تقديم

على نحوِ ما أذكر في كتابي «فن الترجمة» — وما فَتِئتُ أُردِّد ذلك في كُتُبي التالية عن الترجمة — يُعَد المُترجِم مُؤلِّفًا من الناحية اللغوية، ومن ثَم من الناحية الفكرية؛ فالترجمة في جوهرها إعادةُ صَوغٍ لفكرِ مُؤلِّفٍ مُعيَّن بألفاظِ لغةٍ أخرى، وهو ما يَعْني أن المترجم يَستوعب هذا الفِكرَ حتى يُصبح جزءًا من جهاز تفكيره، وذلك في صورٍ تتفاوت من مُترجِمٍ إلى آخَر، فإذا أعاد صياغة هذا الفِكر بلُغةٍ أخرى، وجَدْنا أنه يَتوسَّل بما سمَّيتُه «جهاز تفكيره»، فيصبح مرتبطًا بهذا الجهاز. وليس الجهاز لغويًّا فقط، بل هو فكريٌّ ولغوي، فما اللغة إلا التجسيد للفِكر، وهو تجسيدٌ محكوم بمفهوم المُترجِم للنص المَصدَر، ومن الطبيعي أن يتفاوت المفهوم وفقًا لخبرة المُترجِم فكريًّا ولغويًّا. وهكذا، فحين يبدأ المُترجِم كتابةَ نصِّه المُترجَم، فإنه يُصبح ثمرةً لِما كتبَه المؤلِّف الأصلي إلى جانبِ مفهوم المُترجِم الذي يَكتسي لغتَه الخاصة، ومن ثَم يَتلوَّن — إلى حدٍّ ما — بفكره الخاص، بحيث يصبح النص الجديد مزيجًا من النصِّ المَصدَر والكِساء الفكري واللغوي للمُترجِم، بمعنى أن النص المُترجَم يُفصِح عن عملِ كاتبَين؛ الكاتب الأول (أي صاحب النص المَصدَر)، والكاتب الثاني (أي المُترجِم).

وإذا كان المُترجِم يكتسب أبعادَ المُؤلِّف بوضوحٍ في ترجمة النصوص الأدبية، فهو يكتسب بعضَ تلك الأبعاد حين يُترجم النصوصَ العلمية، مهما اجتهد في ابتعاده عن فِكره الخاص ولغته الخاصة. وتتفاوت تلك الأبعاد بتفاوُت حظ المُترجِم من لغة العصر وفِكره، فلكلِّ عصرٍ لغتُه الشائعة، ولكل مجالٍ علميٍّ لغتُه الخاصة؛ ولذلك تتفاوت أيضًا أساليبُ المُترجِم ما بين عصرٍ وعصر، مثلما تتفاوت بين ترجمة النصوص الأدبية والعلمية.

وليس أدل على ذلك من مقارنة أسلوب الكاتب حين يُؤلِّف نصًّا أصليًّا، بأسلوبه حين يُترجِم نصًّا لمُؤلِّف أجنبي، فالأسلوبان يتلاقيان على الورق مثلما يتلاقيان في الفكر. فلكلِّ مُؤلِّف، سواءٌ كان مُترجِمًا أو أديبًا، طرائقُ أسلوبيةٌ يعرفها القارئ حَدْسًا، ويعرفها الدارس بالفحص والتمحيص؛ ولذلك تَقترن بعض النصوص الأدبية بأسماء مُترجِميها مثلما تقترن بأسماء الأدباء الذين كتبوها، ولقد تَوسَّعتُ في عرض هذا القول في كتبي عن الترجمة والمُقدِّمات التي كتبتها لترجماتي الأدبية. وهكذا، فقد يجد الكاتب أنه يقول قولًا مُستمَدًّا من ترجمةٍ مُعيَّنة، وهو يَتصوَّر أنه قولٌ أصيل ابتدعه كاتبُ النص المَصدَر. فإذا شاع هذا القول في النصوص المكتوبة أصبح ينتمي إلى اللغة الهدف (أيْ لغة الترجمة) مثلما ينتمي إلى لغة الكاتب التي يُبدِعها ويراها قائمةً في جهاز تفكيره. وكثيرًا ما تَتسرَّب بعض هذه الأقوال إلى اللغة الدارجة فتحلُّ محلَّ تعابيرَ فصحى قديمة، مثل تعبير «على جثتي» (over my dead body) الذي دخل إلى العامية المصرية، بحيث حلَّ حلولًا كاملًا محلَّ التعبير الكلاسيكي «الموت دونه» (الوارد في شِعر أبي فراس الحمداني)؛ وذلك لأن السامع يجد فيه معنًى مختلفًا لا ينقله التعبير الكلاسيكي الأصلي، وقد يُعدِّل هذا التعبير بقوله «ولو متُّ دونه»، لكنه يجد أن العبارة الأجنبية أفصح وأصلح! وقد ينقل المُترجِم تعبيرًا أجنبيًّا ويُشِيعه، وبعد زمنٍ يتغير معناه، مثل «لمَن تدقُّ الأجراس» for whom the bell tolls؛ فالأصل معناه أن الهلاك قريبٌ من سامعه (It tolls for thee)، حسبما ورد في شِعر الشاعر «جون دَنْ»، ولكننا نجد التعبيرَ الآن في الصحف بمعنى «آنَ أوانُ الجد» (المستعار من خُطبة الحجَّاج حين وَلِي العراق):
آنَ أوانُ الجدِّ فَاشْتَدِّي زِيَمْ
قد لَفَّها الليلُ بسوَّاق حُطَمْ
ليسَ براعي إِبلٍ ولا غَنَمْ
ولا بجزَّارٍ على ظهر وَضَمْ

فانظر كيف أدَّت ترجمةُ الصورة الشعرية إلى تعبيرٍ عربي يختلف معناه، ويَحلُّ محلَّ التعبير القديم (زِيَمْ اسم الفرس، وحُطَمْ أي شديد البأس، ووَضَمْ هي «القُرْمة» الخشبية التي يَقطع الجزَّار عليها اللَّحم)، وأعتقد أن مَن يُقارِن ترجماتي بما كتبتُه من شِعر أو مسرح أو رواية سوف يكتشف أن العلاقة بين الترجمة والتأليف أوضَح من أن تحتاج إلى الإسهاب.

محمد عناني
القاهرة، ٢٠٢١م

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤