الفصل الثالث

تعيين اللغة في حيز الدماغ

تهدف اللغويات العصبية إلى تتبع جذور اللغة في الدماغ. وكخطوة تمهيدية، قد يتطلب هذا تعيين العمليات اللغوية في زمن الدماغ وحيزه. فما هي شبكات الدماغ المسئولة مسئوليةً مباشرة عن العمليات اللغوية؟ ومتى تشارك تلك الشبكات في مهمة بعينها؟ ثمة استعارة تشبيهية مشهورة ظهرَت في مطلع العقد الأول من هذه الألفية تشبه النشاط القشري ﺑ «فيلم سينمائي». لو أن بإمكاننا إعادة إنشاء ذلك النوع من الصور الزمكانية التفصيلية لما يحدث في عقول الناس حين ينطقون اللغة أو يفهمونها أو يتعلمونها، فسنكون في موضع يُخول لنا الإجابة عن أعمق أسئلة اللغويات العصبية. أليس كذلك؟

كتب جيري فودور مقولة شهيرة نصُّها: «إن كان نشاط المخ يحدث في حيز فعلًا، فإنه يحدث في مكان ما شمالي الرقبة. بمَ تفيد معرفة كم يبعد هذا المكان شمالًا؟»1 في واقع الأمر، قد لا يكون واضحًا ما نعلمه فعلًا حين نعلم أن جزءًا معينًا من المخ «يضيء» حين ينجز الناس مهمة ذهنية. لكن ما هذا إلا لأن من السهل كثيرًا أن نتسرع ونفترض أن خريطة زمكانية لنشاط المخ هي في حد ذاتها الإجابة التي نبحث عنها. لكنها ليست كذلك. إن الهدف الحقيقي من اللغويات العصبية هو التطرق إلى الأسئلة المتعلقة بالبنى والآليات. وإمكانية التطرق إلى هذه الأسئلة من دون الإجابة على الأسئلة المتعلقة بتوقيت ومكان حدوث العمليات اللغوية أولًا أمر مستبعد. فتعيين موقع حدوثها خطوة أولى ضرورية.

في الفصل الثاني أوضحت الأهمية البالغة للإجابة عن الأسئلة المتعلقة بتوقيت حدوث العمليات اللغوية. فحين نعرف ما إن كانت العمليتان «أ» و«ب» تحدثان بالتوازي أو بالتسلسل، وبأي ترتيب، فإننا نكتسب بذلك معلومات بشأن البنية التي يقوم عليها النظام، وهي خطوة أولى نحو فهم النظام من حيث الأسباب والآليات. لكن ماذا عن الأسئلة المتعلقة بموقع حدوثها داخل المخ؟ لننظر إلى العملية اللغوية «أ»: ما الذي نتعلمه من اكتشافنا أن المنطقة أو الشبكة «ج»، مثلًا، تنشط بفعل العملية «أ»، وليس المنطقة «د» أو المنطقة «و»؟ لن نتعلم الكثير، إن كنا لا نعلم إلا القليل بشأن وظائف المنطقة «ج»، لكننا قد نتعلم أشياء أكثر إن كنا نعرف المزيد عن الأدوار التي تضطلع بها المنطقة «ج» في العمليات الإدراكية الأخرى. لذا، على سبيل المثال، قد نكتشف أن الأسماء التي تشير إلى أشياء جامدة، مثل «كرة» أو «شوكة»، تسبب استثارة جزئية للمناطق نفسها التي تنشط عند رؤية تلك الأشياء أو عند استخدامها. هل من المحتمل أن تكون معاني الكلمات قائمة على المعرفة المفاهيمية والواقعية بالشيء؟ تلك هي نوعية الروابط التفسيرية التي يمكن طرحها واختبارها باستخدام بيانات تصوير الدماغ.

تدخل كل منطقة من المناطق الأرقى في المخ على الأرجح في عدة وظائف عقلية. وهذا ما يجعل نهج التعيين المكاني للغات واعدًا بصورة خاصة. فيمكننا معرفة الكثير عن معالجة اللغة في المخ فقط من خلال دراسة الوظائف الأخرى التي تؤديها المناطق القشرية التي ترتبط في العادة بالكلام واللغة، مثل منطقة بروكا أو منطقة فيرنيك (انظر الفصل الأول). بعد ذلك يمكننا محاولة وضع قاسم مشترك بين الوظائف المختلفة التي تنفِّذها المنطقة أو الشبكة «ج»، ثم نحاول تفسير العمليات اللغوية في إطار معالجات تلك القواسم المشتركة الأساسية. وهذا الأمر يستبعد احتمال وجود مناطق في المخ ذات تخصص وظيفي ومناطق مخصصة للغة؛ أي مناطق لا تتولى إلا أمر اللغة دون أي شيء سواها. والأمر ليس كذلك. لقد ظهرت اللغة حديثًا (بعض الشيء) في تاريخ التطور البشري، ربما من خلال معالجة دوائر عصبية موجودة مسبقًا على الأرجح.2 وهذا تحديدًا ما يجعل مشروع التعيين المكاني للدماغ مثيرًا للغاية وجديرًا بالجهد. فلو كانت هناك منطقة واحدة أو بضع مناطق من الدماغ مخصَّصة بالكامل للحديث أو اللغة، لما عرفنا الكثير من اكتشافنا لموقعها بالتحديد في المخ. في الواقع، ما كان ليفيدنا في شيء معرفة «كم يبعد شمالًا».

يمكننا معرفة الكثير عن معالجة اللغة في المخ فقط بدراسة الوظائف الأخرى التي تؤديها المناطق القشرية التي ترتبط في العادة بالكلام واللغة.

التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي

يمكن أن نستمد معلومات عن الأجزاء النشطة من الدماغ من الاختبارات الفسيولوجية العصبية الشائعة، مثل تخطيط كهربية الدماغ. لكن في تلك الحالات، عادةً ما تكون هناك مشكلة عكسية بغيضة تتمثل في وجود عدد لا يُحصى رياضيًّا من أشكال المصادر العصبية في المساحة الثلاثية الأبعاد من الدماغ، يمكن أن تكون مسئولة عن التأثيرات أو التغيرات الكهرومغناطيسية — الجهود أو المجالات — التي تُرصد على الأقطاب الكهربائية أو المستشعرات في المساحة السطحية الثنائية الأبعاد. تخيَّلْ قبة ورقية شفافة يوجد تحت سطحها بعض المصابيح التي تضيء وتطفئ مع مرور الوقت. ثمة بقعة ضوء صغيرة مستديرة على القبة يمكن أن تكون نتاج انعكاس هالة ضوئية منتشرة صادرة من مصباح قريب منها، أو حزمة ضوئية أضيق من مصدر ضوء أقوى يقع على مسافة أبعد، أو يمكن أن تكون التأثير المجمع لعدة حزم ضوئية متقاربة. هنا يكون تحديد المصدر المادي لبقعة الضوء أمرًا صعبًا. فنطاق الإجابات المحتملة شاسعة. وهذا ما يجعل تحديد موقع مصدر التغيرات في تخطيط كهربية وتخطيط مغناطيسية الدماغ أمرًا صعبًا، ما لم يكن هناك توقعات مسبقة بشأن المكان الذي يمكن أن تتولد فيه هذه التغيرات في الدماغ. على سبيل المثال، تتولد الجهود السمعية الأولية المرتبطة بحدث في القشرة السمعية. وهذه المعلومة تقيِّد مجال البحث لينحصر في عدد أقل من الإجابات. لكن بالطبع كلما زادت المعلومات حول المصادر القشرية الممكنة، قلَّت الاستفادة من إثبات أن تغيرًا ما في تخطيط كهربية أو تخطيط مغناطيسية الدماغ على فروة الرأس يتمركز فعلًا في هذه المنطقة. إن اكتشاف المخططات المكانية للعمليات المعرفية — في مقابل العمليات الإدراكية والحركية — أمرٌ ممكن لكنه صعب عمومًا باستخدام بيانات تخطيط كهربية ومغناطيسية المخ.

تسمح أدوات مثل التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي والتحليل الطيفي الوظيفي (التحليل الطيفي بالأشعة تحت الحمراء القريبة) لعلماء الأعصاب بقياس نشاط المخ مباشرة في حيز الدماغ الثلاثي الأبعاد، ليقضوا بذلك تمامًا على المشكلة الصعبة، المتمثلة في تعيين نتائج القياسات على الحيز الثلاثي الأبعاد على الأسطح الثنائية الأبعاد لتحديد مصادرها العصبية. إن ما يمكننا قياسه باستخدام التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي ليس النشاط العصبي في حد ذاته، ولا حتى التغيرات الكهرومغناطيسية المرتبطة به — كالمجالات أو الجهود الموضعية أو المنتشرة — بل الأيض العصبي.3 فنشاط الخلية في الدماغ يغذَّى بالجلوكوز والأكسجين اللذين يمدها بهما تدفق الدم. ويؤدي النشاط العصبي إلى استهلاك موضعي متزايد للأكسجين. حتى التغيرات الطفيفة التي تطرأ على مستويات الأكسجين في الدم يمكن رصدها في التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي. ففي تجربة نموذجية، يستلقي المشارك في وضع التسطح بداخل ماسح ضوئي بالرنين المغناطيسي (وهو عبارة عن مغناطيس يتم التحكم فيه بواسطة الكمبيوتر) بينما ينتبه إلى المثير وإلى مهمة يؤديها (الشكل ٣-١). تستخرَج صور وظيفية وتشريحية من إشارات رنين مغناطيسي مختلفة على مدار جلسة تجريبية. ويتم الحصول على صور لنشاط المخ في مهمة تجريبية (تشتمل على بعض التلاعب بالمثير) مقارنة بنشاطه في مهمة أساسية. يحسَب الأيض العصبي أثناء القيام بمهام محددة عن طريق طرح النشاط الأساسي (خط الأساس) من النشاط التجريبي، ويمكن إنشاء صور بصرية له عن طريق تراكب الصور الوظيفية الناتجة على الصور التشريحية. تظهر خطط مناطق النشاط تلك في شكل صور ملونة تظهر فيها بعض مناطق الدماغ مضيئة فيما تظهر مناطق أخرى مظلمة. في الواقع، تُعتبر بيانات التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي خرائط مكانية سلسة تسمح لنا بأن نستنتج (بصورة احتمالية وغير مباشرة) أي المناطق كانت أقل أو أكثر نشاطًا في الثواني القليلة التي تلت عرض المثير. وتُستخرج أنواع متنوعة بصورة متزايدة من البيانات من إشارات الرنين المغناطيسي، مما يوفر أدلة وإشارات ليس فقط عن مناطق الدماغ النشطة، لكن أيضًا عن الكيفية التي ترتبط بها تلك المناطق عصبيًّا بعضها مع بعض، وكذلك كيفية تمثيل أنماط التنشيط للمعلومات.
fig4
شكل ٣-١: التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي. المصدر: أعيدت طباعتها بإذن من إي أيه ديو، وبي بانديتيني، وجيه نيتز، ودي ميلر، وبي وينانز، «التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي للمخ البشري»، دورية «جورنال أوف نيوروساينس ميثودز» الطبعة ٥٤ (١٩٩٤): ص ١٧١–١٨٧.

هل توظف اللغة المخ بأكمله؟

كتب عالم النفس والفيلسوف ويليام جيمس في كتابه الكلاسيكي بعنوان «مبادئ علم النفس» (١٨٩٠) يقول: «يعمل المخ بأكمله، بطريقة أو بأخرى، لدى المرء حين يستخدم اللغة.» فهل كان جيمس محقًّا، أم كان في حديثه مبالغة؟ كان جيمس بصدد إصدار نقد لأطروحة التموضع الوظيفي الراديكالية القائلة بأن «ملَكة الكلام» توجد في العقل وفي «مركز للكلام» في الدماغ، وهي فكرة تطرَّقنا إليها في الفصل الأول، صيغت في الأساس على يد جال ودافع عنها بروكا. عرف جيمس من أعمال فيرنيك وآخرين أن قدراتنا على إنتاج الكلام وفهمه ترتكز على شبكات من المناطق القشرية، وليس على مركز واحد. وتضم شبكة الكلام في الدماغ منطقتَي بروكا وفيرنيك، على الترتيب، في القشرتين الصدغيتين العلوية اليسرى والسفلية اليسرى، كما تضم روابط تشريحية بينهما، إلى جانب عدد من المناطق الأخرى التي تساهم بطرق عديدة في الكلام واللغة. نتذكر، على سبيل المثال، أن فيرنيك وليشتهايم أدركا أن المفاهيم أو المعاني تُختزن في أنحاء القشرة الدماغية؛ أي إنها نظام موزَّع بالمصطلحات الحديثة. وإن صح ذلك بالنسبة إلى اللغة المنطوقة، فإنه يصح أيضًا بالنسبة إلى اللغة بصفة عامة، كاللغة المكتوبة، ولغة الإشارة، وما إلى ذلك.

من التحديات التي تواجه الأبحاث القائمة على التصوير أن المهام اللغوية تتسبب في تنشيط أجزاء كبيرة من القشرة المخية الحديثة، بل بعض البنى تحت القشرية الأقدم من القشرة المخية الحديثة بالتعبير التطوري. لقد كان جيمس محقًّا، «بطريقة أو بأخرى»، وتؤكِّد أبحاث التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي هذا عند كل منعطف. تعتمد اللغة على شبكات واسعة النطاق، وذلك لسببين مهمين. أولهما أن اللغة متعددة الوسائط، كما رأينا في الفصل الثاني. فالمدخلات التي نتلقاها أثناء الحديث المباشر نادرًا ما تقتصر على المدخلات السماعية (الكلام)، وكثيرًا ما تشمل المدخلات البصرية. أضف إلى ذلك أن الكلام رغم أنه وسيلة شائعة، فإنها أبعد من أن تكون الوسيلة الوحيدة للتواصل اللغوي. فالنصوص والإشارات نظامان آخران نستخدمهما لتجسيد الأفكار بغرض التواصل. ويمكن لعدة أنواع من الإيماءات أن ترافق الكلام، لتقدم في بعض الأحيان معلومات تضيف محتوًى فعالًا إلى الرسالة المعبَّر عنها لفظيًّا. في العموم، يحدث الخطاب في بيئات حسية غنية، ويتطلب التفاعل التواصلي أن يقدِم كلٌّ من المستمع والمتحدث على اتخاذ إجراءات من نوعيات مختلفة؛ كالتحدث والغناء والإيماء.4 فماذا يعني هذا ضمنيًّا بالنسبة إلى اللغة في حيز الدماغ؟ لا يمكننا أن نعلق آمالنا على اختزال اللغة في الدماغ في شبكة واحدة تنفِّذ عمليات حوسبة مجردة من النوع الذي تتصوره النظريات الشكلية للغة. كذلك توظف اللغة أنظمة حسية وإدراكية (السمعية والبصرية والحسية الجسدية على سبيل المثال)، وأنظمة إجرائية (مثل التحكم التنفيذي والحركي والإدراك الاجتماعي) وأنظمة أخرى غيرها.
النقطة الثانية أننا حتى لو نظرنا إلى الجانب الإدراكي من الأمور فحسب، نجد أن اللغة تستند على أنظمة المعالجة والتحليل بما يتجاوز البنية النحوية (انظر الفصل الأول والثاني). وتلعب العمليات الفونولوجية والدلالية دورًا محوريًّا، إضافة إلى التفكير للتوصل لتفسيرات والتفكير انطلاقًا منها (الاستنتاج المنطقي والبديهي؛ تذكَّر مثال القهوة من الفصل الثاني)، وفحص محتويات التفسيرات (لطرح أسئلة حين ندرك أن ثمة معلومات ناقصة على سبيل المثال)، وكثير من عمليات التعلم والتذكر (كترميز معنى كلمة جديدة وتخزينه) وغير ذلك الكثير. توظف هذه العمليات شبكات لا تنتمي إلى الأنظمة الحسية أو الحركية، لكن عمليات التنشيط تتوزع على نطاق واسع عبر الفصوص الجبهية والصدغية والجدارية.5 ومن الصعب — أو من العبث على حد اعتقاد البعض — أن نحاول وضع خط فاصل بين العمليات الحوسبية اللغوية «الجوهرية» (علم وظائف الأصوات والنحو وعلم الدلالات) والعمليات الداعمة لها، كالاستنتاج والتعلم والتذكر. فثمة فرضية عمل تنص على أن اللغة تعتمد على عدة شبكات دماغية. فهي ليست بنظام مفرد (على عكس الرؤية)، بل نظام يتكون من مجموعة من الأنظمة، يوظف شبكات مختلفة، اعتمادًا على المهمة والمعلومات المقدَّمة والموارد الداخلية المتاحة.

عن الشبكات البريسلفية للغة

هل هناك مجموعة من مناطق الدماغ توظف في فهم اللغة وإنتاجها بغضِّ النظر عن المهمة أو المعلومات المقدَّمة أو الموارد المتاحة، على نحو يُعتمد عليه؟ ثمة شبكة قشرية تنخرط بقوة عبر الظروف المتغيرة في تجارب اللغة قد تستحق لقب «شبكة اللغة». في هذا المقام، من المهم ألا نفكر في إطار مناطق الدماغ الضرورية والكافية للغة. فهذه بالأحرى مسألة تتعلق ﺑ «استمرارية التنشيط»؛ فنحن نسأل إن كانت هناك مجموعة من مناطق الدماغ «تضيء» باستمرار على مدار عدة تجارب مختلفة، وقد يكون من المتوقع أن تنشط أيضًا في التجربة التالية. وقد تبيَّن أن هناك كتلة كبيرة من المناطق القشرية حول شق سيلفيوس — ذلك التلم العميق الذي يفصل الفص الصدغي عن الفص الجبهي — تستوفي هذا الشرط. أحيانًا ما يُطلق على هذا الجزء من المخ «القشرة البريسلفية» أو «الشبكة البريسلفية للغة» (انظر الشكل ٣-٢).6
بعض هذه المناطق تكون أنشط عند الاستجابة للكلام، خاصةً منطقة القشرة السمعية وأجزاءً من التلفيف الصدغي العلوي، ومن بينها منطقة فيرنيك التقليدية. وتشكل هذه المناطق معًا نظامًا يترجم المدخلات السمعية إلى تمثيلات فونولوجية للكلام من خلال استخدام الكلمات الفونولوجية ومكوناتها باعتبارها وحدات التحليل ذات الصلة وكذلك التمثيلات اللغوية (المجردة والمقولية).7 تحوي القشرة الصدغية العليا دوائر كهربية متخصصة في معالجة الكلام المسموع، يبدو أنها منظمة بالطريقة نفسها لدى البشر وبعض أنواع الرئيسيات الأخرى.8 وثمة أدلة متزايدة على أن جوانب مختلفة من المدخلات السمعية — ويتضمن ذلك الكلام (المفهوم) — يجري تحليلها في عدة مناطق فرعية من التلفيف الصدغي العلوي في نصفَي الدماغ كليهما.9 وكان يُعتقد فيما مضى أن منطقة فيرنيك — الجزء الخلفي من التلفيف الصدغي العلوي — تُعد عاملًا حاسمًا في إدراك الكلام وفهمه؛ أي إنها جزء من نظام استقبال الكلام. وقد ألقت دراسات أحدث بظلال الشك على هذه الفكرة. فقد رصِدت عمليات التنشيط التي تحدث استجابة للكلام في أجزاء من القشرة الصدغية العلوية (الشكل ٣-٢) حول القشرة السمعية وأمام منطقة فيرنيك. ويبدو أن هذه المنطقة الأخيرة أكثر تدخلًا في عملية واحدة محددة تؤدي إلى إنتاج الكلام؛ وهي عملية استعادة المادة الفونولوجية من أجل التعبير عنها لفظيًّا.10
fig5
شكل ٣-٢: مناطق الكلام واللغة في القشرة البريسلفية اليسرى. المصدر: أعيد طباعتها بتصريح من بي جيه موناهان، «المعرفة الفونولوجية وفهم الكلام»، دورية «أنيوال ريفيو أوف لينجويستكس ٤» (٢٠١٨): ص ٢١–٤٧.
عادةً ما تنشط الأجزاء الوسطى والخلفية من التلفيف الصدغي الأوسط والتلم الصدغي العلوي استجابة للمثيرات اللغوية السمعية أو المكتوبة أو الإشارية. وأحيانًا ما تمتد عمليات التنشيط تلك إلى الخلف وإلى الأعلى إلى المناطق الصدغية الجدارية، خاصةً منطقة التلفيف الزاوي والفُصَيص الجداري السفلي والجزء الأمامي من الفص الصدغي. بصفة عامة، تنشط القشرة الصدغية الوسطى نتيجة وجود محتوًى (دلالات) أو بنية (البنية النحوية للجملة) في المثير، مع ازدياد قوة التنشيط، كما يحدث على سبيل المثال حين يكون للكلمات عدة معانٍ مترابطة أو غير مترابطة (التجانس أو تعدد المعاني).11 وغالبًا ما تقوم هذه المنطقة من الدماغ بتمثيل المعلومات المعجمية؛ لا سيما المعلومات المتعلقة بالخصائص النحوية والدلالية للكلمات، فيما يرجح أن الأجزاء العلوية والسفلية المجاورة من القشرة الصدغية تعمل باعتبارها واجهات ذات أنظمة فونولوجية وإملائية على الترتيب.12 ينشط التلفيف الصدغي الأوسط الخلفي أيضًا حين يستقبل المتحدثون بلغة الإشارة جملًا لغوية إشارية، مما يشير إلى أن التمثيلات التي تنطوي عليها تلك الجمل غير مرتبطة برموز فونولوجية أو إملائية، ومستقلة عن الشكل الذي تعرض به المعلومات المُستقبلة.13 وتعتبر هذه المنطقة من بين المولدات العصبية للاستجابة N400، وهو ما يتسق مع الفرضية القائلة بأنها تمثل المعلومات الدلالية المعجمية التي يمكن تنشيطها سريعًا لدى التعرف على الكلمة.14 وقد دخلت أجزاء أمامية من الفص الصدغي؛ لا سيما في النصف الأيسر من الدماغ، في معالجة دلالات الكلمات المجردة، وفي أنماط من الدمج المفاهيمي بين الكلمات المعجمية (على سبيل المثال الدمج بين اسم وصفة).15 وهذه النتائج تتسق مع الدور الذي يضطلع به الفص الصدغي باعتباره جزءًا من نظام الذاكرة الدلالية أو التقريرية في المخ، وربما كان له دور مباشر في معالجة وتحليل جوانب التركيب اللغوي والمعنى.
ثمة منطقة أخرى مهمة وظيفيًّا من الشبكة البريسلفية اللغوية، وتُعَد المنطقة «الأهم» حسبما يرى البعض، وهي منطقة بروكا التي غالبًا ما تُعتبر مناظرة للأجزاء الخلفية والوسطى من التلفيف الجبهي السفلي في النصف الأيسر من المخ؛ إذ يتلاقى الجزء الخلفي منها مع باحة بروكا الاعتيادية وتتداخل مع الموضع المتضرر عند مريضي بروكا (انظر الفصل الأول). أحيانًا ما يُستخدم المصطلحان «منطقة بروكا» و«عقدة بروكا» للإشارة إلى كتلة من التلفيف الجبهي السفلي الأيسر أكبر من باحة بروكا. ولا تُستخدم أيٌّ من هذه التسميات باستمرار بصفة خاصة في أدبيات اللغويات العصبية. وكان هذا مصدر لشيء من الالتباس والتناقض في الدراسات المنشورة. ففي النماذج الكلاسيكية للكلام واللغة، بدءًا من فيرنيك وحتى جيشويند وعلماء آخرين من بعدهم (مزيد من التفاصيل في الفصل الرابع)، كان يُنظر إلى باحة بروكا على أنها جزء من الشبكة المسئولة عن إنتاج الكلام، وذهب البعض إلى أنها تدخل في المراحل النطقية التي تسبق إعداد وتنفيذ البرامج الحركية للكلام. وتُعَد باحة بروكا منطقة مثالية لإنتاج الكلام، أيضًا بموجب قربها من فص الجزيرة والروابط الواصلة بينهما، وكذلك القشرة أمام الحركية، التي توفر مدخلات للقشرة الحركية الأولية، ذلك الجزء من الدماغ المتحكم في تنفيذ الحركات الجسدية.16
أكَّدت الدراسات القائمة على التصوير إلى حد كبير هذه الفكرة عن باحة بروكا تحديدًا، لكن هذه الدراسات أيضًا وسَّعت فهمنا لوظائف القطاعات المتاخمة لها من التلفيف الجبهي السفلي الأيسر؛ أي «منطقة بروكا» بوجه عام (الشكل ٣-٢). فتشير هذه الدراسات إلى أن منطقة بروكا تنشط أثناء إنتاج الحديث وفهمه، وبالطبع أثناء إنتاج اللغة وفهمها، بغضِّ النظر عن وسائل تقديم المدخلات أو المخرجات، سواء أكانت إشارية أو مكتوبة أو منطوقة. ويبدو أن تنشيط هذه المنطقة يعتمد على سلامة الصياغة النحوية أو درجة تعقيد المدخلات أو المخرجات (إلى جانب عدة أبعاد، تتضمن الأبعاد البنيوية والدلالية)، ويبدو أن هذا التنشيط عادة ما يقترن بنشاط في مناطق أخرى من القشرة البريسلفية، في مناطق صدغية خلفية محددة.17 وهذا الاقتران الجبهي الصدغي — والتفاعلات الوظيفية بصفة عامة بين منطقة بروكا ومناطق أخرى — يكون مدعومًا إلى حد كبير بأنماط معقدة من الروابط التشريحية، وهي حزم ألياف المادة البيضاء التي تربط بين منطقتين متباعدتين من القشرة الدماغية. وبواسطة هذه الروابط يمكن للمناطق القشرية التواصل بعضها مع بعض وأداء عمليات المعالجة التي تفضي إلى الإدراك والسلوك.18

تعيين اللغة أم اللغويات؟

إن تعيين اللغة في حيز الدماغ وزمنه خطوة أولية ضرورية نحو تقديم تفسيرات لكيفية تمثيل البشر للغة ومعالجتهم لها وتعلمها في إطار الآليات العصبية والبيولوجية. ويُعتبر دور اللغويات النظرية — أي الدراسة الشكلية للبنى والتراكيب اللغوية — مثار جدل كبيرًا في هذا المسعى. فلكي ندرس «كيف» يمثِّل المخ اللغة ويعالجها، علينا أن نحدد «ما» يجري تمثيله ومعالجته. من المفترض أن النظرية اللغوية توجه استقصاءات اللغويات العصبية. وإن صح ذلك، فإن أفضل نهج لتعيين موضع اللغة في الدماغ هو محاولة تحديد بنًى وعمليات معينة تطرحها النظريات اللغوية. نظريًّا، ينبغي استخدام البنى والعمليات التي تطرحها كل النظريات اللغوية أو معظمها في المجال، أو البنى والعمليات التي لها نظائر مطابقة لها أو قريبة منها بين مختلف النظريات.

حقق هذا النهج نجاحًا كبيرًا في مجالَي علم الأصوات وعلم وظائف الأصوات، حيث يوجد توافق كبير على الوحدات الأساسية لعملية التمثيل؛ ويقصد بذلك السمات التي تشكِّل الفئات المجردة للأحرف الساكنة وأحرف العلة الفردية. في التحليل المعياري الذي يعود إلى رومان ياكوبسون ونيكولاي تروبيتسكوي، تُعرف وحدات الكلام الأولية بأنها «سمات متمايزة»، كموضع انضغاط الهواء وهو في طريقه للخروج (الشفتين على سبيل المثال)، وما إن كانت الأحبال الصوتية تهتز. وقد أظهرت سلسلة من التجارب باستخدام تسجيلات مباشرة من السطح القشري أن مثل هذه السمات الصوتية مشفَّرة في عدة مناطق فرعية من التلفيف الصدغي العلوي،19 بصيغة تبدو ثابتة إلى حد كبير فيما يتعلق بالكثير من الظروف المؤثرة على إدراك الكلام (تذكَّر الفصل الثاني). لقد أصبحت مواقع اللبنات الأساسية للصوتيات الآن شبه محددة في حيز المخ، لكننا لم نتوصل بعد إلى التفاصيل كافة. لكن ماذا عن الجوانب الأخرى للغويات؟
كانت محاولة ربط العمليات اللغوية الشكلية بعمليات ذهنية محددة أقل نجاحًا بكثير لكنها كانت مفيدة. على سبيل المثال، حاولت الدراسات ربط عملية «الدمج» في الأشكال الحديثة من القواعد النحوية التوليدية (وهي العملية التي تشكل عنصرًا نحويًّا جديدًا من عنصرين نحويين، على سبيل المثال، تكوين جملة «بالون أحمر» من كلمتَي «بالون» و«أحمر») بالنشاط في أجزاء من التلفيف الجبهي السفلي الأيسر.20 لكن اقتُرح وجود عمليات مشابهة في أطر أخرى (إن لم يكن على المستوى الشكلي، فعلى مستوى تنبؤات المعالجة التي تقوم بها)، كعملية «التوحيد»، التي تنطوي أيضًا على تجميع أجزاء من تراكيب نحوية في شكل وحدات أكبر استنادًا إلى قيود محددة. وقد ثبت أن عملية التوحيد في مجالَي النحو والدلالات يدخل فيها أجزاء من التلفيف الجبهي السفلي الأيسر.21 في بعض الفرضيات، يُسند إلى هذه المنطقة من الدماغ وظيفة نحوية أكثر تحديدًا (كالحركة على سبيل المثال)،22 بينما في نماذج أخرى تعمل هذه المنطقة كدعامة للذاكرة قصيرة المدى دعمًا لعملية معالجة الجمل.23 ولا تزال «المعركة القائمة حول منطقة بروكا» محتدمة، لكن يجدر بنا أن نشير إلى أن هذه المنطقة من المخ — مثلها مثل مناطق أخرى — ليست مخصصة للغة أو البناء النحوي، وعلى الأرجح أنها تؤدي مجموعة من الوظائف.24
في علم الدلالات، يبحث الباحثون عن التلازمات في عملية تكوين المعنى، تلك العملية المدفوعة نحويًّا التي تجمع عادة بين المسانيد وأطراف الفعل لتشكِّل تعبيرات قابلة للتفسير منطقيًّا: على سبيل المثال، دمج كلمتَي «تضحك (x)» و«آن» لتصبح «تضحك (آن)» لتكوين الجملة «آن تضحك». لكن حتى الآن ثبت أن عملية تكوين المعنى عملية محيرة ومن الصعب استكشافها بمعزل عن العمليات النحوية والدلالية أخرى.25 وقد تم ربط جوانب منطقية وتداولية من عملية فهم اللغة بوظيفة الشبكات الجبهية الجدارية، ما قدَّم في بعض الحالات روابط تفسيرية جديدة بين اللغة والمجالات المعرفية الأخرى؛ على سبيل المثال، المحددات الكمية (مثل كل، وبعض، ومعظم، وقليل من) والحجم أو القدر ومعالجة الأرقام، أو الاستدلال التداولي والإدراك الاجتماعي.26 أما اللغة المجازية، مثل الاستعارات، فهي جانب آخر كان محل اهتمام وتركيز مؤخرًا، مع تزايد عدد التحليلات اللغوية وتجارب التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي.27 إن اللغويات العصبية تخطو أولى خطواتها الصغيرة نحو فهم الكيفية التي يشغِّل بها المخ «البرمجيات» التي يصفها اللغويون النظريون.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤