تطبيق نهج الرؤى السلوكية
لبناء هذا الوصف، سنستعرض بعض الأعمال التي قامت بها إلزبث حول موضوع البحث عن وظيفة. طُوِّرَ هذا المشروع بالتعاون مع أحد مراكز البطالة في المملكة المتحدة (مركز «بيدفورد جوب سنتر» للتوظيف) وركَّز على زيادة نِسَب حضور الراغبين في العمل في فعالياتِ التوظيف. اختبرنا ما إذا كانت نِسَب الحضور يُمكن أن تتأثر بتغيير صياغة الدعوة في الرسالة النصية القصيرة الموحَّدة المُرسَلة إلى الحضور المحتمَلين. وكما تبيَّن، ضاعفَت الرسالة التي حقَّقَت أفضل أداءٍ من عدد الحضور وأكثر.
يقدِّم هذا الفصل عشر خطوات:
-
(١)
تحديد النطاق.
-
(٢)
تقسيم التحدي إلى أجزاء يُمكن معالجتها.
-
(٣)
تحديد النتيجة المستهدفة.
-
(٤)
وضع خريطة للسلوكيات ذات الصلة.
-
(٥)
تحديد العوامل المؤثِّرة على كل سلوك.
-
(٦)
اختيار السلوكيات ذات الأولوية لمعالجتها.
-
(٧)
إنشاء تدخلاتٍ مَبنية على الأدلة.
-
(٨)
تنفيذ التدخُّل (التدخلات).
-
(٩)
تقييم الآثار.
-
(١٠)
اتخاذ مزيدٍ من الإجراءات بناءً على النتائج.
نُقدِّم هذه العملية كعمليةٍ خطية بغرَض توضيحها. في الواقع، تُوجَد حلقات من الملاحظات والتغذية الراجعة بين هذه المراحل؛ إذ نعيد النظر في قراراتٍ سابقة في ضوء المعرفة الجديدة. ونضع علامةً حيثما يُحتمَل أن تظهر هذه التكرارات.
الخطوة الأولى: تحديد النطاق
سنبدأ بالصورة الأشمل؛ الهدف العام للعمل. في هذا المثال، يتمثل هذا الهدف العام في الحد من البطالة. نحن نُدرك أن البدء بالهدف العام هو نهجٌ يسير من أعلى إلى أسفل؛ إذ قد يكون من الممكن البدء على المستوى الجزئي، بالنظر في السلوكيات الفردية والعمل على الأهداف من هذا المستوى صعودًا إلى الأعلى. في تلك الحالات، نتحرك بسرعةٍ أكبر عَبْر خطوات تحديد النطاق الأولية هذه.
بعد وضع الهدف العام في الاعتبار، نحتاج بعد ذلك إلى تحديد ما إذا كنَّا نتعامَل مع هذا الهدف على مستوًى تكتيكي أم استراتيجي. فكما ناقشنا في الفصل الأول، بعض المشروعات تكتيكية وتتعامل مع التغييرات على مستوًى تنفيذي أو ضمن جزءٍ محدود فقط من النظام. بينما تسمح مشروعاتٌ أخرى بالتدخُّل على مستوًى أكثر استراتيجية، مما يفتح باب الفُرَص لتغيير السياسة أو الأطر الأساسية لمعالجة مشكلةٍ ما، وربما تغيير نظام بأكمله. وفي حين أنه من غير المُحتمَل أن تكون الفرص الدقيقة واضحة في هذه المرحلة، فإننا نريد تحديد المستوى الذي سيتم العمل عليه؛ لأن استخدام الرؤى السلوكية نهجٌ عملي؛ فلا نريد قضاء الكثير من الوقت في السعي وراء خيارات «غير مطروحة على الطاولة».
تتمثل إحدى طُرق تحديد النطاق في تحديد أنواع التدخُّلات التي يُحتمَل أن تكون قابلة للتطبيق. وللقيام بذلك، نقترح خمسة أسئلة، بناءً على إطار العمل، الوارد ذكره بالفصل الثالث، الذي يساعد على تحديد معايير العمل بصورةٍ أكثر إحكامًا. قد يكون من الأسهل الإجابة على هذه الأسئلة بالتوازي مع استكمال الخطوة الثانية. والأسئلة كما يلي:
-
(١)
هل يمكنك تغيير «القواعد» الأساسية التي تحكُم النظام، مثل اللوائح أو القوانين أو السياسات؟
-
(٢)
هل يمكنك تغيير «الحوافز» التي تُحفِّز على الفعل، مثل التكاليف الاجتماعية أو الاقتصادية وفوائد سلوكياتٍ معينة؟
-
(٣)
هل يمكنك تغيير «المعلومات» المقدَّمة؟
-
(٤)
هل يُمكنك تغيير «البيئة» التي تُتخَذ فيها القرارات (على سبيل المثال، المساحة التي تُنْجَزُ فيها أنشطةٌ معينة)؟
-
(٥)
هل يمكنك تغيير «العملية» التي تمُر بها الأطراف الفاعلة، على سبيل المثال، إزالة أو تقليل الحواجز التي تحول دون التقدم؟
في المثال الذي نتَتبَّعه خلال هذا الفصل، كان النطاق يقع في إطار المجال التكتيكي بكل وضوح؛ لأنه كان لا بد من إنهاء العمل بسرعة، دون مواردَ إضافية، وفي مركز توظيفٍ واحد ومُحدَّد ضمن نظامٍ أكبر. كانت أساليب التدخُّل مُقيَّدة أيضًا؛ لأن الشريك المفوَّض كان يتحكَّم فقط في عمليات مركز التوظيف والبيئة والمعلومات. وبتحديد هذه العوامل مقدمًا، تمكنَّا من التركيز، خلال الخطوات من اثنَتَين إلى ستٍ، على تحديد عناصر المشكلة؛ حيث يُمكن تحقيق السلوكيات المرغوبة من خلال التدخُّلات المتاحة.
تسمح لنا الطبيعة التكتيكية والنطاق المُقيَّد لهذا المثال بتقديم وصفٍ واضح ودقيق للعملية. من المُحتمَل أيضًا أن يكون للمثال التكتيكي قابليةُ تطبيقٍ أوسع. فقد وجدنا أن معظم المنظمَّات لدَيها على الأقل بعض الفُرَص التكتيكية لتطبيق نهج الرؤى السلوكية بسرعةٍ وفاعلية؛ وعلى النقيض من ذلك، تميل فرص التدخُّلات الاستراتيجية إلى التبايُن بصورةٍ أكبر حسب السياق (على سبيل المثال، يُمكن للحكومات فقط القيام بالعمليات التنظيمية). ومع ذلك، في الخطوة العاشرة، نستعرِض أيضًا مثالًا من عملنا الأوسع نطاقًا على أسواق العمل؛ حيث كان النطاق استراتيجيًّا بطبيعته، وكانت معظم طرُق التدخُّل ممكنة. في مثل هذه الحالات، من المُحتمَل أن تستغرق الخطوتان الثانية والثالثة وقتًا أطول بكثير؛ لأنهما ضروريتان لتضييق نطاق التركيز.
«نتيجة هذه الخطوة»: أكَّدنا أن هذا العمل كان تكتيكيًّا في نطاقه، وأنه من المُرجَّح أن تقتصر التدخُّلات على تغيير المعلومات أو البيئة أو العمليات في مركز البطالة الذي نعمل معه.
الخطوة الثانية: تقسيم التحدِّي إلى أجزاءٍ يمكن مُعالجتها
«نتيجة هذه الخطوة»: اخترنا التركيز على الطريقة التي يُوصِّل بها مركز البطالة الأشخاص بالوظائف.
الخطوة الثالثة: تحديد النتيجة المستهدفة
نحتاج في هذه الخطوة إلى إيجاد أفضل طريقةٍ لقياس التقدُّم المحرَز نحو الحدِّ من البطالة، بناءً على النطاق المُحدَّد في الخطوتَين الأولى والثانية، والبيانات المتاحة، والمقياس الزمني الذي نعمل عليه. في هذه الحالة، احتجنا إلى إيجاد مقياسٍ معقول لهذا الإجراء، بما أننا ركَّزنا على كيفية قيام مركز البطالة بتوصيل الأشخاص بالوظائف.
تُوصِّل مراكز البطالة الراغبين في العمل بالوظائف بعدَّة طرق، لكن تحليل فريق المشروع أشار إلى أن أحد المسارات كان واعدًا للغاية، ألا وهو: فعاليات التوظيف الجماعي. وفعاليات التوظيف هي فعاليات أقامها مركز البطالة بالشراكة مع أحد أصحاب العمل المحليين (سوبر ماركت أو مصنع جديد، على سبيل المثال) بحاجة لشغل العديد من الوظائف الشاغرة بسرعة. كانت هذه الفعاليات تنجح عادةً في توفير وظائفَ للأشخاص؛ ومن ثَمَّ استثمر المركز في تطوير العلاقات مع أصحاب العمل، وتعيين موظِّفين لإدارة الفعاليات، وتدريب عملائه أثناء تقديم الطلبات. ولا شك أن ضمان حضور الراغبين في العمل للفعاليات من الأساس أمرٌ بالِغ الأهمية. فقبل الفعالية، حدَّد مركز البطالة المرشَّحين المؤهَّلين وأرسل لهم دعوة عَبْر خاصية الرسائل القصيرة للحضور. ولكن على الرغم من ارتفاع فرص الحصول على وظيفة خلال هذه الفعاليات، حضر حوالي ١٠ في المائة فقط من المُتقدِّمين المؤهَّلين.
كان لمعدَّل الحضور في فعالية التوظيف الجماعي بين المدعوِّين الراغِبين في العمل ميزاتٌ عديدة جعلَته نتيجةً مستهدفةً جيدة. فقد كان الحضور سلوكًا له ارتباطٌ واضح بالهدف العام؛ لأن الفعاليات غالبًا ما كانت فعَّالة في مساعدة الناس على الالتحاق بالعمل. كانت هذه النتيجة المُستهدفة محدَّدة نسبيًّا أيضًا؛ فقد تمَّ تحديد المجموعة المَعنية جيدًا، وكان هناك إجماع حول كيفية تحديد الحضور وقياسه. (بالنسبة إلى بعض النتائج، قد نُحدِّد أيضًا الفترة الزمنية التي نهدف إلى تحقيق النتيجة المستهدفة خلالها.) علاوةً على ذلك، كانت ثمَّة أنظمةٌ قائمة بالفعل تُسجِّل السلوك المطلوب على نحوٍ موثوق، ممَّا قلَّل التكاليف والشكوك بشأن دقة القياسات. وأخيرًا، بدا تحقيق حراك في النتيجة المستهدفة أمرًا مُمكنًا. لم يكن معدل الحضور الحالي منخفضًا فحسب، بل أشارت الأدلة إلى أن معظم الراغبين في العمل كان لدَيهم دافع للعثور على عمل، مما يجعل من المنطقي الاعتقاد بأن تغييرات محدودة نسبيًّا (على سبيل المثال، جعل الحضور أسهل قليلًا) يُمكن أن تُسخِّر هذا الدافع وتسفر عن تغيير.
بناءً على هذه النقطة، تكون الخطوة التالية هي تحديد مقدار التغيير في النتيجة المستهدفة الذي سيُشكل النجاح. يتعيَّن على الأطراف المشاركة في التدخُّل الاتفاق مبكرًا على تحسين «جيد بما فيه الكفاية». وهذه المسألة، في أبسط صورها، يُمكن أن تكون متعلقةً بتحليل التكلفة والعائد: ما مستوى التحسين الذي يُبرِّر الميزانية المتاحة لتنفيذ التدخُّل؟ ولكن غالبًا ما يكون الطموح أكبرَ من هذا المطلب الأساسي البسيط. ففي سياسات مكافحة البطالة، على سبيل المثال، يكون لدى كثيرٍ من الحكومات أهدافٌ طموحة للغاية لمستويات التوظيف الوطنية تتجاوز بكثيرٍ الحدَّ الذي تتجاوز عنده الفوائد التكاليف.
ولكن ما هي التطلُّعات الواقعية؟ للإجابة على هذا السؤال، نحتاج إلى النظر في الأدلة الموجودة. على سبيل المثال، إذا كان الطموحُ المنشود هو زيادة معدَّلات العمالة المحلية بنسبة ١٠ في المائة، ولكن التدخُّلات الحالية الأكثر فاعلية لا تحقِّق سوى زيادةٍ بنسبة ١ في المائة، فيجب إعادة تعديل التوقعات أو إعادة النظر في المشروع. ومن خلال تحديد هذه التوقُّعات مبكرًا، نُوفِّر نقطة ارتكازٍ لكلِّ خطوةٍ من خطوات العملية؛ طريقة للمراجعة مقارنةً بالطموح الأصلي.
فيما يتعلَّق بهذا المشروع، قرَّرْنا بشكلٍ جماعي أن زيادة نسبة الجمهور المدعُو من ١٠ في المائة إلى ١٥ في المائة (بزيادة ٥٠ في المائة) سيكون هدفًا معقولًا. وقد حقَّقَت هذه الزيادة توازنًا بين ما هو مطلوب لتبرير استثمار الجهود وما اعتبرناه، بناءً على مراجعة لتدخلاتٍ مُماثلة، تغييرًا واقعيًّا. وأصبح هذا الهدف أكثر تحديدًا مع حصولنا على مزيدٍ من المعلومات، ولكن ظلَّت الأساسيات ثابتة.
«نتيجة هذه الخطوة»: نتيجتنا المُستهدَفة هي زيادة معدَّل الحضور في فعاليات التوظيف الجماعي بين المَدعوِّين من راغبي العمل من ١٠ إلى ١٥ في المائة.
الخطوة الرابعة: وضع خريطة للسلوكيات ذات الصلة
الآن نحن بحاجة إلى فهم السلوكيات التي تصنع النتيجة (حضور فعاليات التوظيف). وهذا يعني، في هذا المثال، جمعَ المزيد من المعلومات حول فعاليات التوظيف المَعنية، وكيف تحدُث، وكيف يُخطَر بها الباحثون عن عمل، وأي معلوماتٍ سياقيةٍ أخرى ذات صلة. تشمل أدوات العثور على هذه المعلومات مراجعة الأبحاث السابقة حول هذا الموضوع؛ واستخدام مناهج البحث النوعي مثل المُقابلات والملاحظات ومجموعات التركيز وتجربة العملية بصورةٍ مباشرة؛ وتوظيف الأساليب الكمية مثل المسوح وتحليل البيانات. وكما أشرْنا من قبلُ، لا يُمكننا شرح هذه الأدوات بالتفصيل هنا.
نحن بحاجة إلى النظر في نقاط القوة والضعف لكل أداة، ومواضع الفجوات في فهمنا. على سبيل المثال، إذا كان لدَينا بعض الاستنتاجات الأولية بالفعل حول تجربة المستخدم استنادًا إلى التعليقات والملاحظات حول خدمةٍ ما، فقد نسعى للتحقُّق من صحة هذه الاستنتاجات من خلال الملاحظات المباشرة والإحالة المرجعية للتعليقات ومقارنتها مع البيانات الإدارية حول كيفية استخدام الخدمة. تُعَد الإحالة المرجعية أمرًا مهمًّا؛ لأن التعليقات وحدها لن تُخبرنا سوى بجزء من القصة؛ لأنها قد تمثل من مرُّوا بتجربةٍ جيدة أو سيئة على نحوٍ خاص تمثيلًا غير مُتناسب. يمكن أن تكشف الملاحظة المباشرة عن جوانبَ جديدةٍ لتجربة المُستخدِم، بينما يمكن أن تُخبرنا البيانات الإدارية ما إذا كانت الأنماط التي نراها في التعليقات (مثل أوقات الانتظار الطويلة) تُمثل تجربة المُستخدِمين بشكلٍ عام. وهذه المعلومات مجتمعة يُمكن أن تقدِّم لنا صورةً أكثر موثوقية لما يحدُث.
لرسم خريطة للسلوكيات ذات الصلة في مركز بيدفورد، أجرَينا مقابلاتٍ موجَزة، وسجَّلنا ملاحظاتٍ حول كيفية استخدام الأشخاص للمركز، وراجعنا الوثائق التي تُوجِّه العمليات. كان الهدف هو رسم خريطة للسلوكيات ذات الصِّلة من منظور كلٍّ من الباحث عن العمل ومركز البطالة، وتحديد من (يُعتبَر) له دورٌ في هذه السلوكيات من قِبل كل طرف، وتحديد أي اختلافاتٍ جوهرية في الخبرة أو المنظور. ومن خلال هذه العملية، حدَّدنا أربع فئاتٍ تؤثِّر على النتيجة: (١) العاطلون عن العمل (الراغبون في عمل)، (٢) موظَّفو مركز البطالة، (٣) أرباب العمل المُحتمَلون، و(٤) شبكة الدعم الاجتماعي (الأصدقاء والعائلة عادة) المُحيطة بالشخص العاطِل عن العمل.
«نتيجة هذه الخطوة»: جمعنا المعلومات الاستكشافية لرسم خريطة للسلوكيات ذات الصلة بحضور أو عدم حضور أحداث فعاليات التوظيف الجماعي.
الخطوة الخامسة: تحديد العوامل التي تؤثِّر على كل سلوك
للتأثير على هذه السلوكيات، نحتاج إلى فهم ما يُفرِزها في المقام الأول. ربما نكون قد جمعنا كل المعلومات التي نحتاج إليها في هذه المرحلة في الخطوة السابقة، ولكن في بعض الأحيان يُمكن أن تكشف هذه الممارسة عن أسئلةٍ لم يُجَب عنها بعدُ. وفي مثل هذه الحالات، قد نُجري المزيد من البحث الاستكشافي.
-
(١)
القدرة Capability: قدرة الفرد النفسية والجسَدية على الانخراط في النشاط المَعني، بما في ذلك امتلاك المهارات والمعرفة الصحيحة.
-
(٢)
الفرصة Opportunity: العوامل الخارجة عن سيطرة الفرد والتي تُمكِّن السلوك أو تحفِّزه.
-
(٣)
الدافع Motivation: العمليات المعرفية التي تُحفِّز السلوك، بما في ذلك اتخاذ القرارات الواعية وغير الواعية، والعادات، والاستجابات العاطفية.3
للتأثير على السلوكيات، نحتاج إلى فهم ما يفرزها.
كما ورد في الفصول السابقة، ليس بالضرورة أن يكون نهج الرؤى السلوكية فرديًّا. ولعلَّ من الطرق العملية للتفكير في هذه النقطة في هذه المرحلة أنَّ عوامل الفرصة (التي تقع خارج سيطرة الفاعل الفردي) يُمكن استخدامها باعتبارها نقاطًا للتدخل. ولتطوير تدخُّلٍ ما، يتحتَّم علينا الآن استخدام الدروس المُستفادة من هذه المرحلة لتصنيف كل سلوكٍ بناءً على مدى سهولة تغييره، ومدى التأثير الذي سيُحدِثه أي تغيير من هذا القبيل.
«نتيجة هذه الخطوة»: اكتشفنا العوامل التي تؤثِّر على السلوكيات ذات الصلة، وحدَّدنا العوائق وعوامل التمكين.
الخطوة السادسة: اختيار السلوكيات ذات الأولوية لمعالجتها
هذه هي الخطوة الأخيرة قبل أن نتمكَّن من خلق تدخُّلات لتحسين الحضور في فعاليات التوظيف (في خدمة الهدف الأكبر للحدِّ من البطالة). لكل سلوك يتم تحديده، نُعين ترتيبًا بناءً على التأثير المتوقَّع من إجراء تغيير وجدوى القيام بذلك، وذلك باستخدام أسئلةٍ تحفيزية على غرار الأسئلة التالية:
-
(١)
التأثير: ما مدى أهمية هذا السلوك بالنسبة إلى النتيجة النهائية؟
-
(أ)
هل هذا السلوك على المسار الحاسم نحو النتيجة؟ بعبارةٍ أخرى، إلى أي مدًى يؤثِّر على الحضور في فعالية التوظيف؟
-
(ب)
كم عدد الأشخاص الذين يُمارسون هذا السلوك؟ كم عدد من لا يُمارسونه؟
-
(أ)
-
(٢)
الجدوى: ما مدى إمكانية تغيير هذا السلوك؟
-
(أ)
هل يُمكننا تعديل أيٍّ من العوامل المؤثِّرة على السلوك؟
-
(ب)
هل التغييرات المطلوبة مُستساغة سياسيًّا؟ هل من المُحتمَل أن تكون ميسورة التكلفة؟ هل يمكن تحقيقها في الإطار الزمني المتاح؟
-
(جـ)
هل هناك مَطالبُ أخرى، من حيث الوقت أو الموارد، على الفرد أو المنظمة ذات الصلة سيكون من شأنها أن تجعل تغيير هذا السلوك أمرًا صعبًا؟
-
(أ)
-
٢: يقوم أحد مُوظفي مركز بيدفورد بإنشاء وإرسال الدعوة إلى الفعالية عَبْر الرسائل النصية القصيرة.
-
٣: عند استلام الرسالة النصية القصيرة، يُقرِّر المُستلم ما إذا كان سيحضُر الفعالية أم لا.
«نتيجة هذه الخطوة»: حدَّدنا اثنَين من السلوكيات ذات الأولوية لاستهدافهما بالتدخُّل؛ إنشاء وإرسال دعوة عبر الرسائل النصية القصيرة؛ وتقرير حضور الفعالية من عدمه.
الخطوة السابعة: إنشاء تدخُّلاتٍ مَبنية على الأدلة لإنتاج السلوكيات ذات الأولوية
لتلبية المُتطلبات المرتبطة بصياغة الرسالة وإرسالها، اخترنا اختبار ما إذا كان تنويع صياغة دعوات الرسائل النصية القصيرة الحالية سيزيد من الحضور. ولاختيار هذا التدخُّل، طبَّقنا مرةً أخرى معايير التأثير والجدوى، ولكننا أضفنا اعتبارَين إضافيَّين؛ المقبولية وقابلية التوسُّع. تتعلق المقبولية بما إذا كانت هناك مشكلاتٌ سياسية أو أخلاقية تتعلق بالتدخُّل المقترَح (سنتعمَّق في مناقشة هذه المسألة في الفصل القادم). بينما تتعلق قابلية التوسُّع بما إذا كان يمكن استخدام التدخُّل خارج نطاقٍ تجريبي أوَّلي أو موقع اختبار. على سبيل المثال، تأكَّدنا من أن الرسالة الأفضل أداءً — حال نجاحها — يُمكن أن تحلَّ محلَّ النموذج الافتراضي الحالي في النظام الوطني. وفي حين أن هذا المطلب زاد من قابلية التوسُّع، فقد أوجد أيضًا مقايضاتٍ أو موازنات؛ فكان يجب أن تكون أي رسالةٍ تُنشأ عامةً بما يكفي لتظلَّ دقيقةً وذاتَ صلةٍ على المستوى الوطني. لذلك، لم يكن من المُمكن أن تذكُر الرسالة أن فعالية التوظيف من المُحتمَل أن تؤدي إلى الحصول على وظيفة؛ لأن هذا لم يكن الحال دائمًا. وتُعَد هذه الموازنات جزءًا شائعًا من تصميم السياسات والخدمات.
بمجرد أن اتفقنا على استخدام نظام الرسائل النصية القصيرة، كان السؤال هو كيفية إنشاء الرسائل التي تُلبِّي مُتطلبات الحل في أقلَّ من مائتَي حرف. لم تكشف أي مراجعة للأدلة الموجودة عن أي ممارساتٍ واضحةٍ أفضل لتشجيع هذا السلوك بعينه. لذا، كان علينا أن نعتمِد أكثر على المبادئ العامة المستمَدَّة من علم السلوك، والتي عرضنا كثيرًا منها في الفصول الثلاثة الأولى. وتتطلَّب عملية الانتقال من المبادئ العامة إلى التدخُّلات الملموسة في حدِّ ذاتها أن نُفرِد لها معالجةً بطول كتابٍ كامل؛ فالطريقة الدقيقة التي تُصاغ بها رسالة أو يُعرَض بها اختيار، كما أشرنا، يمكن أن يكون لها تأثيراتٌ مُهمَّة على السلوك. يُمكننا تلخيصُ جانبَين رئيسيَّين لهذه العملية هنا.
بالنظر إلى هذه التحديات، هناك نهجٌ ثانٍ قيِّم، ألا وهو عرضُ التدخلات المحتَمَلة للمشاركين مباشرةً كجزءٍ من عملية الإنشاء. وتتمثَّل إحدى طرُق القيام بذلك في الاختبار المُسبَق للتدخُّل بطرقٍ منخفضة التكلفة. إن تقييم كيفية تأثير التدخُّل على عددٍ محدود من المشاركين في ظروفٍ واقعية يمكن أن يكون ذا قيمة، إذا كان التدخُّل منخفضَ المخاطر ويمكن تنفيذه بتكلفةٍ زهيدة. أما إذا لم يكن كذلك، فالبديل هو إنشاءُ مكافئٍ شبيهٍ للتدخُّل وإجراء اختبار بعينةٍ من المشاركين عَبْر الإنترنت.
الأولوية الأساسية هنا هي استخدام النتائج بالطريقة الصحيحة. إن الحصول على آراء الناس بشأن تدخلٍ ما، مُفيدٌ لفهم الشعور الذي سيشعرون به إذا نُفِّذ. ولكن على الرغم من أهمية هذه النتائج، فإنها ليست دائمًا دليلًا جيدًا للسلوك الذي سينتهجونه. لهذا السبب، تكون مجموعات التركيز القياسية أقلَّ فائدةً بصفةٍ عامة. ولكن إذا كنتَ تُحاوِل فهم السلوك، فلتُركِّز على أقربِ مكافئٍ للسلوك الحقيقي، وقم بمُحاكاة سياق اتخاذ القرار بأقصى قَدْرٍ مُمكن من الدقة.
ثمَّة خيارٌ آخر وهو العمل مع المشاركين المُحتمَلين لتطوير نماذجَ أوليةٍ بسيطة للتدخُّلات. يمكن بعد ذلك تنقيح هذه النماذج الأولية أكثر أو استخدامها للكشف عن نُهُج جديدة. تتمثَّل ميزة النماذج الأولية في أنها تُوفِّر تفاعلًا أعمقَ بكثيرٍ مع نظرة المشاركين للعالم، وهو ما قد يُقدِّم وجهاتِ نظرٍ جديدةً لم تكن متاحةً لفريق المشروع.
أفرزَت هذه العملية أربعَ رسائلَ بغرض الاختبار مع مركز بيدفورد للتوظيف. ونعرض فيما يلي كلَّ رسالةٍ منها ونُقدِّم شرحًا موجزًا لكيفية ترجمتنا للأدلة ذات الصِّلة إلى لغةٍ بعينها. ولإضفاء إحساس بالسياق، نُقدِّمها كما لو أن مصنعًا يُسمَّى «سيستم لينك» يطلب موظفين للتعيين في وظائفَ أمنية. في كلِّ حالة، وضعنا أي كلمةٍ مختلفة عن الرسائل السابقة بحروفٍ كبيرة.
-
(أ)
التحكم: كانت رسالة «التحكُّم» هي الرسالة التي يَستخدِمها مركز التوظيف في ذلك الوقت، واحتفظنا بها لأننا ببساطةٍ لم نستطع افتراض أن الرسائل الجديدة ستُؤدِّي بصورةٍ أفضل.
«متاحٌ الآن ثماني وظائفَ أمنية جديدة، متاحة الآن في «سيستم لينك». برجاء الحضور إلى مركز بيدفورد للتوظيف يوم الإثنين، ١٠ يونيو، في الساعة الحادية عشرة صباحًا، والسؤال عن سارة لمعرفة المزيد.»
-
(ب)
التخصيص: تُظهِر مجموعة من الأبحاث المُثبتة أن استخدام اسم المُستلم فعَّالٌ في جذب الانتباه، وجعلِ التواصُل يبدو أكثر صلة. في هذه الحالة، أتاح النظام إمكانية إدراج اسمِ المُستلم في الرسالة.
«مرحبًا إلزبث، متاحٌ الآن ثماني وظائفَ أمنية جديدة في «سيستم لينك». برجاء الحضور إلى مركز بيدفورد للتوظيف يوم الإثنين، الموافق ١٠ يونيو، في الساعة الحادية عشرة صباحًا، واسألي عن سارة لمعرفة المزيد.»
-
(جـ)
التوقيع على الرسالة: يُعيَّن موظفٌ خاص للراغبين في العمل في مركز بيدفورد للتوظيف لتقديم المشورة لهم («مدرب توظيف»). كانت فرضيتُنا أن ذكر اسم فردٍ معيَّن قابلَه الراغبون في العمل يمكن أن (أ) يشير إلى أن الفرصة رسمية (ب) يربط الفرصة الحالية بالمحادثات السابقة والمُستقبلية مع المدرب. وقد استندنا إلى دراسةٍ مُماثلة أظهرَت أنه يمكن زيادة معدَّل سداد القروض من خلالِ تضمينِ اسم مسئول القرض، ولكن هذا فقط في حالة إذا كان المُستلم قد التقى بهذا الموظف.7
«مرحبًا إلزبث، متاحٌ الآن ثماني وظائفَ أمنية جديدة، متاحة الآن في «سيستم لينك». برجاء الحضور إلى مركز بيدفورد للتوظيف يوم الإثنين، ١٠ يونيو، في الساعة الحادية عشرة صباحًا، واسألي عن سارة لمعرفة المزيد، مايكل.»
-
(د)
المعاملة بالمِثل والحظ: تظهر دراسات عديدة أن الأفراد غالبًا ما يكون لديهم دافعٌ قوي لردِّ الفعل بالمثل، كردٍّ معروف، على سبيل المثال. في هذه الحالة، قُمنا بتطوير عبارة «لقد حجزتُ لك مكانًا» لإبراز أن مركز التوظيف قد استثمر بعض الجهد في دعم الفعالية ودعوة المُتلقي. وافترضنا أن الإشارة إلى هذا الجهد قد تُحفِّز الرغبة في الرد بالمثل من خلال الحضور. وقد أتبعنا تلك العبارة برسالةٍ قصيرة تتمنَّى للمُتلقي «حظًّا سعيدًا»، استندَت إلى مفهوم «مركز الضبط». من المُحتمَل أن يكون لدى بعض الراغبين في العمل «مركز ضبط داخلي»، وهو الاعتقاد بأن تصرُّفات شخصٍ ما يُمكن أن يكون لها تأثيرٌ مُفيد على ما يحدث له. بينما يكون لدى آخرين «مركز ضبط خارجي» ويعتقدون أن ما يحدث لهم تُحدِّده في الغالب عواملُ خارجة عن سيطرتهم. ويبذل الراغبون في العمل ممن لديهم مركز ضبط خارجي نشاطًا أقل في البحث عن وظائف.8 وفي الوقت نفسه، من المُحتمل أيضًا أن يكون لديهم إيمانٌ أقوى بمفهوم «الحظ».9 لذلك، توقَّعنا أن استحضار كلمة الحظ قد يكون فعالًّا بالنسبة إلى الراغبين في العمل ممن ينتمون لهذا المعسكر، وزيادة الحضور بصفةٍ عامة.
«مرحبًا إلزبث، متاحٌ الآن ثماني وظائفَ أمنية جديدة في «سيستم لينك». برجاء الحضور إلى مركز بيدفورد للتوظيف يوم الإثنين، الموافق ١٠ يونيو، في الساعة الحادية عشرة صباحًا، واسألي عن سارة لمعرفة المزيد. لقد حجزتُ لكِ مكانًا. حظٌّ سعيد، مايكل.»
ستُلاحظ أننا أنشأنا كل رسالةٍ بحيث تُبنى على الرسالة التالية، مما يعني أن الرسالة الأخيرة تحتوي على جميع العناصر السابقة. يسمح لنا هذا النوع من التصميم التجميعي برؤية التأثير المجمَّع للعبارات، ولكنه أقلُّ فائدةً في عزل تأثيراتها الخاصة. ولو أن اهتمامنا بهذه التأثيرات الخاصة أكبر، كنا سنقوم ببناء تصميم التجربة وفقًا لذلك.
«نتيجة هذه الخطوة»: صمَّمنا أربعَ رسائلَ نصيةً قصيرة لدعوة مُتلقيها، استنادًا إلى الاعتبارات العملية والأدلة من علم السلوك.
الخطوة الثامنة: التنفيذ
تحدث الخطوتان الثامنة والتاسعة بالتوازي. في الواقع، لا يُمكنك إطلاق تدخُّلٍ ما تخطِّط لتقييمه دون تصميمٍ وتنفيذ التقييم نفسه أيضًا.
في هذه الحالة، كان التنفيذ مباشرًا تمامًا. أولًا، احتجْنا إلى إنشاء رسائلَ نصيةٍ تلقائيًّا باستخدام الصياغة المناسبة لكلِّ مدعُوٍّ إلى فعالية التوظيف على حدة. ثم أنشأنا جدولَ بيانات أساسيًّا لإنشاء الرسائل وتحميلها دفعةً واحدة إلى نظام المراسَلة. استَعان جدول البياناتِ هذا أيضًا بإنشاء أرقامٍ عشوائية لإدراج الراغِبين في العمل في إحدى مجموعات الرسائل الأربع. ولاختبار ما إذا كان جدول البيانات يعمل، أجرَينا عمليةَ إعدادِ نماذجَ أولية، وأصلحنا المشكلات الصغيرة التي ظهرَت؛ على سبيل المثال، قُمنا بتقصير الرسائل الأصلية لأنها كانت تنقسِم إلى جزأَين على الهواتف القديمة إذا كانت الأسماء الأولى للمُتلقِّين طويلة. كذلك تحقَّقنا مما إذا كان الحضور يُسَجَّل تلقائيًّا وعلى نحوٍ موثوق، وطوَّرنا إجراءً للتعامُل مع الأشخاص الذين أرسِلَت لهم رسالة بالفعل كجزءٍ من التجربة. بعد ذلك، أشرفنا على استخدام أداة إنشاء النص لأول عملية توظيفٍ من بين العملياتِ الثلاثِ المتضمَّنة في الفترة التجريبية. أما بالنسبة إلى عمليات التوظيف اللاحقة، فقد فحصنا ببساطةٍ الرسائل المُخرَجة بحثًا عن الأخطاء قبل تحميلها على نظام الرسائل النصية.
في تجاربَ أخرى، يتَّخذ التنفيذ شكلًا أعقدَ بكثير، ويتطلب إدارةً فعالة ومراقبةً مستمرة. إحدى الحقائق المُزعجة المتعلقة بالتنفيذ أنَّ دافِع المكلَّفين بالتنفيذ سيتضاءل إلى حدٍّ كبير بمجرد أن تُصبح مسألةُ اختبارِ تدخلٍ جديدٍ مؤرقةً ومُزعجة أكثر من إدارة الأمور بالطريقة المُعتادة. وتلُوح المؤرِّقات الصغيرة في الأفق. على سبيل المثال، في تجربةٍ أخرى نُفِّذَت في مراكز البطالة، نفَّذ فريق عمل الرؤى السلوكية عمليةً جديدة تطلَّبَت استخدام كتيبٍ لتحديد الأهداف لكلِّ عميل. كانت الكتيبات ذات حجمٍ عادي، ولكن الأدراج المَكتبية التي ستُخزَّن فيها لم تكن كذلك. فخلق هذا عاملَ إزعاجٍ كبيرًا لأفراد فريق العمل الذين لم يعُد بإمكانهم إغلاقُ أدراجهم، وكان لا بد من إصلاح هذه المشكلة قبل أن تتسبَّب في ضررٍ لا يُمكن إصلاحه. في معظم عمليات التنفيذ، تأتي لحظة تحدُث فيها مؤرِّقات من هذه النوعية، والدرس الأساسي هو ألَّا تتجاهلَها. فأي شيءٍ يُمكنك فعله أنت أو فريق مشروعك لإزاحة العبء المُرتبط باختبارِ طريقةِ عملٍ جديدة سيساعد في ضمان أن تكون نتائج الاختبار انعكاسًا لكفاءة التدخُّل الجديد، وليس للتكاليف المرتبطة بإدارة الاختبار.
«نتيجة هذه الخطوة»: أُرسِلَت دعوةٌ واحدة من الدعوات الأربع عَبْر خاصية الرسائل النصية القصيرة إلى الحضور، بناءً على تعيينٍ عشوائي.
الخطوة التاسعة: تقييم الآثار
لقد أشرْنا بالفعل إلى التجارب العشوائية المضبوطة في الفصلَين الأول والثاني. وفي هذا الجزء، نُلخِّص الفرضية الأساسية التي تقوم عليها التجارب العشوائية المضبوطة، ونُقدِّم مزيدًا من التفاصيل حول كيفية إجراء واحدةٍ فعلًا. على الرغم من أننا نستخدِم التجارب العشوائية المضبوطة عندما يكون ذلك مُمكنًا، فهي ليست مناسبةً دائمًا كطريقةٍ للتقييم. تُوجَد أساليبُ تحليليةٌ أخرى متوفرة، ولكننا لا نتناولها بالتفصيل هنا، لتجنُّب تحويل هذا الكتاب إلى كتابٍ عن الأساليب التجريبية.
لنبدأ بمُلخصٍ سريع لماهية التجارب العشوائية المضبوطة. التجارب العشوائية المضبوطة هي تجاربُ تسمح للباحثين بتحديد ما إذا كان للتدخُّل تأثيرٌ على نتيجةٍ مُعينة ومدى تأثيره هذا. وعلى نحوٍ أدق، تسمح لنا بأن نكون واثِقين تمام الثقة من أنَّ شيئًا ما قد تسبَّب في شيءٍ آخر (استدلال سببي)، وهي سمةٌ جذابة لأولئك المنوطين بحماية الاستثمار العام أو حساب العوائد على ذلك الاستثمار. يبدو الاستدلال السببي مُعقدًا، ولكنه نتاجُ ثلاثِ سماتٍ بسيطة للتجارب العشوائية المضبوطة.
أولًا، تستخدِم التجارب العشوائية المضبوطة الجيدة البناء «عينةً بحثيةً كبيرة». تعتمد التجارب العشوائية المضبوطة على تقسيم المشاركين فيها إلى مجموعات. وبتضمين عددٍ كبير كافٍ من المشاركين في كلِّ مجموعة من هذه المجموعات، يُمكننا ضمان جمع البيانات الكافية للتخلُّص من المصادفات أو القيم المتطرفة أو أي تداخُلٍ آخَر قد يؤدي إلى تحريف النتائج. ثمَّة طريقةٌ بسيطة للتفكير في قيمة جمع المزيد من البيانات وهي تخيُّل أنك تشتري منتجًا عَبْر الإنترنت. لديك مُورِّدان مُختلفان للاختيار من بينهما، كلاهما يبيع منتجاتٍ مُتطابقة. يُحدِّد المورِّد «أ» سعر بيع قدره ٩٥٠ دولارًا أمريكيًّا، ومتوسط تقييم ٣٫٥ من ٥ نجوم، ولدَيه مراجعاتٌ من ألف عميل. أما المورِّد «ب» فيُقدِّر سعر البيع بعشرة دولارات، بمتوسط تقييم ٤٫٨ من ٥ نجوم، ولدَيه مراجعات من ألف عميلٍ أيضًا. نظرًا لأن لديك ألف مراجعةٍ لكلٍّ منهما، فمن المُحتمَل في هذا السيناريو أن تكون متأكدًا إلى حدٍّ كبير من أن المورد «ب» أفضل من المورد «أ»، ويُمكنك بعد ذلك اتخاذ قرارٍ واعٍ ومدروس بشأن ما إذا كان الفرق في الجودة يساوي نصف دولار أم لا. أما إذا كان لدى كِلا المُوردَين عشرة تقييمات فقط، فقد تشعر بثقةٍ أقلَّ تجاه مدى أهمية تقييماتهما العامة؛ فقد تكون تجربةٌ واحدةٌ سيئة كافيةً لإلحاق الضرر بتقييم المورِّد «أ» بصورةٍ غير عادلة. بعبارةٍ أخرى، عندما يكون هناك عددٌ أقل من البيانات ويكون الفارق صغيرًا، يُصبح التأكُّد من أي استنتاجاتٍ قد تستخلِصها أصعب.
التجارب العشوائية المضبوطة هي تجاربُ تسمح للباحثين بتحديد ما إذا كان للتدخُّل تأثيرٌ على نتيجةٍ مُعيَّنة ومدى تأثيره هذا.
هذا لا يعني أن العينات الصغيرة لا يُمكن أن تكون مفيدةً على الإطلاق، بل يعني فقط أنك ستحتاج إلى فارقٍ أكبر بكثيرٍ في التقييمات (على سبيل المثال نجمة واحدة من خمسٍ مقابل خمسٍ من خمس نجوم) لتكون واثقًا في استدلالاتك. يسري الأمر نفسه على التجارب العشوائية المضبوطة: كلما كانت العينة أكبر، كانت الصورة أوضح، وكان التأثير الذي يُمكن اكتشافه أصغر. عادة ما يستخدم «حساب القوة» لحساب حجم العينة المطلوب لاكتشاف فرقٍ مُعين بين المجموعات بمستوى مُعين من الثقة. تستخدم حسابات القوة مزيجًا من الافتراضات التقليدية، مثل المستويات القياسية لقبول النتائج الإيجابية الزائفة (٥ في المائة) والنتائج السلبية الزائفة (٢٠ في المائة)، والمدخلات الخاصة بالتجربة. بالإضافة إلى هذه الافتراضات التقليدية، تتطلَّب أبسط نسخةٍ من حساب القوة من الباحث أيضًا تحديد اثنين مما يلي: حجم العينة التي يتعين عليك العمل بها؛ وحجم التأثير المُتوقَّع لتدخُّلك؛ والمستوى الأساسي للناتج محل الاهتمام في الوقت الحاضر. ويمكن أن تُساعدك كثير من المواقع الإلكترونية في القيام بهذا النوع من حساب القوة البسيط مجانًا. ولمزيد من العمليات الحسابية المُعقدة، قد تحتاج أيضًا إلى معرفة معلوماتٍ إضافية، مثل التبايُن داخل العينة.
السمة الرئيسة الثانية في التجارب العشوائية المضبوطة هي استخدام «مجموعة ضابطة». كما ذكرنا سابقًا، لقد قسَّمنا العينة إلى مجموعات: واحدة لكل حلٍّ قيد الاختبار (يُطلق عليها غالبًا «مجموعات المعالجة») وأخرى «ضابطة» تَختبر العملية المعتادة. توفر المجموعة الضابطة تصورًّا مغايرًا للواقع حال عدم حدوث شيءٍ مُعين. أي تُخبرنا المجموعة الضابطة — من خلال النتائج التي نرصدها — ما الذي كان سيحدُث لو لم نُغير أيَّ شيء (في هذا المثال، ماذا كان سيحدث لو استمر إرسال رسالة فعالية التوظيف الموجودة مُسبقًا إلى المُتلقِّين كما هي بدون تعديلات). في الواقع، تعني هذه المجموعة الضابطة أننا نأخُذ في الاعتبار أيَّ تغييرات أخرى قد تؤثِّر على نتائجنا. على سبيل المثال، لنتخيَّل أننا أدخلنا رسائلنا الجديدة لفعاليات التوظيف في سبتمبر، ثم قارنَّا معدَّلات الحضور لتلك الفعاليات بالفعاليات التي نُظمَت في أغسطس، عندما كنَّا نستخدِم الرسالة القديمة. إذا أسفرت رسائلنا الجديدة عن ارتفاع نسبة الحضور، فلن نتمكن من التأكد مما إذا كان السبب في ذلك هو الرسائل أم عاملًا آخر. ربما كان الطقس أفضل، ربما كان هناك عددٌ أقل من الوظائف المتاحة خارج فعاليات التوظيف، أو ربما أقيمت الفعالية بعد عطلةٍ ما جعلَت الناس يشعرون بمزيدٍ من النشاط. فبدون مجموعةٍ ضابطة توضح لنا تأثير الرسالة الموجودة مسبقًا على الحضور، قد لا نتمكن أبدًا من معرفة ما إذا كان ارتفاع مستويات الحضور ناتجًا عن تدخلنا أم لا. بالطبع يمكن أن تختلف عواملُ أخرى مُلازِمة للأفراد بين المجموعات، مما يقودنا إلى سمة التصميم الأخيرة للتجارب العشوائية المضبوطة، ألا وهي: «التخصيص العشوائي».
يعني التخصيص العشوائي تقسيم الأشخاص عشوائيًّا إلى المجموعة الضابطة أو إحدى مجموعات المعالجة. يؤدي القيام بذلك بطريقةٍ عشوائية إلى التأكد من أن المجموعات التي تتلقَّى كل تدخُّل لها سماتٌ متشابهة، مما يعني أنه من المُحتمَل أن يتشابَهَ سلوكها إذا عولجت بالطريقة نفسها. على سبيل المثال، في مثال حضور فعالية التوظيف، ستكون جميع العوامل التي تُحدِّد حضور شخصٍ من عدم حضورِه (على سبيل المثال، ما إذا كان بإمكانه تحمُّل دفع أجرة الحافلة، أو احتمال أن يكون لدَيه خططٌ أخرى، أو مهاراته التنظيمية، أو تصوُّره حول ما إذا كانت الفعالية تُعتبَر استخدامًا قيمًا للوقت) سائدةً على نحوٍ متساوٍ في كل مجموعة. وهذا يعني أننا إذا طبَّقنا تدخلًا ما على إحدى المجموعات، يمكننا القول إن أي تغييرات في سلوك تلك المجموعة ناتجة عن التدخُّل، وليس أي سببٍ آخر.
عند التخطيط لإجراء تقييمٍ مثل هذا، من المُهم توثيق كل الخطوات والافتراضات والخيارات التحليلية التي وُضعَت. فسيساعد هذا في تجنُّب العقبات الشائعة، وكذا الحفاظ على صدق وأمانة الشخص الذي يدير عملية التحليل عند ورود البيانات. ومن خلال التحديد المُسبَق للتحليل الذي سيُجرى، تقلُّ المخاطر المرتبطة بالتفسير المُفرِط (المزيد حول هذه النقطة في الفصل التالي).
في هذه الحالة، قُمنا بتخصيص إحدى الرسائل عشوائيًّا لكل باحثٍ عن عمل، ولكن في بعض الأحيان لا تكون هذه هي الاستراتيجية الصحيحة. على سبيل المثال، تخيَّل أننا بدلًا من ذلك كنَّا نرسِل رسائلَ نصيةً إلى العامِلين داخل سوبر ماركت تحوي معلوماتٍ عن فرصة ترقية: ستظلُّ النتيجة التي يتم قياسها هي ما إذا كانوا سيحضُرون فعالية توظيف، ولكنها مُنعقدة في مكان عملهم. إن استخدام التخصيص العشوائي على المستوى الفردي أمرٌ قابل للتطبيق بالتأكيد، ولكنه محفوف بالمخاطر أيضًا. فإذا انطلق صوت استقبال رسالة على هواتف الجميع في وقتٍ واحد، وبدأ العمَّال بمقارنة الرسائل، فقد يُصاب البعض بالإحباط لأنهم لم يتلقَّوا رسالة «لقد حجزتُ لك مكانًا». من ناحيةٍ أخرى، قد يستنتج أولئك الذين تلقَّوا هذه الرسالة أنَّ لدَيهم فرصةً أفضل. إن هذه التصورات تغيِّر معدل الحضور؛ إذ يقل عدد الحضور من المُحبطين، بينما يحضر زملاؤهم ذوو المعنويات المرتفعة بوتيرة أكبر. وهذا الانتشار لآثار ونتائج المعالجات يعني أننا لا يُمكننا عزل التأثير الحقيقي لرسالةٍ معينة. بدلًا من ذلك، سيكون من الحكمة — بافتراض أن هذا برنامجٌ إقليمي أو وطني — أن يجري التخصيص العشوائي على مستوى متجرٍ أو فريقِ عملٍ بنظام الورديات. وبهذه الطريقة يجري التعامُل مع كلِّ شخصٍ يُرجَّح أن يُقارن رسالته بالآخرين بالطريقة نفسها وتقل مخاطر انتشارها. ويُعرف هذا النهج ﺑ «التخصيص العشوائي العنقودي». بالطبع، لا تزال النقطة المتعلقة بحجم العينة قائمة: سنظلُّ بحاجة إلى حساب عدد المتاجر أو الفِرَق اللازمة للتأكُّد من استنتاجاتنا (على الرغم من اختلاف الحساب عند التخصيص العشوائي حسب المجموعات).
يُعَد الحصول على تقدير لحجم التأثير مفيدًا للغاية؛ لأن صُناع السياسات ذوي الميزانيات المحدودة (أو رجال الأعمال الذين لدَيهم مساهمون عليهم مكافأتهم) كثيرًا ما يحتاجون إلى اختيار نهجٍ يمنحهم أفضل عائدٍ من بين النُّهُج المتعددة المتوافرة. على سبيل المثال، يُمكننا أن نستنتج أن النص (د) كان أفضل، ونستنتج أيضًا أنه يعني أن ما بين ٤٦ و٥٣ شخصًا إضافيًّا من الراغبين في العمل قد حضَروا فعاليات التوظيف خلال الفترة التجريبية. وعندما تكون العينات كبيرةً بما فيه الكفاية، يُمكننا أيضًا معرفة ما الذي نجح ومع مَن، والانتباه لأي فروقاتٍ أو تفاوتاتٍ تنشأ نتيجةً لذلك (سنتناول هذه النقطة أكثر في الفصل الخامس). ففي حالة البطالة، على سبيل المثال، قد نكون مُهتمِّين بما إذا كان تأثير هذه الرسائل مُختلفًا بالنسبة إلى الرجال والنساء، أو ما إذا كانت عملياتُ التعيين في وظائف تتطلَّب بضع مجموعاتٍ من المهارات من المُرجَّح أن تؤدِّي إلى الحضور أكثر من غيرها.
في هذه المرحلة، عادت بنا الذاكرة إلى الهدف المُحدَّد في الخطوة الأولى؛ زيادة الحضور بنسبة ٥٠ في المائة. لقد أدى تدخُّلنا، على الرغم من صِغَره، إلى زيادة الحضور بنسبة تزيد على ١٥٠ في المائة. ولكن لا يزال أمامنا الكثير لنُحقِّقه؛ إذ اختار ٧٣ في المائة من الأشخاص عدم الحضور، ولكن يظل هذا تحسُّنًا كبيرًا من حيث الإحصاءات والسياسات.
«نتيجة هذه الخطوة»: قُمنا بتقييم التدخُّل باستخدام تجربةٍ عشوائيةٍ منضبطة. وأشارت النتائج إلى أن الرسالة الأكثر فاعلية قد زادت من نِسَب الحضور في فعاليات التوظيف بأكثر من الضعف.
الخطوة العاشرة: اتخاذ إجراءٍ بناءً على النتائج
سواء كان تدخلك فعَّالًا، أو غير فعَّال، أو حتى جاء بنتائجَ عكسية، فربما ستحتاج إلى اتخاذ مزيدٍ من الإجراءات لحصد إمكاناته الكاملة. لسوء الحظ، قد تكون هذه الخطوة أصعَبَ مما يتوقَّع الكثيرون. فتَبنِّي طريقةٍ جديدة لعمل الأشياء، في النهاية، يُشكل تحديًا سلوكيًّا في حدِّ ذاته؛ فليس معنى أنَّ شيئًا ما قد أثبت فعاليته أن يُعتمد في الحال باعتباره الطريقة العادية. وليس معنى أنَّ شيئًا ما لم يُثبِت فاعليةً أنَّ خطة طرحِه سيجري التراجُع عنها تلقائيًّا. في بعض الأحيان قد يكون هذا لسببٍ وجيه. على سبيل المثال، قد لا يصلح التدخُّل الذي نجح في سياقٍ محليٍّ واحد في مكانٍ آخر؛ ومن ثَم يلزم إجراء مزيدٍ من الاختبارات قبل التوسُّع في تطبيقِه على المستوى الوطني. ولكن غالبًا ما ستستمرُّ الأمور في مواكبة الطريقة التلقائية لفعل الأشياء ببساطة.
في حالة تجربتنا الخاصة بالرسائل النصية القصيرة، تمكَّنا من استبدال نسَق الرسائل التلقائية في نظام الرسائل القصيرة المعمول به على المستوى الوطني، مما يعني أن الحلَّ قد انتشر إلى مراكز البطالة في جميع أنحاء البلاد بضغطة زر. وكان هذا، كما هو مذكور في الخطوة السابعة، عن قصد؛ لقد عرفنا أن تَوقُّع قيام الموظفين في أحد مراكز البطالة — فضلًا عن مراكز البطالة في جميع أنحاء المملكة المتحدة — بإجراء تغييرٍ متعمَّد على ممارساتهم المعتادة، من المُرجَّح أن يعني أن تدخُّلنا لم يتوسَّع أبدًا. أما إذا استبدلنا الرسالة البديلة الجديدة والأكثر فاعلية بالرسالة التلقائية، فإننا لا نطلُب من الموظفين تغيير سلوكهم.
ابتُكِرَت الحلول واختُبِرَت استنادًا إلى ثلاثة أشهر من البحث حول تجربة المستخدِمين مع مراكز البطالة، وما تنطوي عليه العملية التي تقوم عليها رحلة المستخدم، وما يمكن أن تُخبرنا به الأدلة عن تجربة البقاء بلا عمل، وكيف يلمس الناس العملية في الواقع الفعلي. تضمَّنَت العملية الجديدة تقصير الأعمال الورقية وتبسيطها، ووضع خططٍ أكثر ملاءمةً لحياة الباحث عن عمل وروتينه، وتركيز الاجتماعات على الطموحات المستقبلية بدلًا من الامتثال الماضي لمنظومة البطالة، وتحسين الروح المعنوية للراغبين في العمل.
كان توسيع نطاق هذا التدخل مختلفًا تمامًا عن تغيير نموذج الرسائل النصية القصيرة؛ لأنه تطلَّب دعمًا واقتناعًا كبيرَين من الموظفين والمُديرين. وأمضينا ستة أشهرٍ أخرى في المساعدة في تدريب المُدرِّبين، وإنتاج مقاطع فيديو لتوفير دعمٍ يسهل الوصول إليه، والعمل على كيفية توفير المواد الجديدة لسبعمائة مركز بطالة في جميع أنحاء البلاد على نطاقٍ واسع. وقد أُدخِلَت هذه العملية الآن في جميع مراكز البطالة في المملكة المتحدة.
«نتيجة هذه الخطوة»: أصبحَت الرسالة الأفضل أداءً هي النموذج الجديد للرسائل النصية القصيرة التلقائية في نظام الرسائل النصية الوطني.
طُبِّقَ نهج الرؤى السلوكية أيضًا على سياسة التوظيف في جوانبَ مثل سد فجوة الأجور بين الجنسَين، والحد من التحيُّز في التوظيف، وتسريع العودة إلى العمل في حالة المرَض. وخارج مجال السياسة هذا، كما يوضح نطاق هذا الكتاب، لا تُوجَد حدود للقضايا التي يمكن معالجتها من خلال هذا النهج. وفي ظل وجود هذه الإمكانات الواسعة النطاق، لا بد علينا، بلا شك، أن نكون على دراية بمواطن القصور والانتقادات والاعتبارات التي تُصاحِب نهج الرؤى السلوكية. وسنستعرض هذه الموضوعات في الفصل التالي.