الفصل الخامس

نمو شبكات اللغة

يكتسب كل الأطفال تقريبًا لغة واحدة أو أكثر، ويصلون إلى نفس الكفاءة التي يتمتع بها البالغون في غضون السنوات الخمس إلى السبع الأولى من حياتهم. وأكثر ما يدهش بشأن تعلم اللغة ليس سرعة حدوثه — فعملية نمو تستغرق عدة سنوات ليست بالسريعة تمامًا — بل حقيقة أنها تتطلب القليل من الإشراف من البالغين، فضلًا عن التعليمات الصريحة والمحددة، وأن التطور من عدم وجود اللغة إلى اكتسابها ليس خطيًّا وتراكميًّا. ففي عملية إنتاج اللغة لدى الأطفال، قد تختفي بعض أنماط الأخطاء بينما تظهر أنماط أخرى؛ على سبيل المثال، قد يخطئ الطفل في ضبط الأفعال الشاذة في الإنجليزية، كأن يقول breaked بدلًا من broken (بمعنى كسر).1 بل إن بعض القدرات قد تتطور فجأة، مثل استخدام الكلمات الوظيفية مثل أدوات التعريف أو الضمائر، التي تُحول الكلام من كلام مقتضب يشبه لغة البرقيات إلى كلام إنشائي منظم.2 غير أن عملية تعلم اللغة تتبع مسارًا متشابهًا إلى حد كبير بين مختلف الأطفال واللغات، مثلما يتجلى في مراحل النمو المألوفة لدى كثير من الآباء والأمهات الجدد.3
تشير الأبحاث في مجال علم اللغويات النفسية إلى أن الطفل لا يكون صفحة بيضاء قبل تعرضه إلى اللغة، وأن عملية اكتساب اللغة ليست مسألة تعلم عشوائي من البيانات (أي بالتعرض لكمٍّ ضخم من البيانات واستظهارها). فلو كانت الفرضية الأولى صحيحة، لرأينا قدرًا كبيرًا من التباين بين الأطفال في كيفية اكتسابهم اللغة؛ لا سيما في ماهية المهارات التي تظهر لديهم وتوقيت ظهورها. عوضًا عن ذلك، يجد المرء مسارات نمو مميزة، مما يدل على أن نضج أنظمة المخ يحدد جوانب اللغة التي يمكن للأطفال أو الرُّضَّع تعلمها وتوقيت حدوث ذلك. ولو كانت الفرضية الثانية صحيحة — أن اكتساب اللغة يختزل في التعلم من البيانات — لرأينا منحنيات نمو خطية إلى حد كبير، وكأن المعرفة تُخترن بصورة تراكمية وطردية، على غرار إضافة عملات معدنية إلى مجموعة من العملات. عوضًا عن ذلك، نجد منحنيات على شكل حرف U (أي تذبذب بين أنماط الصواب والخطأ في استخدام اللغة مع مرور الوقت) وتحولات تتخذ شكل حرف S (بما يدل على تغيرات سريعة من أنماط الخطأ إلى أنماط الصواب في استخدام اللغة) أثناء النمو. ويشير هذا إلى حدوث عملية إعادة ترتيب داخلية غير متواصلة، حيث قد يكون لاكتساب معرفة جديدة تأثير على طريقة تمثيل واستخدام معلومات اكتُسبت من قبل.
إن الفكرة التي نستعرضها في هذا الفصل هي أن الرضع والأطفال الصغار قادرون على اكتساب جوانب معينة من اللغة في مراحل معينة فقط من النمو المعرفي. والساعة التي تضبط وتيرة هذه العملية ليست ساعة خارجية (فالمدخلات اللغوية موجودة طوال الوقت، حتى قبل الولادة)، بل هي ساعة داخلية، تتمثل في عملية نضج المخ ونموه. هذه العملية مقيَّدة جينيًّا (مزيد من التفاصيل عن ذلك في الفصل التاسع)؛ ولذلك فهي متشابهة إلى حد بعيد عند كل الأطفال. يعتقد البعض أن اللغة تتحدد فطريًّا. غير أن فكرة أن المعرفة بالقواعد النحوية يمكن أن تكون مشفَّرة في الجينوم البشري ليست منطقية بيولوجيًّا. وقد يلطِّف البعض من فرضية الفطرة بالقول بأن المخ البشري «مهيَّأ للغة». وهذا أقرب إلى الصواب لكنه ليس صائبًا كليًّا. فلو كان باستطاعتنا تحميل نظام لغة كامل على عقل طفل حديث الولادة، فلن يكون لدينا بالتأكيد عصًا سحرية لنصنع منه متحدثًا طليقًا وقديرًا لتلك اللغة.4 والسبب في ذلك واضح بديهيًّا، وهو أن جهاز التشغيل (المخ غير الناضج) لن يكون مهيَّأً لتشغيل البرنامج (نظام اللغة المكتمل). لذا لا بد في حالة اكتساب اللغة أن يبرمج النظام كمحصِّلة لمرحلة نمو وتنظيم المخ.5

المرحلة الصامتة: فك شفرة الكلام

متى تبدأ عملية تعلم اللغة وكيف؟ قد تدهشك إجابة هذا السؤال: تبدأ هذه العملية بمجرد أن يتمكن الجنين من السمع؛ أي قبل الولادة بعدة أسابيع، مهما كانت الأصوات التي يميِّزها داخل الرحم محدودة. ويمكن للتعرض إلى الكلام قبل الولادة أن يعطي الطفل إشارات بشأن خصائص زمنية محددة للغة المنطوقة، وهي خصائص لا تتغير كثيرًا حين تشوه، كما قد يحدث لها في الرحم. غير أن خبرات ما بعد الولادة — وبخاصة التعرض إلى أصوات الكلام، وهو ما يحدث عادة في سياق اجتماعي — هي ما تسمح للطفل ﺑ «فك شفرة الكلام».6 تظهر القدرة على رصد تنغيم الكلام وإيقاعه في الأسابيع الأولى من عمر الطفل، تتبعها القدرة على تصنيف الوحدات الصوتية (أي تشكيل تمثيلات مجرَّدة لها بصورة متزايدة). في أثناء الأشهر الأولى، يُصبح الرضع حساسين أولًا تجاه الأصوات المتحركة في اللغة التي يتعرضون لها (أو ما ستكون لغتهم الأولى)، ثم إلى الأصوات الساكنة، ثم في النهاية إلى مزيج بين هذا وذاك (المقاطع).7 وهذه التمثيلات الفونولوجية الناشئة هي نتاج قدرة الطفل على رصد الأنماط في كلام البالغين عن طريق تتبع الأنماط الاعتيادية إحصائيًّا، وفيها تكرار المصاحبة بين الأصوات، واحتمالات الانتقال بين أصوات المدخلات، كالفونيمات الفردية أو المقاطع، ولاحقًا بين الكلمات أو مجموعات الكلمات. فالرضَّع بارعون في التعلم الإحصائي؛ وهذا يمكِّنهم من اكتشاف اللبنات الأساسية ذات المغزى للغة — الفونيمات والكلمات — في دفق من الكلام يتسم بالغموض في مستهله.
إن حقيقة أن المعالجة السمعية المتقدمة يمكن أن تبدأ مبكرًا جدًّا، حتى من قبل الولادة، ثم تنطلق بأقصى سرعة لها في الأسابيع الأولى من عمر الطفل، تشير إلى أن النظام السمعي لدى الرضيع، وربما المناطق المجاورة له في الفص الصدغي العلوي، ينمو بسرعة في فترة ما قبل وبعد الولادة مباشرة. والواقع أن عملية نضج الدوائر السمعية العصبية تنطلق سريعًا جنبًا إلى جنب مع الأجهزة الحسية الأخرى في الدماغ (كالرؤية واللمس، وما إلى ذلك). لكن عملية معالجة الكلام تتجاوز مجرد سماعه. فالمناطق المسئولة عن معالجة الكلام غير السمعي في القشرة الصدغية العلوية الثنائية تنضج في السنوات الثلاث الأولى من العمر، وهي الفترة التي تصبح خلالها هذه المناطق متأقلمة على نحو متزايد مع الأصوات الكلامية للغة الأصلية التي يتعرض لها الطفل. ولا يوجد دليل على اختصاص الشبكة السمعية البشرية في البداية بالكلام، ونحن نتشارك هذه الشبكة إلى حد كبير مع أقرب جيراننا التطوريين (الفصل العاشر).8

الرضَّع بارعون في التعلم الإحصائي؛ وهذا يمكِّنهم من اكتشاف اللبنات الأساسية ذات المغزى للغة — الفونيمات والكلمات — في دفق من الكلام يتسم بالغموض في مستهله.

من المؤشرات المهمة على النضج البنيوي للدماغ تخلُّق المشابك العصبية؛ وهي عملية زيادة مؤقتة في إنتاج المشابك العصبية (نقاط الاتصال بين خليتين عصبيتين)، تتبعها عملية تشذيب للوصول إلى مستويات البالغين. تبلغ عملية تخلُّق المشابك العصبية ذروتها في كثير من المناطق الحسية عند عمر ستة أشهر، وفيها القشرة السمعية، وتبلغ ذروتها في مناطق استقبال الكلام عند عمر تسعة أشهر. لدى المرء فرصة محدودة خلال السنة الأولى من العمر لاكتساب تمثيلات استقبال صحيحة لكل أصوات الكلام الأساسية للغته الأولى. في أثناء هذه الفترة، يلتزم المخ صوتيًّا بلغة واحدة بعينها (على الأقل)، الأمر الذي يجعل من السهل تعلم كلمات (مفردات) تلك اللغة، وذلك من جانب، لكن من جانب آخر يمكن لذلك أن يتداخل مع اكتساب لغات إضافية، خاصة تلك التي تكون ذات صوتيات مختلفة.9
يمكن أيضًا أن يُطلَق على السنة الأولى، تزيد أو تنقص بضعة أشهر، اسم المرحلة الصامتة من اكتساب اللغة. فخلال تلك المدة يكون إنتاج أصوات اللغة المنطوقة مقتصرًا على المناغاة. قد يكون الرضيع العادي في تلك الفترة صامتًا (هذا هو ما تعنيه كلمة رضيع باللاتينية Infans)، لكنه لا يكون ساكنًا تمامًا. فإيجاد الكلمات في دفق الكلام من المهام التي يواجهها الرضيع في ساعات استيقاظه. ثمة مهمة أخرى هي البدء في ربط المعنى بالكلمات التي يستخرجها من المدخلات. فتُظهر دراسات حديثة أن الرضيع «يعرف» معانيَ كثير من الأسماء الجامدة (مثل تفاحة أو حذاء) في سن مبكِّرة تتراوح بين ستة أشهر وتسعة. علاوة على ذلك، في السن نفسها تقريبًا، يمكن للرضيع أن يربط بين الكلمات دلاليًّا (على سبيل المثال، «حليب» و«زجاجة» في مقابل «حليب» و«كرة»).10 في تلك السن تتشكل المفردات داخل أدمغة الأطفال، وتكون هذه العملية مدعومة بنضج الشبكات القشرية الجدارية والصدغية من أجل معالجة الدلالات.11

الكلمات والألفاظ الأولى: تعلم الكلام

لنعد قليلًا إلى نموذج المسار الثنائي للغة والكلام الذي وضعه هيكوك وبويبل (الفصل الرابع). يفترض هذا النموذج وجود مجرى بطني أو سفلي يربط الصوت بالمعنى، منشطًا بنًى من الفص الصدغي في نصفَي الدماغ كليهما، ومجرى ظهري أو علوي يرسم خرائط فونولوجية للتمثيلات الحركية للكلام في القشور الصدغية والجبهية من نصف المخ الأيسر. وكما تشير النتائج التي ناقشناها، تبدأ وظائف المسار البطني — مثل تعلُّم فك شفرة أصوات الكلام وربطها بمعانٍ جديدة — في النمو أثناء الشهور الستة إلى التسعة الأولى من عمر الطفل، وسرعان ما يتبع ذلك نمو لوظائف المسار الظهري.

إن تعلُّم الكلام مهمة حركية في جزء منها، لكنها تستند بصورة أساسية على التمثيلات الحسية المكتسبة مسبقًا لأصوات الكلام. يمكن للطفل في مرحلة المناغاة وما بعدها أن يستخدم هذه التمثيلات لتصحيح وضبط ما ينتجه من أصوات، بحيث تماثل الأصوات التي يحاول لفظها تلك التي يسمعها من الآخرين أكثر وأكثر. يستخدم المسار الظهري ما تعلمه المسار البطني (صوت الفونيمات والكلمات وما تعنيه) لتعلم شيء جديد (كيفية نطق الفونيمات والكلمات الجديدة). يتسق هذا النموذج مع كثير من بيانات أبحاث النمو العصبي، الأمر الذي يشير إلى أن عملية نضج الدماغ تحدث في الأجهزة الحسية (في المناطق القذالية الصدغية على سبيل المثال) قبل الأجهزة الحركية أو أجهزة التحكم (القشرة الجبهية على سبيل المثال). وقبل أن تتمكن الأنظمة التكاملية الأرقى — مثل المسار الظهري في نموذج هيكوك وبويبل — من استخدام تلك المعلومات، لا بد من تشفيرها أولًا وتنظيمها داخل الأجهزة الحسية والإدراكية.12
متى يبدأ الأطفال في إنتاج كلماتهم وألفاظهم الأولى؟ تتطور المناغاة عند سن تسعة أشهر تقريبًا، حين تبدأ القشرتان الحركية وأمام الجبهية المتاخمة لها في الارتباط بصورة فعالة بمناطق الإدراك السمعي والكلامي من الفصوص الصدغية. ينتج الأطفال كلماتهم الأولى عند سن عشرة أشهر إلى اثني عشر شهرًا تقريبًا، ويلفظون عبارات من كلمتين نحو نهاية عامهم الثاني من العمر. وكما هو الحال مع الجوانب الأخرى من عملية اكتساب اللغة، هناك بعض التباين فيما يتعلق بالوقت الذي يكتسب فيه الأطفال هذه المهارات على المستوى الفردي. تُظهر لغة الطفل المنتجة قليلًا من التنظيم النحوي قبل تلك السن، باستثناء ترتيب الكلمات الأساسي، وكذلك تشكُّل الكلمات في بعض اللغات. وبين سن ١٢ و١٦ شهرًا، عادة ما تكون العبارات الملفوظة لدى الأطفال قصيرة، وتشكل الأسماء نحو نصف إجمالي ما يلفظونه. أما النصف المتبقي، فيشمل كلمات مفردة أخرى، كالأفعال والعبارات الأولى المكونة من كلمتين. وبين ١٨ شهرًا و٢٤ شهرًا، تُصبح العبارات المكونة من كلمتين أكثر تكرارًا، وينخفض عدد الأسماء ليشكل ثلث ما يلفظون به. وتشير البيانات القادمة من مشروع «ووردبانك بروجيكت» أن آباء ٢٥ في المائة فقط من إجمالي الأطفال البالغين ١٦ شهر تقريبًا ذكروا أن أبناءهم يدمجون الكلمات معًا.13 وتزداد هذه النسبة إلى ما يقرب من ٣٠ في المائة مع بلوغ الأطفال ٢٠ شهرًا، وتصل إلى ما يقرب من ٧٥ في المائة ببلوغهم ٢٤ شهرًا من العمر، وتتشابه تلك النسب عبر جميع اللغات.

بناء الجملة والدلالات: نحو بلوغ كفاءة البالغين

بحلول نهاية العام الثاني من العمر، أي بين ١٨ شهرًا و٢٤ شهرًا، يمكن لمعظم الأطفال أن ينتجوا عبارات من كلمتين، وكذلك التواصل بفاعلية مع البالغين باستخدام الكلمات والإيماءات (كالإشارة وما إلى ذلك) وغير ذلك من التعبيرات. في هذه المرحلة، لا تزال القواعد النحوية لدى الطفل بدائية. على سبيل المثال، يكتسب الطفل في وقت متأخر نسبيًّا — عند سن ١٩ شهرًا تقريبًا — مجموعة من الخصائص النحوية للغات، حتى الأساسي منها، مثل ترتيب الكلمات (مثل ما إن كانت الصفة تتبع الموصوف أم تسبقه، وما إن كان الفعل يتبع مفعوله أم يسبقه)، وذلك وفقًا لإحدى الدراسات.14 وقد أظهرت بعض الدراسات الحديثة أن حتى الرضع يتتبعون أنماطًا إحصائية في الكلام ترتبط بالنية النحوية، كإشارات لمواضع الكلمات الوظيفية (كالمحددات والضمائر، التي غالبًا ما تكون أقصر وأكثر تكرارًا من معظم كلمات المحتوى أو الكلمات المعجمية).15 قد يؤدي التعلم الإحصائي بالفعل إلى اكتشاف خصائص نحوية للكلمات، لكن تلك عملية ممتدة تتضمن التجريد النحوي، الذي بموجبه تمثَّل كل كلمة على حدة كعضو في فئة واحدة أو أكثر من فئات الوحدات النحوية: الاسم، الفعل، الصفة، وما إلى ذلك. ولا يمكن للمعالجة النحوية أن تحدث إلا إذا صُنِّفت الكلمات في فئات، ومعظم الفئات تستغرق وقتًا لكي تظهر. وأول ما يظهر منها هي فئة الأسماء، بداية من سن ١٢ شهرًا، بينما تظهر معظم الفئات الوظيفية لاحقًا، بداية من سن ١٤ إلى ١٦ شهرًا.16 فالأطفال الذين يبلغون من العمر عامًا واحدًا ما زالوا يستكشفون الفئات النحوية الأساسية في لغتهم.
إليك لغزًا: كيف يستطيع الأطفال الصغار فهم عبارات متعددة الكلمات وإنتاجها (بغض النظر عن عدد تلك العبارات وطولها ومدى تعقيدها) في حين أن القواعد النحوية في أذهانهم بدأت تتشكل لتوها؟ صاغ عالم اللغة راي جاكندوف مصطلح «التكامل اللاتركيبي» للإشارة إلى أنواع العمليات التي قد تكون ذات تأثير في هذا المقام. باختصار، يمكن لمخ الطفل أن يدمج معاني الكلمات معًا حتى ولو لم تكن كل الكلمات مصنفة نحويًّا، أو لم يكن قد اكتسب بعدُ المعرفة بالقواعد النحوية لتكوين المعنى.17 ويدعم هذه النظريةَ دراساتُ الجهود المرتبطة بحدث، من خلال الإبلاغ عن التغيرات التي تطرأ على الاستجابة N400 لدى الرضع. يمكن للأطفال ربط أو دمج معلومات دلالية قادمة من مثيرات حسية متزامنة أو متداخلة عبر الوسائل الحسية المختلفة (كدمج كلمة سمعية وصورة على سبيل المثال)، وذلك بعمر ٦ أشهر. وتبرز القدرة على ربط المعنى أو دمجه بمرور الوقت بداخل الوسائل وفيما بينها بعمر ٩ أشهر. أما القدرة على ربط أو دمج معاني الكلمات المنطوقة في تتابعات أو في جمل، فتظهر بعمر ١٨ شهرًا على أقصى تقدير.18 في المقابل، تُظهر الدراسات السلوكية ودراسات التخطيط الكهربي للدماغ أن مهارات معالجة القواعد النحوية — تحديدًا المهارات المطلوبة لتكوين معاني كلمات في العبارات والجمل استنادًا إلى قواعد بناء الجملة — تتطور فيما بعد، بين عمر ١٨ و٣٢ شهرًا. وتكون عمليات بناء المعنى غير التركيبية متاحة للأطفال قبل اكتسابهم قواعد النحو كاملة.

بدءًا من النصف الثاني من العام الثالث من العمر، وبفضل ظهور المهارات التركيبية والتداولية، وكذا بفضل الزيادة الكبيرة في المفردات، تبدأ كفاءة عملية استقبال اللغة وإنتاجها في الاقتراب تدريجيًّا من كفاءة الكبار. فتصبح العبارات التي يتلفظونها أطول وأكثر تعقيدًا وتنظيمًا من الناحية التركيبية. وتصبح الجمل التي تتكون من أكثر من كلمتين أمرًا عاديًّا حتى عند الثالثة، وكثيرًا ما يستطيع معظم الأطفال في الرابعة من العمر طرح وإجابة الأسئلة. وتجدر الإشارة إلى أن البنية التركيبية الصائبة للأسئلة أبعد ما تكون عن السهولة في كثير من اللغات. في هذه السن، يبدأ الأطفال في سرد الأحداث والتجارب الشخصية (في الماضي) والتعبير بوضوح عن رغباتهم ونواياهم وأهدافهم (بشأن المستقبل). والقدرة على فهم نوايا الآخرين تسمح للأطفال بقراءة الإشارات الاجتماعية منذ وقت مبكر للغاية فصاعدًا. لكن بدءًا من سن الخامسة، يصبح معظم الأطفال قادرين على استغلال هذه المعلومات بفاعلية في التواصل؛ إذ سيفهمون أن ما يُقال لا يكون هو المقصود دائمًا. وكما يعرف أي والد أو شقيق أكبر سنًّا جيدًا، يمكن لطفل في الخامسة أن يكون شريك محادثة رائعًا، يتمتع بقدرة كاملة على تبادل الأدوار بالشكل الملائم وعلى المساهمة في المحادثة على نحو يثريها، بل كثيرًا ما يكون إبداعيًّا. ولم يكن أيٌّ من هذا ليصبح ممكنًا دون نضج المناطق من القشرة الأمام جبهية والجدارية التي تخدم جوانب الإدراك الاجتماعي والتمثيلات المجردة لخصائص الكيانات أو الأحداث (مثل الوفرة والمكان والزمان)، وكذلك دون التكامل الوظيفي لهذه المناطق مع الشبكات البريسيلفية اللغوية الأساسية. على مدار سن المدرسة، لا يحتاج الطفل إلا أن يضفي تعديلات بسيطة على نظام هو موجود في الواقع، وضبطه ليبدو أشبه بلغة الكبار والبالغين. لكن، وكما سنكتشف في الفصلين القادمين، يمكن لتعلم لغة إضافية، وكذلك اكتساب مهارات الكتابة والقراءة، أن يضيف قليلًا من الإثارة.

يمكن لمخ الطفل أن يدمج معاني الكلمات معًا حتى لو لم تكن كل الكلمات مصنفة نحويًّا، أو لم يكن قد اكتسب بعدُ المعرفة بالقواعد النحوية لتكوين المعنى.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤