الصديقتان
المنظر: صالون فاخر
في منزل حديث، بعض الأجهزة الموسيقية واللوحات التي تدل
على الذوق الرفيع. في المنتصف كرسي ضخم وثير، إلى
اليمين باب الشقة. في الخلف شرفة تطل على النيل. إلى
اليسار باب يؤدي إلى ردهة واسعة تظهر من خلالها أبواب
الغرف الأخرى.
الزمن: الحاضر.
الشخصيات:
- هدى: في الأربعين.
- سوزي: نفس العمر.
عندما ترتفع الستار تكون سوزي نائمة
في المقعد الوثير في منتصف الغرفة، وعلى وجهها منديل
حريري. تبدو كمَن استغرق حقًّا في الأحلام، ثم فجأةً
يدق جرس المنبه على المنضدة المجاورة فترفع المنديل،
وتفرك عينَيها وتوقف الجرس. تتمطَّى. تنظر في المنبه
ثانيًا وتفغر فمها دهشةً. تعدِّل من هندامها وشَعرها.
تُخرج مرآة صغيرة من حقيبة يدها وتصلح من زينتها. ثم
تتجول في الغرفة، تعدل بعض الأشياء وهي تتطلَّع إلى
الساعة من لحظة إلى أخرى. تُخرج ورقة من درج في المنضدة
وتتأملها وتفكر. يدق جرس الشقة.
(يرن جرس الشقة.)
سوزي
:
اتفضل! ادخل … الباب مفتوح!
(يرن الجرس ثانيًا.)
اتفضل! اتفضلي!
(يُفتح الباب بهدوء وتدخل
هدى، لحظات توتُّر كأنما تدرس كلُّ واحدةٍ
منهما صاحبتها لترى حقيقة ما بها.)
حضرتك؟
هدى
:
هدى موسى … الدكتورة هدى موسى.
سوزي
(في تردُّد)
:
حضرتك اللي (تشير
إلى الورقة).
هدى
:
أيوه يا سوزي … أنا اللي بعت الكارت.
سوزي
(في حيرة شديدة)
:
أنا تصورت … إنه …
هدى
:
عارفة عارفة! ما تآخذنيش … أصلي اتغيرت كتير
خالص … يمكن حضرتك نسيتيني زي ما نسيتي ناس
كتير … لكن أنا ما نسيتش وعمري ما
حانسى.
سوزي
:
حضرتك كنتي معاي في المدرسة؟
هدى
:
بلاش حضرتي وحضرتك أرجوكي، أنا عارفة إني
باكلم نجمة السينما والمسرح الشهيرة سوزي حافظ
… لكن احنا زمايل وحبايب من أيام ما كانت
توحيدة بسطويسي!
سوزي
(تضحك)
:
البسطويس! بالألف واللام!
هدى
:
لحاد سنة رابعة!
سوزي
(تعود للحيرة)
:
بس انا موش فاكرة … قصدي …
هدى
:
أَفكَّر حضرتك … وع العموم سواء افتكرتي أو
ما افتكرتيش دا مش مهم، لأن الموضوع اللي انا
جاية عشانه موش عايز ذكريات طويلة … هي حاجة
واحدة بس … وباختصار أنا جاية استأذنك قبل ما
أحرمك من أعز حاجة في حياتك!
سوزي
(تتذكر بصعوبة)
:
انتي كنتي في قسم النقد؟ (صائحة فجأة) هدى!
هدى! ما كانش اسمك هدى! (في سعادة حقيقية)
كان اسمك هادئة! ولَّا هادية؟ (تضحك في فرح طاغٍ)
وكنتي هادية وهادئة كمان! مش معقول … مش معقول!
إزيك يا هدى! يا بنت الإيه! إزاي خسيتي بالشكل
ده! واحلويتي! وصغرتي … صغرتي خالص! عملتي
عملية؟ احكي لي … تعالي يا هدى تعالي … اديني
حضن وألف بوسة … معقولة دي؟! طب والله ما عرفتك
خالص … يا خرابي يا اخواتي!
(تنهض إليها وتحضنها بلهفة
وشوق حقيقي وتجرها من ذراعها إلى مقدمة المسرح
وتهمس لها.)
انتي لازم تحكيلي على كل حاجة … لازم أحجزك
هنا لحد ما اطلَّع منك كل أسرارك … كل مغامراتك
… وشقاوتك … يا هادية … يا مَيَّة من تحت
تبن!
هدى
(في سعادة ولكن بلهجة
جادة)
:
أنا يا سوزي وفرت نفسي للحب الحقيقي … أنا …
ما خبيش عليكي موش قادرة اصدق إنك افتكرتيني
صحيح … كنت واثقة انك نسيتيني … وموش بس
نسيتيني.
سوزي
:
تعالي هنا يا خلبوصة تعالي … إيه حكاية
الدكتورة هدى دي؟ خدتي دكتوراه صحيح؟ في النقد
برضه؟
هدى
:
حاحكيلك كل حاجة في وقتها … بس اسمحي لي
الأول أقول لك أنا ايه اللي جابني النهارده …
إيه اللي عايزة أستأذنك فيه.
سوزي
:
ودي عايزة أسباب؟! جيتي وخلاص … قولي اني
وحشتك … آه يا عفريتة … كام سنة؟ خمستاشر؟
ستاشر؟
هدى
:
أنا جاية عشان أستأذنك في أجمل حاجة في حياتك
… أحرمك من أعز شيء تمتلكيه.
سوزي
:
كده كده! أؤمري!
هدى
:
أنا عايزة جوزك.
سوزي
:
عايزة إيه؟
هدى
:
عايزة جوزك … الراجل اللي انتي خطفتيه من بين
إيدينا كلنا … من بين إيديا أنا بالذات … بعد
ما عشنا أجمل قصة حب في الوجود!
(صمت متوتر، تتبادل
المرأتان نظرات عدم فهم، وتحاول سوزي أن تركِّز
بصرها عليها بينما تتحاشى هدى التركيز على وجه
سوزي.)
أنا كان ممكن أتصل بيه من برَّه برَّه … كان
ممكن أتصل بيه في الشغل مثلًا … أو في النادي …
كان ممكن آخده ونهرب … لكن ضميري ما سمحليش …
انتي صاحبتي على أي حال والصداقة لها
أحكام.
(صمت.)
أرجوكي يا سوزي ما تزعليش مني … حاولي
تفهميني … أنا صحيح باعتبر إن ده حقي … أملي …
حياتي … الهدف اللي كافحت علشانه عشرين سنة …
لكن … بجد … لازم اتأكد انك راضية ومقتنعة
بموقفي كل الاقتناع … وبصراحة إذا ما قدرتش
أقنعك … يبقى مش حاخده!
سوزي
(تصفق بيديها)
:
عزت! عزت!
هدى
:
أرجوكي!
سوزي
(تنادي)
:
عزت! عزت!
هدى
:
أرجوكي اسمعيني.
سوزي
(في حماس أكبر)
:
عزت! عزت!
هدى
:
أرجوكي … المسألة مش هزار! (صارخةً) أنا باواجه
أصعب موقف في حياتي … الموقف اللي انتظرته
عشرين سنة!
(يدخل خادم عجوز.)
سوزي
:
انت رحت فين يا عزت؟ هات لي مَيَّة آخُد بيها
الدوا وشوف الدكتورة تشرب إيه.
(صمت.)
هدى
:
مِرْسِي!
سوزي
:
اعمل لنا شاي … بسرعة … هات المَيَّة الأول …
فاهم؟!
(يخرج.)
هدى
:
يا سوزي يا حبيبتي أنا موش عايزاكي تفهميني
غلط … أنا صحيح في وضع يسمح لي بالانتقام … لكن
تأكدي إنه ما فيش في قلبي أي حقد أو كراهية، أي
واحدة في مكاني كان ممكن تكون دوافعها … زي ما
بنقول … سوداء! انتقام وانتصار زائف حقير … لكن
لا، مش أنا، أنا ما فيش في قلبي إلا الحب …
والحب الأبيض الطاهر النقي البريء … نفس
العاطفة اللي حركتني ورسمت لي طريقي وانا في
المعهد … خليني أحدِّد لك بالضبط أنا شاعرة
بإيه.
إبراهيم كان بالنسبة لي حلم … شاب وسيم وذكي
ومتدفق … أفكاره لا تنتهي … وكلامه تيار لا
يتوقف من الصور والتأملات … حبيته زي ما حبوه
البنات … عشت معاه بالنهار في المعهد وبالليل
(في لهجة منشد
الأشعار) زي ما بيقول الشاعر … كنت
بعيش مع صورته … مع قلبه الكبير … حياتي كانت
ابراهيم … روحي كانت معاه … وحتفضل
معاه!
(صمت.)
وهو ده الحب يا سوزي اللي خلاني أحاول أوصل
له، بأي الطرق … كنت عارفة انه موش ممكن يحبني
أياميها.
سوزي
:
اشمعنى؟!
هدى
:
كنت تافهة وفقيرة.
سوزي
:
ودا يمنع؟
هدى
:
ما كنتش جديرة بيه.
سوزي
:
دلوقت خدتي الدكتوراه وبقيتي عروسة
لُقطة؟!
هدى
:
أرجوكي ما تزعليش مني … أنا موش جاية أتحدى،
أنا جاية بحق الصداقة.
سوزي
:
بس انتي ضامنة انه حيسيبني ويجري وراكي على
طول؟ قصدي أول ما يشوفك حيطُب ساكت؟!
هدى
:
بالعكس يا سوزي … المسألة لها جذور طويلة …
وجذورها من أيام المعهد … كل واحد فينا أياميها
كان بيحاول يعمل حاجة من نفسه، من ذاته … حاجة
ينور بيها الطريق للناس.
سوزي
(ساخرة)
:
شمعة تحترق؟
هدى
:
بالضبط … ودا اللي حسيته تمام … في يوم موش
ممكن أنساه … إبراهيم كان بيحرق ذاته عشان حاجة
أكبر من التمثيل والكتابة … أكبر م السيناريو
والنقد والهيصة دي كلها … عشان الإنسان …
الإنسان الغامض الغريب … اللغز … فتحت له قلبي
… استجاب!
سوزي
:
على طول طبعًا!
هدى
:
قصدك إيه؟
سوزي
:
يعني … كويس انه استجاب!
هدى
:
إبراهيم انجذب ليَّ … حَس بإني مُخلصة …
وعايشة بالأمل والإصرار … والصراحة … وكل اللي
بيخلي الإنسان إنسان.
سوزي
:
واعترف لك؟
هدى
:
أبدًا.
سوزي
:
يا خسارة!
هدى
:
ما كانش فيه داعي، عينينا كانت بتتكلم …
قلوبنا كانت بتدق … لما كنت أشوفه داخل المعهد
شايل كتاب ألاردايس نيكول … ومَسحة حزن على
جبينه … ولَّا وهو خارج م المحاضرة … لسه فاتح
القلم والكشكول زي ما يكون بَلَع المعلومات
بَلْع … قلبي كان بيتحول لحتة من شمس الصبح …
ساعات ما كانش بيبص لي خالص … لكن كنت
عارفة.
(يدخل عزت بصينية عليها ماء
وشاي وحبوب.)
سوزي
(صارخة)
:
هي دي الحبوب برضه؟ أنا عايزة الحبوب الزرقا
… فاهم؟ يلَّا جيبها بسرعة … اتفضل … (إلى هدى) الشاي يا
هدى يا حبيبتي … اتفضلي اشربيه سخن يروق دمك …
اتفضلي!
(تجرعان الشاي.)
هدى
(صمت، ثم تهب فجأة)
:
وبعدين فجأة … وبدون سابق إنذار … خطفتيه
منِّي … مديتي إيدك … وبكل ثقة وجرأة …
اتجوزتيه، كان صعب حد ينافسك … موش ممكن … مين
يقدر ينافس نجمة الإغراء؟ بطلة أنجح روايات
المسرح والسينما … والقاسم المشترك لكل مسلسلات
التليفزيون؟
(في
انهيار) وبصراحة … فاتت عليَّ أيام
فقدت فيها الأمل … تصورت ان المعركة انتهت من
قبل حتى ما تبدأ … تصورت إن القضية خسرانة،
وانه فعلًا ما فيش أمل … لحد ما يوم رجعتوا فيه
من لندن بعد مونتاج أول فيلم تعمليه بالألوان …
فاكرة؟
(سوزي تحتسي الشاي ولا
ترد.)
هدى
(في رنة فرح
طاغٍ)
:
وصلني جواب منه … اعترف لي فيه
بكل حاجة … كشف لي الحقيقة … خلاني أفتح عيني
وأشوف الدنيا من جديد … عطاني أمل … لسه فاكراه
… كلمة كلمة وحرف حرف … عشرين سنة يا هدى ولسه
حروفه بتنور قدام عنيكي … (تحاكي صوت رجل) لم
يكُن ما بيننا حلمًا … لم يكن ما عرفناه
وَهْمًا … بل الحقيقة نفسها … (تعود لصوتها
الطبيعي) الحقيقة يا سوزي … ومن
يوميها عشت على الأمل ده … كنت ساعات بارُد على
جواباته … وساعات ما ارُدش … عرفت انه غلط …
مسكين … يوم ما تجوزك … مسكين … زيه زي أي راجل
تاني يواجه جمالك الصارخ … جمالك الطاغي
الظالم.
(تدور في حيرة على
المسرح.)
عطفت عليه … أشفقت عليه … وحبيته
أكتر!
سوزي
(تصيح
فجأةً)
:
عزت … عزت! انت رحت فين؟ كنت
واقف بتتصنت؟
(يدخل عزت بالدواء.)
خلصتي الشاي؟! شيل الصينية يلَّا! واسمع موش
عايزاك تقف ورا الباب تاني … فاهم؟ خد …
(تعطيه ورقة
مالية) اوصَل للأجزاخانة جيب لي علبة
جديدة … نفس الدوا … مع السلامة.
(يخرج.)
هدى
:
أنا متأسفة اني أزعجتك … أنا عارفة إن عندك
روماتيزم.
سوزي
:
نقرس يا هدى … نقرس!
هدى
:
كان مكتوب روماتيزم … ومكتوب ان الدكتور
هارسون وصف لك رمل اسكندرية تلات أشهر.
سوزي
(تضحك)
:
صحيح! أما انتي عليكي ذاكرة!
هدى
(تُقدِّم إليها
دوسيهًا)
:
أبدًا … ولا ذاكرة ولا حاجة … كل حاجة
هنا.
سوزي
:
كل حاجة يعني إيه؟
هدى
:
كل أخبارك … كل تفاصيل حياتك … من يوم
ماتجوزتوا … كل حاجة بتتنشر عنك حطيتها في
دوسيه مخصوص … حتى وانا في فرنسا.
سوزي
:
انتي رحتي فرنسا شخصيًّا؟!
هدى
(تضحك)
:
شخصيًّا … قعدت سنين وسنين … مصر بالنسبة لي
بقت يوم الرجوع … يوم ما اخلَّص الدكتوراه
وارجع لكم … لابراهيم … ولسوزي! سبت شغل بيجيب
دهب عشان اليوم ده!
سوزي
:
ولسه راجعة لازم!
هدى
:
يوم السبت اللي فات … سألت عليكي في الشركة
عطوني عنوانك ما رضيتش أجيب سيرة ابراهيم طبعًا
… حيقولوا إيه! كان لازم أشوفك انتي … كان لازم
أمد لك إيد صداقتنا القديمة وافتح لك
قلبي.
سوزي
:
لكن … ما تآخذنيش في دا السؤال!
هدى
(تضحك)
:
حلوة دي!
سوزي
:
قصدي يعني: ما تجوزتيش طول المدة دي ولا
مرة؟
هدى
:
يعني إيه ولا مرة؟
سوزي
:
يعني! ما تجوزتيش خالص؟
هدى
(غاضبة)
:
عايزاني أخون حبي لابراهيم … عايزاني أخون
الأمل!
سوزي
(تضحك)
:
لا لا العفو! تخوني الأمل! تخوني الأمل
ازاي؟! لازم الأمل هو اللي يخونك!
هدى
:
قصدك إيه؟
سوزي
:
ولا حاجة … هو بس ابراهيم بيبعتلك جوابات م
الزرقا المكتوبة عالماكنة؟
هدى
:
وفيها إيه؟ كل الناس بتكتب جوابات ع
الماكنة!
سوزي
:
طبعًا … أنا بس كنت عايزة اعرف إن كان ساعات
بيغير طبعه ويكتب بخط إيده.
هدى
:
في الأول … استني … معاي الدُّوسيه.
سوزي
:
ما فيش داعي للدُّوسيه … أنا حاقولك كان
بيقولك إيه.
هدى
:
قصدك إيه بالكلام ده؟
سوزي
:
ولا حاجة يا هدى … تعالي جنبي هنا …
تعالي!
هدى
:
موش فاهمة قصدك إيه بالغمز واللمز
ده؟!
سوزي
:
ولا غمز ولا لمز يا حبيبتي … أنا حاقولك كل
حاجة بصراحة … ما عادش في العمر بقى … موش
حانعيش قد اللي عشناه … تعالي بس جنبي وأنا
احكيلك … (يبدو على
وجهها الألم) النقرس لعنة من لعنات
ربنا.
هدى
:
انتي موش خدتي الدوا؟
سوزي
:
ما بقاش ينفع فيه دوا ولا هوا … خلاص!
هدى
:
أجيب لك بطانية ولَّا حاجة؟
سوزي
:
لا معلهش … اسمعيني بس … أنا على قد إعجابي
بإخلاصك وحماسك … على قد ما أنا عايزة أسعدك
وماخليش مشوارك يطلع على فاشوش … حاسة إني لازم
أقولك الحقيقة إذا كانت أعصابك تستحمل! (تقدِّم إليها
حَبَّة) تاخدي حَبة من دول؟
هدى
:
مِرْسِي! (مضطربة) حقيقة إيه؟
سوزي
:
إحنا من يوم ما اتجوزنا يا هدى … (تضحك ثم تنفعل، يتحول الضحك
إلى نشيج) حتى في يوم جوازنا … الله
يسامحك يا ابراهيم في يوم جوازنا نفسه …
(تهدِّئ من
روعها) طول عمره … ربنا يغفر لنا
جميعًا … وهو غاوي يبعت جوابات!
هدى
:
جوابات … غرامية؟
سوزي
:
من كله يا هدهد! حاقول ايه واعيد إيه؟
المأساة هي إني حبيته … سايرته … طاوعته … غفرت
له … شجعته!
ما كانش ممكن يقدر يعيش من غير جوابات … من
غير معجبات … من غير ما يحوط نفسه بهالة كبيرة
م العظمة والبهرجة … ساحر نساء وفاتن نساء
ومحطِّم قلوب العذارى! كنت باشتغل بالساعات في
الاستوديو … ساعات كنت باقضي الليل كله تحت
الأنوار وفي الحَر والعَرَق … مُخرِج بيسرخ
ومُصوِّر بيبعبع … وأرجع ألاقيه محوط نفسه
بعشرات المعجبات … في الأول — ما انكرش — كنت
بازعل وباتخانق … وبعدين أنا عارفة انها غلطتي
… بدأت أفوِّت وأقول معلهش … الراجل فنان وعايز
يشوف صورته بتكبر وتملا الدنيا من حواليه … دي
كانت النهاية!
(صمت.)
هدى
:
وبعدين؟!
سوزي
:
ما فيش … يا حبيبتي يا هدى … خلاص.
هدى
:
خلاص إيه يا سوزي؟! حصل إيه؟
سوزي
:
موش عارفة اقول لك إيه تاني.
هدى
(ثائرة)
:
تقول لي حصل إيه. كل حاجة!
(تتحول فجأةً إلى
لين واستغراق في الحلم) من بعد ما
اعترف لي بحبه! من بعد ما بَعَت لي أشهر جواب
في التاريخ … (تُخرج
خطابًا من حقيبة يدها) ده حاجة تانية
يا سوزي لإني في يوم ما استلمته بقيت حاجة
تانية … يا سوزي موش كل الجوابات … ولا كل
الكلمات! اتفضلي (تقدِّم إليها الخطاب. لا تُبدي سوزي أيَّ
اهتمام، فيقع على الأرض وتُعيده إلى حقيبة
يدها).
سوزي
:
خليهولك ما دام حيحفظلك الذكريات … ما دام
حيخليكي تعيشي في الوهم.
هدى
:
حُبنا ما كنش وَهْم!
سوزي
(تستأنف القصة بلهجة جدٍّ
موضوعية)
:
بعد ما رجعنا من لندن كان قدامي اختيار صعب …
اختيار مستحيل! يا إما حياتي العملية والمجد
اللي طول عمري باحلم بيه … يا إما حبي وهنائي
العائلي … ولو كان ده هو الاختيار بس — على
صعوبته — كان هان! لكن اكتشفت انه ما كانش ممكن
أركِّز على طريق واتخلَّى عن الطريق التاني …
الاتنين كانوا بيتقاطعوا في كل لحظة … (تزفر في رضًا)
الحمد لله … الكابوس انتهى … كانت أيام
رهيبة!
(فجأةً في حماس
وألم) كل لحظة كانت بتمثل عبء تقيل
على نفسي … كل يوم كنت باشوف ابراهيم اللي
عطيته قلبي وحياتي … بيخوني مع واحدة
تانية!
هدى
:
مستحيل! أنا واثقة إن ده مستحيل!
سوزي
:
كانت خيانة من نوع خاص بيه هو … خيانة واحد
شايف إن كيانه بيصغر كل كيان مراته ما كبر …
فاضطر يعوضه في مغامرات غرامية … كان عايز يشوف
صورته بتكبر وخلاص … عايز التليفون يضرب والناس
يسألوا عليه.
(صمت.)
هدى
:
ما كانوا بيسألوا عليه طبيعي … مش كاتب
سيناريو كبير؟! ابراهيم كان اسمه في كل مكان …
(تدق على
الدُّوسيه) عندي جميع
الإعلانات!
سوزي
(تضحك)
:
المرحلة التانية! كان لازم أديله حاجة تعوضه
عن النقص — أو الإحساس بالنقص — اللي كان بياكل
فيه أكل!
خليته يشترك في كتابة السيناريو … الأول مع
ناس … وبعدين بقيت أصر إن اسمه يطلع لوحده …
(ضاحكة)
طبعًا من غير ما يكون حط قلم على ورقة … كان
بيقعد يحكي الحدوتة اللي المنتج فكَّر فيها
لكاتب الحوار … ويقول له يلَّا … اتفضل … آدي
السيناريو!
هدى
:
انتي بتزيفي التاريخ … أنا عندي ريفيوهات عن
تطوره السينمائي وتربُّعه على عرش
الكتابة!
سوزي
:
المرحلة التالتة! والنهائية … كل خطوة خطيتها
كبَّرته وزيفته … وبعدته عني … وعننا كلنا …
كان بدأ يعيش في عالم وهمي م المجد يسهر ويشرب
ويتكلم ويصرخ … ويعد الجوابات الغرامية اللي
بتوصله … ويحكي في كل جواب حكاية … وانا قلبي
يتقطع حتت … (في ألم
حقيقي) لو ما كنتش ربطت قلبي وحياتي
بيه … ما كنتش اتعذبت العذاب ده كله … المرحلة
التالتة كانت أصعب المراحل … إبراهيم ما كانش
بيفوق أبدًا من أحلامه … وكنت بكل إخلاص أكتب
الجوابات الغرامية وامضيها بنفس الطريقة
وابعتها في مواعيدها … واتِّفِق مع كتَّاب
السيناريو والحوار عشان يحضَّروا المادة في
ميعادها … وارتِّب المواعيد مع الصحفيين عشان
ياخدوا ردوده على أسئلتهم واجمع لهم صور قديمة
له … وادفع … ياما دفعت عشان أحافظ على صورته
اللي كبرتها لحد ما كبرت عليَّ أكثر م اللازم
(في انهيار)
لازم أعترف انِّي كنت سبب انهياره … في مأساته
… في النهاية المؤلمة اللي انتهى إليها.
هدى
(في تردُّد ورعب)
:
مأساة إيه؟ قصدك … إيه؟
سوزي
:
هو ده السر اللي نجحت في المحافظة عليه سنين
وسنين! عارفة؟ (ألم
شديد) كانت أنانية منِّي … أنانية
ودناءة كمان … لكن … ما كانش قدامي غير الطريق
ده … كان لازم أحافظ على سمعتي … على إسمي
كممثلة بتحاول تبقى درجة أولى … (حماس وألم) لكن …
ربنا وحده يعلم اني كنت بحبه … لآخِر يوم معاي
… لآخِر يوم قضاه في مصر!
هدى
(في شبه انهيار)
:
آخِر … يوم … ازاي؟ انتي بتقولي إيه؟ (باكية) هو راح
فين؟
سوزي
:
من كام سنة … لازم كنتي في الخارج انتي … ما
اعرفش … يوم ١٢ مايو … كان يوم حَر بصورة غير
طبيعية … صبحت الصبح لقيت ورقة منه بيقول فيها
انه ماشي … جريت زي المجنونة ع الأود افتشها …
دورت في كل حتة … اتصلت بكل اللي اعرفهم … بكل
اللي عارفين السر … وأخيرًا عرفت انه سافر …
هاجر … استقر الأول في استراليا … وبعدين هونج
كونج … وبعدين كندا … وبعدين أمريكا الجنوبية …
وبعدين انقطعت أخباره تمامًا عن الجميع.
هدى
:
دا مستحيل يا حبيبتي يا سوزي (تفتح الدُّوسيه)
أنا عندي جوابات منه قريبة … قصدي … تاريخها
قريب جدًّا … ومبعوتة من مصر موش ممكن يكون دا
كله كدب يا سوزي … مستحيل!
سوزي
(في ثقة)
:
آخِر جواب بعتهولك … قصدي أنا بعتهولك … كان
بتاريخ ١٧ /٤ وكان على عنوان في مصر
الجديدة.
هدى
:
على ماما.
سوزي
:
لو قريتيه كويس حتعرفي انه ما فيهوش أي حاجة
جديدة لا عنه ولا عننا … حتلاقيه رد متوضَّب
بكل عناية على الجواب اللي انتي بعتيه تاريخ
٣ /٤!
هدى
:
أنا ما خدتش بالي من … (تتردد) لازم يكون
معاي هنا … لحظة واحدة!
سوزي
:
أقول لك بيقول ايه؟
هدى
(صارخة)
:
موش ممكن!
سوزي
:
الوهم كان لازم يستمر يا هدى يا حبيبتي … كان
لازم الناس يتصوروا انه لسه موجود … لأن انا
رفضت الاعتراف بالواقع … رفضت التسليم بالحقيقة
… ورفضت اعترف بإنه هجرني … بإنه تخلَّى عنِّي
إلى الأبد! يمكن لو ما كنتش طاوعته كنت أنقذته
من الهوة السحيقة اللي وقع فيها.
هدى
(ما تزال غير مصدقة)
:
والجوابات اللي قبل كده؟
موش ممكن … أنا عندي كل ما يثبت إنه بيحبني …
وبيحبني أنا لوحدي … سوزي … مستحيل! أنا عشت
السنين دي كلها أحلم باليوم ده.
سوزي
:
أنا عشت السنين دي كلها في كابوس … مش في
حلم!
هدى
:
انتي اللي خلقتي الكابوس لنفسك!
سوزي
:
ما انكرش إني اشتركت في تدميره.
هدى
(صارخة)
:
انتي قاتلة!
سوزي
:
يمكن!
هدى
:
انتي مجرمة! انتي دمرتي حياته زي ما دمرتي
حياتي … انتي تستاهلي الشنق … أنا لازم اقتلك …
أخنقك بإيديا دُول.
(تهجم عليها في عنف فلا تجد أي
مقاومة بل وتدع الدُّوسيه وكل ما فيه يقع على الأرض
— بسمة هادئة — فتنهار على الكرسي باكيةً … تلتقطه
سوزي ولكن هدى تختطفه من يدها وتبدأ في
تمزيقه.)
هدى
:
هي دي حياتي؟! (تمزق الخطابات والصور وكل شيء) هي
دي السنين اللي عشتها أذاكر واكتب وابحث عشان
أبقى جديرة بيه؟! ليه عملتي كده يا
سوزي؟!
سوزي
:
أنا؟
هدى
(تبكي)
:
ليه دمرتي حياة إنسان جميل صافي نقي؟ ليه ليه
ليه؟
سوزي
:
يا هدى يا حبيبتي … أنا عملت كل اللي اقدر
عليه … القدَر يا هدى أكبر مننا إحنا الاتنين …
على الأقل انتي عندك وظيفتك ترجعي لها.
هدى
:
في مصر؟
سوزي
:
في مصر ولَّا فرنسا!
هدى
:
أنا كنت راجعة لحاجة واحدة يا سوزي … واهي
ضاعت.
سوزي
:
الإنسان لازم يستمر … الحياة أحيانًا بتبقى
عِبْء كبير … لكن لازم نعيشها!
هدى
:
مستحيل … أنا راجعة فرنسا تاني!
سوزي
:
بلاش عبط بقى … ما انا عايشة أهُه!
هدى
:
مستحيل … أنا لا يمكن أقعد دقيقة واحدة هنا
بعد كده … والحمد لله اني ما سبتش الشغل …
وعندي حاجة أعيش منها هناك.
سوزي
:
أرجوكي يا هدى … اعقلي … خليكي معاي … أنا
محتاجة لك.
هدى
:
لأ … معلهش … اعذريني … (تقف وتحزم
أمرها.)
أنا الى حدٍّ ما سعيدة اني عرفت
الحقيقة!
أنا باقول «وداعًا» لحلم كبير … لكن … مين
عارف؟ يمكن ألاقي إبراهيم في حتة تانية … إن ما
كانش في أوروبا يبقى في أي حتة تانية في أرض
الله الواسعة … باي باي يا سوزي!
سوزي
:
هدى حبيبتي … أرجوكي اسمعيني … بلاش جنان
أمال.
هدى
:
خلاص يا سوزي … أنا اتخذت قراري … اللي حصل
حصل، ولازم نواجهه … متشكرة خالص!
(تُقبِّلها بشغف.)
سوزي
(تبكي)
:
هدى … هدى … خليكي معاي … أرجوكي … أنا
محتاجة لك في وحدتي وعذابي.
هدى
(باكيةً)
:
ما قدرش يا سوزي.
ما قدرش يا حبيبتي … أنا مسافرة الصبح … بكرة
بإذن الله الحجز بتاعي موجود وكل حاجة
جاهزة!
سوزي
(تحتضنها)
:
بحق صداقتنا … خليكي معاي!
هدى
(تجري مسرعة)
:
باي باي يا سوزي … باي باي إلى الأبد!
(تخرج.)
سوزي
(وحدها)
:
هدى! (تُجفِّف
دموعها ثم تبتسم في رضًا، تجمع الأوراق من
أرضية الغرفة وتضعها في سلة إلى جانب المنضدة
وتصلح من هندامها ثم تدق الصنج
وتنادي) عزت! عزت! (تتردد) ولَّا أقول
ابراهيم أحسن؟
(يدخل الخادم
العجوز.)
الدكتورة خرجت؟ (يومئ) كويس … اسمع … خلِّي ابراهيم
بيه يتفضل … (ضاحكة) قول له البر أمان (ضاحكة)
بسرعة!
(عزت يزيل شاربه ويعتدل في
قامته ويخلع العمامة من على رأسه ويفك الجلباب
ويُلقيه جانبًا ليبدو شخصًا في حوالي الأربعين
وسيمًا وجذابًا.)
(ترمقه)
موش بطال! (تشاغله) معقول كده يا برهوم؟ ايه
رأيك؟ اسمح لي أعترف لك إني مثلت أجمل أدوار
حياتي … وإيه … إخراج وتمثيل … السيناريو بتاعك
نفع … يا حبيبي … (تحتضنه في شغف) لكن … الله يجازيك …
سيناريو كان حيوديني في داهية … في لحظة حسيت
إنها كانت حتخنقني بجد … دي مجنونة صحيح يا
برهوم … كانت حتخنقني بحق وحقيق وكنت حناديك يا
ملك! (فجأة
تهاجمه) انت ازاي ياد انت تحب واحدة
بالشكل ده؟ ما تنكرشي … جواباتك أهُم! (تضحك) قطعتها
بإيدها! الحمد لله … الكابوس انزاح … دي كانت
ممكن تعمل فضيحة بجلاجل! (تُقدِّم إليه
السلة) اتفضل … الدُّوسيه كله … خلاص
(في رقة) بس
الشطارة بقى يا حلو … ما نرجعش نلعب بديلنا
تاني أبدًا … فاهم يا … يا … عزت؟! (تضحك) وإلا والله …
والله … أبعت لها!
(يتعانقان.)
(ستار.)