الفصل الأول

مقدمة تاريخية

لعلك لم تسمع باللغويات العصبية من قبل، لكن ربما سمعت بالهوس بالأعصاب؛ وهو الانبهار الراهن بأي شيء له علاقة بعلم الأعصاب، لا سيما لو رافقته صور عامرة بالألوان للمخ وهو «في حالة نشاط».1 فهل تُعَد اللغويات العصبية حالة أخرى من حالات الهوس بالأعصاب؟ الإجابة المختصرة هي لا. فبقدر ما يتوافر من معلومات، لا يوجد هوس عام باللغة في الدماغ، وأيًّا كان شكل الاهتمام القائم بها حاليًّا، فإن له تاريخًا طويلًا وثريًّا، يسبق كثيرًا من التطورات التي طرأت على علم الأعصاب الإدراكي (دراسة بنى المخ البشري ووظائفه) وعلم اللغة (دراسة اللغات البشرية). فالأبحاث الخاصة باللغة في الدماغ لم تكن في حاجة إلى شكل ناضج من علم اللغة وعلم الأعصاب لكي تنطلق. في الواقع، إن بعض النتائج المبكِّرة التي تم التوصل إليها في اللغويات العصبية كانت عاملًا أساسيًّا في اقتحام مجالات اللغويات الحديثة وعلم الأعصاب الإدراكي الحديث عمليًّا.
لم يُكتب بعدُ تاريخٌ شامل للغويات العصبية، ولا تزال أصول مصطلح «اللغويات العصبية» غير موثقة إلى حد كبير.2 يمكننا رصد ثلاث نقاط تحوُّل أساسية في تاريخ التنظير والبحث الخاص باللغة في المخ. أولى تلك النقاط كانت بمنزلة طفرة تجريبية، وهي اكتشاف بول بروكا نحو عام ١٨٦٠ أن الضرر الذي يلحق بأجزاء معينة من القشرة الجبهية يمكن أن يصحبه إعاقة في مخارج الكلام. النقطة الثانية كانت طفرة نظرية، وتتمثل في الطرح الذي قدَّمه نعوم تشومسكي وآخرون نحو عام ١٩٦٠ عن أن اللغة هي نظام حوسبي، يتعيَّن رسميًّا بعدد محدود من المفردات إضافة إلى مجموعة محدودة من القواعد التي يمكن استخدامها لإنتاج مجموعة غير محدودة من الجمل. أما الثالثة فكانت طفرة تكنولوجية، تم خلالها إدخال ونشر طرق لقياس النشاط العصبي داخل الجسم الحي آنيًّا في البشر وأجهزة الكمبيوتر من أجل تحليل البيانات التجريبية ومحاكاتها، وذلك في نحو عام ١٩٨٠.

على أي حال، تتشكل اللغويات العصبية اليوم بهذه الخيارات النظرية والمنهجية. فما زلنا ننظر إلى اللغة باعتبارها مكونًا حاسوبيًّا من مكونات المخ، وما زلنا نحاول تعيين موقع عمليات لغوية معينة في مناطق معينة من المخ، تكون نشطة في أوقات معينة، وما زلنا نعوِّل على القياسات وأساليب معالجة البيانات عالية الدقة من أجل الحصول على نتائج تجريبية وتحليلها ونمذجتها. فلنستعرض بمزيد من التفصيل كيف وصلت اللغويات العصبية إلى ما هي عليه الآن.

الرواد و«صناع الرسوم التخطيطية»

تعود فكرة أن الكلام واللغة هما تعبيران عن قدرات مميزة للكائن البشري إلى العصور القديمة.3 صحيح أن التوصيفات لحالات اضطرابات الكلام في وجود إصابات الرأس الرضحية أصبحت أكثر تواترًا نسبيًّا أثناء عصر النهضة وأوائل العصر الحديث،4 لكن لم تُطرح فرضية وجود علاقة بين اضطرابات الكلام وإصابات الدماغ إلا في القرن التاسع عشر. كان فرانز جوزيف جال (١٧٥٨–١٨٢٨) على الأرجح من أوائل من أوضحوا تلك العلاقة. كان النموذج الذي طرحه من «سيكولوجية الملَكات» نموذجًا أصيلًا ومؤثرًا.5 فقد ذهب جال إلى أن العقل منظم في شكل تسلسل هرمي من الملَكات التي (١) تتحدد بمحتواها (مثال، اللغة والرياضيات والموسيقى)، (٢) ويمكن أن تكون غريزية في البشر أو الأنواع الأخرى، (٣) وتتسم بالتمايز والاستقلال بعضها عن بعض، (٤) وتقع في أجزاء من المخ مميزة ومستقلة بعضها عن بعض. أشار جال أيضًا إلى وجود اضطرابات تقتصر على «ملَكة الكلام»، وكان هذا سيصبح من ضروب المستحيل لو لم يكن الكلام متمركزًا في جزء معين من المخ.6 وقدَّم جال فكرة بسيطة أسهمت في خروج أبحاث تجريبية مبكرة على قواعد اللغة في المخ، ولم يكن ذلك لكونها صحيحة، بل لكونها قابلة للتجربة باستخدام الأساليب المتاحة في ذلك الوقت.
كان من بين المعتقدات المتداولة في مطلع القرن التاسع عشر فيما يتعلق بالأعصاب الفرضية القائلة إن بإمكان أي جزء من أجزاء نصفَي المخ الاضطلاع بوظيفة ما (تساوي القدرة الوظيفية)، وهي الفرضية التي طرحها جان بيير فلورانس (١٧٩٤–١٨٦٧)، إلى جانب قانون التناظر الذي وضعه كزافييه بيشا (١٧٧١–١٨٠٢)، الذي يشير إلى أن وجود جزء محدد من الدماغ مخصص للكلام واللغة يعني بالضرورة وجود هذا الجزء في نصفَي المخ كليهما؛ أي إنه «منطقة ثنائية».7 في ذلك الوقت، لم يكن التساؤل السائد يتعلق بموقع المناطق المسئولة عن اللغة والكلام بالتحديد في المخ. بل كانت الإشكاليات المطروحة تتعلق بما إن كانت تلك المناطق موجودة بالأساس، وما إن كانت تقع في مناطق معينة في أحد نصفَي المخ دون الآخر. كانت الآراء والمواقف المختلفة معقولة ومحتملة، وفقًا للكيفية التي سيصاغ بها كل سؤال من هذين السؤالين وكيفية الإجابة عنه. على سبيل المثال، اقترح جان باتيست بويو (١٧٩٦–١٨٨١) — استنادًا إلى تحليلات إصابات الدماغ في المرضى المصابين باضطراب في الكلام — أن مناطق الكلام سيكون موضعها الفص الجبهي للدماغ، وخلص إلى أن جال كان مصيبًا. غير أن بويو افترض أن الدماغ البشري متناظر. ومن ثَم إذا كان بالإمكان تحديد موقع المنطقة المسئولة عن الكلام في الدماغ، فستكون في الفص الجبهي لكلا نصفَي المخ.
يُنسب الفضل عادةً إلى بول بروكا (١٨٢٤–١٨٨٠) في اكتشاف أن جوانب الكلام أو اللغة لا توجد في الفص الجبهي فحسب؛ بل يتمركز وجودها أيضًا فى النصف الأيسر من المخ. وقد ذهب آخرون قبل بروكا — من بينهم مارك داكس (١٧٧٠–١٨٣٧) — إلى أن اللغة المنطوقة تقع في الفص الأيسر من المخ. لكن بروكا كان يمتلك البيانات، وقد نشرها في الوقت والمكان المناسبين حسبما تبين بعد ذلك. وفي سلسلة من المراسلات مع الجمعية التشريحية في باريس في عام ١٨٦١، وصف بروكا حالتين لمريضين، هما لوبورن ولولونج، كانا يعانيان صعوبة في النطق عدا بضعة «أصوات ملفوظة بوضوح دائمًا لا تتغير ودائمًا ما تُنتَج بالطريقة نفسها».8 أفاد بروكا بأن باستطاعة الرجلين كليهما «سماع وفهم» اللغة المنطوقة، وكذلك إنتاج «أصوات منطوقة» بسهولة، وتحريك لسانيهما وشفاههما على «نطاق منفرج وبحيوية» أكثر مما هو كافٍ لنطق الكلام، وأن الرجلين كانا «في غاية الذكاء».
أتاحت تلك الملاحظات لبروكا بأن يخلص إلى أن التلف في كلتا الحالتين، لم يطل أنظمة المدخلات (السمعية) أو أنظمة المخرجات (الحركية)، حسبما تبين، بل طال «ملَكة نطق الكلام».9 فحص بروكا دماغَي لوبورن ولولونج تشريحيًّا، ولاحظ أن كليهما يعاني من تلف أصاب أجزاء ممتدة من القشرة الجبهية اليسرى في منطقة أشار إليها باسم «التلفيف الجبهي الثالث» (انظر الشكل ١-١). وخلص بروكا إلى أن «سلامة منطقة التلفيف الجبهي الثالث — وربما الثاني أيضًا — تبدو عاملًا لا غنى عنه في ممارسة ملَكة اللغة المنطوقة. وفي حالة لوبورن ولولونج، يقع الضرر الذي أصابهما خلف الثلث الأوسط، أمام الفص الجزيري، وتحديدًا في الجانب نفسه.»10
fig1
شكل ١-١: صور فوتوغرافية لدماغَي لوبورن (أ، ب) ولولونج (ج، د).
هل استهدف بروكا اختبار الفرضيات القائلة بأن الكلام يقع في منطقة الفص الجبهي ويتمركز في الجانب الأيسر؟ وهل زعم فعليًّا أنه يحوز أدلة على ذلك؟ لسنا هنا بصدد الخوض في جدل تاريخي، لكن قد يجدر بنا أن نذكر أن آراء بروكا قد شهدت تطورًا بين عامَي ١٨٦٠ و١٨٦٥. لم يكن بروكا يومًا مؤيدًا قويًّا لأطروحات تحديد تموضع وظائف المخ واستطرافها، وكان «تحوله بطيئًا وشاقًّا»،11 وانفصل تدريجيًّا عن مذاهب التناظر والتكافؤ الخاصة بفلورانس وبيشا. شكلت حالتا لوبورن ولولونج فرصة له كي يختبر فرضية بويو التي تنص على أن القدرة على الكلام تكمن في الفصوص الجبهية، أو التكهن القائل بأن المريض الذي لا يقدر على الكلام سيكون مصابًا بأضرار في الفصوص الجبهية. لم تكن المسألة متعلقة بما إن كان بالإمكان تحديد مركز ملَكة اللغة في الفصوص الجبهية، أو إن كان بالإمكان تحديده من الأساس، أو إن كانت القدرة على الكلام تتمركز في النصف الأيسر من الدماغ. فقد زعم بروكا أن الإصابة في المنطقة الجبهية في حالتَي لوبورن ولولونج كانت «سبب فقدان القدرة على النطق»، مؤكِّدًا بذلك على وجهة نظر بويو.12 غير أنه كان حريصًا أيضًا على تجنب المزاعم العامة بشأن ملَكة اللغة، ولم يقبل إلا في النهاية باحتمالية أن تكون القدرة على الكلام متمركزة في النصف الأيسر من الدماغ.
كانت مهمة الجيل التالي من الباحثين هي دراسة العناصر الأخرى للغة والكلام في الدماغ. واستطاع كارل فيرنيك (١٨٤٨–١٩٠٥) فحص حالات لمرضى يعانون من أعراض واعتلالات مختلفة بالمقارنة بمريضَي بروكا، اللذين أظهرا قدرة محدودة على الكلام لكن كانا على قدر جيد من الاستيعاب، فيما صار يُعرف باسم «حبسة بروكا». وصف فيرنيك حالات لمرضى كانوا يستطيعون الكلام بسرعة ودون جهد، لكن افتقر كثير منهم إلى الملاءمة والترابط فيما يقولون، وكانت قدرات استيعابهم الكلام متدهورة؛ وهو النمط الذي صار يُعرَف باسم «الحبسة الحسية» أو «حبسة فيرنيك». وقدَّم أيضًا وصفًا لمرضى كانوا لا يزال بإمكانهم نطق الكلام وفهمه، ولكن كانوا عاجزين عن تكراره، فيما يُعرَف ﺑ «الحبسة التوصيلية». وكما يشير عنوان كتابه البارز «مجموعة أعراض الحبسة»، الذي نُشر في عام ١٨٧٤، كان فيرنيك يعي أن هناك «مجموعة أعراض» للحبسة تنتظر التفسير، وليس مجرد اضطراب واحد أو موحد.13 كانت إجابات فيرنيك أول نموذج للغة في الدماغ (انظر الشكل ١-٢)، والذي من المؤكد أنه كان له أثر ضخم دامَ حتى يومنا هذا.
fig2
شكل ١-٢: نموذج فيرنيك التخطيطي لمعالجة الكلام في الدماغ.
يرى فيرنيك أن اللغة المنطوقة مدعومة بمجموعة من المراكز المتداخلة؛ إذ تلاشت فكرة أن تكون «منطقة كبرى» واحدة من القشرة الدماغية هي الأساس ﻟ «ملَكة عقلية» واحدة.14 تتكون هذه المراكز من مركز ﻟ «الصور الحركية» للكلمات، ويناظر القشرة الجبهية اليسرى كما حدده بروكا (الشكل ١-٢، y)، ومركزًا ﻟ «الصور السمعية» للكلمات في التلفيف الصدغي العلوي الخلفي (الشكل ١-٢، x). هذه المراكز متصلة تشريحيًّا (طرح فيرنيك أيضًا فرضية فيما يخص الألياف التي من شأنها أن توفر الرابط بينها)؛ إذ تستقبل مدخلات من الأعصاب السمعية (a) وترسل مخرجات عبر أعصاب الحركة (m).
يمكن لهذه المراكز والروابط أن تصاب بتلف، ويمكن لكل تلفٍ أن يسبب خللًا محددًا في الكلام أو اللغة.15 فيمكن لخلل في الأعصاب الصوتية (a) أن يسبب الصمم، فيما يمكن لخلل في أعصاب الحركة (m) أن يسبب عجزًا عن الكلام، وهذا ليس من أعراض الحبسة. ويمكن لتلف يصيب مركز الصور الحركية (y) أن يسبب حبسة بروكا، التي لا ينطق فيها المريض بالكلام بصورة صحيحة. كما يمكن لضرر يصيب مركز الصور السمعية (x) أن يؤدي إلى الحبسة الحسية، حيث يعجز المريض عن فك شفرة الكلام وفهمه. أخيرًا، يمكن لضرر يصيب الروابط بين المراكز الحركية والسمعية أن يسبب الحبسة التوصيلية؛ حيث يواجه المريض صعوبة في التعبير عن أفكاره التي يريد التعبير عنها أو تكرار الكلمات التي تتردد على سمعه حال فشل نقل المعلومات بين هذه المراكز.16
يُعَد فيرنيك آخر رواد مجال اللغويات العصبية وأول من يُطلق عليهم «صناع الرسوم التخطيطية»، وهو الاسم الذي أطلقه هنري هيد (١٨٦١–١٩٤٠) لاحقًا على اختصاصيي الحبسات الأوائل.17 ولعل أكثر إسهاماته خلودًا إنشاؤه أول نموذج ربطي للغة في الدماغ، والذي كان له قدرتان، تنبُّئية وتفسيرية. لقد صرنا اليوم نعتبر نموذج اللغة فعليًّا شبكة من مناطق الدماغ تؤدي وظائف أو مهامَّ معينة بصورة جماعية، وتشارك المناطق الفردية المكونة لهذه الشبكة في كثير من المهام أو الوظائف. وكان فيرنيك مسئولًا عن تحوُّل مبكر نحو هذه النظرة، والانصراف عن مفهوم التموضع الصارم للوظائف الدماغية. ورأى كذلك أن المفاهيم تتوزع بين مناطق الدماغ؛ ومن ثَم لن يكون بالإمكان توطينها، كما يحدث مع المراكز الحركية والسمعية. وقد تبنَّى لودفيج ليشتهايم (١٨٤٥–١٩٢٨) هذه الرؤية وطوَّرها.18
جرى تطوير نسخ من نموذج فيرنيك — الذي يُعرَف أيضًا بنموذج بروكا-فيرنيك-ليشتهايم أو مبدأ بروكا-فيرنيك — حتى عهد قريب. في بعض الأحيان كانت هذه التطورات عبارة عن تحديثات حقيقية وجوهرية للنموذج، كما في مقترَح قدَّمه عالم الأعصاب الأمريكي نورمان جيشويند (١٩٢٦–١٩٨٤).19 لكن بعض التحديثات الأخرى كانت تشويهات مبالغًا فيها رُوِّج لها باعتبارها النموذج العصبي «القياسي» للغة. وأحد أوجه التبسيط المتكررة للنموذج هو القول بأن مركز الصور السمعية هو مركز فهم الكلام في الدماغ، في حين أن مركز الصور الحركية هو مركز إنتاج الكلام في الدماغ. لكن فيرنيك رأى في المقابل أن كلا المركزين (إضافة إلى مراكز المفاهيم الموزَّعة) يساهم في عمليات مختلفة من العمليات الداخلة في إنتاج الكلام، وهو ما يكون دائمًا نتاج العمل المشترك لعدة عقد أو نقاط التقاء في الشبكة.
أما علم الحبسات الأكثر حداثة، فكان محاولة متواصلة وممتدة لاختبار نموذج فيرنيك ومراجعته، ويمكن اعتباره أشبه بسلسلة من الحواشي السفلية التي تسعى للإضافة إليه وتطويره. لكن هل شكلت أبحاث القرن التاسع عشر التي أجريت على أساسات الكلام في الدماغ علمَ اللغويات العصبية بحق، أم كانت «مجرد» جزء من علم الأعصاب أو علم دراسة الحبسات؟ لم تكن أفكار بروكا وفيرنيك وغيرهما وما توصلوا إليه من نتائج قد تبلورت لتشكل علم اللغويات العصبية بعد، لكنهم قدَّموا الدَّفعة الأولى نحو تطويره قبل دمجها مع النظريات اللغوية أثناء القرن العشرين. وأولى محاولات دمج هذه الأفكار كانت مع نظرية البنيوية؛ وهي النظرية القائلة بأن اللغة هي نظام من الإشارات، كاقتران الصوت بالمعنى، وقد وضعها عالم اللغة السويسري فرديناند دو سوسور (١٨٥٧–١٩١٣).20 لكن لم تتحقق الطفرة إلا عند دمجها مع النظرية التوليدية، وهي النظرية القائلة بأن اللغة نظام حاسوبي — أي مجموعة محددة من القواعد لتوليد الجمل — والتي دققها عالم اللسانيات نعوم تشومسكي.

اللغويات العصبية والثورة الإدراكية

في مطلع القرن العشرين، بدا جليًّا لعلماء اللغة الفطنين أن اللغة كانت «في» الدماغ بشكل ما. على سبيل المثال، أشار سوسور في كتابه «منهج اللسانيات العامة» (١٩١٦) إلى أن اللغة قائمة باعتبارها «مجموع البصمات المودعة في كل دماغ».21 لكن إدراكها على هذا النحو أمر مختلف تمامًا عن إثباتها بالأساليب العلمية. كان كلٌّ من بروكا وفيرنيك وآخرون غيرهما قد أوضحوا أن الكلام المنتَج والكلام المستقبَل لهما موقعهما في الدماغ. لكنهم لم يتطرقوا إلى الإشكالية الكبرى، وهي إشكالية موضع الملَكة العامة للغة، وذلك كما أقرَّ بروكا دون جدل في عام ١٨٦١. كان التطرق إلى هذه المسألة يتطلب فهمًا أفضل للغة مما كان متاحًا معظم فترات القرن التاسع عشر، من حيث بناء الجملة والدلالات تحديدًا. وكان لزامًا أن يندمج كلٌّ من علم اللغة العصبي وعلم الحبسات في مجال أكثر تخصصًا وهو علم اللغويات العصبية.

ليس معروفًا كيف حدث ذلك؛ إذ كان قصة معقَّدة لم تُروَ، لكن كانت هناك ثلاث مراحل أساسية وحاسمة.

  • أولًا: لاحظ جون هيولينجز جاكسون (١٨٣٥–١٩١١) — من بين آخرين — أن تحديد الأسباب التشريحية لأحد الأعراض يختلف عن تحديد موضع لوظيفة ما في الدماغ. ومهدت هذه الملاحظة الطريق نحو تضمين الأساليب اللغوية النفسية في علم الحبسات، خاصةً التجارب المعملية المنضبطة التي تُجرى خارج المنشآت الطبية.
  • ثانيًا: أصبح واضحًا أن الكلام واللغة يتمحوران حول العبارات والجمل، وليس الكلمات فحسب. وكان هيمان ستينثال (١٨٢٣–١٨٩٩) من أوائل من فرَّقوا بين الاضطرابات على مستوى الكلمات (الحبسة) والاضطرابات على مستوى الجمل (العِي أو صعوبة التعبير اللغوي).22 وأدخل أدولف كوسمول (١٨٢٢–١٩٠٢) مصطلح «الحبسة النحوية» للتعبير عن طائفة من حالات القصور المرتبطة بالتنظيم النحوي للجمل. ثالثًا: بدأ علماء اللغة في التغلغل في علم الحبسات، على سبيل المثال، من خلال أعمال رومان ياكوبسون (١٨٩٦–١٩٨٢)، الذي دفع بأن قصور المخرجات في حبسة بروكا يعكس انهيار محور التركيب التعبيري للغة (التسلسل)، في حين أن قصور المدخلات في حبسة فيرنيك يعكس انهيار المحور الاستبدالي (الاختيار المعجمي أو اختيار المفردات).23 ويبدو اليوم أن نهج ياكوبسون اللغوي في دراسة الحبسة — لا سيما تشديده على اللغة باعتبارها نظامًا شكليًّا من المنظور البنيوي — أكثر تعقيدًا بكثير من نُهُجِ غالبية معاصريه.24 لكن لم يستطع علم اللغويات العصبية البدء في تكوين فهمٍ أقوى لبناء الجملة والدلالات اللفظية في الدماغ إلا من خلال التطورات اللاحقة التي طرأت على علم اللغة.
تحققت إحدى الطفرات في خمسينيات القرن العشرين من خلال سلسلة من الأوراق البحثية قدمها تشومسكي، جمع فيها طرقًا مستوحاة من المنطق والرياضيات مع تحليلات مبكرة أجراها زيليج هاريس (١٩٠٩–١٩٩٢) لما يُسمى بالتحويلات التركيبية، مثل القواعد التي تُستخدم في تحويل الجمل المبنية للمعلوم («أكل الولد الحلوى») إلى جمل مبنية للمجهول («أُكلت الحلوى بواسطة الولد»). قدَّم تشومسكي النحو التحويلي التوليدي باعتباره نظرية في النحو اللغوي، وعُرف في النهاية بالنحو التوليدي. والنحو التوليدي لا يشبه القواعد النحوية التي تعلمناها في المدارس. فهو في جوهره إجراء يهدف إلى بناء الجمل.25 وقد تألف في بادئ الأمر من مجموعة محددة من قواعد إعادة الكتابة؛ على سبيل المثال:
  • (أ)

    «ج» ← «م س» / «م ف»

  • (ب)

    «م س» ← «د» / «س»

  • (جـ)

    «م ف» ← «ف»/ «م س»

حيث «ج» ترمز إلى الجملة، و«م س» مركب اسمي «الولد»، و«م ف» مركب فعلي (مثل: «أكل الولد الحلوى»)، و«د» أداة تعريف، و«س» اسم، و«ف» فعل (يمكن أيضًا تضمين قواعد إعادة الكتابة، حيث الكلمات هي الرموز الطرفية؛ على سبيل المثال، أداة التعريف ← ال، الاسم ← حلوى، الاسم ← ولد، الفعل ← يأكل). وتسمح لنا القاعدة التحويلية س ← ص بإعادة كتابة الرمز على الجانب الأيسر لتحل محل الرمز على الجانب الأيمن، كإعادة كتابة الجملة «ج» لتصبح تسلسلًا يتكون من مركب اسمي ومركب فعلي «م س/م ف»، عملًا بالقاعدة أ. لنتغاضَ عن سؤال ما إن كانت لعبة القواعد التحويلية هذه تولِّد كل الجمل ذات التركيب السليم فحسب في اللغة أم لا (والإجابة أنها لا تفعل)، ولننظر في كيفية توليدها للبنية النحوية لجملة «أكل الولد الحلوى». لنبدأ بالرمز:

ج

نطبق القاعدة أ على الجملة، فنحصل على:

(م س/م ف)

ثم نطبق القاعدة ب على المركب الاسمي (م س)، والقاعدة ج على المركب الفعلي (م ف)، فنحصل على:

(د/ س) (ف/ م س)

وأخيرًا، نطبق القاعدة ب على المركب الاسمي ثانية:

(د/س) (ف) [د س]

كل تطبيق لقاعدة من قواعد إعادة الكتابة يترك أثرًا في البنية النهائية: والأقواس القائمة ( ) هي البصمات الدالة على الإجراء التوليدي. وتكون البنية النهائية «هرمية»، حيث يمكن دمج كل مركب (على سبيل المثال، [د س]) داخل تركيب آخر (على سبيل المثال، (ف [د س])). ويكون الإجراء «تكراريًّا»؛ إذ يمكن تطبيق كل قاعدة على الناتج من تطبيقها هي نفسها أو قواعد أخرى؛ فالقاعدة ب مستخدَمة مرتين، بصورة تكرارية، في عملية الاشتقاق. ويمكن تطبيق هذا النهج خارج نطاق بناء الجملة، كأن يمتد، على سبيل المثال، ليشمل دلالات الجمل والعبارات الجزئية.

قبل ظهور النحو التوليدي، كان المنطقيون والفلاسفة يطورون بالفعل أنظمة ولغات شكلية لأغراض عديدة. لكن تشومسكي هو من صمَّم في خمسينيات القرن العشرين أنظمة شكلية يمكن استخدامها لحصر الخصائص الأساسية لبناء الجملة في اللغات الطبيعية (إذ لم تجرِ أي محاولات لذلك من قبل)، وكان تشومسكي أيضًا في ستينيات القرن العشرين هو من أقرن النهج الشكلي بفكرة «القواعد النحوية التوليدية باعتبارها نظريات للكفاءة اللغوية البشرية» (كانت الأبحاث السابقة عن اللغات الشكلية مناهضة للنظرية التصورية).26 وساهمت هذه التوليفة التي تجمع بين المذهب الشكلي والمذهب التصوري في ظهور ما يُسمى بالنظرية الحاسوبية للعقل ثم علم الإدراك: وهي الدراسة المتعددة التخصصات للعقل، التي تضم مجالات الفلسفة وعلم النفس وعلم اللغة وعلم الأعصاب. وذهب البعض إلى حد إطلاق مصطلح «الثورة الإدراكية» على هذه التطورات،27 في حين دفع البعض الآخر بأن تلك التطورات كانت بمنزلة عودة علم اللغة وعلم النفس إلى «جذورهما التصورية» (الأوروبية).28 وسيتفق البعض على أن النظرية الحاسوبية للعقل غيَّرت طريقة فهم الباحثين والمثقفين للإدراك البشري، من حيث بنيته وقدراته.29
علامَ دل ذلك بالنسبة إلى اللغويات العصبية؟ لقد أدى ذلك، في الواقع، إلى وصول الاتجاه نحو شكل ناضج ومتكامل لعلم اللغويات العصبية، كان قد تأسَّس قبل عقود عديدة، إلى مرحلتَي الكمال والإثمار. في البداية، طوَّر علماء اللغويات النفسية في هارفارد أساليب تجريبية، وكان من بينهم جورج إيه ميلر (١٩٢٠–٢٠١٢)، وهو أحد الزملاء المقرَّبين لتشومسكي. وتدريجيًّا اعتمد علماء الحبسة تلك الأساليب الجديدة، كما حدث، على سبيل المثال، في مركز بوسطن لأبحاث الحبسة، الذي أسَّسه وترأَّسه نورمان جيشويند وهارولد جودجلاس (١٩٢٠–٢٠٠٢). ثانيًا: تحول الانتباه من الكلمات إلى الجمل، ومن ارتباطات المثير والاستجابة إلى البنية الهرمية الشكلية للسلوك والإدراك المعقدين. ثالثًا: استُخدمت نظريات اللغة بصورة نشطة باعتبارها أدوات تنبُّئية وتفسيرية في الدراسات الخاصة بمعالجة اللغة واكتسابها. وللمرة الأولى أصبح من الممكن طرح أسئلة بشأن «الواقع النفسي والعصبي» لعمليات معينة (كالتحويلات)، طرحها علماء اللغة النظرية، وذلك في أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات من القرن العشرين.30
في ستينيات القرن العشرين، ظهر مصطلح «اللغويات العصبية»؛31 إذ قدَّم إريك لينيبرج (١٩٢١–١٩٧٥)32 أول «توليفة كبرى» تجمع بين علم اللغة وعلم الأحياء العصبي، وبدأ المجتمع العلمي في تنظيم نفسه، مع تأسيس الجمعيات العلمية ودورية «برين أند لانجويدج» في عام ١٩٧٤. وجاء في افتتاحية العدد الأول منها، التي كانت بقلم هاري ويتيكر: «إن ميلاد مجالات جديدة كعلم النفس الفسيولوجي، أو علم اللغويات العصبية الأحدث عهدًا، يمثل دليلًا صريحًا على إدراك كثيرين قيمة وجود قاعدة مفاهيمية موسعة وأدوات تحليلية جديدة في مجالَي اللغة والدماغ المعقَّدين والعلاقات المتداخلة بينهما.»33 وأبدى ويتيكر مزيدًا من الحكمة وبعد النظر؛ إذ رأى أن ثمة تحولًا تكنولوجيًّا جذريًّا يلوح في الأفق في مجال اللغويات العصبية؛ إذ قال إن «تطوير أساليب جديدة وتحسين القديمة منها، والذي يبشر بمزيد من التطورات والرؤى الاستثنائية في المستقبل، مثل قياس جهود الدماغ البطيئة ذات الصلة بحدث في الدماغ، وتحليل أنسجة الدماغ باستخدام الأشعة السينية ثلاثية الأبعاد، والأنظمة الرياضية المنطقية للتحليل اللغوي والتحليلات اللغوية النفسية للحبسة»، ما هي إلا أمثلة قليلة على التقنيات والأساليب التي شكَّلت علم اللغويات العصبية كما نعرفه اليوم.

اللغويات العصبية والثورة التكنولوجية

إبان سبعينيات القرن التاسع عشر، بدأ الباحثون في استخدام طرق لتسجيل نشاط المخ الكهربي تسجيلًا مباشرًا لدى المشاركين الذين يتمتعون بصحة جيدة (التخطيط الكهربي للدماغ)، وقياس التباينات في التيارات الكهربية (الجهود المرتبطة بحدث) التي يولدها المخ استجابة لأحداث خارجية (كالمثيرات على سبيل المثال)، أو في أنشطته الداخلية (كاتخاذ القرارات). وفي ثمانينيات القرن العشرين وتسعينياته، أوضح باحثون في أوروبا والولايات المتحدة أن بعض هذه الإشارات يتغير بسرعة وبطرق منهجية استجابة للمعالجات التجريبية للمثيرات اللغوية؛ على سبيل المثال، إذا انتهت جملة ما بكلمة غير متوقَّعة في سياقها («… نحن نأكل الخبز والجوارب»)، أو إذا احتوت جملة على خطأ نحوي («… هم يلقي باللعبة على الأرض»).34 وتبين أن المخ ينتج استجابات مختلفة في أوقات مختلفة لاختلالات الشكل والمحتوى اللغوي. وقد أدى هذا بالباحثين إلى التكهن بشأن استقلالية الأنظمة المسئولة عن المعنى والقواعد النحوية في المخ؛ وهو موضوع محل جدل كبير حتى في وقتنا هذا (سأوافيك بالمزيد عن هذا في الفصول الثلاثة القادمة). وعلى مدار العقود الثلاثة الماضية، خضعت طرق التخطيط الكهربي للدماغ والجهود المرتبطة بحدث للاختبار والصقل والتطبيق بصورة مكثفة على عدة أمور تتعلق بمعالجة اللغة واكتسابها لدى مجموعات سكانية وعمرية متنوعة. وتبنَّى كثير من علماء اللغويات العصبية أساليب وتقنيات أخرى لتتبع الاستجابات العصبية، تشمل تخطيط مغناطيسية الدماغ، وتخطيط كهربية قشرة الدماغ، وقياسات أخرى مباشرة لنشاط المخ، مثل تخطيط كهربية الدماغ داخل الجمجمة. يمكن لهذه الأساليب أن تقدِّم معلومات مفصَّلة بشأن توقيت حدوث العمليات اللغوية، وما تنطوي عليه من آليات فسيولوجية.
في ثمانينيات القرن العشرين، أصبح بالإمكان رصد التغيرات التي تحدث في تركيز الجلوكوز أو الأكسجين والهيموجلوبين في أنسجة المخ باستخدام التصوير المقطعي بالإصدار البوزيتروني أو التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي، وكذا وضع خرائط لمناطق المخ النشطة تتراكب على المسوح التشريحية ثلاثية الأبعاد. ومع انتشار هذه الأدوات على نطاق أوسع في منتصف التسعينيات، استطاع علماء اللغويات العصبية أخيرًا «رؤية» كيفية استجابة المخ للغة في الجسم الحي ومن دون تدخل جراحي، وبتفاصيل مكانية وزمانية مبهرة.35 بالتأكيد كانت تجارب التصوير الأولى الخاصة بفهم اللغة متوافقة مع المعارف والتعاليم المتراكمة للغويات العصبية. على سبيل المثال، أظهرت دراسة أُجريت بالتصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي، على يد مارسيل جاست وزملاء له، ونُشرت في عام ١٩٩٦ في دورية «ساينس»، أن منطقة بروكا في المخ (في القشرة الجبهية السفلية اليسرى) ومنطقة فيرنيك (في القشرة الصدغية العلوية الخلفية اليسرى) كانتا تنشطان على حسب التعقيد النحوي للجمل التي كان المشاركون يعالجونها في أدمغتهم. وكان هذا النشاط في العموم أقوى في النصف الأيسر من المخ في هاتين المنطقتين مقارنة بنظيرتيهما في النصف الأيمن.36 ومنذ ذلك الحين نُشرت مئات التجارب على اللغة باستخدام التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي، ولا يزال التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي من طرق التصوير الرئيسة في كثير من مجالات العلوم العصبية البشرية، ومن ضمنها اللغويات العصبية.

تحوي معظم مجموعات بيانات التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي والتخطيط الكهربي للدماغ ملايين من نقاط البيانات؛ فنجد ملايين الأرقام المختلفة منظَّمة في شكل مصفوفة أو بنية كثيرة الأبعاد. وما كان تجميع هذا الكم الهائل من البيانات وتحليله (وتخزينه) ليصبح ممكنًا من دون أجهزة الكمبيوتر الرقمية. فالكمبيوتر هو البطل في تاريخ اللغويات العصبية الحديث؛ فكان الملهم للنظرية الحاسوبية للعقل باعتباره مفهومًا رياضيًّا، وباعتباره شيئًا ماديًّا، أتاح الكمبيوتر إجراء أبحاث تجريبية على عينات أكبر وجلسات مختبرية أطول، وظروف تحكم أفضل مما كان متاحًا فيما مضى. لقد غيَّرت الحوسبة والفسيولوجيا العصبية مجرى الأبحاث كاملًا في مجال اللغويات العصبية، وفي مجالَي علم النفس وعلم الأعصاب بصورة أعم؛ إذ تشكِّل البيانات وطرق التعامل معها اليوم كل خطوة من خطوات البحث، من نشأة فكرة الدراسة حتى نشرها.

غيَّرت الثورة التكنولوجية كذلك الكيفية التي يتم بها تطوير النظرية واختبارها؛ إذ أصبح من الشائع إنشاء نماذج حاسوبية لعمليات لغوية متنوعة؛ كإنشاء برنامج يتعلم تحديد التركيبة النحوية لجملة ما، واستخدام تلك النماذج في توليد أو «محاكاة» بيانات تُقارَن بعد ذلك مع ملاحظات تجريبية. تطوَّرت البنية الاجتماعية لمجال اللغويات العصبية أيضًا؛ إذ تُجرى أبحاث اللغة في المخ في الوقت الحالي على يد فرق كبيرة متنوعة التخصصات تتكون من متخصصين على قدرٍ عالٍ من المهارة، ويعملون في بلدان مختلفة بمنح قصيرة الأجل. كان بروكا وفيرنيك، بل حتى ياكوبسون حسبما يزعم، سيجدون مجال اللغويات العصبية المدعوم بالكمبيوتر الآن مجالًا غريبًا عليهم مقارنةً بالجهود الفردية ذات التقنية البسيطة التي ميَّزت أعمالهم اليومية.

الكمبيوتر هو البطل الأول في تاريخ اللغويات العصبية الحديث.

ها قد وصلنا إلى ختام موجزنا لتاريخ اللغويات العصبية. لا يتبقى سوى فجوات قليلة سنرأبها لاحقًا. أما الآن فلننظر إلى الصورة المنبثقة من هذا السرد. إن الجانب «العصبي» هو نشاط تجريبي تمامًا يستخدم أحدث التقنيات لقياس نشاط المخ وتوليف هذه التسجيلات في شكل نماذج عبارة عن تمثيلات زمكانية لموجات التنشيط في المخ. أما الجانب «اللغوي»، فهو مشروع شديد المنهجية ينتج بيانات منطقية رياضية عن كيفية اشتقاق تركيبات لغوية معقَّدة من عناصر بسيطة. فهل يمكن لهذين الجانبين المختلفين تمامًا كأساليب بحثية وكمجالات للواقع — الأحياء والرياضيات، المادة والعقل — أن يندمجا بدلًا من أن يكونا متجاورين فحسب؟ هنا تبدأ مغامرة اللغويات العصبية المعاصرة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤