مستقبل اللغويات العصبية
غالبًا ما يكون العلماء مهتمين بتوقع الاتجاهات في مجالاتهم. والبقاء في الصدارة يُعَد عنصرًا أساسيًّا من عناصر النجاح العلمي، لكن تحقيق ذلك أمرٌ بالغ الصعوبة. فعلم الأعصاب وعلم اللغة كلاهما مجال مفكَّك ونشط نسبيًّا في الوقت الراهن، الأمر الذي يزيد من صعوبة التنبؤ بالتطورات التي ستطرأ على الجوانب المشتركة بينهما. وبدلًا من محاولة تخمين ما يمكن أن تبدو عليه اللغويات العصبية بعد مرور عدد من السنين، سأذكر بضعة اتجاهات ناشئة من المحتمل أن تشكِّل المجال في المستقبل القريب. لذا يُعَد هذا الفصل تدريبًا على الاستقراء أكثر منه على التنبؤ، بافتراض أن النزعات الراهنة ستستمر وربما ستتوسع.
أحد التحولات الجذرية في علوم اللغة — مع وجود كثير من التداعيات أيضًا بالنسبة للغويات العصبية — تتعلق بفكرتنا عن اللغة باعتبارها نظامًا حاسوبيًّا ومعرفيًّا. على مدار عقود، اعتمد علماء اللغويات النفسية واللغويات العصبية رؤية عن اللغة باعتبارها تتكون في الأساس من «كلمات إضافة إلى قواعد نحوية»، باعتبار أن هذا التعريف يتوافق مع النموذج التوليدي الذي وصفناه في الفصل الأول. وكانت تلك قفزة كبيرة نحو الأمام، بدأت في خمسينيات القرن العشرين، حين كان قدرٌ كبير من علم دراسة الحبسات يركز إلى حد كبير على الكلمات الفردية دون الالتفات إلى الجمل أو الخطاب إلا بين الحين والآخر. لكن كان من المفارقة إلى حد ما أن التفسير التوليدي للغة باعتبارها نظامًا من البنى المنطقية والتركيبية القابلة للتفسير دلاليًّا لم يُستغل قط بصورة كاملة؛ على سبيل المثال، ما زلنا لا نعرف الدور المحدد الذي يلعبه المبدأ التركيبي في بنية معالجة اللغة البشرية. نحن نتمتع بالقدرة على استخلاص معاني الجمل بناءً على حصيلة «الكلمات إضافة إلى القواعد النحوية»، لكن متى وكيف تُمارَس هذه القدرة في المعالجة الفعلية للجمل؟ بات واضحًا الآن أن صورة اللغة المستوحاة من القواعد التركيبية التوليدية والدلالات التركيبية ما هي إلا دليل جزئي نحو فهم آلية اللغة في المخ.
ثمة تحول حديث مفاجئ في علوم المعلومات — والتي بدأت تخلف أثرًا على مجال اللغويات العصبية — وهو ظهور فهم جديد لمعالجة المعلومات في أنظمة موزَّعة، مثل الشبكات العصبية الاصطناعية والحيوية. لم يعد التركيز في هذه النماذج — التي لا يمثل التعليم العميق إلا مثالًا واحدًا عليها — على تحويل سلاسل من الرموز (المدخلات) إلى سلاسل أخرى من الرموز (مخرجات) بناءً على قواعد محددة سلفًا، وإنما على تعلم دوال التحويل تدريجيًّا بناءً على البيانات، ويصاحب ذلك عادةً تغذية راجعة أو مكافآت. تُبنى الشبكات العصبية الاصطناعية ببنًى وهياكل مختلفة (في عدد الطبقات والوحدات، على سبيل المثال)، وبيانات مدخلة مختلفة، وأنظمة تدريب مختلفة، ويكون ذلك عادةً من أجل حل مشاكل التحسين؛ فالهدف هو تعلم «أفضل» دالة لربط المدخلات بالمخرجات.
إضافة إلى ذلك، تتغير كلٌّ من التركيبة الاجتماعية والإدراك العام لمجال اللغويات العصبية تغيرًا سريعًا. فهناك مجتمع أكثر تنوعًا الآن يقود المجال، الأمر الذي يعود بفوائد كبيرة على الأبحاث والتحقيقات العلمية التي نقوم بها. على سبيل المثال، تُمارَس اللغويات العصبية في البلدان التي يُتحدَّث فيها باللغات البديلة، وتلك أخبار سارَّة إذا ما أردنا لنظرياتنا أن تنطبق ليس على الإنجليزية فحسب، بل على بعض اللغات الأخرى (أكثرها أوروبي). أما بين عموم الناس، فهناك وعي متزايد باضطرابات الكلام أو اللغة، ونقص النمو وتلف الدماغ (انظر الفصلين الثامن والتاسع). من المهم الاستمرار في بحث هذه الحالات لضمان حصول المصابين بها على أفضل رعاية قائمة على الأدلة في المراكز الطبية وعلى التفهم الكامل لحالتهم من جانب المجتمع ككلٍّ.
يمكن للأبحاث التي تجري على اللغة في المخ أن تخبرنا إلى أي مدًى نُعَد نحن البشر (من بين أشياء أخرى) آلات مفكرة.
أخيرًا، من المحتمل أن يتزايد تأثير اللغويات العصبية على المشهد الثقافي الأعم في السنوات القادمة. قد تكون اللغة هي أحد جوانب العقل البشري القليلة التي تحظى بفرصة جيدة لتكون قابلة للميكنة في إطار خوارزمي. ويمكن للأبحاث التي تجري على اللغة في الدماغ أن تخبرنا إلى أي مدًى نُعَد نحن البشر (من بين أشياء أخرى) آلات مفكرة. ويمكن أيضًا أن تكون اللغة وسيلة سهلة ومثمرة لاستكشاف إشكالية العقل والجسد الفلسفية القديمة: كيف يمكن للعمليات العقلية أن تنبثق من الآليات العصبية الحيوية للمخ؟ قد يكون من الأسهل معالجة هذه المشكلة، ومن ثَم ربما تستحق جهودًا أكبر على المدى القصير، من خلال التركيز على دراسة اللغة مقارنة بالوعي مثلًا، أو الكثير من القدرات المعرفية الأعلى التي جذبت انتباه الفلاسفة على مدى قرون.