الباب الحادي عشر:
develop
ترجع صعوبة هذه الكلمة إلى سهولتها الخادعة؛ بسبب استعمالاتها الشائعة، ومعانيها
الذائعة؛
إذ يندر أن تجد دارسًا لا يستخدمها بمعنًى من المعاني، سواء أكان ذلك المعنى أصيلًا فيها،
أو مضافًا إليها، أو متوهَّمًا لها، فسوف تجد مَن يستخدمها بمعنى يطوِّر، ويقنع بأن يقرن
الاسم منها (development) بالتطوير فحسب، وستجد من يستخدمها
بمعنى ينمِّي، والاسم المشار إليه بالتنمية فحسب. وستجد من يترجمها إلى «يضع» والاسم
منها
بالوضع، وقد تجد من المحرِّرين الإنجليز من يبدلها في أحد النصوص بكلمةٍ يتصوَّرها مترادفًا
لها وهي elaborate، أو بكلمةٍ أخرى شاع ترادفها هي
evolve؛ ممَّا يجعل المترجم أحيانًا حائرًا كيف يفرِّق
بين ما يخال أنه مترادفات، خصوصًا إذا جاءه لفظ «النمو»
growth في نفس السياق، ولم يتمكَّن من التفريق بين
النمو والتنمية.
(١-١١) المعنى الأول للكلمة وهو التطوُّر وثيق الصلة بأشباه المترادفات المذكورة،
وتحليل
عناصره وثيق الصلة أيضًا بأصوله الاشتقاقية؛ فالأصل الاشتقاقي يعني تفتُّح البراعم أو
الخروج من الأكمام، وكِمُّ الزهرة هو غلافها (من الفعل
voloper بالفرنسية القديمة)، والبادئة أو السابقة
dis تعني الخروج منه، ممَّا أتى بالكلمة الفرنسية
القديمة desveloper ثم سقطت منها السين
(s) فأصبحت développer
وهي أصل الكلمة الإنجليزية. وتربط بعض المعاجم بينها وبين الجذع الإيطالي القديم
viluppo، والذي تأثَّر في تطوُّره بالفعل اللاتيني
volvere أي يدور، فأصبحت الكلمة الحديثة في الفرنسية
والإنجليزية جميعًا تشير إلى التحوُّل من صورةٍ إلى صورة أكبر وأشد نضجًا (أي مختلفة
عن
الصورة الأولى وأشد نفعًا للإنسان).
(٢-١١) واقترن هذا المعنى بمعنى evolution الذي أبدعت
العبقرية العربية إخراج معناه في تعبير «النشوء والارتقاء» معًا، وجرى العرف على اقتصار
ترجمته حاليًّا على كلمة التطوُّر، وهو المذهب الذي ارتبط باسم العالِم الإنجليزي تشارلز
داروين Darwin، ومفاده عند العلماء بإيجازٍ هو أن للحياة
على ظهر الأرض صورًا أوليةً نشأت، أو أنشأها الله سبحانه وتعالى، ثم ارتقت؛ أي تولَّى
الفاطر؛ أي البارئ والخالق على غير مثال، ترقيتها حتى جعلها ذات تركيب معقَّد
(«متطوِّر»/«متقدِّم»)، أو complex عن طريق التغيير
والتحويل (والتبديل). وعلى هذا فسَّر المفسِّرون قوله تعالى: وَقَدْ
خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا أي من طور البيضة وحيدة الخلية (أو متعدِّدة الخلايا في
حالاتٍ أخرى) إلى النطفة والعلقة والجنين، ثم الإنسان الكامل فِي
أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ. وذهب الكثيرون إلى معارضة داروين ظنًّا منهم بأنه قال: إن
التطوُّر لا فاعل له، وهذا ممَّا لم يَقُل به داروين، فيما يراه جمهور العلماء.
وكلمة evolve إذن قد تعني النشوء فقط، سواء أكان للشيء
أصل أم لم يكن له أصل، ثم ارتقاؤه في مراحل لاحقة. ولمَّا كان تصوُّر عدم وجود أصل لأي
شيءٍ
أمرًا عسيرًا، فقد أصبح معنى evolve مقصورًا على التحوُّل
من طَورٍ إلى طور؛ أي على التطوُّر، ومن ثم أصبحت مقابلًا لكلمة
develop في العرف الجاري، وإن كان الفارق المذكور لا
يزال قائمًا.
(1) The American constitution was planned; the British
constitution evolved.
(١) وُضع الدستور الأمريكي عمدًا، أمَّا الدستور البريطاني فقد نشأ وتطوَّر «من الممارسة
السياسية».
أي إن الدستور البريطاني لم يكن له وجود، وفكرة النشوء أساسية في الكلمة، وقِس على
ذلك:
(2) Having failed in all previous attempts, he evolved a new
plan which surprised everybody.
(٢) فشلت جميع محاولاته السابقة فابتكر خطةً جديدة فوجئ الجميع بها.
وإذا لجأ الكاتب الإنجليزي إلى استبدال develop بكلمة
evolve في المثال الأول فلن ينجح في إيصال المعنى الذي
يريده، وإذا فعل ذلك في المثال الثاني فسوف يكون قد
اقترب من العرف الذي يوازي بين الكلمتَين، ولكن الفرق سيظل قائمًا، ويمكننا أن نقول (بدلًا
من ابتكر) إنه «وضع» وحسب.
(٣-١١) أمَّا الموازاة بين develop
وelaborate (الفعل) فلا تجوز مطلقًا، على شيوع ترادفهما
في الاستعمالات الجارية؛ فالكلمة الثانية تعني تحَرِّي الدقة وإدراج التفاصيل عند وضع
فكرة
أو خطة أو نظرية.
(3) He evolved a new theory for handling rural poverty, which
seemed plausible enough, but he committee believed it required a great deal of
elaboration before considered for implementation.
(٣) ابتدع نظريةً جديدة للتصدي لمسألة الفقر في الريف، ورأت اللجنة أنها مقنعة إلى
حدٍّ
كبير، ولكنها طلبت منه تحَرِّي المزيد من الدقة وإدراج التفاصيل اللازمة قبل أن تنظر
في
تنفيذها.
نستطيع هنا أن نستبدل development بكلمة
elaboration، ولكنها ستكون كلمةً عامة لا تفي بجميع
المعاني التي يبرزها النص العربي، ولا بد إذن من إدراك الفروق بين العبارات التالية:
(4) Your idea is good, but still
undeveloped.
(4-a) Your idea is well developed but requires further
elaboration.
(4-b) You have submitted an elaborate plan but the central
issue is not yet fully developed.
(٤) الفكرة التي تطرحها جيدة، ولكنها لا تزال غير ناضجة.
(٤-أ) الفكرة التي تطرحها ناضجة، ولكنها تحتاج إلى المزيد من التفاصيل.
(٤-ب) لقد طرحتَ خطةً مفصَّلة، ولكن القضية الرئيسية فيها غير ناضجة.
(٤-١١) والاختلاف بين التنمية والنمو ليس اختلافًا صرفيًّا
morphological، بل هو اختلافٌ اصطلاحي، إذ أصبحت
الكلمتان العربيتان تقابلان الكلمتَين الإنجليزيتَين
development وgrowth
على الترتيب، والفارق بينهما كبير؛ فالكلمة الأخيرة تعني التضخُّم (لا بالمعنى الاقتصادي
أي
inflation الذي يشير إلى ارتفاع الأسعار والمرتَّبات
بحيث تنخفض قيمة العملات) «دون تغيُّر في خصائص الشيء النامي»؛ أي إن النمو الاقتصادي
مثلًا
يعني زيادةً نوعية في دخل الفرد مثلًا per capita income،
أو في الناتج القومي أو المحلي الإجمالي
gross national/domestic product (GDP/GNP)، وقد يكون
ذلك دون تنمية كأن تزداد فجأةً عائدات قناة السويس أو ترتفع أسعار البترول، وقد يتحقَّق
عن
طريق التنمية؛ أي تحويل الموارد الطبيعية غير المستثمرة إلى موارد منتجة، مثل استصلاح
الأراضي الصحراوية أو البور، أو مثل إنشاء صناعات جديدة، أو مثل زيادة إنتاجية العُمَّال
productivity (والإنتاجية هي نسبة الإنتاج إلى الجهد
ورأس المال المستثمر).
ولذلك فالجنين الذي اكتملت صورته في رحم الأم ينمو بعد أن يكون قد تطوَّر إلى صورته
الأخيرة، وإذا قلت إن شيئًا ما ينمو فقد لا يتضمَّن معناك أي تغيُّر في الطبيعة، والأمثلة
كفيلة بإيضاح ذلك:
(5) His capital grows steadily with every new business
venture.
(٥) إن رأسماله ينمو باطرادٍ مع كل مشروعٍ تجاري جديد.
(6) She has decided to let her hair
grow.
(٦) قرَّرت عدم قص شعرها.
(7) He has grown in stature but not in
wisdom.
(٧) ارتفعت قامته ولم يكبر عقله.
ولكن الخلط يحدث بسبب شيوع استعمال grow في الإنجليزية
أيضًا بمعنى develop، كقولك مثلًا Rice
grows from seeds؛ أي إن الأرز يُزرع وينمو من البذور، وخصوصًا عند
استخدام الفعل مع الحروف مثل out
وup وinto وما إليها
ممَّا يفيد بعض التغيُّر:
(8) He has grown out of the bad habits of his boyhood
days.
(٨) لقد أقلع عن العادات السيئة التي اكتسبها في صباه.
(9) His troubles grew out of his bad
temper.
(٩) إن مزاجه الحاد هو السبب في متاعبه.
(10) A warm friendship grew up between the two
men.
(١٠) نشأت علاقة صداقة حميمة بين الرجلَين.
فأنت تستطيع في المثال الأخير أن تضع كلمة developed في
مكان grew up دون أن يتغيَّر المعنى إطلاقًا، وهذا هو سبب
تصوُّر كثير من المترجمين أن الكلمتَين مترادفتان؛ لأن
معظمهم لا يأخذ في حسبانه التغيير الذي يطرأ على معنى الكلمة عند إضافة الحروف المذكورة
إليها.
(٥-١١) ومشكلة كلمة development إذن هي اشتباكها في
المعنى مع هذه الكلمات الثلاث، وغالبًا ما يُضمر الكتَّاب معنًى من المعاني الثلاثة فيها؛
ممَّا يتسبَّب في حيرة المترجم إزاء الكلمة العربية الدقيقة المطلوبة، وهاك بعض
الأمثلة:
(11) The development of modern mechanized means of transport,
especially the motor vehicle, has revolutionized our continental
trade.
(١١) إن ابتكار وسائل النقل الآلية الحديثة، وخصوصًا السيارات ذات المحرِّكات، أدَّى
إلى
ثورةٍ في التجارة فيما بين بلدان القارة الأوربية.
فالواضح أن development هنا تعني ابتكار، وتقترب من
evolution، وإن كانت تتضمَّن أيضًا معنى التطوير؛ ولذلك
فلن يخطئ المترجم كثيرًا إذا قال:
(١١-أ) إن تطوُّر وسائل النقل المبتكرة في العصر الحديث … إلخ.
(١١-ب) إن تطوير وسائل النقل الحديثة، وخصوصًا اختراع السيارة … إلخ.
(١١-ﺟ) إن تطوُّر وسائل النقل الحديثة، وخصوصًا السيارة … إلخ.
ولكنه يكون في هذه الحالة قد ابتعد عن المعنى المقصود الذي يكاد يقتصر على الابتكار،
وهو
المعنى نفسه الذي نجده في المختصر الذي شاع على الألسنة بحرفَيه الأعجميَّين
R & D؛ أي research and
development، والمقصود به في مجال العلم والصناعة إجراء البحوث العلمية
التي تنفق عليها الشركات الصناعية ابتغاء الارتقاء بمنتجاتها، إمَّا بتطويرها أو بابتكار
منتجاتٍ أخرى. والترجمة الشائعة (وهي صحيحة) هي البحوث والتطوير، وإن كانت كلمة الابتكار
أقرب إلى المعنى المقصود، بل وربما كان الارتقاء أيضًا مقصودًا.
(12) Thanks to ceaseless R & D efforts, the company
seeks to take the world by a storm, introducing the first-ever scientifically
devised rejuvenation treatment.
(١٢) تأمل الشركة أن تغزو الأسواق العالمية قريبًا، بعد جهودها الدائبة في مجال البحوث
والابتكار، بطرح أول علاج يعيد الشباب للإنسان، وهو أول علاج من هذا النوع يتوصَّل إليه
العلم الحديث.
وقد يشترك معنى develop مع معنى
elaborate عند بعض الكتاب، حتى المحنَّكين منهم، كما
يتضح من المثال التالي:
(13) The committee finds the project, in its present form,
too general: it requires further development in terms of filling the obvious gaps
and supplying essential details.
(١٣) ترى اللجنة أن الصورة الحالية للمشروع تتسم بالتعميم الشديد، ولا بد من تنقيحها
بسد
الثغرات الواضحة وإيراد التفصيلات التي لا غنى عنها.
التنقيح هنا بمعنى revision أو
improvement ليست الترجمة المثالية لكلمة
developed، ولكنها أفضل من تطوير، وقد يرى المترجم أن
عليه إبدالها بالتعبير الدقيق الموازي لكلمة elaborate، كأن
يقول مثلًا:
«… ولا بد من تحري المزيد من الدقة بسد الثغرات وإيراد التفاصيل …»
وقد يشتبك معنى development مع
growth على نحو ما أوضحنا آنفًا، وللمترجم في هذه
الحالة أن يحدس مقصد الكاتب الذي يتجلَّى في السياق العام، وألَّا يحبس نفسه في المعنى
الخاص للكلمة develop.
(14) The phenomenon was inexplicable: two trees were planted
at the same time, and in the same soil, but one remained stunted, the other
developed into a high and shady tree.
(١٤) لم يجد أحدٌ تفسيرًا لتلك الظاهرة، إذ غُرست شجرتان في الوقت نفسه وفي التربة
ذاتها،
فظلت إحداهما قميئة، ونمت الأخرى حتى غدت دوحةً ظليلة.
ونحن إذن ننظر إلى المعنى في السياق، لا إلى معنى الكلمة المفردة، ومن السخف أن نقول
«تطوَّرت» الأخرى!
(٦-١١) أمَّا المعنى الاقتصادي لكلمة development فلن
يحتاج إلى شرحٍ طويل؛ فهو معنًى يتضمَّن التحويل كما قلنا، وتعبير property
developer يشير إلى شركات البناء التي تحيل المساكن القديمة إلى مساكنَ
حديثة؛ حتى تزيد من قيمتها. وهاك مثالًا:
(15) This land is ripe for
development.
(١٥) هذه الأرض جاهزة للتنمية (للاستثمار/للاستغلال الاقتصادي).
(16) The development area in the Eastern Nile Delta is
already attracting many businesses.
(١٦) بدأت منطقة التنمية في شرق الدلتا بمصر في اجتذاب أنشطة كثير من رجال
الأعمال.
والواضح أن التعبير هنا ركيك؛ لأن المقصود بمنطقة التنمية هو المنطقة التي تشهد جهودًا
استثمارية؛ أي ضَخ رءوس الأموال في المشروعات ploughing capital into
projects (أمَّا كلمة pumping فلا تعني
الضخ بهذا المعنى، بل الاستدرار او الاستخراج)، ومن ثم فقد يكون من الأفضل استخدام التعبير
الدقيق وهو الاستثمار أو الاستغلال الاقتصادي بدلًا من الكلمة ذات الدلالة المظلية.
وتُستخدم كلمة developing أي النامية صفةً للبلدان التي
تزيد من طاقتها الإنتاجية، وترفع من مستوى معيشة شعوبها، بدلًا من التعبير القديم
underdeveloped؛ أي التي لم تحقِّق التنمية بعد، والتي
كانت تُترجَم بكلمة المتخلِّفة backward، ولمَّا شاع
استخدام التخلُّف lagging behind للإشارة إلى التخلُّف
العقلي mental retardation استنكفت البلدان العربية أن
تستخدم هذا التعبير في الإشارة إلى تلك البلدان، وفضَّلت الكلمة الجديدة وهي
developing، وترجمتها أولًا ترجمةً مطوَّلة وهي
«السائرة في طريق النمو»، ثم عدَّلتها إلى «النامية». أمَّا البلدان التي يُعتقد أن تنميتها
قد اكتملت فيُشار إليها بتعبير developed، وكانت أيضًا
تُترجم بعبارةٍ ثقيلة هي «المتقدِّمة النمو»، ثم حذفت «النمو». ولمَّا لاحظ المترجمون
أن
استخدام «النمو» (growth) غير مقابل للتنمية، على نحو ما
أوضحنا، أتَوا بلفظ الإنماء، بل إنهم غيَّروا عنوان برنامج الأمم المتحدة للتنمية
United Nations Development Programme (UNDP) إلى
برنامج الأمم المتحدة الإنمائي حتى يشمل الإنماء التنمية والنمو جميعًا.
(٧-١١) والشائع أن يشير الكُتَّاب إلى من يضع مشروعًا أو يشتق منهجًا أو يستن مذهبًا
بأنه
He has developed a project/method/system … etc.،
والأفعال التي استخدمتها بالعربية مقصودة؛ فكلها تفيد الابتكار أو الابتداع، ولكن هاتَين
كلمتان متخصِّصتان، والأخيرة لها محاذيرها؛ فنحن نحب الإبداع نكره البدع؛ ولذلك فكلمة
«يضع»
هي الكلمة المحايدة التي لا تُغضب أحدًا.
(٨-١١) وسأعرض ختامًا لبعض استعمالات الفعل التي لا تفيد أيًّا من المعاني السابقة،
وأولها هو «ظهر»، كأن تقول:
(17) He seemed to be suffering simply from a common cold
fever, but the symptoms of malaria soon developed.
(١٧) كان يبدو أنه لا يعاني إلا من ارتفاع درجة الحرارة المصاحبة لنزلة برد عادية،
ولكن
سرعان ما ظهرت عليه أعراض الملاريا.
وثانيها هو تحميض الأفلام الفوتوغرافية:
(18) When the film was developed, none of the pictures proved
satisfactory.
(١٨) اتَّضح بعد تحميض الفيلم أن الصور جميعًا فاسدة.
والمادة التي تُستخدم في التحميض تُسمَّى developer،
وأمَّا التحميض والطبع معًا فيُطلَق عليهما اسم جامع هو
processing. وهكذا فنحن إزاء كلمة تتلوَّن بألوان
السياق، ولن ينجح المترجم مهما تكن براعته في رصد كلمة واحدة لها في كل سياق.
(٩-١١) ولكن مشكلات development بمعنى التنمية قد ازدادت
في الثمانينيات، عندما تفتَّقت أذهان رجال الاقتصاد عن صفةٍ جديدة يلصقونها بالتنمية
وهي
sustainable، والتي سرعان ما تُرجمت بكلمةٍ جديدة هي
«المستدامة»، ففتحت باب الجدل حول دقة معناها أولًا، ثم حول صحة اشتقاقها ثانيًا. أمَّا
دقة
معناها فتكتنفه شكوكٌ كثيرة؛ فمعنى الكلمة الإنجليزية هو ما يمكن مواصلته والاستمرار
فيه،
وهو معنًى لا خلاف عليه، ونحن نجده في سياقاتٍ اقتصادية متعدِّدة، منها السياق الاقتصادي
العام، فإذا اتجهت البنوك مثلًا، بناءً على تَوجُّهاتٍ سياسية معيَّنة
political orientations (وهي كلمة من الكلمات الموضة
التي توازي تمامًا كلمة directions (اتجاهات) أو
trends أو tendencies
أو حتى currents وغيرها)، إلى تخفيض سعر الفائدة على القروض
إلى الحد الذي يجعل المستثمرين يقترضون مبالغ طائلةً ويستثمرونها في مشروعاتٍ طَموحة
(سنعود
إلى هذه الكلمة فيما بعد)، أو واسعة النطاق ambitious/large
scale، بحيث تتجاوز حدود المخاطر المحسوبة calculated
risks (أي التي دُرست احتمالات وقوعها والآثار المترتِّبة على ذلك
دراسةً دقيقة)، وتتجاوز المعدَّلات المتوقَّعة للتنمية والنمو — والمعدَّل
rate هو نسبة الزيادة في زمنٍ معيَّن، بخلاف النسبة
ratio التي لا تتضمَّن عنصر الزمن — فقد يرى رجال
الاقتصاد أن شدة النشاط الاقتصادي قد ازدادت عن الحد، وهم يطلقون على ذلك لفظ
overheating؛ أي زيادة السخونة عمَّا ينبغي، ومن ثم
يرَون أن معدلات النشاط الاقتصادي لا يمكن الاستمرار فيها، بمعنى استحالة إيجاد الموارد
المادية (الطبيعية أو البشرية مثل مصادر الثروة أو رءوس الأموال أو الخبرات) القادرة
على
مساندة هذا النشاط لفترةٍ طويلة، فيتدخَّلون لدى الحكومة حتى تجعل البنك المركزي يرفع
من
سعر الفائدة على القروض، ويوجِّه البنوك التجارية commercial
banks بأن تحذو حذوه؛ بغية الحد من «التسخين الزائد» والسير في طريق
الانتعاش الاقتصادي الذي يمكن للدولة أن تستمر فيه، وهم يطلقون على هذا التعبير الشائع
sustainable economic recovery؛ أي الانتعاش الاقتصادي
الذي يمكن استمراره لوجود ما يسانده من العوامل الاقتصادية المعروفة. وكلمة
sustainable إذن تضم عنصرَين هما الاستمرار والمساندة،
وإن كان عنصر المساندة هو «سبب الاستمرار»؛ ولذلك فقد نختار أن نتصوَّر أن العنصر الثاني
مدرجٌ ضمنًا في العنصر الأول، فنحذف الإشارة إليه في العبارة التالية «القادر على الاستمرار
(لوجود العوامل المساندة له)»، وهذا هو ما يفعله المترجمون الذين ابتدعوا كلمة «المستدام»
في شتَّى مجالات التنمية.
(19) The availability of cultivable land may not be enough to
plan any agricultural expansion in the south, for sustainable agricultural
development will require more resources than the State can currently
afford.
(١٩) قد لا يكون توافر الأرض الصالحة للزرعة كافيًا لوضع خطط التوسُّع الزراعي في
الجنوب؛
إذ إن التنمية الزراعية المستدامة تتطلَّب من الموارد ما لا تملكه الدولة في هذه
الآونة.
ولو أبدلنا «المستدامة» بالمستمرَّة ما خسر المعنى شيئًا، شريطة أن نذكر أن «الاستمرار
الاقتصادي» يتضمَّن المعنى المحدَّد المشار إليه آنفًا، وربما كان هذا هو السبب الذي
جعل
المترجمين يختارون كلمةً جديدة تقبل إدراج هذا المعنى الجديد، ولكن الواقع أنها، على
شيوعها، لا تُفهم إلا بالإحالة إلى الكلمة الإنجليزية؛ فهي — شأنها في هذا شأن الكثير
من
كلمات الأمم المتحدة — لا تنقل هذا المعنى المطلوب إلى القارئ العربي الذي لا يعرف الكلمة
الأصلية، وهذا هو سر اعتراض البعض عليها.
وأمَّا صحة اشتقاقها فلا خلاف عليه؛ فالمستدام هو «المطلوب إدامته»، وهي على قياس
«المستعان»؛ أي الذي يُطلب منه العون، وفي التنزيل العزيز وَاللهُ
الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (يوسف: ١٧)، وهنا نجد أن القياس على صحته
يأتي بمعنًى غير المعنى المقصود، فلسنا نطلب من التنمية الدوام، بل نطلب أُسسًا لتنميةٍ
دائمة؛ حيث إن العنصر الثاني لا ينبغي أن يغيب أبدًا عن ذهننا، ويجب أن نذكر أن الغذاء
بالإنجليزية معناه sustenance، وهي الكلمة التي تعني ما
يدعم الحياة؛ أي يساعد الإنسان على البقاء، والقدرة على البقاء هي القدرة على استمرار
الحياة (انظر باب viable ومعاني
viability)، وهكذا فإن التنمية المستمرَّة تعني التنمية
التي تتوفَّر لها مقوِّمات التنمية الناجحة، وهي المقوِّمات الثابتة التي تكفل الاستمرار،
وقد تكون كلمة المستديمة أقرب إلى المعنى هنا ما دمنا قد افترضنا أن الاستمرار لن يتحقَّق
إلا بتوافر مقوِّماته، وانظر المثال التالي إذن:
(20) In sustainable development, conceived in modern economic
terms, partnerships are formed not only in terms of capital and expertise, but also
in terms of common interests and objectives.
(٢٠) إن التنمية المستمرَّة بمعناها الاقتصادي الحديث تتطلَّب صورًا متعدِّدة من صور
المشاركة، وهي لا تقتصر إذن على المشاركة في رأس المال والخبرة، بل تتضمَّن وجود المصالح
المشتركة والأهداف المشتركة أيضًا.
(١٠-١١) ولنقف وقفةً موجزة عند بعض الكلمات الشائعة التي تُحيِّر المترجم المبتدئ
هنا،
وأولها هو conceived وهي هنا اسم مفعول من الفعل
to conceive بمعنى «يرى ذِهنيًّا»، وهو الذي نقابل بينه
وبين to perceive بمعنى «يرى حِسيًّا»؛ أي بالعين أو بإحدى
الحواس الأخرى، وإن كان المعنيان يختلطان في الاستعمال الجاري، وقد يكتفي المترجم بإيراد
«يرى» فحسب للدلالة على أيٍّ من المعنيَين أو كليهما، على نحو ما ورد في مثالٍ سابق،
أو
يعمد إلى التمييز بينهما كما في المثال التالي:
(21) The government does not relish any opposition, and it
suppresses the publication of any articles perceived to be critical of its
policies.
(٢١) لا تقبل الحكومة أي معارضة وهي تمنع نشر أي مقالاتٍ ترى فيها انتقادًا
لسياساتها.
(22) Pragmatism as conceived by the philosopher may be the
basis of linguistic pragmatics.
(٢٢) إن البراجماتية بالمعنى الذي يراه الفلاسفة قد تكون الأساس الذي بُني عليه علم
التداولية في اللغة.
(١١-١١) والكلمة الثانية هي terms، وهي الواردة في
المصطلح in terms of أو في
in-terms، والأول يُترجم عادةً بتعبير «من حيث»، وقد
نتحايل لإيراد صيغة مشابهة للتعبير الآخر:
(23) He is an excellent teacher, in terms of his ability to
communicate with his pupils.
(٢٣) إنه معلمٌ ممتاز من حيث قدرتُه على التواصل مع تلاميذه.
(24) Though quite impressive, the project has been a disaster
in financial terms.
(٢٤) كان المشروع، على الرغم من مظهره الباهر، بمثابة كارثة مالية.
(١٢-١١) وأمَّا الكلمة الأخيرة في هذا السياق فهي كلمة
partnership التي أتى لها زملاؤنا بلفظ «الشراكة» كأنما
للتمييز بينها وبين المشاركة participation، ظانين أن كلمة
partnership تقتصر على وجود شريكَين فقط لا عدة شركاء،
استنادًا إلى الكلمة الشائعة في العربية المعاصرة «شريك حياتي!» وفي هذا تتفق الإنجليزية
مع
العربية؛ إذ جاء في اللسان «وامرأة الرجل شريكته»، وهو وهمٌ واضح، فكلمة
partner تعني شريكًا من بين شريكَين أو من بين عدة
شركاء كقولك «هو وشركاؤه»، وانظر تعريف المعجم المخصص:
partner: (a) one of two or more persons engaged in the same
business enterprise and sharing its profits and risks, each as an agent for the
other or others … etc.
والمعنى العام الذي يسبق ذلك هو:
(1) a person who takes part in some activity in common with
another or others; associate.
فالشريك هو المشارك، والشركاء هم المشاركون taking
part/participants، وأمَّا تحديد أنواع المشاركة في الأنشطة الاقتصادية
فيأتي بإضافة صفات إلى الشريك، والكلمات الإنجليزية يتغيَّر معناها بتغيُّر النشاط
الاقتصادي، وإن كانت ترجع اشتقاقًا إلى pars
وpart (انظر باب
department)، ولاحظ التعبير الإنجليزي
in common الذي يعني المشترَك بفتح الراءK وكلمة
sharing التي تعني الشيء نفسه.
وقد يكون الدافع إلى ابتكار كلمة الشراكة تصوُّر أن الكلمة الإنجليزية تعني المساواة
بين
الشركاء في كل شيء؛ أي ما نشير إليه بالمشاركة الكاملة full
partnership، وهذا أيضًا وهم؛ ففي علوم المالية
finance تعني كلمة
partnership ما يعنيه الاقتصاديون بشركة التضامن
الإنجليزية أو شركة التوصية، ولا بد من إيضاح أنواع هذا الضرب من الشركات حتى يتبيَّن
عدم
كفاية المصطلح العربي الجديد، إلا إذا أدرجنا فيه المعاني المتخصِّصة، وقَبِله رجال
الاقتصاد بدلًا عن شركة التضامن أو شركة التوصية.
(١-١٢-١١) شركة التوصية الإنجليزية هي أي شركة تخضع لِمَا يُسمَّى بقانون المشاركة
الذي
أصدره البرلمان الإنجليزي عام ١٨٩٠م، ويختلف هذا النوع عن الشركة التجارية المستقلة
an incorporated company التي تتمتَّع بشخصيةٍ قانونية
أو اعتبارية legal personality؛ أي تُعتبر شخصًا قانونيًّا
أو اعتباريًّا له حق امتلاك الأملاك والتصرُّف تصرُّف الأفراد، ويعود إلى جميع الشركاء
فيه
كل ما يحقِّقه من أرباح، وإن كان هذا الضرب ينقسم قسمَين: الأول هو الشركة ذات المسئولية
المحدودة limited liability، والمقصود بالمسئولية هو
المسئولية عن سداد ديون الشركة؛ فالقارئ يعرف أن
liabilities عندما تأتي في كشف الحساب الختامي
balance sheet تعني الخصوم؛ أي المبالغ المستحقة للغير
والواجب اقتطاعها سدادًا لديون أو نفقات مُعلَّقة؛ أي خصمها (والتعبير هو
assets and liabilities أي الأصول والخصوم، أو ما له
وما عليه)، وهكذا فإن الشركة المحدودة أو «ذات المسئولية المحدودة» هي الشركة التي تقتصر
مسئولية الشركاء فيها عن الديون على حدودٍ معيَّنة، وعادةً ما تكون هذه الحدود هي قيمة
الأسهم (shares) التي يحملها كلٌّ منهم (وهذا هو الغالب
الأعم). وقد تكون محدودةً في حالاتٍ نادرة بقيمة الضمان
guarantee، وهو ما يُسمَّى «التحديد بالضمان»
limited by guarantee، ومعناه موافقة المشاركين على
سداد الديون المحدَّدة في المذكِّرة memorandum التي يُقصد
بها بيان إنشاء الشركة، وهو عادةً ما يتضمَّن معلوماتٍ أو بنودًا إضافيةً مُلحقةً بعقد
الإنشاء. وهذا النوع الأخير يكاد يقتصر على النوادي والجمعيات وما إلى ذلك في إنجلترا
دون
الشركات، ولا يكاد ينطبق على الشركات ذات رءوس الأموال أو الشركات المساهمة
joint stock company منذ عام ١٨٩٠م، وأمَّا القسم
الثاني فهو الشركة ذات المسئولية غير المحدودة unlimited
liability وهي التي لا تقتصر مسئولية المشاركين فيها عن الديون على
قيمة الأسهم. أقول تختلف شركة التوصية الإنجليزية عن هذا النوع الشائع من الشركات في
أنها
لا تتمتَّع بشخصيةٍ قانونية، ومن ثم فإن الشركاء يتحمَّلون ديون الشركة حتمًا، ولا مجال
هنا
لوضع حدود من أي نوع، وإن كُنَّا في مجال شركة التوصية نفرِّق أيضًا بين الشركاء العموميين
general partners وبين الشركاء المحدودين
limited partners؛ فالشركاء العموميون يتحمَّلون جميع
الديون المستحقَّة على الشركة في حالة إفلاسها أو انهيارها؛ أي تصفيتها، مهما تكن تلك
الديون، ولا يتحمَّل الشركاء المحدودون إلا الديون التي تتناسب مع حجم استثماراتهم في
الشركة، وأمَّا شركة التوصية المحدودة a limited
partnership فهي التي تضم شركاء عموميين وشركاء محدودين معًا، وتخضع في
تنظيمها لقانون شركات التوصية المحدودة الذي صدر عام ١٩٠٧م في إنجلترا، وهو الذي لا يزال
ساريًا حتى الآن (٢٠٠٠م)، ومن طرائفه النص على ما يُسمَّى شركة التوصية الحرة
partnership-at-will، ومعناها عدم تقيُّد المشاركين
فيها بمدةٍ زمنية مُعيَّنة، بل يجوز لأيهم لو أراد أن يخرج من الشركة بشرط إبلاغ جميع
المشاركين فيها باعتزامه ذلك، كما ينص ذلك القانون على ما يُسمَّى ﺑ «المشاركة الاسمية»
nominal partnership، ومعناها أن يسمح فرد للشركة
باستخدام اسمه فقط فيما يعود بالخير على الشركة، دون أن يكون شريكًا قانونيًّا، في مقابل
بعض المكافآت العينية أو المالية (وهذا شائعٌ في بريطانيا)، ودون الحصول على أية نسبةٍ
من
أرباح الشركة.
وتتميَّز شركات التوصية الإنجليزية إذن بأنها ليست ذات شخصية قانونية؛ ولذلك فإن
الشركاء
فيها يرتبطون باتفاقية مشاركة partnership agreement
يُسمَّى أحيانًا عقد المشاركة partnership deed، وليلاحظ
القارئ استخدام deed هنا بمعنى العقد، وهو الذي شاع في مصر
عندما وزَّعت حكومة الثورة عقود التمليك title deed على
صغار المزارعين في أوائل الخمسينيات في مصر، وعجب الناس من استخدام الكلمة، على صحتها،
في
هذا السياق. والمعروف أن هذا النوع من العقود له جذوره التاريخية؛ فهو عادةً ما يكون
وثيقةً
موقَّعة ومختومة ومطوية، وهو لا يصبح ساري المفعول في حالة نقل ملكية الأرض إلا إذا سُلِّم
باليد! وأمَّا title فهو حق الملكية أو الحق في شيءٍ ما،
ومنه جاء الفعل entitle؛ أي «يخوِّل لشخصٍ ما الحق في كذا».
وأمَّا عقد المشاركة فيختلف عن عقود الشركات التجارية المستقلة في أنه يتفاوت من حالةٍ
إلى
حالة، ولا ينطبق عليه قانون مُوحَّد؛ ففي عقد المشاركة الإنجليزي لا بد من النص على أسلوب
توزيع الأرباح، والإجراءات الواجب اتخاذها في حالة وفاة الشريك أو انسحابه
(retirement، ولاحظ أن الكلمة تُترجَم بلفظ التقاعد أو
الإحالة إلى المعاش في سياقاتٍ أخرى) أو إفلاسه، وكذلك قواعد سحب رأس المال، أو جانب
منه،
من الشركة. ويتميَّز الشركاء هنا بأنهم لا يتقاضَون رواتب سنوية
(salaries وإن دُفعت على أقساطٍ شهرية أو فصلية!) ولا
تُدفع لهم فوائد على رءوس أموالهم!
(٢-١٢-١١) والغريب أن يولع الكتَّاب ولعًا شديدًا بكلمة الشراكة، ظانين أنها قادرة
على أن
تحمل جميع معاني الكلمة الإنجليزية المشار إليها، بل وأن يستخدموها في سياقاتٍ اقتصادية
يمكن أن تؤدِّي إلى بلبلةٍ في المعنى، هذا إذا قَبِلنا أن الشراكة توازي
partnership اصطلاحًا، وكل ما أُثير من اعتراضاتٍ بصدد
الكلمة العربية الجديدة لا يعدو صحة اشتقاقها من شِرك، وكراهة أن توحي بالشرك بالله،
وهذا
جميعًا ممَّا لا يجدر بنا أن ننظر فيه، فلا يعني عدم ورود الكلمة عند الأقدمين عدم جواز
استخدامها عند المحدثين، ما دام لها نفعٌ مؤكَّد، وما دامت الحاجة تدعو إليها، فإذا كُنَّا
نريد أن نوازي اصطلاحًا بين partnership وشراكة، دون أن
نربط هذه بأصولها العربية أو بنظائرها القريبة منها مثل الشِّراك (الطريقة من الكلأ الأخضر
تكون منقطعةً عن غيرها، أو سير النَّعْل على ظهر القدم) والأشراك (جمع شَرَك وهو حبالة
الصيد) (الوسيط واللسان)، وإذا كُنَّا قادرين على تحديد المعنى الاقتصادي المشار إليه
آنفًا
دون عَنَت وبوضوح، فلا بأس بذلك. ولكن الذين يستخدمون كلمة الشراكة اليوم يوحون بأنهم
لا
يقصدون ذلك المعنى، بل يقصدون المشاركة «على قدم المساواة» on
an equal footing (وهو
التعبير الشائع الذي استحدثناه في العربية) كقول بعضهم: «إن هدفنا هو الشراكة العربية
الأوربية»:
(25) Our aim is an Arab-European
partnership.
أو كقول الآخر: «إن الولايات المتحدة شريكٌ في عملية السلام في الشرق الأوسط.»
(26) The USA is a partner in the Mideast peace
process.
ولكن التعبير الإنجليزي لا يعني إلا أن الولايات المتحدة تشارك في الجهود المبذولة
لإحلال
السلام في الشرق الأوسط، كما اعتدنا سماع مَن يشير إلى الشراكة العربية الأمريكية، أو
الشراكة «المتوسطية»، نسبةً إلى البحر المتوسط The Mediterranean
Sea الذي كُنَّا نشير إليه فيما مضى باسم البحر الأبيض المتوسط،
والنسبة إلى «المتوسط» شاعت، وهي تعني البلدان المطلة على هذا البحر، أو بلدان حوض البحر
المتوسط، وفي كل حالةٍ من هذه الحالات يريد الكتَّاب أو يوحوا بالمساواة بين الشركاء،
فإذا
صحَّ تفسيري لمقصدهم فلا بد أن نضيف كلمةً إلى partners مثل
equal حتى توضِّح المعنى، أمَّا إذا كانوا لا يعنون سوى
المشاركة فلا بأس من إيراد الكلمة الإنجليزية قيد البحث هنا.
(١٣-١١) ولا نستطيع أن ننتهي حقًّا من هذا الباب دون الإشارة إلى الصفة المشتقة من
الاسم
وهي developmental، والتي ذكرنا من قبلُ أنها تُرجمت مرةً
بالتنموي ومرةً بالإنمائي، وذكرنا أن تغيير اسم برنامج الأمم المتحدة الإنمائي قد قُصد
به
أن يجمع بين النمو والتنمية، ولكن المشكلة هي أننا مقيَّدون في اللغة العربية بصيغٍ صرفية
ثابتة المعنى، ولا نكاد نتجاوز ذلك المعنى الثابت حتى نقع في دُوامة الغموض؛ ولذلك فنحن
نستمسك بهذه الصيغ ولا نخرج عنها، ونكاد نحدِّد لكلٍّ منها معنًى اصطلاحيًّا ثابتًا بغض
النظر عن جذوره الاشتقاقية، وفقًا لِمَا نراه من المعاني التي تحملها الألفاظ الأجنبية
على
نحو ما فعلنا مع مصطلح النمو والتنمية، وهما ينبعان من مصدرٍ واحد لا خلاف على معناه،
وعلى
نحو صيغة التنموي والإنمائي فهما من الصيغ الصرفية التي ليست جديدةً على العربية؛ أي
صيغة
النسبة (بإضافة الياء المشدَّدة) التي أصبحت توازي صيغة الصفة الإنجليزية؛ إذ أفادتنا
هذه
الصيغة في اشتقاق معظم الألوان التي نستخدمها اليوم في الفصحى المعاصرة؛ إذ نسبنا الرماديَّ
ash-coloured إلى الرماد أي
grey، ونسبنا البُنيَّ إلى البن (brown)
coffee-coloured، ونسبنا البرتقاليَّ إلى البرتقال (والكلمة مُعرَّبة
عن Portugal أي البرتغال)، ونسبنا إلى الزيت والنبيذ
والرصاص وما إلى ذلك (انظر «المصطلحات الأدبية الحديثة» للمؤلِّف)، ولكننا عندما حاولنا
محاكاة الإنجليزية في اشتقاق صفاتٍ من معظم الأسماء عن طريق النسبة، وجدنا أن القاعدة
غير
مُطَّردة (consistent/applicable at all times)، كأن تكون
مقابلًا للاحقة -al أو -ic
أو -ive، أو كأن تكون بديلًا لاستخدام الاسم الإنجليزي في
موقع الصفة، بل إن بعض الصفات التي ابتدعناها بالعربية لا مقابل لها بالإنجليزية؛ مثل
«الحضاري» و«الإعلامي»، فإذا وصفت سلوكًا بأنَّه حضاريٌّ أتيت له باسم المفعول
civilized، أمَّا إذا تحدَّثنا عن منجزاتنا الحضارية
فلن تجد إلا الإضافة the achievements of our civilization،
وأمَّا السياسات الإعلامية فهي information policies؛ أي
بالإضافة أيضًا، وهذا هو ما نفعله مع كلمة growth
ومقابلاتها:
(27) “To double the annual growth rate”, as a stated
government policy for the foreseeable future, may sound a little too ambitious,
considering the depletion of the old resources and the lackadaisical attitude to the
current population explosion.
(٢٧) قد ينم الهدف الذي أعلنته الحكومة من مضاعفة معدَّل النمو السنوي في المستقبل
المنظور عن التطرُّف في الطموح بعض الشيء، إذا أخذنا في اعتبارنا نفاد الموارد القديمة،
وفتور مواجهة الانفجار السكاني حاليًّا.
وقبل أن نتطرَّق لترجمة الاسم الذي يُستخدم صفةً في هذا السياق وهو
growth، وتحويل «السياسات الحكومية المعلنة» إلى
«الهدف/السياسة التي أعلنتها الحكومة» (وليلاحظ القارئ موازاة
stated بكلمة
declared)، يجدر بنا أن نقف قليلًا عند شيوع ترجمة
foreseeable بالمنظور، وهي ترجمة لا بأس بها على الرغم
من عدم التطابق الكامل بين الكلمتَين؛ فالكلمة الإنجليزية تعني «المستقبل الذي يمكننا
أن
نتنبَّأ به» لا أن ننتظره، ولا «أن نتوقَّعه» أو «أن نترقَّبه»، والفعل «نظر» يفيد في
أحد
معانيه الفعل «أنْظَرَ» أي أمهل وأخَّر؛ فأنت تقول «نظر الدَّين» و«أنظر الدَّين» بمعنى
أخَّره؛ أي منح المدين مهلةً للسداد، وتقول «أنظرت البيع أو المبيع»؛ أي بعته بنَظِرَةٍ
(بكسر الظاء) (وفي التنزيل العزيز فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ
(البقرة: ٢٨٠)؛ أي بالنسيئة أي أنسأته، وليس هذا هو المعنى هنا، ولكن المنظور في العربية
التراثية تعني «ما ترمقه الأبصار اشتهاءً ورغبة»، كما يقال إن فلانًا سيد منظور؛ أي «يرجى
فضله» ونحن نقول في العامية إن فلانًا أو إن شيئًا منظور أي محسود (أصابته عين الحاسد،
«العين صابتني»)، وليس هذا هو المعنى أيضًا، ولكن المعنى الجديد يسير المأخذ، قريبٌ إلى
المعنى الدقيق للكلمة الأجنبية؛ ممَّا يجعلنا نقبل الكلمة العربية باعتبارها تعني «الذي
يمكن النظر إليه» بمعنى استشفافه بناءً على معطيات الحاضر.
(١-١٣-١١) والكلمة الثانية هي seem التي لا تكاد تلمحها
عين المترجم حتى يدرج مقابلها التليد «يبدو» أو «يظهر»، وهي تأتينا في هذا المثال متخفيةً
في كلمتَي may sound، ونحن نعرف أن المعنى الدقيق هو
to seem from the sound or manner of utterance؛ أي
«يبدو» على نحو ما «يفهم أو ما يلوح للذهن من رنين هذه الكلمات أو نغمتها»، ومعنى ذلك
أن
الإدراك ذهنيٌّ في الحالتَين؛ فهو في seem يتوسَّل بالبصر،
وفي sound يتوسَّل بالسمع، وكلاهما من الحواس الأساسية،
وعادةً ما يبدأ الإنجليز بذكر البصر حين يقترن بالسمع، بخلاف العربية؛ فالله هو السميع
البصير، وقد وهبنا السمع والبصر، فيقولون The sights and
sounds؛ أي ما نراه وما نسمعه، أو المناظر والأصوات، ولمَّا كان
التعبير الافتتاحي في المثال ٢٧ ألفاظًا مقتطفةً من حديثٍ أدلى به أحد المسئولين الحكوميين،
فإن الفعل المناسب له هو sound، نسبةً إلى وقع الألفاظ على
السمع ودلالاتها التي تحوَّلت في الترجمة إلى «ينم عن» (والبعض يفضِّل «ينم على» ولكن
الحرفَين صحيحان، قال الشاعر: الصبُّ تفضحه عيونه وتنم عن وجدٍ شئونه)، فإذا رجعت إلى
معنى
«ينم» رأيت المعجم يقول: «نمَّ الحديث نمًّا: ظهر، ونمَّ الشيء انتشرت رائحته.» كما ستجد
أنه يقول إن «النميم (هو): الصوت الخفي من حركة شيء أو وطء قدم.» وهكذا فإن الترجمة تنقل
المعنى عينه، وإذا شاء المترجم أن يقنع بالفعل القديم «يبدو» ما لامه أحد.
(٢-١٣-١١) والعقبة الثالثة هو التعبير a little bit too …
ومعناه الحرفي «ما زاد عن الحد قليلًا»، وهذا يسيرٌ ولا صعوبة فيه، ولكن مكمن الصعوبة
هو
وصف السياسات (أو الأهداف) بأنها «طموحة»، وهو استعمالٌ مجازي شاع في العربية، ويسمَّى
بالإنجليزية transferred epithet؛ أي نقل الصفة من الإنسان
إلى الشيء، بل لقد أصبحنا نقول إنه يقرأ كتابًا غبيًّا ترجمةً للتعبير الإنجليزي
he is reading a stupid book، بمعنى أن الكتاب ينمُّ عن
غباء كاتبه، ومن هنا فسَّر المترجم هذا التعبير المجازي بأن هذا الزعم من جانب الحكومة
ينم
عن طموح قائله أو طموح الحاكمين الذين يمثِّلهم ذلك المتحدِّث، ولا يعني ذلك حرمان المترجم
من استعمال التعبير المجازي نفسه، فلقد شاع ولم يَعُد يمثِّل صعوبةً أو غرابة.
(٣-١٣-١١) وأخيرًا تُواجهنا كلمة considering، وهي اسم
فاعل لا فاعل له، وكثيرًا ما يترجمها المحترفون بتعبير «نظرًا ﻟ» (بل «وبالنظر إلى»)،
وأنا
أفضل إيجاد فاعل، على الرغم من عدم إضافة شيء إلى المعنى، ويتكرَّر ذلك في تعبير «فتور
الموقف» أو الفتور في المواجهة؛ فالمعنى المضمر هو فتور موقف الحكومة؛ أي عدم حماسها
للتصدي
للمشكلة، ولكن الترجمة هنا لا تأتي بفاعلٍ بسبب غموض الفاعل المفترض
(supposed/putative)، فقد لا يكون الفتور منسوبًا إلى
السلطة التنفيذية، بل إلى الشعب أو إلى الشعب والحكومة جميعًا.
(٤-١٣-١١) ونعود إلى ترجمة الصفة بصيغة النسبة أو الإضافة، فإذا كانت
growth وحدها تُترجم بالنمو
وdevelopment تُترجم بالتنمية، فإن الصفة المتخذة من
النسبة — سواء اعتبرنا أنها «تنموي» أو «إنمائي» — قد تعود كما قلنا إلى أيٍّ من الكلمتَين
السابقتَين، على اختلاف دلالة كلٍّ منهما، وفي هذا ما فيه من غموضٍ غير مستحبٍّ؛ ولذلك
فقد
يفضِّل المترجم الإضافة إلى الاسم (على نحو ما فعل في «معدَّل النمو»)، أو إلى الشرح
(كما
فعل في الحديث عن الحكومة بدلًا من النسبة إليها). وقد شهدنا في السنوات الأخيرة ظهور
كلمات
ذات دلالات مظلية جديدة مثل التكاثر reproduction، أو ما
أصبح يُترجَم بكلمة «الإنجاب»، وهي كلمة تغري بالنسبة إليها؛ أي «الإنجابية» في العبارة
التي وردت في سياق مؤتمر المرأة والتنمية.
(28) The emphasis on reproductive health is no irrelevant to
the general purposes of the conference, for more than 50 per cent of the headaches
of the developing world may be attributed to poor health, especially to prenatal and
babyhood curable diseases – a field for worthwhile work in human
development.
والمعنى المباشر للعبارة قيد النظر هنا هو «صحة الأم والمولود» وليس صحة الإنجاب؛
أي أن
تكون الولادة «صحيحة» بمعنى عدم مخالفتها للقواعد الطبية السليمة؛ ولذلك فإن النسبة
مضلِّلة.
(٢٨) لا يخرج التأكيد على صحة الأم والطفل عن الأغراض العامة للمؤتمر؛ إذ إن أكثر
من ٥٠
في المائة من بلايا العالم النامي يمكن أن تُعزى إلى سوء الحالة الصحية، وخصوصًا إلى
الأمراض التي يمكن علاجها في فترة الحمل والطفولة المبكِّرة – وهذا من مجالات العمل المجدي
في إطار التنمية البشرية.
وقد يُفضِّل بعض المترجمين ترجمة الكلمة ﺑ «التناسلية»، وهي ذات مدلول أوسع وأشمل،
وقد
يكون أقرب إلى المعنى الأصيل في الكلمة الإنجليزية؛ فإن الجهاز التناسلي هو
reproductive organs (وجرى العرف على ترجمة
genitals بالأعضاء التناسلية)، والجهاز أعم وأشمل. ولكن
ذلك يجعل الكلمة تتضمَّن مراحل سابقةً على الحمل، وهو غير المقصود اصطلاحًا بالتعبير
الإنجليزي؛ ولذلك فقد وضع أحد المستشفيات في القاهرة عنوانًا لعيادةٍ له هو «صحة المرأة
الإنجابية»، كأنما لتُخرج الرجل من إطار المعنى المذكور.
وسوف تظل مشكلة ترجمة الصفة ذات الظلال الدلالية بصيغة النسبة العربية من أعقد المشكلات
التي يواجهها المترجم العربي؛ فنحن مثلًا ترجمنا كلمة
prenatal بعبارةٍ كاملة هي «في فترة الحمل»، ومعناها
الحرفي هو «قبل الولادة»؛ أي إننا ساوينا بينها وبين during
pregnancy، وبهذا قصرنا المعنى على المقصود، وتجنَّبنا اشتقاق صفة
بالنسبة من الولادة أو الوضع (قبل ولادي؟ قبل وضعي؟) في حين أننا قد لا نتحرَّج من ذلك
في
سياقاتٍ أخرى كقولنا «بعد حداثي» post-modernist أو بعد
الحداثية/ما بعد الحداثة postmodernism، بل و«قبل حداثي»
و«قبل الحداثية» وpre-modernist في الإشارة إلى لوحةٍ أو
عمل فني ما.