مستقبل الرؤى السلوكية
بعد هذه الفترة من التوسُّع السريع، تقتضي الحاجة بعض التفكير. لقد أثبت النهج أنه أكثر من مجرد صيحةٍ مؤقتة وزائلة، ولكن الحركة لا تزال في حالة تغيُّرٍ مُستمر وإرثها غير واضح. ولتحقيق إمكانات نهج الرؤى السلوكية وتأثيرها الدائم، يجب على أولئك الذين يُطبِّقونه القيام بثلاثة أشياءَ أساسية خلال السنوات القادمة، ألا وهي: ترسيخه، وتحديد أولوياته، وتطبيعه.
لقد أثبت النهج أنه أكثر من مجرد صيحةٍ مؤقتة وزائلة، ولكن الحركة لا تزال في حالة تغيُّرٍ مُستمر وإرثها غير واضح.
يتعلق الترسيخ بتطوير مزيدٍ من الاتساق في طريقة تطبيق الرؤى السلوكية، وتأكيد الأدلة والنظريات الأكثر موثوقيةً من خلال التكرار، وتحديد كيفية اختلاف النتائج عَبْر الثقافات والمجموعات الفرعية. ويتعلق تحديد الأولويات بتحديد ومتابعة الاتجاهات الجديدة الأكثر قيمةً للرؤى السلوكية، من حيث كلٍّ من التقنيات والتطبيقات الجديدة. أما التطبيع فيتعلق بكيفية دمج نهج الرؤى السلوكية في المُمارسات الاعتيادية للمؤسسات، كي يتسنَّى لها الاستمرار حتى لو تلاشى الاهتمام بها؛ حتى لو توقَّفنا في النهاية عن الحديث عن «الرؤى السلوكية» كفكرةٍ مميزةٍ قائمة بذاتها.
سنستكشف هذه الإجراءات الثلاثة خلال هذا الفصل. وبوجهٍ عام، سنستهلُّ بمناقشة المزيد من القضايا التقنية المباشرة حول كيفية تطوير الممارسات الحالية وتحسينها في المُستقبل. ثم ننتقل بعد ذلك إلى أسئلةٍ أكثر تحديًا حول الخلافات المتأصلة في نهج الرؤى السلوكية، والخيارات الصعبة التي سيتعيَّن على ممارسيه القيام بها، وما سيكون مطلوبًا لضمان بقائه واستمراريته.
الترسيخ
يجب أن نشعر بالارتياح حيال هذه التطوُّرات إلى حدٍّ ما. فبعضها يُمثل تكيفاتٍ قيِّمة مع التحديات الجديدة (وسنطرح المزيد من التكيفات فيما يلي). ونظرًا لأن نهج الرؤى السلوكية هو نهجٌ عملي، فيمكن لممارسيه أن يَدَعوا للأكاديميين مهمة ضبط حدود المفاهيم مثل مفهوم الدفع. ولكنَّ هناك أيضًا أسبابًا مُلِحة لتوضيح الطريقة التي نتحدَّث بها عن الرؤى السلوكية أكثر. فالعوامل ذاتها التي أدَّت إلى الترويج للرؤى السلوكية بنجاح — تجاربُ مثيرة للاهتمام وملخَّصاتٌ يسهل الحصول عليها — تعني أيضًا أنه قد يكون من السهل اكتسابُ معرفةٍ سطحية بالموضوع، حتى لو كانت الخبرة الحقيقية غير متوفرة. يمكن أن تُسفر النتيجة عن مُستفيدين بلا مقابل يطبقون مصطلح «الرؤى السلوكية» بصورةٍ عشوائية (على أعمال ذات جودة رديئة في الغالِب). وبمرور الوقت، تُضعف هذه التصرُّفات من مصداقية النُّهج العامة وتُربك أولئك الذين يريدون فهمه أو تطبيقه.
يتمثل أحد ردود الأفعال في تحديد تعريفٍ أوضح وأكثر إحكامًا للرؤى السلوكية. ويُمكِن للآخرين بعد ذلك الرجوع إلى هذا التعريف واستخدامه دليلًا لتشكيل الممارسات أو انتقاد أولئك الذين يُسيئون استخدام المصطلح ومطالبتهم بتبرير أفعالهم. يمكن أيضًا أن تُشكِّل مجموعةٌ أقوى من الممارسات الأساسَ لمزيدٍ من الاحترافية والمهنية، ونحن نشهد بالفعل ميلاد جمعياتٍ تُخطط لإنشاء معايير وشهادات. بالطبع، نحن لا نقول إن كل تطبيقٍ يمكن أو يجب أن يتوافق مع نهجٍ مِثالي. ولكننا نعتقد أن ثمَّة حاجةً مُلِحَّة لتقديم وصفٍ متماسِك لماهية هذا النهج المثالي، وهو ما كان أحد الدوافع الرئيسة لتأليف هذا الكتاب. وعلى المدى الأطول، يجب أن نتجاوز قوائم الاستدلال والتحيزات الفردية، ونُركِّز بدلًا من ذلك على علاقاتها بعضها ببعض، وكيف تتلاءم مع نظريات العملية المزدوَجة التي تُوفر الأُسس للرؤى السلوكية.
تكمُن مشكلة الاعتماد على الدراسات الحالية، كما أشرْنا في الفصل الخامس، في أن موثوقية بعض هذه الدراسات كانت محلَّ شك. فقد وُجِدَ أن الأسس التي يقوم عليها كثيرٌ من المفاهيم التي جذبَت الكثير من الاهتمام منذ ذلك الحين هشَّة، بما في ذلك التهيئة، واستنزاف الأنا، وزيادة نطاق الاختيارات. لذلك، تُساعدنا المحاولات المستمرة لتكرار النتائج في إدراك أي المفاهيم يجِب تجنُّبها. ويجب على الأشخاص الذين يُطبِّقون الرؤى السلوكية الانتباه إلى هذه النتائج الناشئة والاستجابة بالطريقة الصحيحة. وكي تنال الرؤى السلوكية المصداقية على المدى الطويل، نحتاج إلى أن نكون مُستعدِّين للاعتراف بأن بعض النتائج التي توصَّلنا إليها قد تكون نتائج لمرةٍ واحدة. يجب أن يعرف علماء السلوك أكثر من أي أشخاصٍ آخرين أن المعلومات غير المرغوب فيها مُعرَّضة للانحياز التأكيدي والتنافُر المعرفي. يجب أن يكون التزامنا الأساسي تجاه «ما يصلح»؛ لأن الهدف الأسمى والأساسي هو التأثير على القضايا الكائنة في العالم الواقعي، وليس الإبقاء على النظريات من أجل النظريات في حدِّ ذاتها.
إن مجرد التفكير في «ما يصلح» لا يكفي بطبيعة الحال. فنهج الرؤى السلوكية الآن لدَيه أيضًا حاجةٌ مُلِحة لتحديد ما يصلُح لمن ومتى وفي أي سياقات. وإحدى طرق الإجابة على هذا السؤال تتمثل في الحصول على مزيدٍ من التنوُّع في بياناتنا. وقد ناقشنا بالفعل في الفصل الخامس الحاجة إلى إشراك مشاركين في الدراسات من غير المُنتمين للمجموعة «ويرد»، وثمَّة المزيد من الدراسات بصدَد جمع بيانات حول التبايُنات بين الثقافات في علم النفس.
كما يوحي الاسم، يمكن أن تساعد التحليلات التنبُّئية أيضًا في وضع التنبؤات؛ إذ يمكنها تحديد المجموعات التي مِن المُحتمل كثيرًا أن تتخلف عن سداد قرض، على سبيل المثال، بحيث يمكن تقديم مساعدةٍ استباقية لها. أما في عملنا، فقد وجدنا أن تطبيق هذه الأساليب على المعلومات الأساسية المتاحة للجمهور قد سمح لنا بالتنبؤ على نحوٍ موثوق بمُقدِّمي الخدمات الطبية الذين كان أداؤهم غير كافٍ، بحيث يُمكن تحديد ٩٥ في المائة من مُقدِّمي الخدمات غير المُلائمين من خلال فحص ٢٠ في المائة فقط منهم. تتمثَّل الرؤية في أن التحليلات التنبُّئية يمكن أن تسمح بتحديدٍ أسرع وأكثر تطورًا للمجموعات التي تتصرَّف بطرقٍ مختلفة، بينما يُمكن للرؤى السلوكية التعامُل مع «الخطوة الأخيرة»، ألا وهي: تصميم التدخُّلات الأكثر فاعليةً للتأثير على تلك السلوكيات.
ولكننا في الوقت الحالي ليس لدَينا هذا المستوى من الدقة في مطابقة الدَّفعات مع المجموعات والأوضاع. فهذا المستوى من المعرفة ليس متاحًا للعامة على الأقل؛ وقد تمتلِكه الشركات الخاصة. يمكن لعلماء السلوك الاعتماد على أفضل الأدلة المتاحة، ولكن لا يزال ذلك يعني وجود عنصر التخمين أو الحَدْس المِهني في اختيار أيٍّ من المفاهيم ينبغي تطبيقه وعلى أيٍّ من القضايا أو المجموعات. تكمُن المشكلة في أن أحكام علماء السلوك عرضةٌ للانحياز مثل أي شخصٍ آخر. ومن المُحتمَل أن يكون انحياز الإدراك المتأخر مشكلةً ذات طابعٍ خاص. يحدُث ذلك الانحياز عندما يعتقد الناس، بعد وقوع حدثٍ ما، أن النتيجة كانت أكثر قابليةً للتنبؤ بها مما كانت عليه بكثيرٍ قبل وقوع الحدث («كنتُ أعرف ذلك طوال الوقت!»). عندما يقوم علماء السلوك بإجراء التجارب، يكمُن الخطر في أن النتائج غير المتوقعة سرعان ما تُصبح واضحةً عند النظر إلى الماضي، وينسى الناس كم كانوا غير مُتيقِّنين أو مُخطئين في السابق.
من الطرق الفعَّالة لمكافحة هذا الانحياز عند تطبيق الرؤى السلوكية إجبار نفسك وزملائك — كلما زاد العدد، كان ذلك أفضل — على وضع توقُّع (على سبيل المثال، «أتوقع أن يكون التدخُّل «أ» هو الأفضل أداءً»). ثم أجبِر أولئك الذين وضَعوا التوقعات على إعادة النظر فيها بمجرد معرفة النتائج، ربما عن طريق جدولة استلام رسالة بريدٍ إلكتروني متأخرة. ولمقارنة التنبُّؤات بالنتائج مزايا عديدة؛ فهي تساعدك على وضع النتائج في سياقها وتقدير مدى مفاجأتها من عدمِه؛ وتُقدِّم ملاحظاتٍ حول كيفية تقدُّم المعرفة في مجالٍ بعينه (أو عدم تقدُّمها)؛ وتساعد على ضمان أن تكون أحكامنا على قدراتنا مدروسةً جيدًا. وفي اعتقادنا أن جولات التنبؤ يجب أن تُصبح جزءًا معياريًّا أساسيًّا من نهج الرؤى السلوكية.
تحديد الأولويات
إلى جانب تأمين معرفةٍ موثوقة ودقيقة عما يُمكن أن تفعله الرؤى السلوكية، نحتاج إلى تحديدٍ لأولويات من أجل توسيع حدود المجال. ومن الأشياء التي نحتاجها هو توسيع نطاق أساليبها ووجهات نظرها، من أجل تقديم وصفٍ وافٍ ومتكامِل لِما يحفِّز السلوك. وفهم سبب وجود هذه الحاجة يتطلب وجود سياقٍ تاريخيٍّ ما. قبل ظهور الرؤى السلوكية في المشهد لأول مرة، استند كثير من الأبحاث الخاصة بالسلوك التي قُدِّمَت للحكومات والشركات إلى فرضية أن الأشخاص قدَّموا تفسيراتٍ دقيقةً لِما فعلوه، ولماذا فعلوه، وما سيفعلونه في المستقبل. ربما كان المشروع النمطي عند بداية ظهور النهج هو إدارة مجموعة تركيز، ومناقشة المشاركين في أسباب إتيانهم بسلوكياتٍ مُعينة، ثم سؤالهم كيف سيكون رد فعلهم على الخيارات الجديدة (على سبيل المثال، رسالة مُنقَّحة أو عملية معدَّلة). وبعد ذلك تؤخَذ الردود كأساسٍ لتوصياتٍ سياسية أو تجارية.
كما رأينا سابقًا، تشير النتائج المُستخلصة من علم السلوك إلى أن هذا النوع من التحليل معيب. وقد قادت هذه النتائج المؤيدِين الأوائل للرؤى السلوكية إلى تشكيل نهجهم الجديد كردِّ فعلٍ لهذه الطريقة المُعتادة في فعل الأشياء. فاستُبدل التركيز على نظريات العمليات المزدوجة بتأثير الهوية والمجتمع والثقافة كمُحفِّزاتٍ للسلوك. فقلَّ سؤال الناس عن دوافعهم وأفكارهم وزادت ملاحظة أفعالهم. واعتُمِد السلوك مقياسًا أساسيًّا للنتيجة فيما يتعلَّق بجانب القيمة، بدلًا من التحولات في المواقف أو المعتقدات.
هذه تعميمات بالطبع، لكن منظور الرؤى السلوكية جرى تعريفه على عكس هذه الممارسات الشائعة لإظهار ما هو جديد. والآن بعد نجاحه، يحتاج النهج إلى التوسُّع والتكرار ودمج العناصر التي أهملها سابقًا (بالإضافة إلى العناصر الجديدة). وهذا هو ما يحدُث بالفعل، فقد أصبحَت فرق العلوم السلوكية التطبيقية الآن مُتعدِّدة التخصُّصات أكثر بكثيرٍ من سابقتها. ففي كندا، على سبيل المثال، يقع الفريق الفيدرالي داخل «وحدة التأثير والابتكار»، وهي مجموعةٌ تُعطي الأولوية أيضًا لنُهُجٍ مثل التصميم والإبداع المشترك.
لنأخذ، على سبيل المثال، مشروعًا عمل عليه فريق الرؤى السلوكية مع لجنة الإنقاذ الدولية. كان الهدف هو الحدُّ من استخدام المُعلمين للعنف ضد الأطفال في مخيَّم للاجئين في غرب تنزانيا. وخلال الرحلات الاستكشافية، استخدَمنا مجموعةً من الأساليب لتحديد دوافع المشكلة، وتعاونَّا مع علماءِ اجتماعٍ لديهم خبرةٌ عميقة في البحث النوعي، ومع خبراء في صدماتِ ما بعد النزاع والنزوح، وبالطبع مع مُترجمين لُغويين وثقافيين. مع انتقالنا إلى مرحلة الحلول، عملنا مع المُصمِّمين لتطوير التدخُّلات التي تصلُح في السياق، وبما أننا كنَّا نعرف أن المُعلمين سيحتاجون إلى دعمٍ يقوده الأقران، استخدمنا مناهج تحديد شبكة العلاقات لتحديد الأفراد الأكثر تأثيرًا ضمن مجموعة الأقران. طلبنا أيضًا مشورةَ الخبراء في العلاج السلوكي المعرفي؛ نظرًا لأن جزءًا أساسيًّا من التدخل كان لمساعدة المُعلمين على تحديد المحفِّزات التي أدَّت إلى العنف المعتاد في ردود أفعالهم. وأسفَرَت هذه الجهود التعاونية عن تدخُّلٍ أقوى وأدق.
يتعلق التصميم، في أبسط تعريفاته، بكيفية ترتيب العناصر لتحقيق غرضٍ مُعين. يتعامل التصميم دائمًا مع الأشياء الملموسة والمُعاشة والحاضرة، وليس التجريدات أو النظريات. فيمكن تصميم الأشياء أو الخِدمات لخلق مشاعرَ أو أفكارٍ معينة، أو لتشجيع سلوكياتٍ بعينها. ومن هذا المنطلق، دائمًا ما تضمَّن استخدام نهج الرؤى السلوكية جوانب للتصميم؛ فهو يهتمُّ بالمشكلات العملية (مثل «هندسة الاختيار») ويُراعي مدى التأثير الكبير لصياغة خطابٍ أو تصميم غرفة انتظار.
غير أن نهج الرؤى السلوكية للتصميم هو نهجٌ يتحرك من أعلى إلى أسفل؛ حيث استُخدِمَت مبادئ السلوك لتضمين طرقٍ معيَّنة للتصرُّف في البيئة أو السياق المحلي. يمكن أن يكون التصميم من منطلق المبادئ بهذه الطريقة ناجحًا (انظر إلى آي ماك أو آي بود)، ولكنه تعرَّض للانتقاد أيضًا لعدم إيلاء اهتمامٍ كافٍ للمُستخدِمين. ولكن كان هناك اهتمامٌ متزايد ﺑ «التصميم الذي يركِّز على الإنسان» (أو مفهوم «التفكير التصميمي» الوثيق الصلة)، الذي يُركِّز بصورةٍ أكبر على محاولة فهم احتياجات المُستخدِمين، وتخطيط تجاربهم، ووضع نماذجَ أولية للحلول معهم على نحوٍ فعَّال ونشط. يمكن أن تعتمد مشروعاتُ الرؤى السلوكية على التصميم الذي يركِّز على الإنسان على نحوٍ أوسع من خلال ثلاث طرقٍ أساسية.
أولًا، يركِّز التصميم الذي يركِّز على الإنسان على استكشاف احتياجات الأشخاص وأهدافهم، بدلًا من البدء من سلوكٍ مُستهدَف (كما في الفصل الرابع). بالطبع، عند التعامل مع السياسة، تُوجَد حالات يجب فيها اتخاذ خطواتٍ فعَّالةٍ لمنع تلبية احتياجات الناس (على سبيل المثال، حاجة الناس إلى ارتكاب جرائمَ مُعيَّنة). ولكنَّنا نعتقد أن الهدف من الرؤى السلوكية هو إيلاءُ مزيدٍ من الاهتمام لاحتياجات الأشخاص، وفي الوقت نفسه استخدام أدواته أيضًا لفهم الاستراتيجيات التي يستخدمها الأشخاص لمحاولة تلبية هذه الاحتياجات.
يُوجَد مثالٌ بسيط للغاية يخصُّ «المسارات المفضَّلة». وهذه المسارات هي المسارات غير الرسمية، التي نشأَت نتيجةً للتآكُل بفعل احتكاك أقدام المشاة بالأرض، والتي تُظهِر أقصر أو أكثر الطرق المرغوبة التي يسلُكها الناس، والتي قد لا تكون قد أُنشِئَت عن طريق تصميمٍ رسمي. وبدأ بعض المصمِّمين في رؤية هذه المسارات باعتبارها فرصة وليس مصدر إزعاج. على سبيل المثال، انتظر القائمون على جامعات مثل جامعة كاليفورنيا وبيركلي وفرجينيا تِك (معهد فرجينيا التقني وجامعة ولاية فرجينيا) لمعرفة الطُّرُق التي يسلكها الناس لاجتياز المناطق العشبية، قبل رصف الطرق.
ينطبق المبدأ نفسه في المواقف الأكثر تعقيدًا. على سبيل المثال، أصبح صُناع السياسة أخيرًا في المَملكة المتحدة قلقِين بشأن مشاكل القدرات الاستيعابية في أقسام الطوارئ في المستشفيات في البلاد. يُنظر إلى هذه المشكلات على أنها ناتجة عن زيارة الأشخاص المُصابين بأمراضٍ بسيطة فحَسْب لمَرافِق الطوارئ. لذا أنشأ مُخطِّطو النظام خياراتٍ بديلة (مثل «مراكز الرعاية العاجلة») تتعامل مع مثل هذه الأمراض بطريقةٍ أكفأ. غير أنها لا تحظى برواجٍ كبير. في هذه الحالة، يُمكن لواضعي السياسات استخدام العلوم السلوكية لإقناع الناس أو دفعهم إلى استخدام المرافق «الصحيحة». لكن النهج الأكثر تركيزًا على الإنسان من شأنه أن ينظر إلى مثال «المسارات المُفضَّلة» ويجد أن الذهاب إلى أقسام الطوارئ أمرٌ منطقي تمامًا. فالناس يشعُرون بالحيرة حيال دور مراكز الرعاية العاجلة، كما أنها غير معروفةٍ أيضًا وليست مفتوحةً دائمًا (على عكس قسم الطوارئ). لذا، فهم يستخدِمون استدلالًا لاستكشاف النظام الصحي — «اذهب إلى قسم الطوارئ» — وهو أسلوبٌ ناجع معهم، مما يعني أنه سيكون من الصعب تغيير السلوك. تُشير هذه الرؤية السلوكية إلى تعديل الخدمة بدلًا من ذلك بحيث لا يُضْطَر الأشخاص إلى تغيير سلوكهم، ربما عن طريق وضع مرافق الرعاية الطارئة وغير الطارئة في المكان نفسه. بعبارةٍ أخرى، يمكن أن يكون هناك اعترافٌ أكبر بقوة إرادة الناس ومحاولاتٌ أكثر لتصميم التدخُّلات وفقًا للسلوكيات الحالية بدلًا من محاولة تغييرها.
لا تقتصِر هذه الإمكانية على القطاع العام؛ فيمكن للناس أيضًا محاولة دفع الشركات. على سبيل المثال، شَهِدَت المملكة المتحدة إنشاء «علامة الضريبة العادلة»، التي تمنحها مؤسسةٌ غيرُ ربحية للشركات التي لم تُمارس أيَّ شكلٍ من أشكال التهرُّب الضريبي. تُعَد علامة الضريبة العادلة دفعةً نموذجية، من حيث إنها توفِّر إشارةً بارزة للمستهلكين يمكنها تشكيل سلوك المستهلك والشركة دون فرضِ تغيير. فالذي خلق هذه الدفعة هو التنظيم الذاتي لتحقيق هدفٍ مُعيَّن يتعلق بالسياسة العامة.
كانت الخدعة أنه في ثمانية من العوالم جري إخبار المشاركين ما إذا كان معظم من يدعمون هذا الإجراء من الديمقراطيين أو الجمهوريين. وهكذا أصبح الانحيازُ السياسيُّ للآخرين بشأن هذه القضايا واضحًا للعيان. ولكن في عالَمَين من العوالم، لم يَجرِ إخبار المشاركين بآراء الآخرين، فقط سُئلوا عما إذا كانوا يتفقون مع العبارات أم لا. وكانت النتائج مذهلة. عندما لم يكن الناس على درايةٍ بآراء الآخرين، لم يكن هناك أي اختلافاتٍ تُذكَر بين الديمقراطيين والجمهوريين فيما يتعلق بدعم هذه الإجراءات. أما عندما كان بإمكان الناس أن يَرَوا كيف يُصنِّف الآخرون العبارات، فُتِحَ المجال لانقسامٍ حزبيٍّ قوي حيث انحاز الناس إلى آراء حزبهم.
هناك طريقةٌ أخيرةٌ أوسع نطاقًا يمكن أن تُساعد بها نُهُج الأنظمة التكيفية المُعقدة. كما أشرنا سابقًا، غالبًا ما تتَّخذ مشروعات الرؤى السلوكية نهجًا خطيًّا ومن أعلى إلى أسفل نوعًا ما لتصميم الحلول وتنفيذها. غير أنه في الأنظمة التكيفية المُعقدة قد لا يكون هناك ارتباطٌ مباشر بين الأسباب والتأثيرات. وكما لاحظ هربرت سايمون في عام ١٩٦٩، فهذا يعني أننا بحاجة إلى نهجٍ مختلفٍ وأقلَّ توجيهًا: «عندما يتعلَّق الأمر بتصميم أنظمةٍ معقَّدة مثل المدن أو المباني أو الاقتصادات، يجب أن نتخلَّى عن هدف إنشاء أنظمةٍ من شأنها تحسين دالة منفعةٍ ما مفترضة». بدلًا من ذلك، نحتاج إلى فهم كيف يُمكننا خلق الظروف المناسبة بحيث يمكن للأفراد والمؤسسات التفاعُل بما يؤدي إلى انبثاق السلوكيات المرغوبة من النظام بصورةٍ غير مباشرة.
نحن نحتاج إلى فهم كيف يُمكننا خلق الظروف المناسبة بحيث يمكن للأفراد والمؤسسات التفاعُل بما يؤدي إلى انبثاق السلوكيات المرغوبة من النظام بصورةٍ غير مباشرة.
التطبيع
لقد كتبنا عن الحاجة إلى ترسيخ القاعدة المعرفية لنهج الرؤى السلوكية، والطرق الجديدة التي يجب أن يضعها النهج كأولوية. ونريد أن نختتم بالعودة إلى السؤال المطروح في بداية الفصل: كيف يمكن لنهج الرؤى السلوكية أن يُدرك إمكاناته؟
تتمثل إحدى الطرق الواضحة في تطبيق صُناع القرار للرؤى السلوكية على مجموعةٍ من المشكلات الجديدة. قد لا يبدو أن تطوير المركبات الذاتية القيادة، على سبيل المثال، له علاقةٌ واضحة بالسلوك البشري. غير أن الحكومات والمُطوِّرين في جميع أنحاء العالم يتوصَّلون إلى نتيجةٍ مختلفة. فعلى سبيل المثال، عندما شكَّلَت وزارة النقل السنغافورية لجنتَها المعنية بالنقل البري المُستقل، دعت زميلَنا روري جالاجر ليكون عضوًا فيها.
ولكن ليست كل المشاكل بالقَدْر نفسه من الأهمية، والنقد الذي أشرْنا إليه في الفصل الخامس هو أن نهج الرؤى السلوكية لم يكن له تأثيرٌ كافٍ على القضايا الكبرى في اتخاذ القرارات الاستراتيجية من المنبع، على الرغم من أنه يُمكن أن يُساهم كثيرًا على هذا المستوى. ولتوليد هذا التأثير، نحتاج إلى إدراك أن الحل هنا ليس حلًّا تقنيًّا يُحسِّن أساليب الرؤى السلوكية. بل نحتاج إلى النظر إلى هذا الأمر باعتباره قضيةً سياسية.
يكمُن التحدي في أن هذه الحاجة تخلق توترًا بين الركائز الثلاث لمنهج الرؤى السلوكية التي حدَّدناها في الفصل الأول؛ إذ يتعارَض الالتزام بالبرجماتية مع الالتزام بالأدلة والتقييم. فقد يؤدي الدفع الدائم وغير المرِن نحو إجراء تجربةٍ عشوائية إلى استبعاد الخبراء السلوكيِّين من عملية اتخاذ القرار من المنبع. وكذلك الحال عند الفشل في إدراك أن القيام بمراجعةٍ شاملة للأدلة ليس ممكنًا دائمًا، وأن وضع السياسات يجب أن يتضمَّن كلًّا من الأدلة والقيم السياسية. من ناحيةٍ أخرى، يتعارَض تكييف مبادئ الرؤى السلوكية جذريًّا أيضًا مع الحاجة إلى الاتساق التي ناقشناها سابقًا في هذا الفصل.
يقودنا هذا إلى نقطتنا الأخيرة. على مدى السنوات العشر الماضية، كان هناك اهتمامٌ متزايد بفكرة الرؤى السلوكية. غير أنه في مرحلةٍ ما، قد يبدأ هذا الاهتمام في الانحسار وقد يتحوَّل إلى شيءٍ آخر. قد تظهر أفكارٌ أخرى بادعاءاتٍ مقنعة. قد يتوقَّف الناس عن اتخاذ قرار ﺑ «جلب» خبراء السلوك، كما كان الوضع في حالة روري ولجنة المركبات الذاتية القيادة. وإذا كان هذا صحيحًا، فيجب أن تكون الأولوية المباشرة لدمج الرؤى السلوكية في الطريقة المُعتادة التي تُصنَع بها السياسة أو تُدارُ بها المؤسسات. فسوف يعني ذلك أن المُمارسات مرنةٌ للناس بحيث لم يعودوا يطلبون حلولًا «سلوكية».
في الواقع، يُمكنك أن تذهب إلى أن هذا هو الهدف الأسمى لمنهج الرؤى السلوكية. ونظرًا لأن معظم السياسات أو الخدمات، كما ذكرنا في الفصل الأول، تتعلق بالسلوك، فهذا إذن يتعلق فقط بتحسين الطريقة التي يتم بها أداء الوظيفة الأساسية لهذه السياسات والخدمات؛ فهي ليست نوعًا من الإضافات الاختيارية. فبدلًا من الحديث عن «السياسة السلوكية العامة»، سنُشير فقط إلى تحسين أداء السياسة العامة (أو استراتيجية الشركات) بشكلٍ أفضل. وقد يكون التوقُّف عن الحديث عن الأفكار السلوكية في الواقع علامةً على وفائها بوعدِها الحقيقي نوعًا ما. ولكن حتى ذلك الحين، هناك المزيد مما يجب فعله.
يجب أن تُصبح فكرة الحل أو النهج «السلوكي» بلا معنًى؛ لأن المبادئ ستكون قد ضُمِّنَت بالفعل في طرق العمل المعتادة.