مقدمة
اللغويات العصبية هي دراسة الأساسات العصبية للغات البشرية. فهي تتناول البنى التشريحية (شبكات الخلايا العصبية في المخ) والعمليات الفسيولوجية (الطرائق التي تنشط بها هذه الشبكات) التي تسمح للبشر بالتعلم واستخدام لغة أو أكثر. وقد يدرس علماء اللغويات العصبية كيف تعالَج لغات معينة — كالإنجليزية والفرنسية ولغة الإشارة الأمريكية أو أي لغة أخرى — في المخ، لكن الهدف من هذا العلم في النهاية هو وصف الأسس العصبية لقدرة البشر على تعلم اللغات في حد ذاتها.
واللغويات العصبية، كما يوحي الاسم، هي نتاج تلاقي علم الأعصاب بعلم اللغة (وعدة فروع معرفية أخرى كما سنرى). وأحيانًا ما تُستخدم مسميات أخرى للإشارة إلى هذا العلم، من بينها «علم الأعصاب الإدراكي للغة» و«علم الأحياء العصبية للغة». هذه المسميات متماثلة إلى حد بعيد، لكنها تبرز إسهامات معرفية مختلفة في الأبحاث المقامة على اللغة وعلى المخ، سواء في علم اللغة أو علم النفس الإدراكي أو علم الأحياء العصبية. وللدور الذي يضطلع به علم اللغة النظري أهمية خاصة. ففي إطار دراسة «الكيفية» التي يمثِّل بها المخ اللغة ويعالجها، غالبًا ما يكون من المفيد أولًا معرفة «ماهية» ما يُقدَّم ويعالَج؛ أي البنى المنهجية والجوهرية للغة على مستويات الصوت والقواعد النحوية والمعنى. كذلك ترتبط اللغويات العصبية ارتباطًا وثيقًا باللغويات النفسية؛ وهي دراسة معالجة اللغة واكتسابها باستخدام أساليب علم النفس النظري والتجريبي كافة.
يقدِّم هذا الكتاب أساسيات اللغويات العصبية الحديثة في قالبٍ موجَز وجذَّاب لا يخلو من الدقة. وهو موجَّه في المقام الأول إلى الطلاب الذين يتطرقون إلى هذا الموضوع للمرة الأولى، وللعالم الذي يقطن إلى جوارك، وإلى القارئ المحب للاطلاع الذي يرغب في معرفة ما يحدث في أدمغتنا حين نكتسب مهاراتنا اللغوية الثمينة أو نستخدمها، أو حين نفقدها. ربما ينبغي لكتاب كهذا أن يظل على مسافة آمنة من حدود الأبحاث الراهنة، حيث توضع النظريات موضع اختبار وتُستخلص نتائج جديدة وتُطرح للمناقشة. لكن هذا لا يكون ممكنًا أو مستحسنًا على الدوام. فقد تشتمل المعرفة الأساسية في أحد المجالات أيضًا على المعرفة بشيء ليس معروفًا في الوقت الراهن؛ أي الأسئلة التي يمكن طرحها بثقة ودقة لكن لا يمكن الإجابة عنها بعد. ومسئولية الكاتب في هذا المقام هي أن يشير إلى أي تناقضات بين الدراسات أو إشكاليات مفتوحة أو المجادلات الدائرة حاليًّا، بالتوازي مع الإشارة إلى الأساليب والنتائج القائمة.
بتأليفي هذا الكتاب اضطلعت بمواجهة التحدي المتمثِّل في تحديد ما يجدر بي تضمينه فيه وما لا يجدر تضمينه. من ثَم أجدني ملزَمًا بأن أذكِّر القراء (وأذكِّر نفسي) بأن كل المعرفة العلمية دائمًا ما يتم الوصول إليها وتقديمها من وجهة نظر معينة. وهذا الكتاب ليس استثناءً من ذلك. إن اللغويات العصبية أكثر تنوعًا وديناميكية من أن نتصدى لها من منظور واحد بدقة واستيفاء (وبما يرضي جميع مُزاوليها إرضاءً تامًّا). كل ما يسعني فعله هو حث القراء على مطالعة هذا الكتاب ثم الانتقال إلى مؤلَّفات أخرى عن الموضوع. والملاحظات الختامية والقراءات الإضافية الملحقة بنهاية هذا الكتاب نقطة بدء جيدة.