الفصل السابع

الدماغ وتعلم القراءة والكتابة

لعلك تفاجأت عندما علمت أن معظمنا على الأقل ثنائيو اللغة، لكن على الأرجح أنك لن تتفاجأ حين تعلم أن جميعنا تقريبًا يستطيع القراءة والكتابة بواحد على الأقل من أنظمة الكتابة في العالم. في العقود الأخيرة، ارتفعت معدلات التعلم إلى أكثر من ٨٠ في المائة بين إجمالي عدد البالغين،1 وإن يظل هناك فروقات بنسب مئوية منخفضة؛ خاصة بين النساء في المناطق النامية من أفريقيا وآسيا. لكن بعيدًا عن السياقات التعليمية والمهنية، أصبحت المعلومات تتاح بصورة متزايدة في شكل نصي والتفاعلات الاجتماعية تتم الآن بصورة أكثر تواترًا بكثير عبر وسائط كتابية عدة. لا يزال للكلام أهميته البارزة، لكن اللغة الآن مادة بصرية بقدر ما هي سمعية. وتتأكد أهمية الشكل البصري للغة أيضًا بحقيقة أن البصر يتوسط شكلين من أشكال التواصل اللغوي: المكتوب والإشاري. وأحد أهداف اللغويات العصبية دراسة الأشكال المعروفة والمستجدة من اللغة البصرية في المخ وكيفية اختلافهما عن الشكل السمعي للغة. ويأتي على رأس هذه الأجندة فهم المخ المتعلم.
للكلام أصول تطورية عميقة تعود إلى عدة مئات الآلاف من السنين في تاريخ السلالة البشرية (المزيد عن ذلك في الفصل العاشر). غير أن القراءة والكتابة ابتكارات ثقافية حديثة نسبيًّا، تعود إلى بضعة آلاف من السنين فقط.2 فعلى الأرجح أن أنظمة الأبجدية، التي تتوافق فيها الوحدات الخطية (الجرافيم) — أو أصغر الإشارات المكتوبة المميزة — مع عناصر صوتية (كالوحدات الصوتية أو الفونيمات) تعود إلى أربعة آلاف عام فحسب. ويبدو أن التحول من التمثيلات التصويرية الفنية المبسطة للأشياء أو الأحداث اليومية إلى أنظمة الكتابة الأبجدية لم يستغرق إلا بضعة آلاف من السنين. قد لا يكون هذا التحول سريعًا للدرجة من وجهة نظرنا، بالنظر إلى معدلات الابتكار الثقافي التي نشهدها في هذه الآونة. لكنه تحول مثير للإعجاب من منظور اللغويات العصبية؛ نظرًا لأن المخ البشري لا يمكن أن يكون قد تغير كثيرًا سواء على المستوى البنيوي أو الوظيفي في هذه المدة القليلة من الزمن. فمن المستبعد، فيما يبدو، أن تكون أي أجزاء من المخ قد استطاعت أن تتطور من أجل القراءة والكتابة بصفة خاصة. فبضعة آلاف من السنوات مدة غير كافية للتكيفات العصبية لكي تثبت وتترسخ في جيناتنا. التفسير الأرجح أن تعلم القراءة والكتابة قد أصبح ممكنًا بفعل البنية الكلية الراهنة للقشرة الدماغية؛ فالمخ البشري متوافق مع القراءة. لكن لا بد من اكتساب مهارات القراءة والكتابة من جديد في كل جيل، مستفيدين من كلٍّ من البنية الثابتة للأجهزة البصرية والسمعية، والمرونة في شبكات اللغات وغيرها.

الجذور التاريخية والاكتشافات المبكرة

بدأت الأبحاث الخاصة بالقراءة في الدماغ في بداية نشأة علم الحُبسات، بعد فترة قصيرة من اكتشافات بروكا وفيرنيك وليشتهايم الثورية. كانت النماذج الكلاسيكية للغة في المخ التي ناقشناها في الفصل الأول ترتكز على الكلام والسمع، لكن سرعان ما أدركنا أن البصر قناة مهمة يمكن الوصول من خلالها إلى المعلومات اللغوية في المخ. وكانت أولى النتائج المهمة التي تم التوصل إليها في هذا الصدد لجوزيف جول ديجيرين (١٨٤٩–١٩١٧). ففي عام ١٨٩١، قدم ديجيرين وصفًا لحالة مريض فقد قدرته على القراءة والكتابة بسبب ضرر أصاب التلفيف الزاوي؛ وهي منطقة توجد خلف منطقة فيرنيك، وتقع تقريبًا عند نقطة التقاء الفصوص الصدغية والجدارية. أطلق ديجيرين على هذه الحالة «حالة عمًى لفظي مع فقدان القدرة على الكتابة». كان تخمينه لسبب الحالة أن الضرر دمَّر «مركزًا من مراكز الذاكرة البصرية الخاصة بالكلمات» يشبه مركز فيرنيك السمعي (الفصل الأول)، الأمر الذي يجعل المريض عاجزًا عن القراءة والكتابة.

في عام ١٨٩٢، وصف ديجيرين حالة لمريض آخر فقد قدرته على القراءة فجأة في عام ١٨٨٧. كانت حدة الإبصار لدى هذا المريض تبلغ ٨ / ١٠، فكان باستطاعته التعرف على الأشياء والصور وتسميتها، لكنه كان يعاني من عمًى شقي في العين اليُمنى؛ أي لم يكن يستطيع الرؤية بنصف مجال الرؤية الأيمن.3 كان باستطاعة المريض التحدث بطلاقة وكذلك فهم اللغة المنطوقة. وكان يستطيع الكتابة أيضًا، سواء تلقائيًّا أو بإملاء من أحد، لكنه لم يكن يستطيع قراءة ما كتبه. كان باستطاعة المريض أن «يقرأ» من خلال تتبع أشكال الحروف بأنامل أصابعه، وإن شكَّل أحدهم حروفًا في الهواء بتحريك إصبعه، كان الرجل يحدد تلك الحروف على نحو صحيح. وفي الخامس من شهر يناير عام ١٨٩٢، لحق بالمريض إصابة جديدة في الأوعية الدموية الدماغية خلفت لديه اضطرابًا في الكلام وعجزًا عن الكتابة. وتوفي الرجل بعد ذلك ببضعة أيام. حين فحص ديجيرين دماغه، وجد أضرارًا سابقة في كلٍّ من (أ) الجوانب الوسطى والسفلية من الفص القذالي الأيسر، وفيها القشرة المهمازية التي تعد جزءًا من جهاز الرؤية، (ب) والمادة البيضاء التي تصل القشرة البصرية اليسرى واليمنى بمناطق اللغة في النصف الأيسر من الدماغ، ويتضمن ذلك أجزاءً من الجسم الثفني الذي يربط نصفَي الدماغ أحدهما بالآخر. ووجد أيضًا (ج) ضررًا أحدث أصاب التلفيف الزاوي والمناطق المحيطة به في القشرتين الصدغية والجدارية (الشكل ٧-١).

أصبح تعلم القراءة والكتابة ممكنًا بفعل البنية الكلية الراهنة للقشرة الدماغية؛ فالمخ البشري متوافق مع القراءة.

من المفيد أن نعرف السبب وراء عدم قدرة هذا المريض على القراءة ثم الكتابة في النهاية. ما الآليات التي تعطلت بفعل هذه الإصابات والأضرار؟ لكي نقرأ كلمة نراها، لا بد أن تكون هناك روابط وظيفية بين جهاز الرؤية ومناطق اللغة في النصف الأيسر من المخ. في حالة هذا المريض، تسبب الضرر الذي أصاب القشرة القذالية اليسرى (أ) في إصابته بالعمى الشقي الأيمن. لكن الضرر الذي يصيب القشرة البصرية اليسرى وحدها قد لا يعرِّض مهارات القراءة والكتابة للخطر. فكان المريض سيظل يرى الكلمات في نصف مجال الرؤية الأيسر (الشكل ٧-١)؛ لأن القشرة القذالية اليُمنى سليمة، ويمكن نقل المعلومات البصرية إلى مناطق اللغة في الشق الأيسر عن طريق الجسم الثفني وقنوات المادة البيضاء الأخرى. كانت هذه الروابط مقطوعة ومفصولة في الحالة الثانية لدى ديجيرين (ب؛ X في الشكل ٧-١). من الصعب أن نحدد ما إن كان فقدان مهارات القراءة في حالة هذا المريض بسبب الضرر الذي أصاب الجسم الثفني أم الضرر الذي أصاب المادة البيضاء في الفص القذالي أم كليهما. الأمر الأكيد إلى حد بعيد أن هذه الأضرار مجتمعة كفيلة بعرقلة الحركة بين القشرة القذالية اليمنى ومناطق اللغة في النصف الأيسر من المخ، الأمر الذي يجعل المريض عاجزًا عن إدراك الكلمات التي يراها.
fig6
شكل ٧-١: مقطع عرضي أفقي لمخ مريض ديجيرين الثاني. معاني الرموز: NO الأعصاب البصرية؛ BO المسارات البصرية؛ C القشرة المهمازية، مصابة بتلف على الجانب الأيسر؛ Pc التلفيف الزاوي الأيسر؛ X ضرر في ألياف المادة البيضاء التي تربط القشرة البصرية اليسرى واليمنى بالتلفيف الزاوي الأيسر؛ CC الجسم الثفني؛ F3 التلفيف الجبهي الثالث (التلفيف الجبهي السفلي الأيسر)؛ T1 التلفيف الصدغي العلوي. المصدر: جيه ديجيرين «مقال عن الدراسة التشريحية المرضية والسريرية لمختلف أنواع العمى اللفظي»، «مذكرات جمعية علم الأحياء» ٤ (١٨٩٢): ٦١. استنسخ إن جيشويند ذا الشكل وناقشه في عمله «تشريح اضطرابات القراءة المكتسبة» في كتاب «أبحاث مختارة عن اللغة والدماغ» ١–١٧ (نيويورك: دار سبرينجر للنشر، ١٩٧٤).
كان ديجيرين قد ذهب، في عام ١٨٩١، إلى أن الضرر الذي يصيب التلفيف الزاوي يرتبط ﺑ «عمى الكلمات» وخلل الكتابة (حبسة القراءة مقترنة بحبسة الكتابة)، وافترض أن التلفيف الزاوي يخزِّن الذكريات البصرية للكلمات. ولكي يُنقذ هذه الفرضية، كان عليه الآن أن يدفع بأن الأضرار التي سببت عمى الكلمات التام (حبسة القراءة دون حبسة الكتابة) لدى المريض الثاني هي التي تقطع الاتصال بين القشرة البصرية اليُمنى والتلفيف الزاوي الأيسر. ارتأى ديجيرين أن المعلومات البصرية لا تستطيع الآن التدفق من أيٍّ من القشرتين البصريتين اليمنى أو اليسرى إلى التلفيف الزاوي بسبب الإصابة التي لحقت بالمادة البيضاء في الفص القذالي الأيسر (X؛ انظر الشكل ٧-١). فالإشارات البصرية المتبقية لا تستطيع الوصول إلى التلفيف الزاوي؛ ومن ثَم لا يمكن الوصول إلى «ذكريات الكلمات البصرية». قبل الضرر الحديث الذي أصاب التلفيف الزاوي (ج)، كان المريض يستطيع الكتابة؛ أي إن المناطق المسئولة عن اللغة والحركة في النصف الأيسر من المخ كانت تستطيع التواصل مع التلفيف الزاوي. لكن حين صار التلفيف الزاوي أيضًا متضررًا بشدة، أصبح المريض مصابًا بحبسة الكتابة أيضًا، تمامًا كما حدث في حالة مريض ديجيرين عام ١٨٩١.

أين يقع صندوق الحروف في الدماغ؟ منظور عصري

سرعان ما أصبحت فرضية ديجيرين عن أن التلفيف الزاوي هو مركز المخ للصور المرئية للكلمات، في مرمى الهجوم. فقد رفض النقاد فكرة أن التمثيلات البصرية للكلمات تُختزن في مركز واحد، سواء التلفيف الزاوي أو منطقة أخرى في نصف المخ الأيسر. على سبيل المثال، افترض فيرنيك أن الذكريات البصرية للكلمات تتمركز في نصفَي المخ كليهما، على عكس ما يراه ديجيرين من أن التلفيف الزاوي الأيسر هو نقطة التلاقي الوظيفية الرئيسة لشبكات القراءة والكتابة في الدماغ. استمر هذا الجدل عدة عقود،4 لكن لم يُسفر عن أي استنتاجات قاطعة أو نتائج جديدة ذات قيمة حتى ظهور تقنيات التصوير العصبي وتطبيقها على دراسات الدماغ المتعلم، وذلك قبل نحو ثلاثين عامًا.
عرفنا منذ الدراسات الأولى التي أجراها ديجيرين، أن المصابين بحبسة القراءة الكلية (المرضى الذين لا يستطيعون القراءة لكن يستطيعون الكتابة) يندرجون تحت فئتين رئيستين: المرضى أمثال مريض ديجيرين الذي وصف حالته في عام ١٨٩٢ ممن لا يستطيعون حتى قراءة الحروف فرادى فضلًا عن قراءة كلمات كاملة، ومرضى يستطيعون تمييز الحروف فرادى وبإمكانهم قراءة الكلمات حرفًا بحرف بعد مشقة كبيرة. لذا من الوارد أن هناك جزءًا أو منطقة في الدماغ تتيح للشخص التعرف على الحروف المكتوبة — أطلق عليها «صندوق بريد الدماغ»، وهو اسم على مسمًّى — سواء كانت تلك الحروف تشكِّل سلاسل حروف لا معنى لها أو كلمات محتملة أو فعلية في لغة ما.5 وقد اكتشفت الدراسات التي أجريت على حبسة القراءة الكلية باستخدام بيانات التصوير أن الموقع الذي يشهد أقصى تركيز للأضرار بين هؤلاء المرضى ليس التلفيف الزاوي الأيسر، بل منطقة على السطح السفلي للنصف الأيسر من المخ، حيث تلتقي القشرة القذالية والصدغية. يُشار إلى هذه المنطقة باستخدام إما مصطلحات تشريحية (التلفيف المغزلي الأيسر والتلم القذالي الصدغي المجاور) وإما بتسميات وظيفية جديدة (مثل منطقة شكل الكلمة المرئية). وقد وجد كثير من الدراسات التي أجريت باستخدام التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي وتخطيط مغناطيسية الدماغ نشاطًا متزايدًا في تلك المنطقة أثناء أداء المهام التي تنطوي على قراءة حروف وكلمات.
من النتائج الأساسية التي توصلت إليها هذه الدراسات أن هذه المنطقة تُظهر تباينًا متدرجًا في التنشيط حسب طبيعة المدخلات؛ خاصة فيما يتعلق بمدى تشابه مثير بعينه مع كلمة حقيقية. إن كل المثيرات التي تشبه الحروف، ويتضمن ذلك سلاسل الخطوط المزيفة — وهي رموز ذات شكل فني مبسط لها سمات أو ملامح واضحة كالخطوط والأقواس والزوايا لكنها ليست حروفًا — والحروف القليلة الظهور في الإنجليزية (JZWYWX)، والحروف المتكررة الظهور (QOADTQ)، وتركيبات الحروف الثنائية المتكررة (QUMBSS: الحرفان QU من التركيبات الثنائية الحروف الكثيرة التكرار)، وكذلك تركيبات الحروف الرباعية المتكررة (AVONIL)، والكلمات الحقيقية، كلها تنشِّط القشرة القذالية الصدغية الخلفية. لكن وحدها سلاسل الحروف التي تشبه الكلمات — رباعيات الحروف الكثيرة التكرار والكلمات الحقيقية — هي ما تنشِّط الأجزاء الأمامية من المنطقة نفسها على نحو موثوق؛ إذ تصبح الاستجابات أكثر انتقائية للكلمات الفعلية في أجزاء أمامية أكثر من التلفيف المغزلي (الشكل ٧-٢). كما رُصد تنظيم وظيفي آخر مشابه من حيث التباين المتدرج في مناطق أخرى من الدماغ، يتضح أكثر ما يتضح في القشرة الجبهية السفلية اليُسرى (الشكل ٧-٢). هذه المنطقة ليست بمركز للقراءة أو للرؤية، لكنها تساهم على الأرجح في عملية القراءة، وذلك من خلال الإبقاء على المعلومات متاحة مباشرة، وكذلك من خلال إنشاء «نسخ» مختلفة من الحرف نفسه أثناء ظهوره في تركيبات الحروف بغضِّ النظر عن عددها، أو في سلاسل الحروف، أو في الكلمات.
fig7
شكل ٧-٢: التنظيم الوظيفي ذو التباين المتدرج للقشرة القذالية الصدغية. الجزء العلوي: قطاعات عرضية أفقية للدماغ تظهر معدلات التنشيط بالنسبة المئوية (شريط الألوان) بفعل خمسة أنواع من المثيرات مقارنة بكلمات حقيقية: المثيرات التي يتزايد تشابهها مع الكلمات توظف أجزاءً أمامية أكثر من القشرة القذالية الصدغية. الجزء السفلي إلى اليسار: صورة للتباين المتدرج تبيِّن متوسطات التنشيط بناءً على مثيرات غير كلامية. الجزء السفلي إلى اليمين: منظر جانبي أيسر لصورة التباين المتدرج للمتوسطات. المصدر: أعيدت طباعته بتصريح من إف فينكير، وإس دوان، وإيه روبرت، وجيه بي دوبوس، وإم سيجمان، وإل كوهين، «الترميز الهرمي لسلاسل الحروف في المسار البطني: تشريح التنظيم الداخلي لنظام شكل الكلمة المرئي»، دورية «نيورون»، ٥٥ (٢٠٠٧): ص ١٤٣–١٥٦.
إنني أدعو القراء لتدبر تداعيات هذه النتائج: تخيل ضررين محددين وواضحين أصابا القشرة المغزلية، أحدهما في الجزء الخلفي منها والآخر في الجزء الأمامي. أيهما يرجح أن يحدث اضطرابًا في معالجة كل أنواع المثيرات الشبيهة بالأحرف أكثر من الآخر؟ وأيهما قد يسبب في المقابل عجزًا محددًا في إدراك الكلمات الحقيقية؟ اطلع على الملاحظة الختامية بمجرد أن تصل إلى إجابة.6 إضافة إلى الأضرار التي تصيب التلفيف المغزلي، يمكن تدبر تداعيات الأضرار التي تصيب الروابط العصبية الممتدة من هذه المنطقة وإليها. إن الضرر الذي يصيب مسار المادة البيضاء لصندوق بريد الدماغ (بداية من القشرة المغزلية تقريبًا وحتى مناطق أمامية أكثر من الدماغ) يمكن أن تترك المريض قادرًا على إدراك أن ما يراه هو كلمة مكتوبة لكنه غير قادر على تحديد معناها أو نطقها. وهذا النوع من الإصابات يمكن أن يعطِّل التواصل بين صندوق بريد الدماغ ومناطق أخرى، من ضمنها قشرة اللغة الجبهية الصدغية اليسرى. في المقابل، من المرجَّح أن تتسبب الأضرار التي تلحق بالمادة البيضاء التي تحمل الإشارات العصبية إلى التلفيف المغزلي في حبسة القراءة الكلية؛ إذ قد لا يكون المريض قادرًا على تحقيق وصول بصري إلى المعلومات في صندوق البريد غير المصاب بضرر، لكنه قد يكون قادرًا على القراءة باللمس أو التعامل مع أشكال فك الرموز الإملائية التي لا تعتمد على المدخلات البصرية.
يعود بنا هذا إلى بيانات ديجيرين. تشير الأبحاث الحديثة إلى أن ديجيرين كان مخطئًا بشأن موقع مركز الكلمات المرئية؛ إذ لا يقع بالتلفيف الزاوي. نحن نعرف الآن أن المخ يعامل الكلمات المرئية، على الأقل في البداية، تمامًا كما يعامل الأشياء المرئية الأخرى. في جهاز الرؤية البطني أو الجزء السفلي من الفص الصدغي، نجد مناطق حساسة تجاه أنواع متعددة من الأجسام المرئية التي تمثِّل أهمية خاصة لنا، مثل الوجوه والأدوات والبنايات. في نهاية المطاف يتم التعرف على الكلمات المرئية في المكان نفسه الذي نتعرف فيه على الأجسام المرئية؛ ألا وهو التلفيف المغزلي الأيسر هو بالفعل جزء من مسار الإبصار البطني. في حالة مريض ديجيرين التي وصفها في عام ١٨٩٢، كان الضرر الذي أصاب المادة البيضاء في الفص القذالي الصدغي الأيسر (ب) كافيًا لفصل القشرة البصرية في نصفَي المخ كليهما عن التلفيف المغزلي الأيسر، الأمر الذي أدى إلى عجز تام عن القراءة. وتدعم الدراسات الحديثة هذه الفكرة.7 لكن لا يزال اللغز الأكبر غير مكتمل الحل. على سبيل المثال، يمكن للتلفيف الزاوي (الأيسر) أن يضطلع بدور في الكتابة وفي حبسة الكتابة، بناءً على ما توصل إليه ديجيرين وعلى المعرفة بجهاز الرؤية الظهري، وهو مجموعة من المناطق الجدارية، تتضمن التلفيف الزاوي، تمثِّل العلاقات والمواقع المكانية وتساهم في التوجيه البصري وتنسيق الحركات، وهي متطلبات الكتابة المتقنة. وقد وجدت الدراسات الحديثة بالفعل أن هناك ارتباطات بين القراءة والقشرة القذالية الصدغية (وفيها القشرة المغزلية) وبين الكتابة والقشرة الصدغية والجدارية السفلية (وفيها التلفيف الزاوي).8

تعلم القراءة، ولدونة الدماغ، وعسر القراءة

كيف تنشأ هذه الشبكة القشرية الدقيقة المسئولة عن القراءة والكتابة وتنضبط في أثناء فترة الطفولة؟ كيف يمكن لتعلم القراء والكتابة أن يغير المخ المتوافق مع القراءة؟ لا يمكننا أن نقدِّم إجابة كاملة في هذا المقام، لكني سأوضح بضع نقاط مهمة بمثال مألوف، هو الكتابة المرآتية أو المعكوسة. عندما يبدأ الأطفال ممارسة القراءة والكتابة، غالبًا ما يكتبون حروفًا وكلمات كاملة في الاتجاه الصحيح (لنقل من اليسار إلى اليمين) وفي الاتجاه المعاكس لذلك طوعًا، بل وبصورة عشوائية. فما سبب هذا؟ يعرف جهاز الرؤية لدى الطفل المبدأ العام القائل بأن الأجسام أو الأشياء تبقى على ما هي عليه مهما أديرت في الفراغ؛ أي إن هوية الجسم تظل ثابتة مع الدوران. فلو أن الكوب يظل كوبًا سواء حين يقف مستقيمًا على المكتب أو حين يكون مقلوبًا على حامل الأطباق، فلمَ يفترض أن يختلف الأمر بأي حال مع الأحرف أو الكلمات؟ في الواقع أن الكلمات والأحرف هي الاستثناء من هذا، وفي نهاية المطاف يدرك كل الأطفال هذه الحقيقة التي تناقض مبدأ الثبات الدوراني العام. وهذا ما يتطلبه الأمر لإدراك أن الحروف الإنجليزية b وd وM وW (الشكل ٧-٣) هي حروف مختلفة، رغم حقيقة أنها تبدو الأشكال المرئية ثلاثية الأبعاد نفسها وجرى تدويرها فقط على محورين عمودي وأفقي على الترتيب. لكن كيف يمحى ما تم تعلمه هكذا؟ يشير دوان إلى أننا نتعلم الأحرف في بداية الأمر من خلال الأجهزة الحركية ومن خلال المسار البصري الظهري باعتبارها إشارات حركية في الفراغ، وباعتبارها أجسام ثلاثية الأبعاد يمكن تغيير مكانها وتدويرها.9 تنتقل عملية التعلم تدريجيًّا من مناطق الإبصار الظهرية إلى البطنية بينما يتعلم الطفل الانتباه إلى الخصائص البارزة الأخرى للحروف، مثل اتجاهها المميز في الفضاء الثنائي الأبعاد. ثم يكتشف الطفل أن هذه الخصائص لا تسمح بالتدوير، وأن هذا القيد نفسه ينطبق أيضًا على تركيبات الأحرف الثنائية، وعلى تركيبات الأحرف بأي عدد، وعلى الكلمات ككلٍّ. حينئذٍ تنسق التيارات البصرية الظهرية والبطنية نشاطاتها بحيث لا يفرق الطفل وحسب بين الحرفين d وb حين يراهما، بل ينتج أيضًا أمثلة مختلفة لهذين الحرفين في الكتابة.
fig8
شكل ٧-٣: هوية الحرف ليست ثابتة حين تكون قيد التدوير.
إن تعلم القراءة والكتابة ينطوي على ما هو أكثر بكثير من تدريب نظام الرؤية البطني على الخواص الشاذة للكلمات باعتبارها أجسامًا مرئية.10 فالتعرف على الكلمات الحقيقية وسلاسل الحروف التي تقابل تسلسلات فونيمية واضحة في لغة المرء يتطلب تفاعلات بين منطقة صندوق البريد والمناطق الصدغية الأخرى التي تدعم الصوتيات والدلالات. ويعتمد تعلم القراءة على تغيرات في اللدونة في أنظمة اللغة والرؤية وعبر أجزائها.11 ويتطور تعلم القراءة على ثلاث مراحل: مرحلة مبكرة يتعلم فيها الأطفال تمثيلات حركية بصرية لبضع كلمات كاملة، مثل أسمائهم؛ ومرحلة فونولوجية يتعلمون فيها ربط الجرافيمات بالفونيمات (يختلف هذا الأمر عبر اللغات وأنظمة الكتابة، اعتمادًا على مدى وضوح العلاقة بين قواعد الإملاء والصوتيات)؛ والمرحلة الإملائية التي تكون فيها عملية تعيين الأصوات إلى أشكالها الكتابية تعمل بالفعل وتصبح القراءة عملية تلقائية وسريعة. وترتبط هذه التغيرات الوظيفية بتغيرات اللدونة في المناطق القشرية ذات الصلة، وعبر الأنظمة اللغوية والأنظمة البصرية والحركية.12
يمكن أن تعرقَل عملية تعلم القراءة والكتابة بعدة طرق، مما يؤدي إلى صعوبات القراءة أو عسر القراءة. تاريخيًّا، كانت أول اضطرابات القراءة التي خضعت للبحث حالات لمرضى بالغين فقدوا مهارات القراءة والكتابة نتيجة لأضرار أصابت الدماغ (انظر أعلاه). لكن لم يمرَّ وقت طويل بعد اكتشافات ديجيرين المؤثرة حتى وُصفت أولى حالات عسر القراءة الخلقي أو التطوري.13 والفارق بين عسر القراءة الخلقي والمكتسب فارق حقيقي ملموس؛ فهما ليسا شكلين لعوامل متشابهة تقف وراء حدوث الخلل في المخ. يمكن للأضرار القشرية الموضعية أن تتسبب بحبسة القراءة (الكلية) في مرضى الاضطرابات العصبية، لكن نادرًا ما يوجد دليل على وجود قصور تشريحي ووظيفي موضعي في المخ لدى الأطفال المصابين بحبسة القراءة. إضافة إلى ذلك، يبدو أيضًا أن الآثار الحيوية العصبية لحبسة القراءة التطورية تشمل أنظمة معالجة الكلام المسموع وليس فقط القشرة البصرية أو المناطق الصدغية السفلية (المغزلية).14 ويمكن أن يصاحب حبسةَ القراءة تدنٍّ في القدرة على قراءة الكلمات بصوت مرتفع؛ خاصةً الكلمات التي لا يتبع نطقها النمط العادي في اللغة أو سلاسل الحروف التي لا يبدو وقعها في النطق كوقع الكلمات في أي لغة (أي إنها لا كلمات). يتسق هذا مع النمط السلوكي لحبسة القراءة الذي يرتبط فيه العجز عن القراءة (واكتساب القدرة على القراءة) بالصعوبات التي يواجهها الطفل المصاب بحبسة القراءة في تحويل سلاسل الحروف المكتوبة إلى أصوات منطوقة (تحويل الجرافيمات إلى فونيمات)، ويمكن أن يصاحب هذا عجز في معالجة الكلام. تبيِّن هذه النتائج، إضافة إلى الدراسات الحديثة التي تتناول الأصول الجينية لعسر القراءة (التي سنناقشها في الفصل التاسع) أن عسر القراءة التطوري ينشأ عن تنظيم تشريحي ووظيفي لا نمطي للقشرة الدماغية المسئولة عن اللغة في مرحلة الطفولة المبكرة؛ ومن ثَم فإنه يسبق عملية تعلم القراءة والكتابة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤