الفصل السادس

الدماغ وازدواج اللغة

هناك احتمال يتجاوز نطاق الصدفة أنك أو طفلك أو قريب لك تتحدثون أكثر من لغة واحدة. فغالبية سكان العالم يتحدثون لغتين على الأقل، ونحو ١٠ في المائة من إجمالي السكان يتحدثون ثلاث لغات أو أكثر. قد نطلق على هؤلاء الناس متعددي اللغات إن كانوا يتحدثون عدة لغات بطلاقة. وهذا يجعل أحاديي اللغة أقلية، وإن كانت أقلية كبيرة إذ تبلغ نسبتهم نحو ٤٠ في المائة من الناس. والتحدي الذي يواجه اللغويات العصبية يكمن في تطوير نظريات وأساليب لاختبار النظريات التي تنطبق على كل من يتحدثون بلغة، وليس مجرد أقلية (كبيرة). وهذا هو سبب كون ازدواج اللغة موضوع بحث غاية في الأهمية، ليس في اللغويات العصبية فحسب، بل في علوم اللغة بصفة عامة.

إن دراسة مزدوجي اللغة من الصعوبة بمكان لأسباب عديدة. إن «مزدوج اللغة ليس شخصًا واحدًا بداخله شخصان أحاديا اللغة»، أو بتعبير أدق، لا يتألف نظام اللغة الثنائي من مجموع نظامين من أنظمة الكفاءة والمعالجة معزولين بعضهما عن بعض.1 فقد تتفاعل اللغات المختلفة بأساليب منهجية لدى الفرد أثناء عملية اكتسابها واستخدامها. ويمكن دراسة بعض هذه التفاعلات عن طريق التجريب، باستخدام أساليب من علم النفس وعلم الأعصاب.2 ويمكن للتفاعل بين لغتين في دماغ واحد أن يؤدي إلى تأثيرات طفيفة في اتجاهات معاكسة؛ فتعلم لغة واحدة ومعالجتها يمكن إما أن يسهل عملية تعلم لغة أخرى ومعالجتها وإما أن يتداخل معها. وقد تتوقف هذه التأثيرات على عدة عوامل مختلفة، كالتشابه بين اللغتين (إذ يمكن أن تتشابه اللغات فيما بينها وتختلف في عدة أبعاد على صعيدَي الأصوات والقواعد النحوية)، والعمر الذي اكتسب فيه المتعلم كل لغة منهما، ومستوى الإتقان الذي بلغه في كل لغة، وعوامل متداخلة كازدواجية الثقافة (الأمر الذي يمكن أن يُدخل جوانب من التباين الدلالي والمعرفي)، والكثير من العوامل الأخرى. يمكن أيضًا أن يشكل ازدواج اللغة ميزة هائلة للفرد؛ إذ إن تحدث عدة لغات (وقراءتها وكتابتها) بمثابة هبة في مجتمعاتنا، سواء كان لذلك أيضًا مزايا إضافية لوظائف الفرد الإدراكية أو رفاهه أو لا. ومع ذلك، فإن بلوغ حالة مستقرة من نشاط ازدواج اللغة والحفاظ عليها له تداعيات أكيدة على دماغ الفرد. وتبتغي كلٌّ من اللغويات العصبية واللغويات النفسية فهم التأثيرات العصبية لازدواج اللغة على وجه التحديد.

الفترات الحساسة واكتساب لغة ثانية

رأينا في الفصل الخامس أن الأبحاث تشير إلى أن فرصة الأطفال في اكتساب النظام الصوتي للغة المستهدفة فرصة محدودة. ومحاولة تعلم نظام الأصوات الكلامية نفسه في مرحلة لاحقة من العمر كثيرًا ما تؤدي إلى بطء في التحصيل أو تدنٍّ في مستويات بلوغه، أو إلى كلتا النتيجتين. ويتفق هذا — سطحيًّا على الأقل — مع خبرتنا كمتعلمين للغة ثانية. فمع ثبات كل العوامل والمتغيرات الأخرى، سيحظى الشخص الذي يتعلم لغة إضافية وهو طفل بفرصة أفضل للوصول إلى مستوًى من الإتقان يضاهي ناطقيها الأصليين مقارنة بشخص آخر يشرع في المهمة نفسها وهو بالغ. فما سبب هذا؟ منذ أكثر من خمسين عامًا وعلماء اللغويات العصبية عاكفون على استكشاف الفرضية القائلة بأنه قد تكون هناك فترة حرجة أو حساسة بالنسبة لاكتساب اللغة، وكذا لعدة أنظمة أخرى في الدماغ. والفكرة كالآتي. هناك تلازم بين مرحلة نمو الدماغ وبين مقدار التعلم الناتج إذا ما أتيحت مدخلات بعينها في تلك المرحلة. تتميز الفترة الحساسة بحساسية عالية تجاه تلك المدخلات، كأن تحدُث عملية التعلم بكفاءة أكبر أو بنتائج أفضل، أو كليهما.3 وتتزامن الفترات الحساسة مع أحداث فسيولوجية عصبية محددة، مثل تكوُّن الخلايا العصبية، أو الزوائد المحورية (الروابط البعيدة المدى بين الخلايا العصبية) أو المشابك العصبية. وعليه ينفتح المخ على البيئة في محاولة منه لتحصيل أكبر قدر ممكن من البيانات ذات الصلة. في أثناء فترات الوفرة المؤقتة في نمو الروابط العصبية، قد تتحدد آليات الدماغ وتصير ذات كفاءة. وبعد ذلك، تقل المرونة العصبية، وغالبًا ما تحدث عملية التعلم ضمن الحدود التي نشأت أثناء الفترة الحساسة.4

هل هناك فترة حساسة لاكتساب اللغة؟ من النقاط المنهجية الرئيسية في هذا الصدد أن التطرق إلى إجابة هذا السؤال يمكن أن يكون أسهل في ثنائيي اللغة أكثر من أحاديي اللغة. ففي النهاية، لم يكتسب أيٌّ منا لغته الأولى وهو بالغ، في حين أن بعضنا يتعلم لغة إضافية في وقت مبكر من العمر، أثناء الفترة الحساسة المزعومة، ويكتسب آخرون لغة أخرى في وقت لاحق من العمر. وهذا التباين بين الاكتساب المبكِّر والمتأخر للغات الإضافية هو تحديدًا ما يجعل اختبار الأفكار بشأن الفترات الحساسة أمرًا ممكنًا. في الواقع، وكما تشير فرضية الفترات الحساسة ضمنًا، فإن ثمة علاقة وثيقة بين السن التي يتعرض فيها الفرد للغة ثانية ومستوى الإتقان الذي يبلغه في تلك اللغة. يمكن تفسير هذه الملاحظة في ضوء التغييرات المصاحبة للنضج التي تؤثر على مرونة المخ، ما يجعل عملية تعلم لغة ما أصعب بعد انقضاء الفترة الحساسة. لكن يمكن أيضًا أن يكون ذلك نتاج القيود المفروضة من اللغة الأولى؛ إذ يمكن للصوتيات الكلامية التي يكتسبها المرء من لغته الأولى أن تكون قد ترسخت بعمق كافٍ في الدماغ بحيث تتداخل مع اكتساب نظام صوتي جديد أو تعوقه، ومن ثَم تعوق اكتساب لغة جديدة. من الصعب — أو ربما من المستحيل — فك التشابك بين هذه الأنواع من التفسيرات. غير أنها تتشارك افتراضًا مفاده أن الخبرة المبكرة — التي تحققها المرونة المبكرة — تحدُّ من قدرات اكتساب النظام الصوتي لاحقًا. وتمثِّل هذه الفكرة نقطة انطلاق نحو تفسير كثير من التأثيرات التي تلحق بالدماغ، التي أشارت إليها اللغويات العصبية في دراستها لازدواج اللغة.

قبل الاطلاع على تلك النتائج، يجدر بنا أن نوضِّح فكرة فترة الحساسية بالنسبة إلى اكتساب اللغات وفكرة أن الخبرة المبكرة كثيرًا ما تقيِّد قدرات التعلم لاحقًا. تعتمد الوظائف المعقَّدة الراقية كاللغة على عدة أنظمة في المخ مستقلة جزئيًّا في معالجة المعلومات البصرية والسمعية والصوتية والتركيبية والدلالية والتداولية. يمكن لهذه الأنظمة أيضًا أن تظهر فترات مثالية مختلفة للمرونة المعززة — ويبدو في واقع الأمر أنها تفعل هذا — تكون فيها المرونة لتعلم لغة أولى أو ثانية — ككلٍّ — مزيجًا من آثار المرونة في كل نظام من هذه الأنظمة إضافة إلى التفاعلات فيما بينها. هنا يصبح من الضروري أن نطرح أسئلة بشأن الفترات الحساسة في كل نظام من هذه الأنظمة بصورة مستقلة؛ ذلك أن «فترات حساسية تعلم اللغات» ما هي إلا اختزال جماعي لهذه الظواهر المتمايزة. وتدعم عدة دراسات الآن وجهة النظر القائلة بأن أوضح آثار التخصص الوظيفي المبكر تتجلى في علم الأصوات الخاص باللغة الأولى، وأنه لا توجد هناك تأثير للفترة الحساسة فيما يتعلق باكتساب الدلالات المعجمية أو الدلالات التركيبية، وأن تأثيرات الفترة الحساسة فيما يتعلق باكتساب القواعد النحوية لا تزال موضع جدل.5

الإتقان وعمر التحصيل

حين نلقي نظرة داخل عقول ثنائيي اللغة باستخدام وسائل مثل تخطيط كهربية الدماغ وتخطيط مغناطيسية الدماغ أو التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي، نجد أن أوضح الاختلافات التشريحية والوظيفية بين المشاركين تكون مدفوعة بعاملين: السن التي تكتسب فيها اللغة الثانية، ومستوى الإتقان الذي يبلغه الفرد لتلك اللغة. ثمة تلازم بين هذين العاملين؛ لذا من الصعب الفصل بينهما. فيميل من يتعلم لغة ثانية في وقت مبكِّر من عمره إلى بلوغ مستويات أعلى من الإتقان في طور النضج مقارنة بمن تعلم تلك اللغة في وقت متأخر من العمر؛ ربما لأن الأول ببساطة قد تسنى له وقت أطول مما تسنى للأخير لصقل مهارته في اللغة الثانية. لكن ثمة أساليب لفصل آثار الإتقان عن آثار عمر التحصيل على مقاييس تجريبية؛ على سبيل المثال، من خلال اختيار المشاركين والمجموعات بعناية، وكذلك من خلال استقطاب عينات أكبر بها تباين كافٍ بين المتغيرين كليهما.

تبرز الدراسات الفردية والتحليلات التلوية ثلاثة اتجاهات في هذا الصدد. أولًا: تنشط الشبكة البريسلفية نفسها بصورة نسبية في نصف الدماغ الأيسر بفعل اللغة الأولى واللغة الثانية، أو بفعل لغتين أصليتين، لدى ثنائيي اللغة ممن تعلموهما في وقت مبكر أو في وقت متزامن، وحين يكون هناك تكافؤ في درجة الإتقان بين كلتا اللغتين. ثانيًا: يتسبب الضعف أو التدني في إتقان التحدث باللغة الثانية في عمليات تنشيط دماغي أوسع انتشارًا مقارنة باللغة الأولى، مما يعكس جهدًا ذهنيًّا إضافيًّا في إنتاج اللغة الثانية، ويتسبب في تأثير عكسي يتمثل في مزيد من النشاط المتمركز في عملية الفهم. وتكون هذه الاختلافات أوسع نطاقًا فيما يتعلق بالمعالجة الدلالية المعجمية منها في معالجة النحو والصوتيات، حيث تُظهر بضع مناطق فقط استجابات مختلفة لأيٍّ من اللغتين الأولى أو الثانية. ويؤدي تعلم لغة ثانية في وقت مبكر من العمر إلى زيادة النشاط في الشبكات المتاخمة للقشرات السمعية والحركية، وفيها منطقتا بروكا وفيرنيك التقليديتان؛ فقد يتسبب اكتساب لغة ثانية في وقت مبكر من العمر في معالجة تلقائية أو حسية حركية أكبر مقارنة باكتسابها في مرحلة متأخرة من العمر. ثالثًا: يشكل مستوى الإتقان للغة الثانية عاملًا أكثر بروزًا من عمر التحصيل في تحديد ما إن كانت اللغة الأولى والثانية تنشط مناطق مشتركة أو مختلفة من الدماغ أثناء إنتاج اللغة وفهمها. وبصفة عامة، كلما زاد مستوى إتقان المرء للغة الثانية، ازداد التشابه بين المناطق التي تنشط بفعل اللغة الثانية وتلك التي تنشط بفعل اللغة الأولى.6
من المعروف أيضًا أن سن التعرض للغة وعمر التحصيل من العوامل المؤثرة على الطريقة التي تعالَج بها لغة ثانية أو إضافية في المخ. فتُظهر التجارب التي أجريت باستخدام التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي والتخطيط الكهربي للدماغ حدوث استجابات مشابهة في اللغتين الأصليتين لدى ثنائيي اللغة. لكن حال اكتساب لغة ثانية في وقت متأخر من مرحلة الطفولة — من عمر ست سنوات أو أكثر — تبرز أنماط من التنشيط والاستجابات المستثارة لا تشبه — على المستوى النوعي والكمي — تلك الخاصة باللغة الأولى. وتستمر هذه الاختلافات حتى يستقر مستوى الإتقان. لكن في بعض المجالات، كالصوتيات والنحو، يمكن للتعرض للغة واكتسابها في وقت متأخر أن يمنعا المتعلم من بلوغ مستوى إتقان يقارب المتحدثين الأصليين. في تلك الحالات، قد تخفق اللغة الأولى واللغة الثانية في أن تجتمع على آليات عصبية متشابهة، وأن تتشاركا الشبكات البريسلفية نفسها الموجودة في النصف الأيسر من الدماغ. وينزع التنظيم العصبي للغات التي تُكتسب متأخرًا — حين لا يبلغ المرء مستوى إتقان المتحدثين الأصليين في بعض المجالات على الأقل — لأن يظهر استطرافًا أقل (أي تعتمد على جانب من المخ دون الآخر) وأن يعرض تباينًا أكبر بين الأفراد. علاوة على ذلك، سوف يختلف الاكتساب المتأخر والمبكر للغة أيضًا من حيث مشاكل التعلم التي ينبغي حلها. ففي حالة الاكتساب المتأخر للغة الثانية، تكون المعاني قد اكتُسبت بالفعل مع اللغة الأولى؛ ومن ثَم ستقتصر عملية التعلم على ربط الأشكال الصوتية والنحوية الجديدة بالدلالات المعروفة. ومع ذلك وُجد أن التقدم التطوري نفسه من معالجة المعنى إلى معالجة القواعد النحوية المرصود في اكتساب اللغة الأولى موجود في اكتساب اللغة الثانية أيضًا. على سبيل المثال، بيَّن لي أوسترهاوت وزملاؤه أن استجابات الجهود المرتبطة بحدث للتوافق اللفظي بين تصريف الفعل وبين الفاعل في الفرنسية كلغة ثانية (Tu Adores/Adorez le Francais بمعنى «أنت تحب الفرنسية»، حيث الشكل الأول للفعل صحيح بينما الشكل الثاني خاطئ) تحفز المكون N400 بعد شهر واحد من التعليم، والمكون P600 بعد أربعة أشهر، وذلك إذا كان التباين بين المورفيمات مدركًا صوتيًّا. ويشير هذا الاستنتاج إلى أن الجهد المعرفي والذهني المبذول في المعالجة ينتقل تدريجيًّا من التركيز على النظام الدلالي إلى النظام النحوي، وأن اللغة الثانية توظف موارد عصبية تتشابه بصورة متزايدة مع تلك التي توظفها اللغة الأولى.7
يمكن للاكتساب المتأخر للغة ثانية أن يؤدي إلى اختلافات بنيوية طفيفة ودائمة في الدماغ. فثمة دراسات حديثة تبين أن من تعلموا لغة ثانية في أثناء سنوات دراستهم بالمدرسة (من عمر ٨ سنوات أو أكبر) يتمتعون بألواح قشرية في مناطق فرعية من التلفيف الجبهي السفلي الأيسر (تذكَّر الفصلين الثالث والرابع) أكثر سمكًا سواء من أحاديي اللغة أو من ثنائيي اللغة المتزامنين الذين تعلموا لغة ثانية في سنوات مبكرة أو بصورة متزامنة مع تعلمهم اللغة الأولى. ولم تختلف المجموعتان الأخيرتان من حيث سماكة القشرة في أيٍّ من مناطق الدماغ.8 فقد وجد أحد التحليلات التلوية لدراسات تصويرية أن الجزء نفسه من القشرة — في التلفيف الجبهي السفلي الأيسر — يظهر مستويات وأنماطًا مختلفة من النشاط في اللغة الأولى واللغة الثانية — بغضِّ النظر عن عمر التحصيل — لدى من يتمتعون بمستوى إتقان عالٍ في التحدث باللغة الثانية، وعبر مستويات من البنية اللغوية: الدلالات المعجمية، والصوتيات، والقواعد النحوية.9 ومن ثَم يمكن أن تكون هذه المنطقة المركزية من شبكة اللغة في نصف المخ الأيسر من المناطق القليلة التي تتواصل فيها الاختلافات، وتستمر بين اللغة الأولى ولغة ثانية لم يتعلمها الشخص بالتزامن مع اللغة الأولى، وذلك على الرغم من التباين في مستويات الإتقان وعمر التحصيل.

التحكم اللغوي وميزة ازدواج اللغة

خلاصة نقاشنا حتى الآن أن اللغتين تميلان إلى تشارك الأنسجة العصبية والموارد المعرفية في الدماغ. قد يكون ذلك متوقعًا إذا ما اكتُسبت اللغتان بصورة متزامنة أو بتداخل زمني، وإذا استخدمتا بانتظام أو في سياقات متشابهة أو متقاربة، وإذا ما كانتا تتشاركان التمثيلات (على سبيل المثال، المعاني وبعض الأشكال التركيبية)، أو إذا ما كانتا متشابهتين على المستوى الفونولوجي أو النحوي. كل هذه العوامل تتواطأ لخلق ظروف تهيئ لتضارب كارثي محتمل بين لغتين أو أكثر لدى الشخص نفسه. وتأثيرات التفاعلات التلقائية المباشرة بين اللغات موثقة الآن توثيقًا جيدًا، الأمر الذي يبيِّن، على سبيل المثال، أن ثنائيي اللغة الذين تعلموا اللغتين مبكرًا ويتَّسمون بالطلاقة يصلون إلى معاني الكلمات المعجمية بصورة تلقائية وسريعة في كلتا اللغتين، حتى حين يوجَّه المشاركون في الدراسات إلى تجاهل الكلمات في إحدى اللغتين.10 والواقع أن الدماغ لدى الشخص متعدد اللغات يواجه مشكلة كبيرة في المعالجة تتعلق بالحفاظ على التحكم في كل اللغات التي يجيدها، وضمان معالجة فعالة في كل لغة منها، وتقليص الخلل غير المرغوب الناجم عن التداخل المتبادل بينها.
يُعتبر التبديل بين اللغات مثالًا واضحًا لمشكلة التحكم اللغوي. من المفترض أن يتمتع المتحدثون والمستمعون ثنائيو اللغة بدرجة من التحكم في تحديد اللغة التي يصلون إليها ويفعلونها ويستخدمونها في كل سياق ومقام. وهذا يتطلب توظيفًا متواصلًا للموارد العصبية وينطبق على كل أنماط المتحدثين ثنائيي اللغة، من بينهم ثنائيو اللغة ثنائيو النمط (ويُقصد بهم مستخدمو اللغات المنطوقة ولغة الإشارة). تنخرط الأجزاء الجانبية من القشرة الجبهية في عملية تحكم شاقة، أثناء التبديل بين اللغات أيضًا، في حين أن المناطق التي تقع على طول السطح الأنسي للفصوص الجبهية أساسية للحفاظ على المعلومات عن اللغة التي وقع عليها الاختيار. ويعتمد أداء المناطق الجبهية وكفاءتها على عمر المتحدث؛ إذ يواجه الأطفال الصغار والبالغون الأكبر سنًّا المشقة الأكبر في مهام التبديل بين اللغات، وتتجلى أدنى مستويات الصعوبة عند بلوغ مهارات التحكم التنفيذي والمعرفي أعلى مستوياتها، وذلك منذ أواخر مرحلة المراهقة وحتى مرحلة الرشد. وقد تكون المناطق الجبهية متصلة بعضها ببعض من خلال البنى تحت القشرية — كالعقد العصبية القاعدية — ومناطق القشرة الجدارية، وذلك في المهام التي تنطوي على اختيار اللغة، أو تبديلها، أو الحفاظ على اللغة المختارة واستخدامها دون غيرها. وتختلف هذه المناطق من الدماغ عن تلك التي تدخل في إنتاج وفهم اللغات المنطوقة أو المكتوبة أو الإشارية.11

يواجه الدماغ لدى الشخص متعدد اللغات مشكلة معالجة كبيرة تتعلق بالحفاظ على التحكم في كل اللغات التي يجيدها، وضمان معالجة فعالة في كل لغة منها، وتقليص الخلل غير المرغوب الناجم عن التداخل المتبادل بينها.

إن إدراكنا لدور وظائف المناطق الأمام جبهية في التحكم في اللغة يؤدي بنا مباشرة إلى التساؤل عما إن كان لازدواج اللغة تأثيرات مفيدة على الازدهار والتقلص الطبيعيين للوظائف التحكمية والتنفيذية؛ لا سيما ما إن كان التعرض المبكر لعدة لغات يمكن أن يمنح ميزة تنفيذية أو معرفية لثنائيي اللغة. وقد كانت حقيقة وجود «ميزة لازدواج اللغة» موضوع نقاش ساخنًا لبضع سنوات وحتى الآن، في ظل احتمالية أن يكون له تبعات تعليمية وعملية مهمة. فقد أشار كثير من الدراسات التجريبية والنظرية ضمنيًّا إلى أن ثنائيي اللغة يقدمون أداءً أفضل من أحاديي اللغة في المهام غير اللغوية التي تتطلب أو تنطوي على أشكال من التحكم التنفيذي والمعرفي، على الرغم من أن دراسات حديثة اعترضت على هذا الاستنتاج.12 أشارت الدراسات أيضًا إلى أن لازدواج اللغة تأثيرًا أكبر في الشيخوخة عنه في مرحلة الرشد؛13 إذ تعمل بمنزلة درع حامٍ في مواجهة التدهور المعرفي والإدراكي. قد تساهم ازدواج اللغة في بناء احتياطي معرفي للأفراد، لكن ليس واضحًا مدى كون هذه الآثار — وبعض الأمثلة التوضيحية المفترضة الأخرى لمفهوم ميزة ازدواج اللغة — نتيجة لازدواج اللغة أم لخبرات التعلم التي تتطلب مهارات تحكم معرفي معزَّزة من وقت مبكر من العمر بصورة أعم. لربما كان إتقان لغة ثانية هو كل ما يمكن تحقيقه من «ميزة ازدواج اللغة» بغضِّ النظر عن التأثيرات الضئيلة التي لا ترصد إلا في المختبر، وقد يكون لها تبعات بسيطة في الحياة اليومية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤