مبادئ تولستوي
- أولًا: حبَّ الله من كل نفسك، وحبَّ قريبك كذلك، ولا تُهِن أحدًا، واجتهد بألَّا تحرِّض أحدًا على فعل الشر؛ لأن الشر يتولد من الشر.
- ثانيًا: لا تغازل النساء ولا تهجر المرأة التي اتحدْتَ بها؛ لأن هجر النساء وتغييرهن يحدثان الفساد في العالم.
- ثالثًا: لا تحلفْ بشيء ولا تعِدْ بشيء؛ لأن الإنسان بكليته تحت سلطة الله، والناس لا يجنحون إلى الإقسام إلا مدفوعين إليها بالأعمال والنوايا الشريرة.
- رابعًا: لا تقاوم الشر واحتمل الإهانة، واعمل أكثر مما يطلبه منك الناس. لا تحاكم أحدًا ولا تدفع نفسك للمحاكمة، والإنسان إذا مال للانتقام فإنه يعلم الناس أن يحذوا حذوه وينسجوا على منواله.
- خامسًا: لا تفرق بين مواطنيك والغرباء؛ لأن جميع الناس من مصدر واحد.
ولقد اطَّلعت في إحدى المجلات الروسية على مقالة ضافية بسطت فيها الكلام على هذه المبادئ، فأنقلها للقراء كما هي دون تحريف أو تحوير.
يقول الفيلسوف: إن محبة القريب تحتِّم على الناس أن يزهدوا في هذه الحياة الدنيا الفانية، ويهجروا عيشة البذخ والرفاه، ويبتعدوا عن الفخفخة الباطلة والعظمة العاطلة، وينبذوا مواد الزينة التي تصنع في المعامل؛ لأنه حرام وألف حرام أن ألوفًا من الناس يقضون حياتهم وهم يعملون في المعامل لإعداد مواد الزينة للأغنياء، وكثيرون من أولئك المنكودي الطالع يموتون شهداء على مذبح راحة الأغنياء وتوفير صنوف الملاذِّ لهم.
لا تعم المساواة في العالم، ولا ينقطع الحسد من بين الناس، ولا تزول المنافسة وتُفْقد البغضاء إلا إذا سعى كل واحد لتحصيل ما يقوم بأَوَده بنفسه.
فيجب على كل واحد أن يُقْبل على الشُّغل وإعداد جميع لوازمه المعيشية بنفسه دون أن يعتمد فيها على غيره؛ فإننا لو نظرنا إلى المصائب العديدة التي تحدث بين الناس لوجدنا أن أصلها الحاجة ومصدرها الفاقة والإِعْواز. وأما الشرور والآثام والفساد والفجور فإن مصدرها البطالة والراحة المتناهية وملء البطون بالمآكل المغذية ذات الدُّهن الكثير التي تقود الإنسان إلى الشهوات وارتكاب الموبقات.
إن أقدس واجب على الإنسان تفرضه عليه الإنسانية الحقيقية هو سعيه إلى إزالة عدم المساواة الموجودة بين الناس، وبإزالتها تزول المصائب والويلات وتتلاشى الشرور والشهوات. وإن آمن طريق يوصله إلى ذلك هو العمل الذي يدفع الحاجة، وكذلك ابتعاده عن البطالة ورفاه العيش والتنعم، التي تقوده إلى العثرات وتحرك الشهوات الكامنة في نفسه.
إن تلميذ المسيح الحقيقي يكون في الغالب فقيرًا، أو بعبارة أخرى لا يلتفت إلى جمع الثروة واقتناء العربات الفاخرة والخدم والحشم والأتباع، وسكنى القصور الشامخة المفروشة بالرياش النفيس والفرش الوثيرة. أجل إنه يتمتع بجميع الخيرات الجزيلة والنعم الوافرة التي منحه إياها الحق سبحانه وتعالى، وللحصول عليها لا يجب عليه أن يقطن في المدن الآهلة بالسكان الكثيرة الفساد، بل ينبغي عليه أن يتخذ له مسكنًا في إحدى القرى ويقضي سحابة نهاره عاملًا في الحقول والغابات، ويشاهد في خلال عمله نور الشمس والأرض والسماء والحيوانات الأهلية والبرية، ولا مشاحَّة في أنه إذا مرض وتألَّم ومات فإنه يكون في ذلك مساويًا لجميع الناس على اختلاف الأجناس، ولكن مما لا ريب فيه أنه يعيش عيشة أسعد من عيشتهم وأصفى وأهنأ، ومما لا ريب فيه هو أن الناس الذين يعيشون مثل هذه العيشة الطاهرة الصافية الأمينة ولم يتطرق إليهم الفساد؛ يعتقدون اعتقادًا متينًا أن سعادة الإنسان تنحصر في العمل وشقاءه محصور في البطالة، وأنه بدون عمل تطرأ عليه السآمة والملل، ولذلك لا يستطيع البقاء يومًا واحدًا دون أن يعمل فيه عملًا، كما لا تستطيع ذلك النملة والحصان وكل حيوان.
إن تعليم المسيح يعلمنا بأن الإنسان المسيحي الحقيقي — الذي ليس من هذا العالم — يستطيع أن يحصل على السعادة التامة إذا أدرك تمام الإدراك ماهية وجوده في هذه الحياة التي تحتِّم عليه تحتيمًا شديدًا ألَّا يستعبد الناس بتشغيلهم الأشغال وتحميلهم الأثقال، ولا يعتمد في أمور معيشته عليهم، بل يجب عليه أن يعمل لنفسه بنفسه ويقدم حياته كلها فدية عن كثيرين.
قال الفيلسوف موجهًا الخطاب إلى إنسان المدن المتوغِّل في رفاه العيش والمتناهي في البذخ والخاضع للراحة، ما يأتي: «قم واخرج من خِدْرك، وطُفْ في المدينة، وقِفْ إلى جانب أولئك الذين يُطعمون الجياع ويكسون العراة ويُؤْوون الغرباء، ولا تخفْ شيئًا، وانتظم في سلكهم، وسرْ معهم كتفًا إلى كتف، واعمل بيديك الرَّخْصتَيْن الضعيفتين أول عمل تصادفه. ولا تأنف من فقير بائس، بل ارفُقْ به وألبسه وأطعمه، ثم اشتغل في الزراعة والأعمال الأخرى. ولا شك أنك ترى نفسك أسعد حالًا عما كنت عليه من ذي قبل، وتجد انقلابًا في عواطفك يساعدك على السير في طريق العمل والطهارة».
ويقول الفيلسوف: إن الشر الموجود في هذه الحياة ناجم عن القوانين والشرائع المسنونة التي تقيد الإنسان، وتحول بينه وبين الصلاح وطهارة القلب المفطور عليهما، وفي هذا الاجتماع أصبح لكل مشروع وكل أمر قوانين موجهة برمتها لاستعباد الناس وإذلالهم، ولا عجب إذا كانت داعية للشرور والمنازعات.
إن الاشتراكيين يقولون إن الشر محصور في استئثار بعض الناس بالثروة، وحصرها بين أفراد تضافروا على زيادتها والاختصاص بها وحرمان الناس منها، ويعدون جميع الوسائل التي يبذلونها في هذا السبيل جائزة مشروعة، وعلى عكس ذلك الملوك وأرباب السلطات، فإنهم يعتقدون أن الشر محصور في عدم خضوع الناس لسلطانهم وانصياعهم لأوامرهم وإشاراتهم. وهؤلاء وأولئك يستعملون القوة لتنفيذ مآربهم وأغراضهم، ولا ينجم عن مبادئهم هذه المعوجَّة غير زيادة الشرر وتوفير المصائب والويلات للهيئة الاجتماعية.
وقال عن الاشتراكية ما يأتي: إن الحكومة قابضة بيدها على زمام حرية الرعايا، وتسييرهم كيف شاءت وشاءت أهواؤها، ولكنها مع ذلك لم تستطع — حتى اليوم — أن تتداخل في النظام العائلي الداخلي، ولا في شئون الرعايا الاقتصادية وأحوالهم المعيشية وجنوحهم إلى البطالة أو العمل. ولكن جهاد الاشتراكيين ومبادئهم التي يصرفون قواهم إلى تنفيذها، وأهمها توزيع الثروة على الناس بالمساواة، تدفع الحكومة إلى التضييق على الناس ودخول بيوتهم لتنقيبها وإقلاق راحة سكانها وإزعاجهم، ثم ومن جهة أخرى تراقب حركات الاشتراكيين وسكناتهم، وهي تتدرج في ذلك، ولا يبعد أنه يأتي على الحكومة يوم — إذا دام لها استبدادها — من تعيين نوع الملابس والأطعمة للناس، وجبرهم على الاشتغال بهذه الحرفة دون تلك.
فعمل الاشتراكية مفيد من جهة ولكنه من جهة أخرى سبب كبير لما يستعمل فيه من القوة والمكايد والتهييج في حمل الحكومة على إزعاج الناس وسلب راحتهم، فالقوة لا تفيد صاحبها شيئًا، ولا ينجم عنها أقل فائدة إذا أفضت إلى الإضرار بالناس، فهي بهذا المعنى كالحروب التي يرسل فيها الملوك أشد رجال المملكة وأقواهم إلى الموت، ومهما نَجَم عن تلك الحروب المريعة فلا يعادل ما ذهب بسببها من ضحايا النفوس البشرية، تلك النفوس البريئة التي اضطرت إلى محاربة أقوام لم يسيئوا إليها.
والتخلص من هذا الشر لا يأتي من طريق هدم النظامات الحاليَّة وتغيير حالة المعيشة، وإنما يأتي من طريق فهم الناس ماهية هذه الحياة وإدراكهم كُنْه وجودهم، ولا يبلغون ذلك إلا إذا بلغت جميع طبقات الناس الكمال الديني والأدبي، ذلك الكمال الذي يزيل غشاوة الجهل عن الأبصار، ويدعو الناس إلى عقد اتحاد عام وألفة متبادلة؛ إذ ذاك يحوِّل الناس حرابهم إلى مناجل ويسيرون تحت أعلام الكمال، وتسود بينهم المحبة والإخاء والمساواة.
وكان الفيلسوف يزرع الأرض بنفسه، ويحصد القمح ويخيط ملابسه وأحذيته بيده، ولا يكتفي بذلك بل إنه يساعد الفلاحين الفقراء بالحراثة وغرس الأشجار؛ لأنه يرى أن مساعدة الفقير بالعمل أفضل له كثيرًا من المساعدة المالية. وقد قال عن ذلك في رواية البعث ما يأتي: ساعد المحتاج بالعمل تعلمه الجد والكد والابتعاد عن الكسل الوخيم، وتكنْ له خير أنموذج حسن، فيضطر أن يقتدي بك ويرى أن العمل أمر شريف وواجب على كل إنسان مهما كان رفيع المقام وافر الثروة. وبهذه الواسطة يقنع كل فقير بما يحصِّله بتعبه ونشاطه، ولا تعود نفسه تطمح إلى التقاعد والكسل، بخلاف إذا تصدقت عليه بالمال، فإنه تدب فيه روح الكسل ويُميت فيه عاطفة الشهامة فيَجْنح إلى التواني وقلة الشغل، فتسوء حالته تدريجًا ويصبح عضوًا غير نافع في المجتمع الإنساني، ويجر على عائلته الويل والمصائب.
وقال في بعض كتبه عن فساد المجتمع الإنساني: إن تاريخ الإنسان من حين وجوده لغاية الآن تاريخ ظلمٍ وجور وحرب وخصام. والناس مختلفون في تحديد الظلم والجور، فإذا أتيح لكل واحد أن يقاوم ما يحسبه ظلمًا وجورًا لامتلأت الدنيا بالحروب والخصومات، وأفضل شيءٍ لملافاة هذه الشرور الكثيرة أن يفعل كل واحد الخير مع غيره بدلًا عن الشر، فتصلح أحوال الناس عما هي عليه من الظلم والجور.
أما سبب زيادة الشقاء ووقوع الجرائم فهي لأن كل إنسان في هذا العالم يهتم بنفسه ويسعى لصالحه الخاص، بدون أن ينظر إلى أخيه في الإنسانية مهما كانت حالته. فلو اهتم الأغنياء وكبار السن وألَّفوا الجمعيات وأنشئوا المعامل وجمعوا للعمل فيها المتشردين وذوي الفاقة؛ لانقطعت اللصوصية واللصوص عن وجه الأرض؛ لأنهم يخلدون إلى السكينة والانصباب على العمل. وإذا بحثنا عن أحوال اللصوص وقطاع الطرق نرى أن سبب اندفاعهم إلى إقلاق راحة الناس وسلبهم هو العَوَز والاحتياج، فعدم اهتمام الأغنياء والحكومة بالفقراء وذوي البأساء وتركهم وشأنَهم يدخلون الحانات وبيوت الفساد والرذيلة؛ لقلة العمل بسبب وجود الفساد والشر. والحكومة إذا تسنى لها وقوع أحد المجرمين في قبضة يدها تقوده إلى المحاكمة وتستدعي الأغنياء المنتخبين أعضاء لديها، فتحكم عليه وتزُجُّه في السجن مع أولئك المنكودي الحظ الذين حرمتهم الحرية وعلَّمتهم البطالة والفساد وقادتهم إلى الرذيلة والشر، وهي — أي الحكومة — تظن أنها بزجها المجرمين في السجن تقوم بواجباتها نحو الهيئة الاجتماعية، غير عالمة بأنها تقترف جريمة لا تغتفر مع أخيها في الإنسانية الذي قادته إلى السقوط، وكان في وُسْعها أن تخلصه من الحالة التي آل إليها أمره؛ لأن السجون لا تؤثر في حالة الناس بل تزيد في تعاستهم، والهيئة الاجتماعية ليست قائمة الآن بسطوة القضاء وقوة المحاكم، بل لأن الناس لا يزالون يحبون بعضهم بعضًا ويشفقون على بعضهم.
وقال يصف الشرور: إن الفلاح الذي يَفْلَح أرض غيره ويبتاع ضروريات الحياة بالثمن الذي يُطلب منه لا يستطيع أبدًا أن يصير غنيًّا مهما كان مجتهدًا مقتصدًا. وأما الرجل المسرف المبذر الذي يتسرب في مناصب الحكومة أو ينال الحظوة لدى أربابها، أو يصير مرابيًا أو صاحب معمل أو بنك أو تاجر خمر، أو ينشئ بيتًا للمومسات؛ فهذا ينال الغنى من أقرب طريق، وأمثلة ذلك كثيرة حولنا.
ثم قال: علامَ نرى الرجال الأقوياء الماهرين المعتادين التعب، وهم الفريق الأكبر من بني البشر، يخضعون لأناسٍ ضعفاء الأبدان، لرجالٍ أخناث أو شيوخٍ عجزة؟ لماذا نرى الأقوياء يتبعون لهؤلاء الضعفاء؟ لأن الضعفاء قد امتلكوا الأرض وخيراتها والمعامل وما فيها. والحق الذي يمتلك به الغني الأرض ويجني ثمار ما يتعب به غيره، لا ينطبق على مبدأ من مبادئ العدل والإنصاف، وما هو إلا اغتصاب تؤيده القوة الحربية.
وقد صار العمال آلات لقهر إخوانهم بصيرورتهم جنودًا للحكومة وآلات في يدها للقتل والفتك. وما دام الناس يحلِّلون قتل غيرهم تبقى الجنود في يد الحكومة؛ أي في يد فريقٍ ضعيف من الناس، ويبقى هذا الفريق مستعينًا بهم على ابتزاز الأموال من الذين يكسبونها بعرق جبينهم. وشر من ذلك أن رجال الحكومة يفسدون جمهور الناس، ولولا ذلك ما استطاعوا التسلط عليهم وابتزاز أموالهم. وأصل كل الشرور ما رسخ في الأذهان من أن تجنيد الجنود لقتل الناس ليس إثمًا، بل هو شرفٌ كبير وعملٌ نبيل، لذلك لا تزول الشرور من الدنيا بتحرير الفلاحين ورفع الضرائب وتكثير الآلات والأدوات، ولا بإبطال الحكومات الحاضرة، بل بإبطال كل تعليم ديني يجيز للناس أن يحملوا السلاح لقتل غيرهم.
وقال عن السعادة في زمن صباه: ورد على فكري ذات يومٍ فجأةً أن الموت ينتظرني كل ساعة وكل دقيقة، وقد حتَّمت دون أن أدرك تلك الحقيقة التي لم يدركها الناس السالفون أن خير واسطة لسعادة الإنسان هي أن يتمتع وينتفع بالحاضر ولا يفتكر بالمستقبل، فأثَّر في نفسي هذا الفكر تأثيرًا شديدًا حتى إني خضعت له وتركت الدرس ثلاثة أيامٍ متوالية، واضطجعت على سريري وتفكَّهت بمطالعة الروايات وتلذَّذت بأكل الحلوى وألذِّ المأكولات.
والفيلسوف لم يدع وسيلة من وسائل الدفاع عن الأمة الروسية لم يستعملها؛ فقد كتب الكتب العديدة وصف بها الشعب وما هو عليه من الجهل المُطْبِق والفقر المُدْقِع، ووصف سجون ومنافي سيبيريا وما يقاسي بها ألوف المجرمين السياسيين من صنوف العذاب والهوان، وأظهر في كثيرٍ من كتبه فساد الحكومة الروسية وعمالها، وكتب للقيصر مرارًا عديدة.
وإنني إتمامًا للفائدة أذكر بعض فقرات من كتاب رفعه للقيصر يدل على جُرأته وعدم مبالاته بما ينجم عن ذلك من النتائج الوخيمة التي تصدر كل يومٍ عن حكومة اشتُهرت بالحَجْر على المطبوعات والمنشورات والضغط على الأفكار الحرة ومصادرة أصحابها وإلقاء القبض عليهم وزجِّهم في غياهب السجون أو نفيهم إلى مجاهل سيبيريا الكثيرة الجليد والصقيع. وهاك بعض ما جاء في الخطاب الموجَّه إلى القيصر ورجال حكومته:
- أولًا: المساواة بين الفلاحين والعمال وغيرهم من أهل الطبقات العليا. في أمور ذكر تفصيلها بخطابه مثل: «إلغاء القوانين التي تربط العمال بأصحاب الأعمال، وإعفاء الفلاحين من الأموال الأميرية التي تأخرت على غيرهم، ومن أخذ جواز السفر إذا أرادوا الانتقال من مكانٍ إلى آخر، ومن تقديم الخيل والعلائف لرجال الحكومة لا سيما رجال البوليس، ومن العقاب بالضرب».
- ثانيًا: إلغاء الحكومة العرفية التي تلجَئون إليها آونةً بعد أخرى، فتسلطون على الرعية أناسًا ظالمين فاسقين سخاف العقول.
- ثالثًا: إزالة كل الموانع التي تمنع تعليم أولاد العامة، لكي يتحرر جمهور الروسيين من رِبْقة الجهل، والجهل أكبر معين للحكومة على الاستبداد بهم.
- رابعًا: إطلاق الحرية الدينية لجميع الأمم القاطنة في جميع أنحاء المملكة الروسية، على اختلاف أجناسهم ومللهم.
هذه بعض فقرات من فلسفة تولستوي المنثورة في كتبه العديدة، التي لا يمكن الاطِّلاع عليها برمَّتها إلا من مطالعة مؤلفاته. وهذا النَّزْر القليل الذي أوردناه يدل بصراحة على سمو مبادئه الشريفة وأفكاره الحرة التي بسطها في تآليفه التي نُقلت إلى جميع لغات الدنيا الحية، وصادفت استحسان أفاضل المفكرين وعقلاء الناس المنصفين.
ولكن أكثر مؤلفاته طُبعت خارج روسيا لعدم تصريح الحكومة بطبعها، وكان نفع الأمة الروسية منها قليلًا لأنه لم يطالعها غير فئة مخصوصة بذلت وُسْعها في سبيل الحصول عليها بالطرق السرية، مع علمها أنها تعرض نفسها لخطر الوقوع في أيدي الحكومة التي شدَّدت في منع دخول تلك المؤلفات إلى بلادها، وحكمت الأحكام القاسية على كل من وجدتها عنده.
وقد استغرب الناس كثيرًا سكوت الحكومة الروسية عن محاكمة الفيلسوف أو نفيه، مع أنها حكمت أحكامًا عديدة على تابعيه وتلاميذه وناشري كتبه، ولذلك أسباب عديدة، أهمها: علم الحكومة بوفرة عدد أتباعه، وكلهم من شبان الطبقة الراقية، فإذا ألحقت به أذى فإنها تثيرهم ضدها، وتكون سببًا في إحداث ثورة عامة في أمهات المدن الروسية.
وقالت إحدى الجرائد الأجنبية إن الحكومة الروسية تركت الفيلسوف وشأنَه ولم تُلحق به أذى خشيةً من انتقاد أوروبا عليها التي تقدره حق قدره وتعدُّه أعظم فيلسوف ظهر في هذا القرن.
قال بعضهم إن الحكومة خشيت بأس أقارب تولستوي العريقين في الحسب والنسب والقابضين على زمام الوظائف العالية في الحكومة الروسية، فضلًا عما لهم من الأطيان الواسعة التي يقطنها ألوف من الفلاحين التابعين لهم وفي إمكانهم إثارتهم ضد الحكومة. وقالوا غير ذلك من الأقوال المتضاربة بهذا الشأن.