الفصل الثاني

تعيين اللغة في زمن الدماغ

يحدث الكلام بصورة لحظية. فنحن لا نمر بفارق زمني أو فجوة زمنية بين انتوائنا قول شيء وقوله فعليًّا، وبين سماع أو رؤية ما يقوله شريكنا في الحديث وفهمنا لمعنى ذلك.1 لكن كل شيء يحدث، يحدث في جزء من الوقت. وإنتاج اللغة وفهمنا لها ليسا استثناءً من ذلك. إلا أن اللغة تحدث في نطاقات زمنية أصغر بكثير مما يختبره الملاحظون من البشر في الأحوال العادية، وهو ما يمكن أن نطلق عليه «زمن الدماغ». يشهد الدماغ عدة عمليات معقَّدة تتم في الوقت نفسه في نطاقات زمنية ترتيبها من ١٠ إلى ١٠٠ ملي ثانية (١ / ١٠٠، إلى ١ / ١٠ من الثانية). لذا من المهم استخدام أساليب تتمتع بما يكفي من الدقة الزمنية لدراسة اللغة أثناء إنتاجها في وقتها.

ما الذي يرغب علماء اللغويات العصبية في معرفته في سعيهم لتحديد توقيت العمليات العصبية الكامنة وراء فهمنا للغة وإنتاجنا لها؟ يمكننا الإجابة عن هذا السؤال باستخدام سباق السرعة على سبيل التشبيه. تقوم المستشعرات أو الكاميرات التي توضع عند خط النهاية بقياس الوقت الذي استغرقه كل عدَّاء للوصول إليه منذ إطلاق مسدس البداية. إن ذلك يخبرنا بمدى سرعة كل عدَّاء. لكن ما نريد (أيضًا) معرفته هو ترتيب وصول العدَّائين إلى خط النهاية. ولكي نحصل على ذلك الترتيب، علينا أن نقارن بين الأزمنة الفردية التي استغرقها كلٌّ منهم من أجل ترتيبهم وتصنيفهم من الأول إلى الأخير. حتى لو أضفنا ثانية واحدة مثلًا لزمن كل عدَّاء، فسيظل ترتيب الوصول كما هو تمامًا، وإن كانت الأرقام الفردية ستتغير بالطبع. نحن نطبِّق مبدأً مشابهًا حين ندرس اللغة في زمن الدماغ. فالترتيب الزمني النسبي للعمليات اللغوية أهم من توقيت حدوثها المطلق نفسه، وإن كنا في حاجة لمعلومات عن الأخير لنخرج باستنتاجات بشأن الأولى. فهل حدثت العملية أ قبل العملية ب، أم العكس، أم حدثتا في آنٍ واحد معًا؟ في اللغويات العصبية، غالبًا ما نحاول الإجابة عن أسئلة من هذا النمط العام (وأقدم أمثلة على ذلك لاحقًا). لكن لماذا نعير الأمر اهتمامًا؟

إن العقل البشري آلة حاسوبية سريعة بما يكفي لمعظم المهام التي تتعلق بالتكيف أو البقاء بالنسبة إلى الكائن الحي، وإلا فربما لم نكن لنوجد هنا الآن لنقصَّ هذه القصة. لكن غالبًا ما تكون أجهزة الكمبيوتر الرقمية أسرع في كثير من المهام التي تتطلب تحليلًا للخوارزميات، والتي تضم جوانب من عملية معالجة اللغة.2 أما ما يميز المخ — وتحديدًا المخ البشري — فهو بنيته: الكيفية التي تتداخل بها العمليات المختلفة معًا — بالتتابع أو بالتوازي — بحيث يتم التعامل مع المعلومات بكفاءة، ويمكن نقلها أو ترجمتها بسهولة عبر وحدات النظام أو مكوناته، بدءًا من الإدراك وحتى اتخاذ إجراء، والعكس، من خلال التفكير المنطقي. لو قلت لك: «صبَّت لنفسها كوبًا من القهوة وغادرت الحجرة»، فعلى الأرجح أنك ستفهم أنها غادرت الحجرة «حاملة كوبًا من القهوة». أنت لا تترجم إشارات الكلام إلى معنًى مفهوم فحسب؛ بل أيضًا تستنتج المعنى المقصود، على الرغم من أنني لم أصرِّح قَط بأن كوب القهوة غادر الحجرة معها. إن البشر يتسمون ببراعة استئنائية في تفسير المعلومات المعطاة بفاعلية، بل وبصورة إبداعية، بينما الآلات أقل مهارة في ذلك بكثير. لا يمكن أن يكون ذلك مسألة سرعة، أو قدرة حسابية، أو مسألة بيانات؛ لأن أجهزة الكمبيوتر تستطيع تسخير هذه الأشياء أكثر منا. بل هو نتاج للبنية التي وهبها التطور لأدمغتنا. والحصول على بيانات تجريبية يمكن أن تكشف التسلسل الفعلي للعمليات اللغوية لهو أحد أساليب تمحيص ودراسة تلك البنية الأكثر تعقيدًا على الإطلاق.

جهد المخ المرتبط بحدث

حتى وقت ليس ببعيد، كان باستطاعة الباحثين دراسة التوقيت النسبي للعمليات الإدراكية بصورة غير مباشرة فقط، وذلك من خلال قياس أزمنة الاستجابة السلوكية، وهو مجال يُعرف بقياس الوقت العقلي.3 يمكن، على سبيل المثال، إثبات أن قراءة جمل تشتمل على تحويلات نحوية (من المبني للمعلوم إلى المبني للمجهول، أو من الإثبات إلى النفي) يستغرق وقتًا أطول بنحو ثانية واحدة من قراءة الجمل المثبتة المبنية للمعلوم.4 وقد يخبرنا هذا بشيء عن اللغة (وهو أن بعض التراكيب في واقع الأمر أكثر تعقيدًا من غيرها)، أو بشأن القواعد النحوية الذهنية (وهو أنها تستخدم شيئًا كالتحويلات على سبيل المثال). لكنها لا تخبرنا بالكثير عن بنية اللغة في العقل. وعلى الرغم مما يتمتع به كثير من أبحاث قياس الوقت العقلي من براعة وتميُّز، فإن أوقات الاستجابة السلوكية ليست الأدوات المناسبة للتعامل مع المسائل الجوهرية في مجال اللغويات العصبية.
تُعَد جهود المخ المرتبطة بحدث، التي التقينا بها في الفصل الأول، طريقة أكثر حساسية وفاعلية للتصدي لأسئلة بشأن المدة الزمنية التي تستغرقها العمليات اللغوية. ففي تجربة نموذجية من تجارب الجهد الدماغي المرتبط بحدث، تُقدَّم مثيرات صوتية أو مرئية (كلام أو نص) محكومة بدقة إلى أحد المشاركين بينما يتم تسجيل التخطيط الكهربي للدماغ من عدد من الأقطاب الكهربائية الموضوعة على رأس الشخص، الذي عادةً ما يكون مغطًّى بغطاء مطاطي (انظر الشكل ٢-١). يتم تضخيم إشارات كهربية الدماغ، وعزل الضوضاء من خلال أخذ متوسطات لعدد الإشارات المسجلة بناءً على تكرار المثير نفسه عدة مرات. يكشف هذا الإجراء تغير الجهد الكهربي في تخطيط كهربية الدماغ، والذي يحدث في فترات استجابة زمنية ثابتة منذ بداية عرض المثير، فيما يُسمى بنشاط مغلق زمنيًّا، وتلك التغيرات في الجهد الكهربي هي الجهود المرتبطة بحدث. تظهر إشارة الجهود المرتبطة بحدث في شكل تسلسل من قمم وقيعان (انظر الشكل ٢-١)، وتُسمى مكونات الجهود المرتبطة بحدث،5 وتكون الاستجابات الزمنية فيها (التي تقاس بالملي لكل ثانية، واختصارها ملي/ثانية أو ملي ثانية) وكذلك سعتها (بالميكروفولت، واختصارها μV) هي المتغيرات الأساسية ذات الأهمية. قد يتساءل المرء ما إن كان تعديل المثيرات اللغوية بطرق معينة (على سبيل المثال، من خلال إدخال أخطاء نحوية أو كلمة غير متوقعة في السياق؛ انظر الفصل الأول) يؤثر على زمن الاستجابة لبعض مكونات الجهود المرتبطة بحدث أو سعتها. ويمكن من خلال التصاميم التجريبية الذكية عزل مكونات الجهود المرتبطة بحدث، والتي تتفاوت استجابة للتغيرات التي تطرأ على أحد جوانب المثير دون الجوانب الأخرى. وإذا أمكن أيضًا ربط عملية لغوية واحدة بالتغير المستخدم في المثير، فيمكن اقتراح رابط بين العملية اللغوية وإشارات الجهود المرتبطة بحدث التي جرى رصدها، مما يؤدي إلى تعيين فعال للغة في زمن الدماغ.
fig3
شكل ٢-١: جهود المخ المرتبطة بحدث. أعيدت طباعته بتصريح من إل أوسترهاوت، وجيه مكلافلين، وإم بيرسيك، «جهود المخ المرتبطة بحدث واللغة البشرية»، دورية «تريندز إن كوجنيتيف ساينسيز١» (١٩٩٧): ٢٠٣–٢٠٩.
ينبثق كثير مما نعرفه عن توقيت العمليات اللغوية من تجارب الجهود المرتبطة بحدث، وإن توافر كثير من الأساليب الأخرى لقياس نشاط المخ آنيًّا، من بينها تخطيط مغناطيسية الدماغ، وتخطيط كهربية الدماغ داخل القشرة، وتخطيط كهربية الدماغ داخل الجمجمة، وأساليب أخرى. علاوة على ذلك، يمكننا الآن تطبيق الإجراءات المتقدمة لتحليل البيانات حتى على بيانات تخطيط كهربية الدماغ، لاستخراج معلومات كانت ستُفقَد فعليًّا أثناء عملية تحديد متوسط الجهود المرتبطة بحدث. في هذا الفصل، ينصبُّ التركيز على دراسات الجهود المرتبطة بحدث على اللغة في زمن الدماغ، مع النظر إلى بعض من تلك الأساليب الأخرى. إن سبب هذا الاختيار— كما أرجو — ليس الرجعية المنهجية («الأساليب القديمة أفضل من الحديثة»)، بل حقيقة أن أبحاث الجهود المرتبطة بحدث قد أنتجت كمًّا من النتائج لا تزال في انتظار إيجاد تفسير لها. أحيانًا ما يروق لنا في العلم أن نمضي في اتجاه آخر؛ لا لأننا فسَّرنا النتائج «القديمة»، بل لتوافر طرق أو تقنيات حديثة.6 غير أن الأدوات الجديدة لن تجعل البيانات القديمة (أو المختلفة) تتلاشى.

معالجة أصوات الكلام

لكل أشكال اللغة — المنطوقة والمكتوبة والإشارية وما إلى ذلك — أساس فيزيائي، والصوت هو الأساس الفيزيائي للغة المنطوقة. ينطوي الكلام على تعديل الموجات الصوتية بأجهزتنا الصوتية، والعكس بالعكس؛ إذ يتطلب فهم الحديث تحليل الموجات الصوتية المعقَّدة والصاخبة التي تصطدم بطبلة الأذن.7 ويبحث علم الأصوات الأساس الفيزيائي للحديث، وتحديدًا الإشارة الصوتية (الموجات الصوتية) والأعضاء التي تقف وراء إنتاجها وإدراكها. أما علم وظائف الأصوات، في المقابل، فيصف الفئات المجرَّدة التي تشكِّل الحصيلة الأساسية للأصوات المنطوقة في اللغات البشرية. على سبيل المثال، المقطع اللفظي /سا/ يُعَد من منظور علم وظائف الأصوات هو الوحدة الكلامية نفسها، بغضِّ النظر عن الخصائص الصوتية، من جهارة الصوت، والطبقة، والنغمة، والسرعة التي قد يستخدمها المتحدثون على اختلافهم في مختلف المواقف، لإنتاج ذلك المقطع. فما يهم هو السمات الثابتة للمقطع اللفظي /سا/ وكيفية ارتباطه بسمات المقاطع اللفظية الأخرى (المتشابهة معه صوتيًّا)، مثل المقطع اللفظي /صا/. وفي هذا المقام تهتم اللغويات العصبية بإشكاليتين: (١) كيف يحول المخ التمثيلات الحسية للصوت إلى تمثيلات إدراكية للكلام؛ أي كيف يترجم المخ علم الأصوات إلى علم وظائف الأصوات؟ (٢) هل تكون تمثيلات الأصوات الكلامية في المخ مجردة ومقولية؟
هناك ثلاثة مكونات للجهود المرتبطة بحدث ترتبط بدراسة المعالجة الصوتية اللغوية في المخ: المكونان السمعيان N1 وP2 (أو N100 وP200، ويسميان هكذا لأنهما يظهران تباعًا في شكل قمة سالبة عند ١٠٠ ملي ثانية تقريبًا منذ بداية عرض المثير، وقاع موجب عند نحو ٢٠٠ ملي ثانية منذ بداية عرض المثير) والتنافر الصوتي السالب (أو التنافر السالب، أو PMN، أوMMN الموضح في الشكل ٢-١).8 تعكس هذه المكونات في العموم استجابات لا واعية؛ أي إن خصائص المثير تعدِّلها، حتى لو لم نكن نوليها انتباهًا. تُستثار الاستجابة العصبية المركبة N1/P2 تلقائيًّا بكل الأصوات، وليس الأصوات الكلامية فحسب. غير أن سعة الموجة N1 أو زمن وصولها (وكذا سعة وزمن وصول نظيرتها المغناطيسية M1) يمكن أن يُعدَّل بخصائص الكلام. على سبيل المثال، تكون هذه المكونات المبكرة في تخطيط كهربية الدماغ أو تخطيط مغناطيسية الدماغ حساسة تجاه فئة الحروف الصوتية المتحركة، بغضِّ النظر عن طبقة الصوت أو اختلاف المتكلم،9 ويمكن أن تُعدَّل بفعل التغذية الراجعة الخاصة بصوت المتحدث أثناء إنتاج الكلام.10 تبيِّن هذه النتائج أن إدراك الكلام مبني على مقولات صوتية من البداية؛ إذ يستخلص المخ بسرعة كبيرة جدًّا المعلومات الصوتية اللغوية البارزة من الكلام في زمن أقل من ٢٠٠ ملي ثانية على الأرجح. في مثل هذه المرحلة المبكرة من إدراك الكلام، يمكن أيضًا للمخ أن يعرف ما إن كانت المدخلات التي يستقبلها النظام السمعي ذاتية التوليد أم خارجية المنشأ؛ أي ما إن كان الشخص يسمع صوته هو أم صوت شخص آخر يتكلم.
نعرف كذلك أن عملية معالجة الكلام عملية تنبُّئية، كأي عملية إدراكية ومعرفية أخرى في المخ؛ فالمخ لا يقف متفرجًا في انتظار وصول بقية المعلومات، بل يحاول دائمًا أن يتوقع المثير التالي ضمن سلسلة من المثيرات، وكذلك نتائج أفعال الكائن. علاوة على ذلك، هناك أنواع مختلفة من التنبؤ، يمكن أن تعتمد على أنظمة تنبؤ مختلفة في المخ. يمكن أن تعتمد التنبؤات على المعرفة بالخصائص الصوتية القياسية للحديث، أو الأنماط الصوتية المكتسبة في إحدى اللغات، الأمر الذي يجعل حدوث تسلسلات صوتية بعينها أكثر ترجيحًا؛ أي يجعلها متوقعة أكثر من غيرها. وبناءً على هذه المعرفة المسبقة، ومع تكشُّف الحديث آنيًّا، يعمل المخ بنشاط على توليد نموذج للمثير الحالي وتوابعه المحتملة. بعد ذلك تُقارَن تمثيلات الكلام المولفة داخليًّا مع المدخلات الكلامية الفعلية، ويعاد الخطأ (الفارق بين النموذج الداخلي والمدخلات) إلى النظام لتصحيحه مباشرة وعلى الفور.11
يمكن أن يولِّد المخ أيضًا نموذجًا لحظيًّا لسلسلة من المثيرات، بالتركيز على بعض الأبعاد السمعية أو الصوتية البارزة وتجاهل الأبعاد الآخرى. وتشير الدراسات التي أُجريت على التنافر الصوتي السالب أن الدماغ يتعرف على أصوات الكلام المجردة في التسلسلات الاصطناعية — على سبيل المثال في سلسلة من أصوات /t/ غير متطابقة صوتيًّا — وأن بإمكانه أن يحدد سريعًا، في غضون ٣٠٠ ملي ثانية على الأكثر، ما إن كانت الأصوات الجديدة في التسلسل ذاته تنتمي (أو لا تنتمي) إلى المقولة الصوتية اللغوية نفسها؛ على سبيل المثال الحرف الساكن /t/.12
أخيرًا، يمكن أن تنتقل التنبؤات عبر الوسائط الحسية. في المحادثات التي تدور وجهًا لوجه، عادةً ما نرى حركات إخراج الكلام على وجه محدثنا، بل قد نراها حتى قبل أن نسمع أصوات الكلام الذي ينتجه المتحدث. يمكن أن تكون الفجوة الزمنية بين الرؤية والسمع ضئيلة جدًّا، إلا أنها تكون كافية للمخ كي يستخدم هذه المعلومات المرئية لمحاولة التنبؤ بالكلام. ينعكس هذا الأمر في الجهود المرتبطة بحدث في شكل تغيرات في الاستجابة N1/P2 التي يستحثها الكلام، حيث يمكن التنبؤ بالكلام بناءً على المدخلات المرئية التي سبقته.13 إن معالجة الكلام عملية مقولية وتنبئية ومتعددة الأنماط والأساليب منذ اللحظة الأولى فيها.

معالجة معاني الكلمات في السياق

بالعودة إلى مسألة الترتيب الزمني لعمليات المعالجة اللغوية في الدماغ، لا نجد غرابة في أن تكون أولى العمليات التي تخلِّف أثرًا في إشارات الجهود المرتبطة بحدث أثناء إدراك الكلام هي العمليات الصوتية اللغوية. لكن ما الذي يأتي بعدها؟ تُدمَج الأصوات الفردية بعضها مع بعض حتى يتم إدراك كلمة ذات معنًى؛ على سبيل المثال، تسلسل الوحدات الفونولوجية /م وز ة/ يُدرَك على أنه كلمة «موزة». وفي داخل دفق الأصوات التي تشكِّل كلمة فونولوجية أو كلمة ذات مدلول صوتي، هناك دائمًا مرحلة (يُطلَق عليها اسم مرحلة التعرف) قد تسبق آخر وحدة صوتية، تصبح عندها ماهية الكلمة واضحة (أتطرق إلى تعرف الكلمة في الفصل السابع). فحين نجد كلمة في دفق الكلام، تحدث عمليات مختلفة تمامًا؛ إذ تفسح المرحلة الإدراكية من عملية معالجة اللغة المجال أمام المرحلة المعرفية من العملية ذاتها. فتنشط المعلومات المعجمية عن البنية الداخلية للكلمة (هل هي الكلمة المفردة «موزة»، أم صيغة الجمع «موز»؟) وخصائصها النحوية (هل هي اسم أم صفة؟) ومعناها. وعادةً ما يتم الوصول إلى هذه المعلومات بسرعة شديدة وعلى نحو متوازٍ. غير أن الهدف من معالجة الكلام واللغة هو إضفاء معنًى على المدخلات، وليس إجراء تحليل نحوي كامل ومفصَّل، ما لم يكن الموقف يتطلب ذلك. فالمخ يحاول حوسبة المعنى بأسرع ما يمكن، حتى لو كانت المعلومات المتاحة عن البنية الداخلية للكلمات والجمل الواردة بها هذه الكلمات معلومات جزئية فحسب.

إن سعة مكون الجهود المرتبطة بحدث N400 (انظر الشكل ٢-١) حساسة تجاه مدى ملائمة كلمة معينة، تعمل كمثير، للسياق اللغوي أو غير اللغوي السابق لها. هبْ أنك تسمع أو تقرأ جزءًا من جملة يقول: «دهن خبزه الدافئ ﺑ …» يتبعها كلمة تلائم السياق تمامًا مثل كلمة «زبد»، أو كلمة لا تلائمه مثل كلمة «جوارب». ستكون سعة الاستجابة N400 أكبر في الحالة الثانية، وكأن المخ قد اضطُر إلى بذل مزيد من الجهد ليعالج الكلمة الأقل ملائمة أو أرجحية. لكن الاستجابة N400 ليست الإشارة الداخلية التحذيرية للمخ؛ فهي ليست استجابة قاطعة قد تحدث أو لا تحدث تنتج عن طريق رصد شذوذ أو انتهاك للملاءمة الدلالية أو التوقع الدلالي. إنما هي استجابة عصبية متدرجة لخصائص المثير المتغيرة باستمرار، مثل الملاءمة الدلالية والافتراض الدلالي وغيرهما.14 على سبيل المثال، بالنظر إلى جزء الجملة «أخذ رشفة من …»، ستكون سعة الاستجابة N400 أكبر لكلمة «محطة إرسال»، وأقل قليلًا لكلمة «شلال»، وأقل أكثر لكلمة «زجاجة».15 في عموم الأمر، لا يبدو أن الاستجابة N400 تولي اهتمامًا لما إذا كان السياق السابق منظمًا بأي شكل — منطقيًّا كان أو نحويًّا على سبيل المثال — أو حتى لما إذا كان السياق كلامًا أو لغة أو شيئًا آخر مغايرًا تمامًا، ما دامت المعلومات المعجمية موجودة فيه ومتوافرة لمعالجة الكلمات الواردة الجديدة. فقد أثبتت الأبحاث على الاستجابة N400 أن المعنى ينشط بمجرد إدراك الكلمة، وأن عملية التنشيط هذه حساسة للمعلومات المتاحة بالفعل من السياق.

إن الهدف من معالجة الكلام واللغة هو إضفاء معنًى على المدخلات، وليس إجراء تحليل نحوي كامل ومفصَّل.

يمثل تدرج الاستجابة N400، من منظور اللغويات (علم دلالات الألفاظ)، لغزًا؛ فما معنى الكلمة إن كان المعنى ينشط بصورة ديناميكية، بل ربما حتى بصورة احتمالية، ويعتمد على ملاءمة المعنى للسياق؟ لن أحاول الإجابة عن هذا السؤال هنا، عدا أنني سأنوِّه إلى أنه ليس بمقدور كل النظريات الدلالية شرح هذه الحقيقة بالقدر نفسه من السهولة. وتُقر اللغويات العصبية بأن الاكتشافات على مستوى العمليات والبنى الدماغية يمكن أن تشكل النظريات اللغوية، وربما تساعد في الاختيار من بين نظريات بديلة.16 وفي مجال اللغويات العصبية نفسه، يدور الجدال حول ما تعكسه الاستجابة N400: هل تعكس عملية تنشيط فحسب (أو عملية «استرجاع دلالي» المستمد من الاستعارة الحاسوبية)، أم تعكس أيضًا دمجًا لمعنى الكلمة في تمثيل للسياق؟17
لا يوجد إجراء واحد من إجراءات قياس النشاط الدماغي يتيح وصولًا كاملًا للديناميكيات العصبية الكامنة وراء ذلك. وهذا يعني ضمنيًّا أن الاستجابة N400 يمكن أن تقدِّم فقط صورة جزئية لعملية معالجة المعنى في زمن الدماغ. وتُظهر الأبحاث التي أجريت باستخدام تخطيط مغناطيسية الدماغ أن الاستجابة N400 هي أحد نواتج نشاط عدة مصادر عصبية ومكونات فرعية مختلفة؛ فما يبدو بسيطًا هو في واقع الأمر معقد.18 علاوة على ذلك، لوحظت استجابات عصبية موثوقة أخرى، ذات صلة بعلم الدلالات، تسبق الاستجابة N400 أو تتبعها في إشارات تخطيط مغناطيسية الدماغ أو تخطيط كهربية الدماغ.19 فتشير الصورة المنبثقة إلى أن المخ من اللحظة التي يدرك فيها الكلمة ولمدة ما لا تقل عن نصف ثانية، ينخرط في عملية تنشيط المعنى؛ إذ يربطه بالمعرفة المختزنة فيه، ويحدد ما تشير إليه كلمة ما في السياق المحدد.

معالجة البنية النحوية

تبين دراسات فهم اللغة المنطوقة باستخدام تخطيط كهربية الدماغ وتخطيط مغناطيسية الدماغ أن الخصائص الصوتية للكلمات تُعالَج بسرعة كبيرة جدًّا خدمة لعملية التعرف المعجمي. فما إن يحدد المخ كل كلمة في المدخلات، حتى يمضي في تنشيط معانيها واستخدام تلك المعلومات لاستنتاج المعنى المراد. وعادة ما تكون عمليات المعالجة الدلالية تلك معقدة وأبطأ وتستغرق فترات زمنية أطول، وتشرِك عدة آليات مختلفة في مناطق متعددة من الدماغ. فما دور النحو في هذا؟ يعتقد علماء اللغة أن القواعد النحوية للغة ما — الصرف والبناء — ضرورية لإنشاء المعاني بالطريقة الصحيحة. وحتى لو خففنا هذا الزعم بعض الشيء وأقررنا بأن القواعد النحوية تفيد على الأقل في استعادة المعنى، يظل السؤال قائمًا: كيف تتكشَّف المعالجات النحوية في زمن الدماغ؟

كانت أولى موجات الجهود المرتبطة بحدث ذات الصلة بالقواعد النحوية هي الموجة P600 (حيث ترمز P إلى القطبية الموجبة عند قمتها، والرقم ٦٠ يرمز إلى ذروة الاستجابة التقريبية بالملي ثانية)، أو التحول الموجب النحوي (SPS) (انظر الشكل ٢-١).20 وقد رصِدت موجة P600 أكبر استجابة للشذوذات النحوية (أي تراكيب لن تجيزها أو تولِّدها أي قواعد نحوية)، وأيضًا لجمل معقَّدة أو ملتبسة نحويًّا عند نقاط معيَّنة أثناء عملية المعالجة. فجزء من جملة ما يمكن أن يكتمل إما كجملة بسيطة مبنية للمعلوم (The Broker Persuaded the Man to Sell the Stock وتعني «أقنع السمسار الرجل ببيع السهم») أو كجملة موصولة مختزلة (The Broker Persuaded to Sell the Stock Was Sent to Jail بمعنى «السمسار الذي اقتنع ببيع السهم أرسل إلى السجن») حيث لا يعبر فيها عن الاسم الموصول Who والفعل المساعد Was، وأصلها: (The Broker Who Was Persuaded to Sell the Stock Was Sent to Jail). يبدو تحليل الجملة الأخيرة نحويًّا أصعب، وقد وجِدت بالفعل موجة P600 أكبر استجابةً للعلامة المصدرية to، مقارنة بتراكيب مشابهة مع أفعال متعدية أو لازمة (على سبيل المثال The Broker Persuaded to في مقابل The Broker Hoped to). يمكن إكمال هذين الجزأين من الجملة بشكل يحافظ على تحليل الجملة الموصولة المختزلة: The Broker Persuaded to Sell the Stock Was Sent to Jail (بمعنى «السمسار الذي اقتنع ببيع السهم أرسل إلى السجن») في مقابل The Broker Hoped to Sell the Stock Was Sent to Jail (بمعنى «الرجل الذي أراد بيع السهم أرسل إلى السجن») التي من الواضح أنها غير صحيحة نحويًّا في الإنجليزية. وقد رصدت موجة P600 أكبر عند الكلمة التي اتضح عندها أن الجملة الثانية ليست سليمة نحويًّا؛ إذ تسنى للقراء محاولة تخمين الكلمة غير الصحيحة، كشكل من أشكال التدريب.21 يبدو أن الموجة P600 تعكس الاستيعاب الداخلي للمخ للصياغة النحوية السليمة (ما هو صحيح نحويًّا وما هو غير صحيح) وللتعقيد النحوي (ما يتطلب مزيدًا من المعالجة). وتتغير هذه المدركات ديناميكيًّا مع تكشف بقية الجملة التي تمثل المثير.22
هل من الصحيح أساسًا أن نتحدث بشأن «التصورات الداخلية» للقواعد النحوية؟ ألا ترد البنية النحوية للكلمات والجمل مصحوبة بمدخلات؟ يُعرَّف الصواب النحوي بأنه سمة موضوعية للجمل. وفي نظريات النحو وبناء الجملة، بمجرد أن يتحدد التكوين الشكلي والتمثيلات الأساسية، يمكن للمرء أن يحدد (تأسيسًا على معايير موضوعية) ما إن كانت الجملة صحيحة نحويًّا أو غير ذلك. من المفترض أن الجملة The Broker Hoped to Sell the Stock Was Sent to Jail غير صحيحة نحويًّا بالنسبة لأي نظرية نحوية مقبولة في اللغة الإنجليزية. لكن المخ لا يتفق دائمًا مع طرق تصنيف نظريات النحو والبناء للجمل؛ إذ يمكن للمخ أن ينظر إلى جمل صحيحة نحويًّا باعتبارها غير صحيحة والعكس صحيح. ويعود السبب في هذا جزئيًّا إلى أن أشكال الجمل ومعانيها لا ترد مصحوبة بمدخلات؛ فما يُعطى هو مجرد موجات صوتية ترتطم بأغشية طبلة الأذن أو فوتونات ترتد من شبكية العين. ويحدد المخ البنى النحوية استجابة لمثيرات حسية بغرض محدد، ألا وهو استرجاع المعنى المقصود الأكثر منطقية.
ثمة فرضية عمل تنص على أن ﺑ «إمكان» المخ توليد تفسيرات لكل كلمة في سلسلة المدخلات، مسترشدًا في كل خطوة بمعرفته بالقواعد النحوية. غير أن المخ لا يفعل ذلك بالضرورة باعتباره أسلوبًا نمطيًّا يتبعه. عوضًا عن ذلك، يعالج النظام كل كلمة معجمية (أسماء، أفعال، صفات، وغير ذلك) في محاولة لإعادة إنشاء المعنى الأكثر أرجحية للعبارة أو الجملة، في ضوء المعلومات الخلفية أو السياقية. تتجلى هذه العملية جزئيًّا من خلال موجة الاستجابة N400 ؛ فالكلمات المعجمية التي لا تتلاءم دلاليًّا مع السياق، أو المعرفة المسبقة، أو الجزء السابق من الجملة يمكن أن تزيد سعة الموجة N400. بعد ذلك يمكن أن يقارن المخ التمثيلات الدلالية الناتجة مع تحليل لسلسلة المدخلات، ليتحقق ما إن كان المعنى المعاد إنشاؤه يتسق مع التركيبة النحوية للجملة. فإن لم يكن كذلك، فقد تُستثار الاستجابة P600. ويترتب على ذلك إمكانية إنتاج الاستجابة P600 أيضًا حين تكون الجملة سليمة نحويًّا لكنها لا تتسق مع المعنى الذي توحي به الكلمات المعجمية. على سبيل المثال، The hearty Meal Was Devouring the Kids (بمعنى «الوجبات الدسمة تلتهم الأطفال») هي جملة مقبولة من حيث الصياغة النحوية؛ فلا توجد نظرية واحدة من نظريات النحو يمكن أن تسمها بأنها غير صحيحة نحويًّا. تبدو المشكلة هنا أن الفعل «يلتهم» لا يتوافق مع الفاعل الجامد؛ فالوجبات الدسمة لا تلتهم الأطفال ولا أي شيء آخر. ولو أخذ المخ القواعد النحوية باعتبارها أمرًا مسلمًا به، فسيعالج هذه الجملة حينها باعتبارها شاذة على المستوى الدلالي، وينبغي حينها أن نرى الاستجابة N400 لدى سماع كلمة «يلتهم». لكن تبيَّن أننا نجد الاستجابة P600 عوضًا عن ذلك.23 فلمَ حدث هذا؟ التفسير الوارد لما يحدث في هذه الحالة أن المخ يحسب معنًى محتملًا للجملة حيث يلتهم الأطفال الوجبة، متجاهلًا بصورة مؤقتة الإشارات النحوية (اللاحقة ing)، ويحدث هذا في إطار الاستجابة N400. غير أن المخ سرعان ما سيرصد تضاربًا بين هذا «التفسير الجذاب» والبنية النحوية الفعلية للمدخلات؛ وينعكس هذا من خلال الاستجابة P600. أي إننا أمام عملية بناء دلالي بالاقتران بين الدال والمدلول (N400) تتبعها عملية تدقيق داخلية للواقع تستخدم المعلومات النحوية المستقاة من المدخلات بصورة فعالة (P600).

إحدى وظائف المعالجة النحوية تقييد التمثيلات الدلالية التي يحسبها المخ ذاتيًّا بناءً على معاني الكلمات المعجمية أو كلمات المحتوى.

إذا كان هذا الرأي صحيحًا، فهذا يعني أن القواعد النحوية لا ترشد بالضرورة عملية التفسير الدلالي خطوة بخطوة؛ فقد لا تكون القواعد النحوية سابقة للدلالات وتشكلها. وفي ذلك قلب للقاعدة الشهيرة لتصبح: «الدلالات تأتي أولًا، ثم القواعد النحوية.»24 فمن وظائف المعالجة النحوية تقييد التمثيلات الدلالية التي يحسبها المخ ذاتيًّا بناءً على معاني الكلمات المعجمية أو كلمات المحتوى. وبناءً على ذلك، ستكون القواعد النحوية آخر مراحل عملية معالجة اللغة، حسبما يشير زمن الاستجابة للموجة P600. وهذا هو الاستنتاج الذي يمكن استخلاصه من دراسات الجهود المرتبطة بحدث بشأن الترتيب النسبي للعمليات اللغوية. بالطبع قد تكون هناك عمليات نحوية مبكرة أيضًا. في واقع الأمر، تُظهر أبحاث الجهود المرتبطة بحدث أن انتهاك القيود النحوية على مستوى الكلمات (على سبيل المثال، شكل الكلمة أو فئتها) يمكن أن يعدِّل مكون الحيود السالب المبكر في المنطقة الأمامية اليسرى من الدماغ، بحيث يتوافق زمنيًّا على نحو تقريبي مع الجانب الذي يرتفع فيه الجهد من الموجة N400.25 لكن لا توجد أدلة على أن التركيب النحوي للعبارات والجمل يعالج أولًا في الدماغ، بما يجعل له الأسبقية في التحليل ويجعله يشكل التفسير الدلالي.26 غير أن النحو يمكن أن يضطلع بدور بارز في إنتاج اللغة. في هذا الدور، يمكن للنحو أن يقوم مقام واجهة اتصال ضرورية بين المعنى والصوت، ليعيد بذلك اكتساب الوظيفة الأساسية التي يضطلع بها في النظريات اللغوية. ولم يصدر الحكم بعد بالنسبة إلى كثير من المسائل الأخرى في مجال اللغويات العصبية، وهذه المسألة أيضًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤