بي: «هو .. اصحُ!»، فرفعت إليه عينيَّ مرتجفًا وعدت رويدًا رويدًا إلى الشعور بما حولي. قال الرجل: إني أسألك ألم تصارحك زوجك بكراهيتها للحبل؟ ألم تُفضِ إليك برغبتها في إجهاض نفسها؟
واسترقت من الدكتور أمين نظرةً سريعة، وقلت لنفسي: إنه يعلم السر كله من بادئ الأمر، ولعله يعلم أضعاف ما أعلم، فعزَّ علي أن أكذب وأن أعرض نفسي لإهانةٍ جديدة، وتمتمت قائلًا: كلا!
– أكنت تراها مسرورةً بحبلها؟
فقلت في غير مبالاة وقنوط: لم أعلم أنها كانت حبلى إلا هذه الساعة!
فارتفع حاجبا المحقق فوق عويناته، وثبته على عينيه وهو يقدح فكره، ثم سألني: كيف تعلل إخفاءها الأمر عنك؟
لشدَّ ما زلزلني هذا السؤال! إنها كلمةٌ واحدة ثم يصبح سري نادرة المتندرين. إن مشاعر الحقد والانتقام تستفزني جميعًا إلى نشر هذا السر الدفين كي أهتك سر الآثمة وأنزل انتقامي بالمجرم. أريد أن أقول: إنه لم يكن في حياتنا ما يدعو إلى الحبل؛ ليضع المحقق يده القاسية على الفاسق. ولشد ما نازعتني نفسي إلى ذلك، وأوشكت الكلمات أن تثب إلى طرف لساني، بيد أنني لم أنبس بكلمة، وحلَّ بي شللٌ عام لا أدري ما كنهه؟ هل يمكن أن يكون للخجل أثر حتى في مثل هذا الحال؟ .. هل يمكن أن تفوق رغبتي في التستر على عجزي تحرقي إلى الانتقام؟ لم أستطع التفوُّهه بالكلمة الفاصلة، وكلما مرت ثانية ازددت عجزًا ونكوصًا، ثم تمتمت قائلًا وأنا ألهث: لا أدري!
وما أدري إلا والدكتور ينتفض واقفًا ثم يتراجع خطوتَين، شابكًا ذراعيه على صدره في تحدٍّ وكبرياء وغطرسة! ويقول للمحقق بثبات وعجرفة: تسأله عما لا يدري، إنها لم تكن زوجةً إلا رسميًّا فحسب، وإني أنا المسئول عن كل شيء من البداية إلى النهاية!
٦٤
غادرت البيت دون أن أرى أحدًا من أهله، فلم يعد البيت بيتي ولا الأهل أهلي. ووقفت عند باب العمارة فجرى بصري إلى المحطة؛ محطة الذكريات. وطاب لي أن أردده بينها وبين الشرفة، ثم أغمض عينيَّ لأرى موكب الذكريات يمر كلمح البصر، صورةٌ صادقة من الحياة، جامعًا بين طرفَي ملهاتها ومأساتها. ثم انطلقت في الطريق بلا غاية كأنما أجدُّ في الهروب، استحال قلبي جمرةً من نار يتطاير عنها شرر الغضب والشقاء والمقت. وقد خُيل إلي أن هذه الدنيا العاكفة على همومها ستتناسى شجونها غدًا وتغرق في الحديث عن فضيحتي، على أنني لم أكن قد أفقت من دهشتي ولم أزل أتساءل عما حمل الدكتور المجرم على الاعتراف بالحقيقة الهائلة! لقد هاضني الجبن فكتمت الحقيقة، ووهبته بذلك فرصة للهرب لو أراد هربًا، ولكنه انتفض واقفًا غاضبًا، وألقى بالحقيقة من بين شفتَيه في غطرسة وكبرياء: «لا تسأله عما لا يدري، إنها لم تكن زوجة إلا رسميًّا فحسب.» رباه، لماذا لم أدقَّ عنقه؟ لماذا لم أرمِ بنفسي عليه وأنشب أظافري في قلبه؟ لتلهبني هذه الذكرى حتى الموت بمثل السوط اشتعلت أطرافه بالنار. ولكن ما الذي جعله يرمي بنفسه إلى الهلاك؟!
هل حمله اليأس من تبرئة نفسه من إحدى التهمتَين على الاعتراف بالأخرى؟ أو أنه راعه ما جنى الحب على حبيبته فنازعته نفسه في ساعة يأس إلى أن يشاطرها المصير الأليم؟ أهي ثورة ضمير؟ أم ثورة قلب؟ أم الاثنان معًا؟! من لي بأن أطلع على سر هذا القلب المتغطرس؟ بيد أنني ازددت حيرةً وجعلت أتساءل: كيف هان عليه أن يرسلها إلى القبر مكفنة بالفضيحة؟ ألم يكن الأخلق به أن ينتهز الفرصة المبذولة فينقذ نفسه، ويستر شرف المرأة التي أحبها .. وأحبته؟! أتراه نادمًا الآن على ما بدر منه؟ أم لا يزال منتصب القامة غطرسةً وعجرفةً؟ .. إنه لغز، وسيظل لغزًا بالنسبة لي إلى الأبد. وكان قلبي متورمًا من الحقد والغضب فوجدت في المصير الذي قضي عليهما به — هي في القبر وهو في السجن — راحةً وغبطةً.
وكانت قدماي قد حملتاني إلى ميدان الإسماعيلية، فلم أجد مهربًا خيرًا من حدائق قصر النيل، فاتجهت صوب الجسر .. آه لو أستطيع أن أغيب عن القاهرة عامًا! ولم يدر لي بخلد أن أشيع جنازة المرأة التي كانت زوجًا لي؛ إذ لم يعد بوسعي أن أبدو أمام أحد ممن يعلمون بحقيقة المأساة. ولكن هل تزوجت حقًّا؟ لم تكن إلا مهزلةً طويلة، أو مأساةً على الأصح، ولشد ما تملك الدهشة أهلي اليوم أو غدًا إذا علموا بأن زوجي ماتت ودفنت دون أن يدعى أحد منهم لتشييع الجنازة، ولكن سرعان ما تذهب دهشتهم إذا عرفوا الحقيقة، وسرعان ما يلهيهم التندر بها عما عداه، ويا لها من أحدوثةٍ حقيقة بأن تحيي محافل السمر! وتقبَّض قلبي وشعرت ببرودة تسري في أطرافي. لشد ما تعاودني تلك الرغبة القديمة في الهرب! أين مني بلدٌ بعيد لم يطرق أبوابه طارق؟ من لي بأن أقطع كل صلة تربطني بماضيَّ البغيض؟! آه لو يمكنني أن أولد من جديد في عالمٍ جديد لا تطالعني فيه ذكرى من ذكريات هذا العالم، أجل لن أستطيع أن أواصل حياتي على حين يتبعني هذا الماضي كالظل الثقيل! وقضيت بقية النهار متخبطًا في الطرق أو جالسًا شاردًا في الحدائق، لا أشعر بحر ولا ببرد، ولا بظمأ، حتى آذنت الشمس بالمغيب وانتشرت سمرة المساء فوق رءوس الشجر، فعدت من حيث أتيت في خطوٍ ثقيل، وبلغت ميدان الإسماعيلية وقد هبط الظلام على الكون، فملكتني الحيرة ولم أعرف لنفسي مذهبًا، ثم وثبت إلى ذهني صورة الحانة فجأةً فتنهدت من الأعماق، وندت عن أعصابي المتوترة المكلومة آهة ارتياح كأنما حظيت بفرحة بعد طول اختناق. وفي اللحظة التالية كان التاكسي ينطلق بي إلى شارع الألفي. بيد أن ارتياحي ولَّى سريعًا، وحلَّ محله قلق وانقباض وتردد، وجعلت أتساءل: ألا يجمل بي أن أولي وجهي وجهةً أخرى؟! وغادرت التاكسي حيال الحانة ولكني لم أمضِ إليها، ورحت أتمشى على الطوار في خطًى بطيئة مثقل الرأس والقلب، وغلبني اليأس، فانسقت معه إلى داخل الحانة وانتبذت ركنًا منفردًا، وشربت كأسًا وأخرى، وعللت، وما تكاد رأسي تستجيب للخمر، ولكني شعرت بالجوع بغتةً فأكلت بنهم وشهوةٍ عجيبة، وما كدت أفرغ حتى حلَّ بي تعب شمل معدتي ورأسي وأعضائي جميعًا، فكأن جهد اليوم المبرح قد وجد غرةً فزحف عليَّ بجحافله وناخ عليَّ بكلكله، ونهضتُ مترنحًا، وغادرت الحانة إلى تاكسي واقف غير بعيد، فانطلق بي صوب قصر العيني، علاني التعب والجهد، وسرى في جسدي تخدير، وتولاني شعورٌ طارئ بعدم المبالاة، فرمقت مأساتي بعينٍ ساخرة، فبدت لي لحظة كأنها مأساة شخصٍ غريب، أو كأنها انتزعت من حياتي الخاصة واحتلت موضعها من موكب المأساة الإنسانية العامة. وجعل التاكسي يطوي الطريق حتى شارف موقع العمارة التي امتحنتني بها الدنيا، وانطلق بصري صوبها لا يغمض وقد تقلص قلبي وتوالت ضرباته، فرأيت النور يشع من الشرفة والنوافذ. أما أمام مدخل العمارة فقد أقيم عمودان طويلان يتدلى منهما مصباحان كبيران مضاءان. قضي الأمر!
٦٥
ذكرتُ وأنا أرتقي سلم بيتنا أمي فارتعدت فرائصي واستحوذ عليَّ حنقٌ فظيع كأنه شيطان، ترى ماذا أحنقني؟ .. وسألت نفسي في حيرة عما عسى أن أقول لها .. رباه! ما الذي جاء بي إلى البيت؟ هل ظننت أنه يسعني أن أقضي هذه الليلة في حجرة «رباب» وعلى فراشها؟! على أنني واصلت ارتقاء السلم كأنه قضاءٌ محتوم، ودخلت الشقة بصدرٍ منقبض ووجهٍ مكفهرٍّ، وجاءني صوت أمي وهي تتساءل في لهفة وجزع قائلة: «من؟» فجمدت في مكاني غاضبًا حانقًا، ثم قلت بخشونة: «أنا.» فهتفت بي بصوتٍ باك: كامل .. تعال يا بني!
فخفق قلبي بعنف، وأيقنت أنها علمت بمصير «رباب»، وذهبت إلى حجرتها وكانت جالسة في الفراش، فمدت إليَّ يديها وهي تنشج باكيةً وقالت بصوت تخنقه العبرات: ليتني كنت فداءها .. كان ينبغي أن تبقى هي لك!
فوقفت في وسط الحجرة متجاهلًا يديها الممدودتَين، وسألتها في جمود وغلظة: كيف علمتِ بالخبر؟
فهتفت بصوتها المختنق: كيف نسيت يا بني أن تخبرني؟ إني أدرك من هذا شدة حزنك. وقد تفتت قلبي رثاءً لك .. ليتني كنت الفداء لك ولها، أنا العجوز المريضة، ولكنه قضاء ربنا.
لم ينل تأثرها من جمود نفسي، فلم أستجب لها، وسألتها وكأنني لم أسمع كلامها: كيف علمتِ الخبر؟
– لقد انتظرت عودتك اليوم في قلق، ولما أن جاء المساء ولم تحضر بلغ مني الخوف، فوصفت للخادم موقع العمارة وأرسلتها إلى هناك، فعادت إليَّ بالخبر الأسود!
ورمقتها بنظرةٍ مستريبة وسألتها بصوتٍ منخفض: هل علمت كيف ماتت؟
فعاودها البكاء وهي تقول: كلا يا بني! ولا زلت في حيرتي وذهولي، أسفي على الشابة المسكينة، كيف وافاها الأجل على غير ميعاد؟
وداخلني ارتياح سرعان ما فتر وخمد .. ففيم أخدع نفسي براحةٍ كاذبة وما من قوة في الأرض تستطيع أن تواري فضيحتي؟ وأضجرني بكاؤها، ووقر في نفسي أنه أمارة حزنٍ كاذب مما يصطنعه النساء، فقلت بفظاظة: ماتت كما يموت الناس آناء الليل وأطراف النهار، وكما مات جدي وأبي وكما سنموت جميعًا!
وضغطتُ على «جميعًا» في حنق، ثم بادرتها متسائلًا في سأم: لماذا تبكين؟
فرنت إليَّ خلال دموعها بوجوم وكآبة وتمتمت: وددت لو كنتُ فداءها.
فغلبني الانفعال وقلت بحدة: كذب! .. محال أن يرضى إنسان بأن يفتدي آخر من الموت .. أكنت تقولين هذا لو كانت ما تزال على قيد الحياة؟!
وأحدقت في وجهي بارتياع، ثم غضَّت بصرها في وجوم وألم، وساد الصمت مليًّا، حتى خرقته متمتمة: أسأل الله أن ينزل سكينته على قلبك.
فقلت بجفاء: لا حاجة بي إلى الدعاء. بيد أنني أكره الرياء، ولا يمكن أن أنسى أنك أبغضتها حتى قبل أن تقع عليها عيناك.
فرفعت إليَّ وجهها في استعطاف وألم وقالت: كامل! رحمةً بأمك .. يعلم الله أنني لا أخادعك، ولكن مثل ما كان بيننا من نقار لا يكاد يخلو منه بيت!
ولكني لم أرحمها، ولم أفهم في الوقت نفسه كنه القوة التي دفعتني إلى تذكيرها بالماضي الأسيف، كأنما آسى حقًّا على «رباب»، بل غاليت في الحنق عليها كما لو كانت السبب فيما حلَّ بي من كارثة، وضاعف من حنقي ما وقع في نفسي من أنها تداري بهذا الحزن فرحًا وشماتةً، فأردفت في غضب قائلًا: الحق أن الدنيا لا تسعك من الفرح! .. إني أعرفكِ حق المعرفة كما أعرف نفسي سواء بسواء، فلا تحاولي خداعي، إنك تدارين فرحك بهذه الدموع الكواذب.
فتأوهت هاتفةً: كامل لا تقسُ على أمك، لا تقل هذا، لم أكرهها، علم الله، يحزنني ما يحزنك!
فبدرت مني ضحكةٌ باردة كفرقعة السوط في الهواء وقلت: لأزيدك فرحًا فاعلمي أنها لم تمت ولكن قُتلت!
فحملقت في وجهي في فزع، ولعلها خافت عليَّ الجنون وغمغمت: اللهم لطفك.
فصحت باستهانة وجنون: قُتلت حين كان الطبيب يجهضها.
فضربت صدرها بيدها وهتفت: يجهضها! وهل كانت حبلى؟ رباه لم أكن أعلم هذا.
– ولا أنا! .. أخفته عني لأنني لم أكن أبا الجنين! وصرخت أمي في فزع: كامل .. رحمة بنفسك، رحمة بي، أنت لا تدري ماذا تقول؟!
– بل أدري أكثر مما تتوقعين، لقد عرفت في يومٍ ما لا يعرفه مثلي في جيل، قلت لك: أخفت الأمر عني وذهبت إلى والد الجنين ليجهضها فأخطأ وقتلها!
– اللهم لطفك يا أرحم الراحمين.
– ألا يزال أرحم الراحمين؟ وداعًا فلن أعبده بعد اليوم! أما أنتِ فلعلكِ تقولين لنفسكِ في سرور غريب: «لقد نالت الآثمة بعض ما تستحق من جزاء، لقد حدثني قلبي بذلك من أول يوم ولكنكَ لم تصغ إلي!»
فزفرت أمي في شقاء وتعاسة وقالت بصوت كالأنين: لشدَّ ما يحزنني كلامك، إنك تقتلني بلا رحمة.
فصحت بها كالمجنون: اشمتي ما شاءت لك الشماتة، ولكن إياكِ أن تتصوري أننا سنعيش معًا. انتهى الماضي بخيره وشره، ولن أعود إليه ما حييت .. سأنفرد بنفسي انفرادًا أبديًّا .. لن أعيش معكِ تحت سقفٍ واحد، وسأطلب من الوزارة نقلي إلى مكانٍ قصيٍّ أقضي فيه البقية من عمري.
أشرق الدمع بعينَيها وعقد الألم لسانها، ولبثت ترنو إليَّ في فزع ووجوم، وكأنه لم يكفني ما قلت فأردفت مرغيًا مزبدًا: اذهبي إلى أختي أو إلى أخي، واحسبيني منذ اليوم في عداد الأموات.
ووليتها ظهري وغادرت الحجرة ونحيبها يقرع أذنيَّ.
٦٦
لم يخطر لي لحظةً واحدةً أن أذهب إلى حجرتي، كان ذلك أبعد شيء عن تصوري، حتى النظر إليها تحاميته، ومضيت إلى حجرة الاستقبال وارتميت على الكنبة في إعياء وقنوط. ومضى الليل ثقيلًا مضجرًا، فلم يعدُ نصيبي من النوم إغفاءاتٍ متقطعات تتخللها أحلامٌ مزعجة. ثم أخذ خصاص النوافذ ينضح بنورٍ خافت إيذانًا بمطلع الصبح، فتنفستُ الصعداء وتمطَّيت متعبًا، ثم نهضت قائمًا وغادرت الحجرة مدفوعًا برغبة في الهروب والاختفاء. واقتربت من الباب الخارجي في خطوٍ خفيفٍ حذر حتى وضعت يدي على مقبضه، ولكني جمدت مترددًا دون أن أبدي حراكًا، ثم تراجعت في سكون نحو حجرة أمي، ودفعت بابها الموارب في حذرٍ بالغ وأدخلت رأسي. كان شخير الخادم يتصاعد في انتظام، وعلى الفراش رقدت أمي في سكونٍ عميق لا يكاد يرى من وجهها إلا نصفه الأعلى. ألقيت عليها نظرةً قصيرة، ثم تراجعت إلى الخارج، واتجهت نحو الباب الخارجي مرةً أخرى ومرقت منه ثم أغلقته دون أن أحدث صوتًا، وترامى إلى أذنيَّ، أو خُيل إلي أن صوتًا يهتف بي، فظننتها استيقظت على حذري وحرصي وأنها تناديني. وتوقفت ويدي على الدرابزين على حين تراخى قلبي ورقَّ؛ ولكني كنت على حال من القنوط لم أحسن معها التدبير، فهززت منكبي استهانة ونزلت. واستقبلت الصباح الباكر في طريقٍ مقفر أو يكاد، فهفا على وجهي نسيمٌ رطيبٌ بارد، وتلبثت متحيرًا لا أدري أين أذهب، ثم قصدت محطة البترول حيث موقف التاكسي، واستقللت واحدًا إلى ميدان الإسماعيلية. ومال بصري إلى العمارة الأخرى في الطريق، فرأيت نوافذَ مغلقة وسكونًا مطبقًا، والمصباحين المعلقين وقد انطفأ نورهما. وانتهيت إلى الميدان فمضيت إلى لبَّان وجلست إلى مائدة في أقصى المحل، وتناولت فطورًا بسيطًا، وعلاني تعبٌ مباغت فمددت ساقيَّ، ثم زحف على جوارحي نعاسٌ قهار لم أعد أملك معه رأسي فاستسلمت لسلطانه. وسرعان ما رحت في سباتٍ عميق. وعاودتني اليقظة فوجدتني منكفئًا على المائدة وقد توسدت ساعدي، فرفعت رأسي ناظرًا فيما حولي في دهشة وارتباك، وسرعان ما استحوذ عليَّ حياء شديد.
وغادرت المكان مغمضًا عينيَّ عن الجلوس، وما كان أشد دهشتي حين رأيت ساعة الميدان تجاوز الثانية عشرة! نمت دهرًا طويلًا غائبًا عن دنياي المتجهمة، فما ألذَّ أن أنام إلى الأبد! واتجهت صوب حدائق قصر النيل وأنا أشعر شعورًا أليمًا برثاثة هيئتي وذبول منظري! وساءلت نفسي وأنا أجدُّ في السير عما عسى أن أصنع بحياتي؟ ولكن وسوست لي النفس أن أؤجل البت في هذه المسألة جريًا مع طبيعتي التي تنكص عادةً عن مواجهة المشكلات الخطيرة. ثم وجدتني أفكر في رباب! إن بنفسي غضبًا عليها لا يزول كأنه عاهةٌ مستديمة، ولشدَّ ما أتمنى لو تبعث حيةً ولو دقيقةً واحدةً ريثما أبصق على وجهها! وهل أنسى أنني فرحت لموتها فرح حاقدٍ شامت؟ .. هكذا أنا ولا داعي للخفاء! بيد أنني على حال من السكينة أستطيع معها أن أفكر وأن أتأمل. ومن عجب أنني على أنانيتي المفرطة لا أبخل على خصمي بالإنصاف والعدل .. لا حبًّا في الإنصاف والعدالة، ولكن لأنني ألِفتُ أن أقيم الأعذار للخصم مداراةً لعجزي عن الانتقام منه! لذلك تلمَّست الأعذار لرباب في مأساتها، وقلت لنفسي: إنني أخطأت في تصديق ما ادَّعت من أنها تكره الحب الجنسي، وإن عجزي حيالها هو الذي رمى بها إلى أحضان الغواية، وكيف يمكنني أن أشك في أنها أحبتني بإخلاص؟ وهبَّت على خيالي الذكريات كما تهفو نسائمُ عطرة على نارٍ مؤججة؛ ذكريات النظرات المتبادلة، واللقاء الخالد في الترام، وصدودها عن خطيبها الأول وميلها إليَّ في سحر هو أبهج ما اقتنيت من تحف السعادة المولية. كان حبًّا صادقًا، ولكن عرضت له ريحٌ ثلجية فاقتلعت جذوره وأغاضت منها ماء الحياة. ألست شريكًا في قتلها؟! ودعوت الله في تلك اللحظة أن يختصر الطريق فيقيم القيامة ويرحم العباد من محنة الحياة. كان حبي سرورًا إلهيًّا ثم مضى مخلفًا وراءه مقتًا وغضبًا. ولكن هل مضى حقًّا؟ هب ما حلَّ بي قد تمخض بمعجزة عن حلمٍ مزعج ولا شيء غير هذا، ألا يعود حبي أقوى مما كان؟ بلى، فهو موجود إذن تحت ركام البغض والمقت. إن العضو الذي ينفصل عن الجسد لا يعود إليه أبدًا، فهو غير موجود حقًّا، أما الحب الذي يعود فلا يمكن أن يكون قد ذهب حقًّا. ولكن ما جدوى هذا التفكير الأليم؟! وقطبت كأنما لأخيف الذكريات التي تنثال عليَّ. وصممت على الهرب منها ولو بمواجهة المشكلة الخطيرة التي تهربت منها منذ حينٍ قصير؛ ألا وهي مشكلة حياتي، وماذا أصنع بها؟ لا ينبغي أن أترك أموري للمقادير، سأجد طريقةً للتخلص من أثاث رباب، ثم أنتقل إلى حيٍّ جديد. أأسعى حقًّا إلى الانتقال لبلدٍ بعيد؟ لشدَّ ما تنازعني نفسي إلى الفرار، بيد أنني أعجز من أن أهجر القاهرة. هذا شعوري ويقيني. فهل أهجر أمي حقًّا؟ هل يسعني هجرها؟! طالما رفَّت على خاطري الرغبة في هجرها في صور أحلامٍ غامضة، ولكن هل يسعني حقًّا أن أهجرها؟ يا لها من خطوة خطيرة ما أخلقني أن أقف منها موقف المتفكر المتردد! لماذا أقسو عليها؟ فيم أنتقم منها؟! وإني لأعلم أن خطرةً منها تخطر على الفؤاد حقيقة بأن تردني إلى أحضانها نادمًا باكيًا .. يا له من حبٍّ بغيض لا أجد إلى الخلاص منه سبيلًا.
ورجعت إلى الميدان بعد الساعة الثانية بقليل، ووجدتني أذكر شارع الألفي بلهفةٍ معهودة. وعلى كثب من محطة الترام لمحت زميلًا لي من الوزارة فتجاهلته، ولكنه لمحني أيضًا وأقبل نحوي في اهتمام ووجوم، وبسط لي يده قائلًا: البقية في حياتك يا كامل أفندي.
فسرت في جسدي رعدة، وتساءلت في قلق: كيف علم بالخبر؟ وماذا علم عنه؟ وتمتمت في ارتباك: حياتك الباقية.
فقال الرجل وهو يضغط على يدي: عن إذنك ريثما أتناول لقمة، ثم أعود للاشتراك في تشييع الجنازة.
رباه، كنت أظن الجنازة شيعت أمس أو صباح اليوم وانتهى المأزق الحرج، ولكنها لا تزال تنتظر مقدمي وقد أذاعوا النعي في الصحف، أي مأزق يتربص بي! .. وسألته بصوتٍ منخفض: هل قرأت النعي في الأهرام؟
فقال لي بدهشة: كلا، لا أظنه ظهر في الأهرام وإلا لكنا علمنا به في الوزارة؛ ولكني اطلعت عليه في البلاغ.
واستخرج الجريدة من تحت إبطه وفتحها، ثم أشار إلى عمود وهو يقول: «هاك النعي!» وتناولت الجريدة في ارتباك وخجل وجرى بصري على السطور القلائل الآتية: «انتقلت إلى رحمة مولاها كريمة المرحوم الأميرالاي عبد الله بك حسن، والدة مدحت بك رؤبة لاظ من أعيان الفيوم، وكامل أفندي رؤبة لاظ الموظف بالحربية، وحرم صابر أفندي أمين …»
حملقت في وجه صاحبي كالمجنون، ثم أعدت تلاوة النعي، وجميع جسمي ينتفض، وصرخت بلا وعي: هذا محال .. هذا كذب!
ركضت لا ألوي على شيء نحو تاكسي غير بعيد، وارتميت داخله وأنا أحثُّ السائق على السرعة .. إنه لكذب وافتراء، ولأعلمن جلية الخبر وعندها أعرف كيف أؤدب من رامني بهذا العبث السخيف. وانطلق التاكسي يطوي الأرض وعنقي مشرئب صوب الطريق، حتى تراءى لعيني سرادقٌ مقام أمام بيتنا، وتنزى قلبي في صدري وارتعشت أطرافي جميعًا، وتوقف التاكسي فغادرته زائغ البصر، لم أكن حزينًا أو متألمًا؛ وإنما كنت مجنونًا .. ها هو عمي جالسًا عند مدخل السرادق، وهذا أخي مدحت قادمًا نحوي، وقد هرعت إليه فاقد الوعي وقبضت على رباط رقبته وصرخت في وجهه: كيف تخفون عني الخبر؟!
وتخلَّص أخي من قبضة يدي بجهد وهو يرمقني بقلق وانزعاج، على حين تداني منا عمي وهو يقول: أين كنت يا كامل؟ لقد بحثنا عنك في كل مكان فلم نعثر على أثر .. فردَّدت بصري بينهما، ثم ألقيت على السرادق نظرةً غريبة وغمغمت: أحق هذا؟
فقال لي عمي: تمالك نفسك وكن رجلًا.
فسألت أخي في همس وإشفاق: ماتت حقًّا؟ .. كيف؟ متى علمتم؟
فقال مدحت في كآبة: تلقيت برقية في التاسعة صباحًا. هذا قضاء ربنا. أين كنت؟ لشدَّ ما أرعبني أن نضطر إلى الخروج بالجنازة في غيابك.
فصحت به في غضب: فيم هذه العجلة؟ لماذا لم تؤجلوا الجنازة إلى غد؟
فقال أخي معترضًا: أكد الطبيب أن الوفاة حصلت عند منتصف الليلة البارحة؛ فقرَّ رأينا على أن نخرج الجنازة اليوم.
وارتعد جسمي المحموم وتمتمت في ذهول: منتصف الليلة البارحة؟ ولكني رأيتها نائمة في فراشها هذا الصباح!
ولاحت في عيني مدحت نظرةٌ حزينة وقال برثاء: لم تكن نائمة. إنه القلب يا كامل.
تخيلت صورة ما بدا لي في وجهها من قنوط، وأطرافي ترتعش، وأعملت ذاكرتي لأستحضر الصورة كما رأيتها، وساءلت نفسي: أكان وجه ميت حقًّا؟!
وخارت قواي، ثم قلت بصوتٍ ضعيف: أريد أن ألقي عليها نظرة الوداع!
فوضع أخي يده على منكبي وقال: اصبر حتى تتمالك قواك. ثم إن الحجرة ملأى بالنساء.
ولكني نحيته عن سبيلي واندفعت إلى داخل العمارة، وجرى أخي ورائي، فارتقينا السلم وثبًا، ثم مرقت إلى الشقة وأصوات البكاء تملأ أذنيَّ، فما راعني إلا أن أجد نفسي محاطًا بالنسوة من جميع الجهات. وزاغ بصري وحلَّ بي إعياء وارتباك، ولكن أدركني أخي فقبض على ذراعي واتجه بي إلى حجرة النوم وهو يقول: لا تقاوم .. ينبغي أن تخلو إلى نفسك قليلًا!
وأجلسني على المقعد الطويل، وأغلق الباب، ثم جلس على حافة الفراش أمامي وقال بحزن: ثب إلى رشدك. لا ينبغي أن يغلبنا الحزن كالنساء، أليست هي أمي أيضًا؟ ولكننا رجال.
وراح عقلي يتردد كبندول الساعة، بين أمرَين في تركيز جنوني بين شجار الأمس المشئوم وبين رؤيتي لها هذا الصباح. وعلى حين بغتة وثبت إلى ذهني ذكرى فهتفت بأخي: كذب الطبيب! لم تمت عند منتصف الليل .. لقد سمعتها تناديني وأنا أغادر الشقة!
فلاحت الدهشة في وجهه وسألني: وهل لبَّيت نداءها؟ .. هل تحدثت إليها؟
فتنهدت من الأعماق في شقاءٍ مميت وقلت: لم ألبِّ نداءها لأنني كنت ناقمًا عليها! .. لشدَّ ما كنت فظًّا غليظًا معها!
وسادنا صمت وحزن. وكان رأسي يكاد ينفجر من الألم والحمى. ثم قلت وكأني أحدث نفسي: لقد قتلتها ما في ذلك ريب! رباه .. كيف هان عليَّ أن أقول لها ما قلت؟!
فرمقني أخي بوجوم، وقال بلهجة تنمُّ عن تحذير: إياك وأن تستسلم لهذه الأفكار!
فقلت بعناد ورأسي يدور جنونيًّا: لم أعدُ الحق في قولي؛ لقد قتلتها، ألا تفهم؟ .. إذا أردت أن تستوثق من صحة قولي فادعُ النيابة والطبيب الشرعي!
فتأوَّه مدحت قائلًا فيما يشبه الخوف: أنت تهذي بلا ريب، وإلا تتمالك نفسك فلن أسمح لك بالسير في الجنازة.
فندَّت مني ضحكةٌ باردة وقلت: إن أسرتنا مصابة بداء قتل الوالدين، ولقد حاول والدنا أن يقتل جدَّنا فأخفق، وأعدتُ الكرَّة على أمنا فنجحتُ، وهكذا ترى أنني كنت أعظم توفيقًا من أبي.
فلاح القلق في وجه الشاب ونهض قائمًا، ثم ثبت عينيه في وجهي وتساءل: ماذا تنوي أن تصنع بنفسك؟ .. لم يبقَ إلا ساعة على تشييع الجنازة.
فقلت في دهشة: أتسمح بتشييع الجنازة دون تحقيق؟ يا لك من أخٍ رحيم! ولكن الواجب فوق الأخوة .. ادع النيابة، وسأدلك على الطريق إليها فقد عرفته بنفسي أمس، وقل لوكيل النيابة إنك تدعوه للتحقيق مع الشخص الذي دعاه أمس للتحقيق في مقتل زوجه.
وبدا أخي كأنه تذكر أمرًا مزعجًا فصاح: يا له من حدثٍ أليم! كيف لم تبرق إليَّ يا كامل؟ لقد أخبرتني الخادم اليوم فلم أكد أصدق!
فقلت فيما يشبه الهذيان: صدق يا أخي، إنك إذا لم توطن نفسك على تصديق هذه المآسي وأمثالها خرجت من الدنيا كما دخلتها غرًّا جاهلًا، لقد قتلتُ زوجي أيضًا ولكن كان معي شريك هذه المرة هو عشيقها.
وضرب مدحت كفًّا بكف وهتف بي: لا يمكن أن تغادر الحجرة وأنت على هذه الحال!
فهززت رأسي في غضب ونهضت قائمًا وأنا أقول: هلمَّ بنا.
ولم أكد أتم هذه الجملة حتى غبت عن الوجود!
٦٧
لا علم لي بالساعات الطوال التي قضيتها في غيبوبةٍ تامة، ولكن ثمة أويقاتٌ أخريات كنت أتخبط في ظلمات بين الغيبوبة واليقظة. إنها دنيا غريبةٌ معتمة، تتوزعها الأحلام، فكان يداخلني شعور أنني حي، ولكن حي كميتٍ وهنًا وعجزًا، وكم من مرة جهدت في شقاء ويأس كي أحرك عضوًا من أعضائي، فأعياني الجهد وسلمت للضغط الحانق والخوف المبهم، وفي أحوالٍ أخرى عابثني الوهم فخيِّل إليَّ أني غير بعيد من اليقظة، وأني أكاد أميز أصواتًا مألوفةً وأرى وجوهًا أعرفها حق المعرفة، فاستصرختها أن تهرع إلى نجدتي، وناديت أمي كثيرًا حتى أحنقني تقاعدها عني وعجبت له عجبًا شديدًا، وطافت برأسي المحموم أحلامٌ غريبة، فرأيت فيما يرى النائم أنني ممتطٍ منكب أمي وأنها تذهب بي وتجيء كما كانت تفعل على عهد طفولتي، ورأيتني حينًا آخر ممسكًا بتلابيب أخي مدحت في نضالٍ عنيف في جوٍّ صاخب وهو يصيح بي: لا تقتلني. وخيل إلي أني رأيت أحلامًا كثيرة ولكن ابتلعتها الظلمة. وطالت غيبوبتي حتى ظننتها لا تنتهي، ثم تفتحت عيناي، وعدت إلى نور الدنيا، وتنهدت من الأعماق، ووقع بصري على مرآة تعكس صورتي، وشعرت بوجود شخص عند رأسي فحركت عيني نحوه فرأيت أختي راضية جالسةً على الفراش ويدها على رأسي، والتقت عينانا فابتسمت أساريرها ولاحت في عينَيها نظرة إشفاق وغمغمت بصوتٍ حنون: كامل!
وحاولتُ أن أبتسم، وندَّت عنها تنهدةٌ حارَّة وتمتمتْ: أشهد أن لا إله إلا الله.
تشهدتْ بصوتٍ ينمُّ عما برح بها من خوف وعذاب، ووجدتها لا ترفع يدها عن رأسي، ثم شعرت في اللحظة التالية بوجود شيء تحت راحتها، فسألتها بصوتٍ ضعيف وقع في أذني كالصفير المكتوم: ما هذا الشيء على رأسي؟
فجاءني صوتٌ آخر يقول: كيس ثلج يا سيدي!
فالتفتُّ إلى الناحية التي جاء منها الصوت فرأيت أخي مدحت جالسًا على المقعد الطويل، وأدركت في تلك اللحظة أين أكون، وهجمت عليَّ الذكريات التي فررت منها بهذه الغيبوبة الثقيلة، وطالعتني الحياة بوجهها الكالح مرةً أخرى، ووقع بصري على المنبه فإذا بعقربه قد جاوز العاشرة بقليل؛ العاشرة صباحًا كما يدل عليه ضوء النهار. وإذن فقد انقضت الليلة الكئيبة وأنا في نومٍ عميق! ونظرت إلى أخي بطرفٍ كسير وتساءلت: هل شيعت الجنازة؟
فألقى عليَّ نظرةً طويلةً ثم قال باقتضاب: طبعًا!
وصمت مليًّا ثم استدرك قائلًا: لعلك لا تدري أنك غبت عن الوجود ثلاثة أيام كاملة.
ورنوت إليه بدهشة، ثم أغمضت جفنيَّ في ذهول، وتمتمت في حزن بالغ: قضى الله بألا أشيع لا أمي ولا زوجي إلى مرقدهما الأخير.
وتحول بصري إلى أختي فرأيت عينَيها مغرورقتَين بالدموع، فغشيتني كآبةٌ موحشة بدت الحياة خلالها كالموت. لشد ما بدت لي الحياة في تلك اللحظة الرهيبة غريبةً خاليةً. وشعرت بفراغٍ مخيف جدًّا؛ فقد خلا البيت، وخلت حياتي، وخلت الدنيا جميعًا. وكنت في حياتها أجد طمأنينةً راسخةً، وأشعر في أعماق قلبي بأنه مهما نكدت الدنيا فلي فيها حجرةٌ دائمة الإشراق بالابتسام والحنان، أما الآن فما أشبهني بقارب تمزقت حبال مرساته في بحرٍ هائجٍ عاصف. وحتى شقيقتي التي تحنو عليَّ في مرضي فما أسرع أن تعتذر لي غذًا أو بعد غد ببيتها وأولادها وتتركني وحيدًا! رباه هل خلقت — أنا الطفل المدلَّل — لمثل هذه الحياة؟!
ونظرت إلى أختي طويلًا في حب وامتنان، وأنعمت النظر في وجهها بشوق لا تدريه مجذوبًا إلى مشابه فيه من وجه أمي، فاهتزَّ صدري ودرَّ حنانًا وحزنًا عميقًا. وألقيت على ما حولي نظرةً حائرة فوجدت أثاث رباب يحدجني بنظراتٍ غريبة، فقلت في ضيق: هيهات أن تطيب لي الإقامة في هذا البيت. سأقيم عندك يا أختاه.
فقالت أختي بصدق وإخلاص: هذا ما كنت عقدت العزم عليه .. أهلًا بك وسهلًا.
وسألتها أن تقرب أذنها مني، ثم قلت لها بحزن: خذيني إلى حجرتها لألقي عليها نظرة!
فأظلمت عيناها واغرورقتا بالدمع، وقالت لي همسًا: لا يمكن أن تفارق الفراش الآن، ثم إنه لم يعد بالحجرة شيء.
تخيلت الحجرة الخالية؛ أربعة جدران وسقفًا وأرضًا .. ما أشبهها بحياتي! وتنهدت محزونًا وتمتمت: ما أشقاني!
فقالت راضية برجاء وضراعة: هلا أجَّلت الحزن حتى تبرأ!
•••
ولازمت الفراش زهاء شهر، وأقامت راضية عندي أسبوعًا، ثم عادت إلى بيتها مضطرةً، ولكنها دأبت على زيارتي كل يوم عصرًا، ولم تكن تفارقني قبل أن يغمض النوم جفنيَّ .. وعاد مدحت كذلك إلى الفيوم، ولكنه كان يمضي عندي نهاية الأسبوع.
ولما دخلت طور النقاهة كانت الحمى قد عرقتني وخلفتني جلدًا على عظم. ولم تكد تبقي ثمة حياة إلا في خيالي، فازدهرت حيويته وامتلأ قوة ونشاطًا فكاد يبلغ حد الهوس. ولم يكن شعور الوحشة والخوف ليفارقني ساعةً من ساعات اليقظة. فبدت لي الحياة شاقةً مرعبةً لا قِبل لي بها، وامتلأت أذناي بذاك النداء القديم الذي يهيب بي — عند الشدائد — أن أولِّي فرارًا. ولكن أين المفر؟ ليتني أخلق شخصًا جديدًا، سليم الجسم والروح، لا يعشش بأركان نفسه الخوف والجفاء، فألقي بنفسي في خضم الحياة الإنسانية بلا خجل ولا نفور، أحب الناس ويحبونني، وأعينهم ويعينونني، وآلفهم ويألفونني، وأندمج في كائنهم الكبير عضوًا عاملًا نافعًا! ولكن أين مني هذه السعادة؟! وفيم أعلل النفس بالأماني الكاذبة؟ لم أخلق لشيء من هذا، وإنما خلقت للتصوف، ومن عجب أن وردت هذه الكلمة على ذهني بغير قصد، لكن سرعان ما تشبثت بها بدهشة وحيرة .. التصوف؟ لست أدري ما هو على وجه التحقيق! ولكنه وحدة وعزوف وتفكير، وما أحوجني للوحدة والعزوف والتفكير! عجبًا ألم أكن أشكو الوحدة طوال رقادي؟ الحق أنني لم أشكُ الوحدة التي ألفتها العمر كله؛ ولكنني استوحشت الوحدة التي خلفتها أمي. أما الوحدة المعهودة فما أشد لهفتي إليها؟ ينبغي قبل ذلك أن أطهر جسمي ظاهره وباطنه، ثم أكرس قلبي للسماء. لقد خلقت في الواقع متصوفًا، ولكن أضلتني نوازع الحياة، وتصورت نفسي في طهرٍ عجيب، يستحم جسدي بماءٍ عطر، وتتسامى روحي في صفاء ونقاء، فلا مشهد أرنو إليه إلا السماء، ولا خاطر ينبثق في نفسي إلا الله، وهذه بلابل الجنة تسجع في أذنيَّ، وتلك طمأنينة السلام تقرُّ في قلبي! كان خيالي نشيطًا ولكنه كان غادرًا في كثير من الأحايين، فلم يكن يصعد بي إلى ذاك المرتقى حتى يتخلى عني بغتةً فأهوي من علٍ، ثم أعود إلى قلقي القديم وخوفي المقيم.
•••
وفي ذات صباح من أيام النقاهة الأخيرة جاءتني الخادم العجوز وقالت لي: جاءت سيدة تريد مقابلتك وقد أدخلتها الاستقبال.
فرفعت إليها عينيَّ في دهشة وسألتها: ألا تعرفينها؟
فهزت المرأة رأسها قائلة: لم أرها يا سيدي قبل اليوم.
ووثب إلى خاطري طيف فانتفض قلبي الضعيف واشتدت ضرباته حتى انبهرت أنفاسي. رباه أتكون هي حقًّا؟ وهل واتتها الجرأة على اقتحام البيت؟ ألم تقدر العواقب؟ ونظرت إلى الخادم في حيرةٍ شديدة ثم تمتمت: ادعيها إلى حجرتي!
وألقيت على المرآة نظرةً متفحصةً، ثم تناولت المشط ورجَّلت شعري على عجل، وفي حياءٍ شديد اتجه بصري نحو الباب. ترى هل يصدق ظني؟ وكيف غابت عن ذاكرتي طوال العهد كأنها كانت كامنة في دم الصحة الذي نضب؟ ثم سمعت وقع أقدام تقترب، وأطلَّ عليَّ وجه القادم يبتسم في شوق وإشفاق، فهتفت فيما يشبه الاستغاثة وقد وشى صوتي بما شاع في صدري من الانفعال: أنتِ؟!