السجين والسجان

المنظر: غرفة واسعة تُشبه الصالون في منزل أحد أبناء الطبقة المتوسِّطة في القاهرة. يوجد بها شبَّاك صغير في أقصى اليسار، أما الخلف فهو عبارة عن حائط أبيض شفَّاف يمكن إذا أظلم المسرح أن يُفصح عن مشهد للقاهرة كلها؛ البيوت والعمارات العالية وبعض المآذن وأبراج الكنائس، إلى أقصى اليمين باب ضخم على هيئة عقد من عقود القرون الوسطى، الأثاث قليل: كرسي وأريكة ومكتب وسرير، يمكن إضافة قِطَع أخرى.
الزمن: الحاضر.
الأشخاص:  
  • السجين: كمال عبد المؤمن ٤٠ سنة.
  • السجان: كمال عبد المهيمن ٤٠ سنة.

عندما تُفتح الستار يكون المسرح خاليًا ثم تُسمع قرقعة سلاسل ومفاتيح وضجيج شديد، يُفتح الباب ويدخل السجان حاملًا طبقًا مغطًّى في يده. رجل نحيل ذو شارب كث، يسير في خطوات منتظمة ويضحك أو يحزن بعصبية، وفجأةً يرتدي بزة ضابط، ولكنه يخلع الجاكتة ويُمسكها في يده فلا نستطيع أن نرى رتبته. بعد قليل يخلع القبَّعة العسكرية ويضعها على المكتب أيضًا.

يدور السجان بعينَيه في المكان متفحِّصًا، يبدو عليه القلق، يتجوَّل على المسرح، ثم يبدو عليه الاستسلام، يتَّسم حديثه مثل التعبير على وجهه بالتناقض بين الفرح الصارخ والاستسلام الكامل.

السجان : انت فين يا كمال؟ رجعنا تاني للألاعيب بتاعتك؟ ع العموم انت حُر! تستخبى ماتستخبَّاش دا شأنك! ما دام انت في الزنزانة بتاعتك خلاص … بعد كده بقى عندك حريتك الشخصية … تقدر تعمل اللي انت عايزه … (يتجول على المسرح محاولًا اكتشاف مخبأ كمال) حتكون فين يعني؟ تحت السرير؟ ورا الدولاب؟ جوه الدولاب؟ تحت المكتب؟ جوه المكتب؟ (يضحك بعصبية) موش مهم، المهم انك موجود … دا اللي انا عارفه ودا اللي انا واثق منه … موش ضروري الواحد يشوفك عشان يعرف انك موجود.(يتحسَّس المفتاح في جيبه) أنا اللي شايل المفتاح واقدر أخُش لك وقت ما انا عايز واخرج من عندك وقت مانا عايز … بس موش هوه ده مصدر حريتي … حريتي مصدرها اليقين! اليقين يعني التأكد … يعني أنا متأكد إنك هنا … ما فيش عندي أي شك … خلاص! (يضرب كفًّا بكف) شوف سخرية القدر! وانا جاي النهارده ونِفسي مفتوحة لك وعايز أقعد معاك قعدة طويلة بعد ما ودعت الشك للأبد! وبعدين نِفسي أسألك سؤال! انت بتستخبى مني ليه؟ دانا صاحبك وحبيبك اللي اتعلم منك حاجات كتير … وقبل ما تيجي هنا كنا جيران وطلعنا بلديات كمان … ولو انك ما كنتش تعرف إن انا كنت جارك (يضحك) يلَّا يا كمال يا صاحبي، اظهر وبان عليك الأمان … خايف من إيه؟ ولَّا يمكن عايز تهرب؟ وتهرب ليه وتهرب من إيه؟ الكلام ده، كان يبقى مفهوم لو كنت خايف يقبضوا عليك … لكن خلاص … انتهينا … أديك اتقفشت واعترفت واتدبست … واديك هنا هه معاي وقُدَّامي … يلَّا بقى ما تدوخنيش … دانا جايب لك أكل ظريف النهارده وانا عارف انك جعان … وانت بقى لك كام يوم ماكلتش (في فزع) يا نهار مهبب … ما داهية تكون مُت!
لا لا لا … موش ممكن! (يتفحص المكان ثانيًا) انت هنا ومية في المية هنا … اطلع بقى أحسن لك … اطلع بقى بقولك أحسن والله والله … (يرتبك) اسمع امَّا أقولك … (يصرخ) أنا حاخرب بيتك … حابلَّغ إنك هربت … (بسرعة شديدة) حيضاعفوا لك المدة … حارجع بالأكل … حادبحك … حاسلخك … حاقطَّعك للكلاب … حارميك للقطط. (يأخذ منه جهد الصراخ مأخذًا ويحسُّ بالإرهاق الشديد والدوار ويكاد يسقط إعياءً) كده؟ تعمل فيَّ كده؟ أنا؟ بعد كل اللي عملته عشانك؟ انت صحيح علمتني كتير … لكن انا برضه خَدَمْتَك من ساعة ما عرفت انت مين وجيت هنا ليه … تعرف إن احنا دفعة ثانوية عامة واحدة؟! شوف القَدَر … أنا اروح البوليس وانت تخش الآداب! هو ده اللي فسد مخَّك … وعشان كده كان لازم أنضَّف لك الزنزانة م الكتب والكلام الفارغ اللي كان فيها … والحمد لله، نجحت! شلت الراديو اللي كان عامل دوشة ملهاش آخِر … والجرايد اللي كانت بتنرفزك … يعني فعلًا خلقتلك الجو المثالي للراحة والهدوء … وبصراحة أنا بحب زنزانتك دي أكتر من أي حتة في السجن … الواحد يقدر يقعد يتكلم ويتبحبح (يضحك) بس امَّا تطلع حاتكلم مع مين؟! (يدور في قلق على المسرح) اطلع بقى الله يهديك … حتفضل لإمتى هربان؟! وحنهرب ليه وإزاي وفين؟! ما انت عارف اللي فيها … الزنزانة مقفولة، والعنبر مقفول، والحوش مقفول، وباب السجن مقفول، وحوش السجن مقفول … وبرَّه حوش السجن برضه مقفول! (يضحك ثم يتحوَّل الضحك إلى صرخات مكتومة) موش ممكن تكون هربت صحيح؟! يا نهار اسود، انت فين يا كمال؟! كمال! (يصيح بأعلى صوته) كمال! كمال! (يُجن جنونه ويتحرك في كل مكان كأنما لسعه عقرب) اطلع بقول لك … اطلع وإلَّا أطين لك عيشتك وعيشة اللي خلفوك كمان … اطلع يا ابن الكلب (يضرب جميع الأماكن بقدمه ويدَيه) انت هربت؟ يبقى انا ضعت … يا خلق هُوه (يصيح في جنون) إلحقوني … مجرم خطير هرب … إلحقوني! (يتجه إلى الباب في تهالُك، وفجأةً ينقضُّ السجين عليه من الخلف ويحدث صراع قصير يتغلب فيه السجين ويُكمِّم فمَ السجان ويُجلسه على الكرسي ويوثق يدَيه خلف ظهره.)
السجين : يا ساتر! انت ما بتزهقش م الكلام؟! إيه اللي حصلك النهارده؟! كنت دايمًا هادي وساكت وانا … أنا اللي كنت باتكلم! جاي تديني محاضرة سيادتك عن الحرية والسجن؟ ناقصك انا؟ أنا بصراحة زهقت منك! وقررت اتخلَّص منك! والنهارده قبل بكرة … ودلوقت! بقى عشان ما كنا جيران ومراتك زي ما بتقول كانت تعرفني جاي تلزق لي؟! ما فيش مساجين تانية عجبوك؟ والله عال عال! (فجأة) ولَّا يمكن عشان اسمك على اسمي؟! لا يا ملك … لا! أنا حادبحك … وحالًا … أهه … آدي السكينة (يخرج سكينًا يلمع نصلُها في الهواء) شايف بتلمع ازاي؟ حامية زي الموس … كل اللي حاعمله إني حاكتب ورقة (ينقضُّ عليه بالسكين ويقترب النصل حتى عينَي السجان) ما انتش خايف يعني؟ لو واحد غيرك كات طلعت روحه … كات جات له سكتة … كان طَب … ولا كلمة … (يبتعد عنه) آه … فهمت … واثق اني موش حادبحك أحسن أروح في حديد! (يضحك) طب مانا في حديد أهه؟ لا لا لا … انت عارف إني ما قدرش أودِّي نفسي في داهية … كوني قتلت مراتي مش معناه انِّي قتَّال قُتلا … دي نقرة ودي نقرة … مراتي كانت بتاعتي … يعني مِلكي … أقتلها ما اقتلهاش أنا حُر … لكن انت بقى حاجة تانية … (يتجوَّل مُفكِّرًا) ومع ذلك لازم أتخلص منك … لازم تموت … إزاي؟ إزاي يا كمال ازاي؟ ما هو سَكْتة موش حتجيلك سَكْتة … لكن ممكن تنتحر! أمَّا فكرة عبقرية … تنتحر بصنعة لطافة … إزاي؟ تقطع عروق إيديك طبعًا واهي مربوطة ورا ضهرك وكله تمام … (يتململ السجان في كرسيه ويحاول الكلام بكل الطرق فلا يستطيع، فيهز نفسه ويحاول أن يقلب الكرسي) تعبت انت من حكاية الانتحار دي؟ ليه؟ دي حاجة طبيعية جدًّا … الإنسان لمَّا تضيق بيه الحياة زي ما ضاقت بيك ما يقدرش يستمر … يعلن الإضراب. يقول موش لاعب … يصرخ في وش الدنيا والناس … كام سنة في السجن يا ناس ما عدتش أستحمل … موش لاعب! صح؟! (يتنبه إلى إن السجان لا يستطيع الرد) موافق معاي طبعًا؟ حقول لهم هددني إنه ينتحر ويلزق التهمة فيَّ عشان يعدموني … حاصرخ واعيط واهد الدنيا عليهم … كدهه! (يمثِّل الصراخ والعويل ويخبط المقاعد بقدمه ويجري من مكان إلى مكان) كمال انتحر! إلحقوني … يا خلق هوه … كمال انتحر! (أثناء ذلك ينجح السجان في فك يدَيه ويُزيل الكمامة من على فمه وينهض فيتنبَّه السجين ويتخذ منه موقف المتنمر.)
السجان : أنا حاوديك في داهية!
السجين : فكيت نفسك؟
السجان : حاخرب بيتك!
السجين : اتحررت؟
السجان : حيقطعوك حتت.
السجين : السكينة لسه معاي!
السجان : حيطلقوا عليك الكلاب.
السجين : خُش عليَّ لو راجل.
السجان : لا يمكن حتفلت المرة دي.
السجين : خوش أمال … خُش … (يزوم مثل النمر) خوش عليَّ.
السجان : حاكتب تقرير.

(يتحاوران على المسرح كأنهما يتصارعان أو يستعدان لجولة مصارعة.)

السجين : خُش بقولك.
السجان : حاتندم يا كمال.
السجين : خُش عليَّ … خليك راجل!
السجان (يقف فجأةً ويقرِّر عدم الصراع) : موش مهم.
السجين : خسارة!
السجان : يا بخت من قدر وعفي.
السجين (ساخرًا) : الطيب أحسن!
السجان : أنا كنت جاي في حاجة مهمة … لكن بقى ما دام انت آخد المسألة كده … لازم أروح أكتب التقرير!
السجين : عايزهم يعملوا فيَّ إيه أكتر من كده؟
السجان : موش مسألة يعملوا … التقرير مالوش دعوة … دا واجب ما فيش مفر منه.
السجين (ملاطفًا) : حتقول إن سلوكي كويس؟
السجان : سلوكك؟!
السجين : يعني!
السجان : عايزني أقول إنك هادي الطبع؟ ليِّن الجانب؟
السجين : يمكن يحاكموني! ما تنساش يا كمال يا صاحبي إن انا محبوس رهن التحقيق!
السجان : لا لا لا … دا موش شُغلي … أنا ممكن أقول إن قوتك العضلية ممكن الاستفادة بها في تقطيع الأحجار … (كأنما يقرأ من ورقة) ومن ثَم نوصي بنقله إلى الجبل ليُساهم في الأعمال الإنشائية، أو على الأقل في إعداد الصخور التي نحتاج إليها في البناء وإصلاح الطُّرق.
السجين (ساخرًا) : حلو قوي … جميل … رائع!
السجان : تقرير ظريف؟
السجين : إنت أظرف!
السجان : أصل ما فيش حتة تانية نقدر ننقلك لها!
السجين : وعايز تنقلني ليه بس؟
السجان : ما هو واضح انك زهقت مني.
السجين : حد يزهق منك يا راجل؟!
السجان (في عتاب رقيق) : أنا لاحظت في الفترة الأخيرة إنك موش مستريَّحلي وزي ما تقول كده … (يتردد) آخِد مني موقف!
السجين (مرعوبًا من عواقب هذا الكلام) : أنا … آخد منك انت … موقف؟ (ملاطفًا) بقى دي معقولة دي؟
السجان (لهجة العتاب مستمرة) : وموش بس آخد مني موقف … دانا زي ما كون عدوك!
السجين (منتهى اللين) : ليه بس كده يا كمال يا صاحبي؟ ليه تقول الكلام الوحش ده؟
السجان (في عتاب كأنما هو طفل يعاقب أمه) : كل ما اجيلك تهاجمني … وتخوِّفني! ده ذنبي اني نقلتك هنا وبعدتك عن دوشة المساجين؟ ده ذنبي اني مريحك وباسطك آخِر انبساط؟ لو تعرف أد ايه باعزك يا كمال … دانا شايلك على كفوف الراحة … (في انفعال) من ساعة ما عرفت انك كنت ساكن جنبنا في بحري وانا باوِدَّك وباحِن عليك … انت فاكر يعني انك لو رُحت طُرة حانبسط؟
السجين : حتلاقي مين تضربه ولا يشتكيش زيي؟
السجان : أضربه؟ أنا باضربك يا كمال؟
السجين : لا العفو … أنا اللي باضرب نفسي!
السجان : يا كمال ده موش ضرب … ده شغل!
السجين : رياضة؟
السجان : دي مهام وظيفتي … طبيعة عملي!
السجين : آه … قول كده … دلوقت فهمت!
السجان : والله انت لا فهمت ولا حاجة … أنا يا كمال قلبي بيوجعني لمَّا باشوفك بتتألم … وبتصعب عليَّ … وحتى باتألم والله!
السجين : لكن لازم تقوم بالواجب طبعًا!
السجان (فجأة) : اسمع … انت موش لاحظت اني من مدة ما ضربتكش؟
السجين : وإيدك بتاكلك!
السجان : بتاكلني ايه إخص عليك! أنا حالغي الضرب خالص … وحاسحب اقتراح طُرة.
السجين : هو انت كنت قدمته؟
السجان : الحقيقة … في لحظة غضب!
السجين : طب والعمل؟
السجان : حاسحبه … وحاجيب لك كل حاجة عايزها … (في ودٍّ شديد) أنا مستعد حتى اديك مفتاح (يغمز له) يعني! حاجة كده تقدر تزوَّغ بيها إنْ كنت عايز!
السجين (غير مصدِّق) : انت … انت … عارف انت بتقول إيه يا كمال؟
السجان (في حماس) : عارف، ومسئول عن كل كلمة … (يقترب منه هامسًا) بس عندي طلب صغير.
السجين : خير!
السجان : تعترف لي قتلت مراتك ليه!
السجين (يضحك ضحكًا شديدًا) : حلوة دي … حلوة خالص!
(ضحك هستيري) أحلى حاجة قلتها في حياتك!
السجان (مأخوذًا بردِّ الفعل العنيف وغير المتوقَّع) : أنا متأسف إنْ كنت زعلتك!
السجين (الضحك مستمر) : بالعكس … دانت بسطتني خالص، فرفشتني … نعنشتني … هوستني!
السجان : حقك عليَّ … أنا (مترددًا) كان عندي أمل … أصلك مرة …
السجين (يهدأ ضحكه) : مرة إيه؟ اعترفت؟
السجان : لا … كنت كلمتني عن سلومة!
السجين : مراتي؟!
السجان : وقلت إنها كانت صاحبة حُسنية الروح بالروح.
السجين : تمام … حسنية عبد العال … كانت جارتنا لزم … وقبل كده … آه … كانوا بيشتغلوا مع بعض في المدرسة القومية في ميت جناج مع بعض كام سنة … دول كانوا ما يسيبوش بعض أبدًا لحد ما جينا مصر بقى … كانوا … (يتردد) على إيه؟ ما خلاص بقى!
السجان (باهتمام شديد واستغراق رهيب) : أيوه … كانوا إيه؟ كانوا إيه؟ كنت بتقول …
السجين : وانت يهمك ده في إيه؟
السجان (يبلع ريقه وقد استغرق تمامًا فيما يقوله السجين) : قول يا كمال … أنا مستعد أخليك تخرج النهارده … أوعدك … أوعدك انك تخرج النهارده!
السجين : وبعدين معاك بقى؟
السجان : أوعدك … أوعدك … أبوس إيدك! عايز أعرف. (ينحني على ركبتَيه) أبوس رجلك … كانوا إيه؟!
السجين : انت حتطيَّر لي مخي يا جدع انت؟ قُوم … عيب … قُوم بقول لك … (يُعينه على الوقوف ثم يحملق فيه) انت عايز تعرف إيه؟
السجان : انت كنت بتقول انهم عاشوا مع بعض وأثَّروا على بعض … يعني كانوا زي بعض وانهم … هه … هه … كنت بتقول … (يبلع ريقه في لهفة.)
السجين : أنا ما قلتش!
السجان : لا … مرة قلت لي إن سلومة كانت حاجة صعبة قوي وماحدش يقدر يشكمها.
السجين : وانت تعرف سلومة منين؟
السجان : مش كانت صاحبة حسنية؟
السجين : وحسنية تبقى لك إيه؟ اوعى تقول لي مراتي!
السجان : بلاش أقول؟
السجين : تقول إيه؟
السجان : مراتي!
السجين (يدور في حيرة) : ماهو يانا مجنون يانت مجنون … عايز تقول إن حسنية مراتك انت؟
السجان : عارف إن شكلي موش قوي!
السجين : أنا مالي ومال شكلك … أنا أقصد الظروف … الظروف … الدنيا … موش ممكن … احنا عشنا سوا تقريبًا … كنَّا جيران وأكتر من جيران … وعمري ما شفتك … كنت عارف إن حسنية جوزها … آه … افتكرت!
السجان : كنتوا بتشتغلوا مع بعض في الثقافة … بعد ما سبتوا الوزارة!
السجين (ساخرًا) : يعني عارف كل حاجة أهه؟!
السجان : أنا عايز أعرف منك … أنا ما اعرفش حاجة أبدًا!
السجين : عمري ما كنت أتصور إن حسنية متجوزاك انت!
السجان : اللي حصل يا كمال!
السجين : حسنية … المرأة الكاملة … الإنسان … فاهم يعني إيه؟
السجان : طبعًا … موش مراتي؟!
السجين : ولا انت فاهم ولا عمرك حتفهم! (يضرب كفًّا بكف) بقى حسنية تبقى مراتك انت؟!
السجان : كتير عليَّ أتجوز واحدة عينيها زرقا وشعرها أصفر؟!
السجين : شعرها أحمر!
السجان : أحمر ولا أصفر … حسنية كات شكل بس … زي بقية الستات!
السجين : وانت عارف بقى بقية الستات؟!
السجان : حاجة صعبة قوي؟
السجين : ولا صعبة ولا سهلة، أنا حاقفل ع الموضوع ده. فين الأكل؟

(يتجه الى المكتب ويكشف الغطاء عن الطبق ثم يُعيده مكانه.)

إلهي يسد نفسكو!
السجان : حقك عليَّ يا كمال … ماتزعلش منِّي!
السجين : وانت ذنبك إيه؟ هم اللي عطوك الأكل توصله.
السجان : ما قصدش الأكل!
السجين (ساخرًا) : فيه حاجة تانية؟
السجان : لا ما فيش.
السجين : خلاص … اتفضل!
السجان (في استسلام) : سلامو عليكو.

(يعود السجين إلى الطبق فيعبث به ويأخذه إلى أقصى اليسار بينما يُخرج السجان المفاتيح ويتجه إلى الباب فيحاول أن يفتحه فلا يستطيع فيثور.)

انت عملت ايه في الباب ده؟ افتح باقول لك! انت عملت إيه في الباب؟ إيه اللي حصل له؟! افتح … افتح بقولك!
السجين : أنا؟ أفتح؟
السجان : والله إن ما فتحت! أنا فهمت حِيَلك وألاعيبك … عايز تحبسني معاك هنا؟! لا ياعم! أنا موش مسجون … أنا حر … أقدر أدخل وأخرج زي مانا عايز … أفتح الباب ولَّا أقفله على كيفي؟ معاي المفاتيح وأقدر أخُش … افتحي … (يطرق الباب بشدة) افتحي بقولك … افتحي أحسن أكسره على دماغك! (يطرق) افتحي … أنا عارف إنك جوَّه … تطفي النور تولعي النور أنا عارف إنك جوَّه … افتحي … بتعملي إيه عندك؟ افتحي … افتحي!
السجين (في نبرات واثقة كأنها قَدَرية) : قافلة على نفسها من جوه!
السجان (صارخًا) : موش ممكن … أنا اللي معاي المفتاح!

(فجأةً، يقف ويتنبَّه إلى أن الحديث يدور عن امرأة وليس عن رجل. يمسح العرق من جبينه ويستدير إلى السجين.)

انت قلت ايه؟
السجين : أنا ما قلتش حاجة!
السجان : إنت بتتكلم على مين؟
السجين : موش أنا اللي باتكلم!
السجان : إنت قلت!
السجين : إنت اللي قلت.
السجان : أنا قلت؟
السجين : افتحي.
السجان : افتحي؟
السجين : قافلة على نفسها.
السجان : المفتاح معاي أنا بس!
السجين : المفتاح موش مهم.
السجان : أنا اللي أقدر أفتح!
السجين : وتفتح ليه؟ عايز تشوف إيه؟ موش يمكن لو اتفتح الباب تشوف حاجة موش عايز تشوفها؟ إذا كنت حُر صحيح سيب الباب مقفول … وحتى لو فتحته … تقدر تشوف اللي قدامك أو ما تشوفوش … وفي الحالة دي ما يبقاش موجود. ما هو الموجود يبقى موجود عشان بنشوفه!
السجان (ذاهلًا) : إنت بتقول إيه؟
السجين : حسنية قاعدة في الضلمة … لوحدها.
السجان : ليه؟
السجين : وانت ما لك؟ شأنك إيه بالدنيا بتاعتها؟ العالم الكبير الواسع العريض اللي مالوش آخِر … بتاعها. بتاعها هي بس! (ساخرًا) عايز تخُش؟ موش ممكن! مالكش وجود فيه، حسنية خلقته وهندسته وزيَّنته بكل حاجة جميلة في الوجود.
(فجأةً) كمال، تعالَ هنا!

(صمت، يتبادل الرجلان نظرات ترقُّب.)

(يقترب منه السجان في شبه ذهول، يسحبه من يده ويُجلسه.)

اقعد … أنا حاسألك سؤال واحد … موش مهم تجاوبني عليه؛ لأن المهم هو السؤال نفسه!
السجان : سؤال إيه؟
السجين : أبدًا … أقصد يعني … هل انت عمرك فكَّرت إيه اللي بيربطك بحسنية؟
السجان : بيربطني إزاي؟
السجين : يعني إيه اللي بيشدك لها وبيخليك عايزها وقلقان عليها وبتفكر فيها؟ (صارخًا) العلاقة يعني يا أخي!
السجان : علاقة إيه؟ مش مراتي؟!
السجين : سلومة مراتي، ولكن … افهمني يا كمال! اللي كان بيشدني لها، واللي كان بيبعدني عنها في الوقت نفسه هو غموضها، هو اني ما كنتش فاهمها، وما كانش ممكن أفهمها، وللأسف ما عرفتش ده إلَّا بعد فوات الأوان.
السجان : وحسنية كده؟
السجين : انت بتسألني؟
السجان : ما اعرفش!
السجين : ما تعرفش إيه؟ حسنية كانت المَثَل الأعلى بتاع سلومة، كانت تقعد معاها بالساعات والأيام تحكي وتقرأ وتكتب زي ما تكون هربت م العالم ده لعالم تاني خالص … أنا بكل أسف ما كنتش باقدر أقرَّب من العالم ده … وفرصتي الوحيدة لمعرفة حسنية كات عن طريق سلومة … اللي ما كنتش فاهمها أنا نفسي!
السجان : لكن … أنا عارف إنها تعرفك!
السجين : حسنية زارتني مرة واحدة في المكتب … سحرتني! قعدتْ تتكلم وقعدت أنا … أنا الكبير واللي مفروض اني رئيسها … قعدت ساكت ومسحور وباسمع زي العيل الصغير لمَّا يسمع حواديت أمه ولَّا حواديت جدته!
السجان : حكيت لك إيه؟!
السجين (يضحك) : لا ما تخافش … عمرها ما جابت سيرتك كان واضح إن مشكلتها مالهاش دعوة بيك.
السجان : أمال حكيت لك إيه؟
السجين : موش فاكر التفاصيل، لكن الصورة اللي سابتها في خيالي هي صورة حصان برِّي بيجري، فَرَسة بتبرطع في الغيطان، إنسانة موش ممكن تربط نفسها بمكان ولا زمان، قلب حُر يفضل يدور ويتنطط من مكان لمكان!
السجان : من وزارة لوزارة.
السجين : ومن مدرسة لمدرسة.
السجان : ومن راجل لراجل!

(صمت متوتر.)

السجين : انت قلت إيه يا كمال؟
السجان : لا … (مترددًا) أنا بأقول يعني … قصدي …
السجين : حسنية خانتك يا كمال؟
السجان : ما عرفش، لكن انت بتقول …
السجين (مقاطعًا) : أنا عايزك انت اللي تقول!
السجان : كات دايمًا تتنقل وتعيش في بلاد كتير.
السجين : زي ما عاشت مع سلومة في ميت جناج، وزي ما كنتو جيراننا، لكن … خانتك؟
السجان : كانت دايمًا تقعد في الضلمة!
السجين : جاوبني!
السجان : وتقفل على نفسها.
السجين : جاوب!
السجان : ما اعرفش، ما اعرفش. هو تحقيق ولَّا إيه؟!
السجين : انت اللي بدأته، حسنية يا كمال بعدت عنك وعن الناس لأن الجسور اللي بينها وبينهم اتكسرت، وأول واحد كسر الجسور دي هو انت!
السجان : انت بتتكلم على إيه؟
السجين : الجسور دي باختصار جسور فِهم، اتصال … تواصُل … صعبة عليك دي؟
السجان : ماكناش فاهمين بعض؟
السجين : مش مهم الفهم، المهم محاولة الفهم. انت عمرك فكرت إن حسنية دي بتكتب واتنشر لها بالفعل إنتاج كويس؟
السجان : وده دخله إيه؟
السجين : عمرك سألت نفسك حسنية نفسها تبقى إيه أو تعمل إيه؟ يا كمال أنا موش بلومك أبدًا، أنا كمان عمري ما حاولت أفهم سلومة، كل اللي في دماغي هو انِّي أفتح عليها الباب، يعني أفرض نفسي على حياتها حتى من غير ما اعرف إيه هي حياتها. كنت متصور إن احنا ما دام متجوزين يبقى لازم أكون موجود جواها، جوَّه حياتها الخاصة، جوه أفكارها زي أنا ما موجود جوه مشاعرها وبيتها … (في ألم) كنت متصور إن التفاهُم معناه انِّي أقتحم عليها دنياها، أحشر نفسي في كل حاجة تعملها وكل حاجة تفكر فيها، لكن … يا خسارة! كنت فاكر اني لازم أكون الإنسان الوحيد في حياتها! (في دفء) النوع ده من البشر يا كمال لا يمكن حد يمتلكه، لا راجل ولا ست، حياتها لازم يكون فيها غيري وغيري وغيري!
السجان : الخاينة!
السجين (ساخرًا) : خاينة! يعني إيه؟ وافرض!
السجان : أفرض إزاي بقى؟
السجين : خلاص … أنا قلتلك كل حاجة!
السجان : كمال يا حبيبي اعذرني، أنا دماغي بيغلي زي ما يكون فيه نار، أرجوك … ريَّحني، انت عارف حاجات كتير ومخبي عليَّ، أرجوك أبوس إيدك، قول لي … صارحني!
السجين : عايزني أقول إيه تاني؟
السجان : الحقيقة!
السجين : وتعمل بيها إيه؟ انت كتبت على نفسك تعيش في سجن من الشك، ولا يمكن حتصدقني مهما قلتلك، مشكلتك انك أخدت على الشغل لحد ما الناس كلهم بقم في نظرك مساجين، ماعدتش تشوف الحرية اللي بتيجي م الاقتناع، من القبول والرفض في الوقت نفسه، لازم تعترف يا كمال انك كنت — ويمكن لسه — بتعامل حسنية زي المساجين … انت لوحدك معاك المفتاح، وانت لوحدك اللي يقدر يقفل ويفتح … تعمل إيه حسنية؟ تهرب، بس موش لبره … لجوه!
السجان : رجعنا للكلام بتاعك اللي ما يجيبش تمنه!
السجين : كلام فارغ؟
السجان : انت من يوم ما ناقشتني في الموضوع ده وانا بافكر فيه، كل يوم أطلع السطوح واتفرَّج ع الناس … ما لقيتش حد حُر … صح! بص حواليك … بص م الشباك ده، بص ع الناس اللي منورين أُوَدْهُم بعد المغرب!

(تتحول الخلفية إلى لوحة شفافة نرى من خلالها بلكونة فيها إضاءة وغرفة مُضاءة إلى جوارها على البُعد في أحد المنازل.)

شايف الراجل اللي قاعد في البلكونة ده؟ تعرفه؟ طبعًا لأ، أنا أعرفه؛ لأنه … زيه زي غيره، مربوط من رقبته في ساقية الدنيا، الشغل والفلوس والعيال، رأيك إنه حُر؟!
السجين : انت بتتكلم على مين؟
السجان : الراجل اللي قاعد في البلكونة ده … بيشرب الشاي بمعلقة سكر واحدة وحاطط الجرنان على ركبه، قراه عشر مرات، ما فيش حاجة تانية يقدر يعملها، رأيك إنه حُر؟
السجين : ليه لأ؟
السجان : لأنه ما يقدرش يخرج!
السجين : يقدر!
السجان : ما يقدرش، يروح فين؟ يمشي في الشارع؟ ممكن طبعًا، لكن برضه مش ممكن.
السجين : ليه لأ؟
السجان : لأنه مربوط في ساقية، مراته وعياله وعيشته كلها، شايف مراته؟ أهي! واقفة في المطبخ المنوَّر ده، بتحضَّر العَشا، خلاص، رتبت كل حاجة، كل دقيقة من وقته معروف حيعمل فيها إيه!
السجين : وهي بقى السجان بتاعه؟
السجان : لا طبعًا، لكن …
السجين : انت شطحت قوي!
السجان : كده؟ شايف السطوح المنوَّر هناك ده؟ فيه إيه؟ فرح! حلوة كلمة فرح دي؟ خلِّي بالك … موش حفل زفاف … لأ … فرح! يعني واحد فرحان ولَّا واحدة فرحانة … بإيه؟ بإنه سلِّم نفسه لواحدة ترتب له حياته وتربطه في الساقية بتاعة الدنيا … هي دي الحرية؟
السجين : إيه الفلسفة دي كلها؟

(تنطفئ أنوار الشاشة ويعود الحائط.)

السجان : مش الساقية دي اللي انت بتسميها الجسور؟
السجين : سمِّيها السلاسل إن كنت عايز!
السجان : وحسنية بقى كسرت السلاسل؟
السجين : ما كانش فيه بديل.
السجان : كفاية مغالطة بقى يا كمال … انت بتلف وتدور ليه؟! خايف عليَّ؟ فاكرني موش حاقدر أقف على رجلي وأتحمل المسئولية اللي انت اتحملتها؟ ليه بتقول كلام ضد أفكارك … ضد اللي انت عملته بإيدك دي! يا راجل يا … حُر!
السجين (ساخرًا) : دانت الظاهر رضيت عني!
السجان : من يوم ما جيت هنا يا كمال حياتي كلها اتغيرت! كنت لأول مرة باشوف قدامي راجل حُر، ما كنتش فاهم ده معناه إيه، ع الورق انت متهم زيك زي غيرك، لكن بالنسبة لي يا كمال إنت الحر الوحيد … الراجل اللي قدر يقطع الشك بسكينة صغيرة! انت شكيت في سلومة … عرفت عنها اللي انا عرفته عن حسنية! لكن انت راجل ومش ممكن تعيش في عذاب … ساجن نفسك ورا باب مقفول زيي وبتقول يا ترى مراتي بتخوني ولَّا لأ؟! ما كانش ممكن؛ لأنك حُر.
السجين : إنت فاهمني غلط خالص!
السجان : بالعكس … دانا ما فهمتكش زي ما فهمتك دلوقت … أنا بقى لي فترة عايش معاك وجواك وما ليش هم غيرك، … راقبتك ولاغيتك وكلِّمتك وداريت عنك أخبار الدنيا المقرفة عشان تصفا لي وتعترف لي … (في ألم) كنت باضربك كإني باضرب نفسي … غيظي من نفسي واحتقاري لضعفي … كبست على نفسك لحد ما زهقتك مني وخليتك تكرهني!
السجين : أنا ما بكرهش حد.
السجان : اسمعني للآخر أرجوك … أنا استحملت ده كله عشان أحس قد إيه الإنسان يقدر يستحمل، وانت … استحملت زي البطل … بصيت لنفسي وقلت: لإمتى حافضل محبوس في سجن الشك؟ وسجن حسنية؟ كان لازم أخرج م السجن بتاعي، سجن شكوكي وسجن ضعفي قصاد جمال … عينيها الزرقا وشعرها الأحمر، سجن عجزي عنها، عجزي عن أي حاجة … (في انهيار تام) كنت باموت في اليوم ميت مرة، أروَّح م السجن ألاقي نفسي في سجن تاني رهيب … ألاقي نفسي مُحاصَر بمليون سؤال، يا ترى كانت فين؟ يا ترى كلِّمِت مين؟ يا ترى فكَّرَت في إيه؟ أكلمها ترد عليَّ بآه أو لا، كل ما احاول أقرَّب منها تسيبني وتقفل الباب وراها، ألاقي نَفسي باجري في الشارع موش عارف رايح فين ولا جاي منين … وقدامي صورة الراجل العظيم اللي فضَّل السجن على حياة السجن!
السجين : إذا كان قصدك سجن الشك …
السجان (مقاطعًا) : سجن الضعف يا كمال!
السجين : كنت عايزني اعترف لك إني قتلت سلومة عشان ضعفي؟
السجان : عشان قوتك!
السجين : إنت مستحيل التفاهم معاك النهارده!
السجان : بالعكس، النهارده بس … التفاهم بقى ممكن!
السجين : يا كمال أنا حاولت أشرح لك إني ما قدرتش أواجه واحدة حرة، سلومة كات أكبر مني، روح طايرة بجناحين، دنيتها أكبر من دنيتنا، كان مستحيل … حاجة جواي كات بتقول لي مستحيل تقبل حرية سلومة!
السجان : وما قبلتهاش! رفضتها، اتأكدت وضربت ضربتك!
السجين : اتأكدت من إيه؟ كان قدامي فرصة أثبت لنفسي إني حر، إني أقدر أشوف الباب مقفول عليها وما خبطش عليه، كان ممكن أقول لنفسي أنا واثق م اللي جوه، موش عايز أفتح، لو فتحت موش عايز أشوف اللي قدامي، لكن في لحظة ضعف فتحت!
السجان : في لحظة قوة.
السجين : لحظة ضعف!
السجان : قتلتها؟
السجين : أفندم؟!
السجان : قتلتها! واستريحت للأبد!
السجين : قتلت مين؟
السجان : قتلت الشك للأبد … راح … زال … واتحررت! (في استغراق عنيف) ماعدش فيه عينين زرقا ولا شفايف حمرا تنده اللي يسوى واللي ما يسواش … خلاص يابو كمال، الواحد يقدر يرفع راسه ويتكلم، ويقول من غير خوف، خلاص يابو كمال!
السجين (في توجُّس) : إنت بتتكلم على مين؟
السجان : ما بقاش فيه حد يقفل على نفسه من جوه، ما بقاش في أسرار ولا ألغاز!
السجين (في ذعر) : إنت عملت إيه يا كمال؟
السجان : كان لازم يا صاحبي، كان لازم أحرر نفسي من جوه!
السجين : كمال … إنت …؟!
السجان : أيوه، قتلتها!
السجين : حسنية؟
السجان : قفلت العينين الزرقا للأبد!
السجين : قتلتها إمتى يا كمال؟
السجان : ما اعرفش، ما تسألنيش، الأودة الضلمة اتفتحت، ونورت، ما عدش فيه ضلمة! (يُقبل عليه بشغف ويحاول احتضانه) وانت السبب! إنت اللي أنقذتني، عرفت ليه أنا بحبك وعايزك جنبي دايمًا؟! ومن يومها يا كمال ما عدتش أقدر أضربك!
السجين (في ذهول) : يخرب بيتك … وعملت إيه في اﻟ…؟
السجان : ما اعرفش!
السجين : وديتها فين؟
السجان : ما اعرفش، نقلتها، رميتها في الجبل.
السجين : يا كمال يا مسكين، تعالى جنبي، تعالى! (يسحبه من يده في رقة) إنت عملت إيه؟ أنا خليتك تعمل إيه؟ وحاكفَّر دلوقتي عن ذنبي إزاي؟! أنا كدبت عليك يا كمال، أنا عمري ما قتلت حد، ولا رفعت سكينة في وش حد … غير وشك انت!
السجان : انت معترف يا كمال!
السجين : أنا ما قتلتش سلومة يا كمال، أنا ما قتلتش حد أبدًا!
السجان : أمال مين اللي …
السجين : قتلتها؟ ومين قال انها اتقتلت؟!
السجان : إزاي بقى؟
السجين : سلومة هربت يا صاحبي!
السجان : هربت منك؟
السجين : لا، موش مني … م الدنيا، هجِّت … اختفت، فص ملح وداب.
السجان : بس انت معترف! انت المتهم.
السجين : بالظبط، معترف ومتهم.
السجان : والجريمة؟
السجين : جريمة إيه؟
السجان : إزاي أثبتوا …؟
السجين : ما أثبتوش، ما تنساش يا كمال … أنا هنا محبوس رهن التحقيق.
السجان : عشان اعترفت!
السجين : كان لازم أعترف، لازم أواجه الناس واواجه نفسي، لكن طول ما المحقق موش شايف دليل مادي قدامه …
السجان : يعني جسد الجريمة …؟
السجين : ما فيش! مين يقدر يلبسني التهمة؟ (ساخرًا) التهمة اللي لازم ألبسها ولازم أفضل لابسها. ما قدرش أعيش من غيرها!
السجان : لكن انت …
السجين : معترف! قطعًا يا حبيبي … ولازم أفضل معترف … السجن بالنسبة لي أرحم من حياة الشك وعذاب التفكير … خليني أعترف لك اعتراف أحسن … أنا عَجَزت يا كمال إني أعمل علاقة! أي نوع م العلاقة مع أي حد … أنا كنت باقفل على نفسي الأودة وأفضل في الضلمة لإني ما كنتش أقدر أواجه واحدة حرة … الحياة كانت جحيم، الليل ضلمة مالهاش نهاية، والنهار طريق يوصل للضلمة … سبت الشغل، ما كانش في حياتي غير الخلاص م الشك … الشك … اللي بكل أسف حيعيش معاي للأبد.

(يدق الباب ويدخل ضابط ويقرأ من ورقة بعد قليل.)

الضابط : مساء الخير يا فندم … (إلى السجين) فيه تطورات في قضيتك يا كمال، طلبك التحويل للكشف عند طبيب أمراض عقلية رُفض.
السجان : أمراض عقلية؟
الضابط : جانا من وكيل النيابة تقرير عايزك تسمعه: «عثر بعض الصبيان أثناء لعبهم الكرة في منطقة السياجي بالجبل على …»
السجين : ما تكملش … مراتي!
الضابط (مستمرًّا) : «وسوف يتم عرضها على المتهم ليتعرَّف عليها.»
السجين : شعرها أحمر … وعينيها زرقا؟
الضابط : تمام!
السجان (يتمتم في هلع) : حسنية!
السجين (صارخًا) : سلومة! سلومة يا كمال!
الضابط : ع العموم … من واقع الاعتراف يبدو إن دي جريمة شرف، وجرايم الشرف عقابها بسيط، وانت تقريبًا قضيت المدة اللي حيتحكم بيها عليك، يعني ممكن تخرج على طول!
السجان : يخرج؟! (في لوثة) يخرج فين؟ يروح فين؟
الضابط : إحنا لازم ننقله دلوقتي يا فندم … حضرتك عارف الإجراءات … يلَّا يا كمال!
السجان : يلَّا فين؟ وانا؟ أنا موش حاخرج؟ أنا لازم أخرج … أنا بريء يا ناس! مظلوم والله مظلوم! (يصرخ في جنون) ما كانش ممكن أواجه واحدة حرة، مين يقدر يستحمل الهوا اللي بيهب من كل ناحية؟ موج البحر العالي اللي ما لوش شط، مين يقدر يواجه النار اللي ما فيش مَيَّه تطفيها … (في لوثة ويتحرك في كل مكان) كان لازم أتحرر م الشك يا كمال … حضرة القاضي! عايز أتحرر م الشك، قول لى ازاي أتأكد … يا كمال! انت رايح فين يا كمال؟! أرجوك … ما تخرجشي وتسيبني، أرجوك … كمال … إنت أملي الوحيد … خليك معاي هنا، الغي اعترافك! انكر، كمال … حرام عليك يا كمال، السجن بقى ضيق عليَّ قوي! (يبكي) السجن بقى ضيق عليَّ قوي.

(ينهار باكيًا والسجين يربت على كتفه والضابط في ذهول لما يحدث بينما تهبط الستار رويدًا رويدًا.)

(ستار.)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤