يدرس علم الحبسات اضطرابات الكلام واللغة المكتسبة. وقد
خلف أثرًا عميقًا على اللغويات العصبية بصفة عامة (الفصل
الأول)، ويظل مجال بحث حيويًّا في العلوم المعرفية وعلوم
المخ، مما قد يحمل تأثيرًا اجتماعيًّا كبيرًا. تُعَد إصابات
الدماغ — سواء كانت رضحية أو لا (أي التي يكون سببها، على
سبيل المثال، السكتات الدماغية أو الأورام أو العدوى) — سببًا
أساسيًّا للعجز أو الموت؛ إذ تصيب ملايين الناس كل عام في
جميع أنحاء العالم.
1 ونظرًا إلى أن وظائف اللغة موزعة عبر أجزاء
الدماغ، فمن المحتمل أن الأضرار التي تصيب القشرة الدماغية
ستحد من قدرة الشخص على استخدام اللغة، سواءٌ كان ذلك بصورة
مؤقتة أو دائمة. وتعتمد فرص نجاح إعادة تأهيل المريض على فهم
طبيعة الاضطراب بدقة من الناحية السلوكية والوظيفية
والتشريحية العصبية. وهذا هو هدف اللغويات العصبية السريرية
الحديثة أو علم اللغة العصبي. الحبسة ليست اضطرابًا منفردًا،
بل هو طائفة معقَّدة من الحالات العصبية تظهر في شكل اعتلال
للقدرة على إنتاج اللغة المنطوقة أو فهمها. وثمة كثير من
التباين من حيث نوع الاعتلال وشدته. والتباين اللغوي للحبسة
يجعل من الاستعانة بأفكار من اللغويات النظرية أمرًا مهمًّا
للغاية لتكوين فهم دقيق لمتلازمات الحبسة. لم ينتج عن
التصنيفات والنظريات الحديثة تفسير كامل ومتسق لأعراض
الحبسة.
2 ولكن في خضم هذا الرفض للنظريات والتفسيرات
للوظائف اللغوية النمطية واللانمطية، اكتسبنا بعض الرؤى
المهمة. من بين هذه الرؤى أن مصابي الحبسة قد يرتكبون أخطاءً
مشابهة في المهام اللغوية (على سبيل المثال، التسمية والتكرار
وإعادة الصياغة)، لكن عدد هذه الأخطاء التي يرتكبونها يمكن أن
يختلف؛ إذ قد يكون الاضطراب أكثر أو أقل حدة. أو يمكن أن تكون
معدلات الأخطاء متشابهة، لكنها قد تختلف في طبيعتها؛ فمن حيث
النوع، على سبيل المثال، قد يجد بعض المرضى صعوبة أكبر في
تسمية الأفعال، وقد يجد البعض الآخر صعوبة أكبر في تسمية
الأشياء. ويمكن لعلم اللغة أن يساهم بقدر كبير في تحليل أنواع
الأخطاء المختلفة وفي الربط بين أنماط الأخطاء عبر مختلف
المهام.
كما أبرزنا في فصول سابقة، يتولى تنفيذ عمليات المعالجة
اللغوية عدة مراكز موزَّعة على نطاق واسع عبر القشرة
الدماغية. ثمة رؤية أخرى تتأتَّى من علم الحبسات، وهي أن تدفق
المعلومات في داخل هذه الشبكات يمكن أن يتحقق بواسطة مسارات
عصبية توصيلية متعددة. يمكن تنفيذ بعض العمليات الكلامية
واللغوية في المخ بأساليب مختلفة، وذلك باستخدام مناطق مختلفة
واستغلال الروابط بينها. فلو أن أحد المسارات أصيب بتلف أو
قصور وظيفي، يمكن أن يتولى مسار آخر الوظائفَ التي يؤديها هذا
المسار المتضرر، ما دامت روابطه العصبية سليمة.
3 وليست هذه هي الطريقة الوحيدة التي يستجيب بها
الدماغ استجابة تكيفية تجاه الأضرار التي تصيبه. فيمكن إعادة
توطين بعض الوظائف من مناطق متضررة إلى أخرى سليمة. لكن قد
تكون إعادة التوجيه حلًّا أكثر فاعلية لإصلاح الضرر من إعادة
التعيين بالنسبة إلى الوظائف الموزَّعة على نطاق واسع. وقبل
أن نتطرق إلى تفاصيل إعادة تنظيم اللغة بعد تضرر الدماغ،
لننظر في طبيعة الاضطرابات الناجمة عن الحبسات.
نماذج الحبسات التقليدية والمستجدة
عادةً ما يتوقف تصنيف اضطرابات الحبسة على ما إن كان
الخلل في إنتاج الكلام أم في فهمه أم في تكراره. فقد تكون
كل واحدة من هذه المهارات متضررة ولو جزئيًّا بمعزل عن
الأخرى. فلو أصيبت المهارة س، مثلًا، باختلال بينما كانت
المهارة ص سليمة أو العكس، فنقول إن المهارتين س وص يمكن أن
تكونا «منفصلتين». أما حين تحدث الاختلالات في المهارة س
بالتزامن مع اختلالات في المهارة ص، فإن هاتين المهارتين
«متصلتان». يمكن أن تكون المهارتان س وص مهارات كلامية أو
لغوية محددة (مثل تكرار الفونيمات في مقابل الكلمات
الأحادية المقطع، أو فهم الكلمات في مقابل الجمل). والواقع
أن نماذج اضطرابات الحبسة قد تطورت وأصبحت تقيِّم مهارات
الكلام أو اللغة المتضررة بدقة كافية لأغراض التشخيص. لكن
يمكن أيضًا العثور على أنماط انفصال للاختلالات بين الوظائف
العامة المتمثلة في الإنتاج والفهم والتكرار.
يتمثل التشعب الرئيس في النماذج التقليدية فيما إن كان
إنتاج اللغة المنطوقة يتسم بالطلاقة أم متعسرًا. تحدث
«الحبسة الشاملة» — وهي أشد أنواع الحبسات — حين يكون
الكلام المتلعثم مصحوبًا بصعوبات في كلٍّ من فهم اللغة
(المنطوقة) وتكرار الكلام. ويمكن أن يظهِر المريض أعراض
الحبسة الشاملة بعد فترة قصيرة من الإصابة بسكتة دماغية أو
نوع آخر من الأضرار التي تصيب الدماغ. ويمكن لمثل هذه
الأعراض أن تستمر حتى بعد انقضاء المرحلة الحادة من التعافي
إذا ما امتد التلف الدماغي إلى عدة مناطق قشرية أو إلى
ألياف المادة البيضاء، أو إذا كانت تلك الأعراض تُتلف شبكات
لغوية أساسية، مثل القشرة الجبهية السفلية اليسرى، أو
القشرة الصدغية الخلفية، أو القشرة الجدارية، أو الروابط
بينها (انظر الفصل الرابع).
إذا لم يكن إنتاج الكلام سلسًا؛ أي كان هناك خلل في
إنتاجه وتكراره، بينما لم يمس فهمَ اللغة أيُّ ضرر، يُصنَّف
الاضطراب على أنه «حبسة بروكا» (انظر الفصل الأول). في
النماذج التقليدية للحبسات، افتُرض أن الأضرار التي تصيب
باحة بروكا (التلفيف الجبهي السفلي الأيسر الخلفي) أو منطقة
بروكا (التلفيف الجبهي السفلي الأيسر كاملًا) كافية للتسبب
في حبسة بروكا. أما الآن، فنعرف أن الأضرار المقتصرة على
باحة بروكا نادرًا ما ينتج عنها حبسة بروكا كلية، وأن الضرر
الذي يصيب أجزاءً أخرى من شبكة اللغة يمكن أن يعرقل إنتاج
الكلام أو تكراره. فلو كان الكلام متلعثمًا بينما التكرار
سليم، فنحن نتحدث هنا عن الحبسة عبر القشرية، وهي نوعان:
«الحبسة الحركية عبر القشرية» وذلك إن كانت عملية الفهم لم
يمسها ضرر، و«الحبسة المختلطة عبر القشرية» وذلك إن امتد
الضرر إلى الفهم.
تنشأ أربع متلازمات أخرى حين يكون الكلام سلسًا، لكن
عملية الفهم أو التكرار أو التسمية معرَّضة للخطر. عادةً ما
تتسم «حبسة فيرنيك» (انظر الفصل الأول) بضعف في الفهم
وتكرار الكلام. وغالبًا ما تكون عملية التسمية معتلة أيضًا.
ولا تقتصر حبسة فيرنيك على الدلالات، لكنها تشمل أيضًا
الأنظمة الفونولوجية اللازمة لكلٍّ من إنتاج الكلام وفهمه.
يتسم الكلام لدى هؤلاء المرضى المصابين بالحبسة، بالطلاقة
والتدفق السلس، لكنه قد يفتقر إلى البنية والترابط. ويمكن
أن تتأثر عمليتا القراءة والكتابة علاوة على ذلك. عادة ما
كانت حبسة فيرنيك مرتبطة بتلف متمركز في القشرة الصدغية
العلوية الخلفية اليسرى، أما اعتلال الفهم فيمكن أن يكون
ناجمًا عن أضرار تصيب المناطق أو الروابط القشرية التي
تشتمل على المسارات البطنية الصدغية (في جانبَي
الدماغ كليهما) (تذكَّر
نموذج المسار الثنائي لهيكوك وبويبل من الفصل الرابع).
تتميز «الحبسة التوصيلية» بطلاقة الكلام، والفهم السليم، مع
اعتلال عملية التكرار، وكذلك عملية اختيار المفردات أو
الكلمات، والرقابة الداخلية على الكلام. وفي معظم النماذج
التقليدية، ترتبط الحبسة التوصيلية بتلف يصيب ألياف المادة
البيضاء التي تربط المناطق الصدغية العلوية بالتلفيف الجبهي
السفلي الأيسر. ولو كانت عملية التكرار سليمة لم يمسها ضرر،
فإننا نحصل على نوعين إضافيين من الحبسة المصحوبة بالطلاقة
والسلاسة في الكلام. إذا كانت عملية الفهم معتلة، يُعرف
الاضطراب هنا بأنه «حبسة حسية عبر قشرية»؛ لا تخلط بينها
وبين حبسة فيرنيك، التي غالبًا ما تكون مصحوبة بضعف في
القدرة على تكرار الكلام. أما إن كانت عملية الفهم سليمة،
يكون الضرر مقتصرًا على التسمية، ويشخص المريض بحبسة
التسمية. يواجه المرضى المصابون ﺑ «حبسة التسمية» صعوبات في
توفير الكلمات اللازمة للتعبير عن الأفكار التي يريدون
التعبير عنها؛ لا سيما كلمات المحتوى، كالأسماء والأفعال،
وذلك أثناء الكتابة والقراءة. قد تتضمن لغتهم التعبيرية
بنية نحوية كافية (على سبيل المثال، وجود الكلمات
الوظيفية)، لكنهم عادة ما يبذلون جهدًا شاقًّا للتعبير عن
أفكارهم.
خضع التصنيف
التقليدي لاضطرابات الحبسة لنقاشات وانتقادات واسعة المجال.
فهو يُعَد أداة مساعدة معيبة لأغراض البحث والتشخيص
والعلاج، لكنه يظل مرجعًا ضروريًّا لتطوير نماذج لغوية
عصبية أحدث وتصنيفات أفضل. من المجالات التي تخضع حاليًّا
للبحث التشريح العصبي الوظيفي للحبسة، الذي تحفزه التطبيقات
السريرية لتخطيطات كهربية ومغناطيسية المخ والتصوير بالرنين
المغناطيسي الوظيفي، وكذلك تطوير أساليب جديدة لتعيين مواضع
الوظائف اللغوية أثناء العمليات الجراحية، مثل جراحات
استئصال الأورام. وتأتي التطورات الحديثة من الدراسات التي
تُجرى على مرضى السكتات الدماغية. يمكن للسكتة أن تكون
إقفارية (وتنجم عن انسداد الأوعية الدموية ما يؤدي إلى
انقطاع تدفق الدم إلى المناطق القشرية) أو نزفية (وتنجم عن
انفجار الأوعية الدموية فيجتاح الدم الأنسجة العصبية)؛ وفي
كلتا الحالتين، تصاب خلايا الدماغ بالتلف. تنتج الحبسة
الحادة في نحو ٣٠ في المائة من إجمالي حالات السكتة
الدماغية.
4 فمن المحتمل أن يتسبب التلف الذي يصيب مناطق
أساسية من شبكات الكلام واللغة (مثل التلفيف الجبهي السفلي
الأيسر أو المناطق الصدغية اليسرى) في حبسة حادة أو حبسة
شاملة. والتلف الذي يصيب المسار الظهري الذي يربط المناطق
الصدغية والجدارية والأمامية المسئولة عن اللغة يصاحبه حبسة
فقد الطلاقة أو الاضطراب الكلامي الحركي، في حين يمكن
للأضرار التي تصيب المسار البطني أن تعرِّض عملية الفهم
للخطر. تعتمد عمليات التسمية وتكرار الكلام والتركيبات
النحوية، إلى جانب عمليات لغوية أخرى، على التفاعلات بين
المجريين؛ ومن ثَم يمكن لها أن تتلف بفعل الأضرار التي تصيب
أجزاءً من الشبكة الأساسية.
5 وهذه الاستنتاجات مدعومة بدراسات أجريت على
مرضى الأورام الدماغية.
6
تأخذ التصنيفات المستجدة للحبسات في الاعتبار الأصل
السببي والتطور الوظيفي للاضطراب. وفي حين ينتج عن إصابات
الدماغ تلف مفاجئ للوظائف اللغوية، يمكن للأمراض العصبية
التنكسية، كألزهايمر وداء التنكس الجبهي الصدغي، أن تتسبب
في فقدان تدريجي ونهائي للمهارات اللغوية. وقد تنجم «الحبسة
الأولية المترقية» عن تدهور الأنسجة القشرية في شبكات
الكلام واللغة. غالبًا ما تبدأ هذه الحبسة في شكل فقدان
طفيف للأداء في مهام لغوية بعينها، كإيجاد الكلمات
والتسمية، وقد تتطور إلى أشكال حادة من حبسة فقد الطلاقة أو
حتى الحبسة الشاملة.
7 أما بالنسبة إلى متلازمات الحبسة الناجمة عن
إصابة رضحية في الدماغ أو عن سكتة دماغية، فستعتمد الملامح
الوظيفية والسلوكية للحبسة الأولية التقدمية على موقع التلف
ومداه في شبكات اللغة أو مناطق أخرى من الدماغ في مرحلة
معينة من المرض. وتظهر الحبسة الأولية التقدمية في ثلاثة
أشكال مختلفة على الأقل: (١) الحبسة الأولية التقدمية
الدلالية حيث قد يواجه المرضى صعوبات في التسمية أو فهم
الكلمات نتيجة لتغيرات غير طبيعية في وظائف الفص الصدغي،
(٢) الحبسة الأولية التقدمية المصحوبة بفقد
الطلاقة/اللانحوية، وفيها يجد المرضى صعوبات في تنظيم
الكلام ونطقه من حيث الأصوات والتركيب النحوي، (٣) الحبسة
الأولية التقدمية اللوبوجينية (مشتقة من الكلمة اليونانية
التي تعني «الافتقار إلى الكلمات»)، وفيها غالبًا ما يُظهر
المرضى مهارات متدنية في إيجاد الكلمات والتسمية وتكرار
الكلام، بينما تكون قدراتهم الكلامية الدلالية والتركيبية
والحركية سليمة.
تأخذ التصنيفات المستجدة للحبسات في اعتبارها الأصل
السببي والتطور الوظيفي للاضطراب.
إعادة تنظيم اللغة بعد تضرر الدماغ
لا تحظى الأمراض التنكسية العصبية في الوقت الحالي بأمل
كبير في استعادة الوظائف الدماغية، لكن فرص ذلك أحيانًا ما
تكون أفضل بصورة كبيرة بعد إصابة الدماغ بأضرار (موضعية).
يمكن للدماغ أن يستجيب للتلف بأشكال مختلفة. وهناك مبدآن
مهمان للغاية في هذا السياق.
8 المبدأ الأول هو مبدأ «الانحلال»؛ ويدور حول
فكرة إمكانية أداء الوظيفة نفسها أو الاقتراب منها من خلال
أنظمة مغايرة أو بأساليب مختلفة، فيما يشبه قليلًا الوصول
إلى الوجهة نفسها من المنزل عبر طريقين مختلفين؛ فإذا كان
أحدهما غير متاح (لنفترض أنه مقطوع بفعل أعمال على الطريق)،
فبالإمكان سلوك الطريق الآخر. فلو تضررت بعض البنى القشرية،
يمكن إعادة توجيه المعلومات إما من خلال المناطق السليمة من
شبكة اللغة في نصف المخ الأيسر، وإما إلى مناطق مناظرة
(مماثلة) لها في نصف المخ الأيمن، أو إلى مناطق لا لغوية.
المبدأ الثاني هو «الاحتياطي الوظيفي»، ويقوم على فكرة أن
شبكات الدماغ لها قدرات باقية لا تُستخدم في الأحوال
الطبيعية، لكن يمكن استنفارها في ظروف خاصة. ويسمح كلٌّ من
مبدأ الانحلال ومبدأ الاحتياطي الوظيفي للمخ بالتفاعل مع
التلف الذي يلحق به من خلال التعويض عن فقدان
الوظيفة.
9
وقد أكدت الدراسات التي أجريت على المرضى المصابين
بسكتات دماغية في المناطق الصدغية الجدارية أو الأمامية
اليسرى على الطبيعة الديناميكية لعملية إعادة التنظيم. في
العموم، تحدث استجابة الدماغ تجاه السكتات على ثلاث مراحل:
(١) «المرحلة الحادة»، وتحدث بعد الإصابة بالسكتة بفترة
وجيزة، حيث تكون الآثار المدمرة لإصابات الدماغ أوضح على
الإطلاق، (٢) «المرحلة شبه الحادة»، وتكون عملية إعادة
التنظيم فيها جارية وقيد التنفيذ، وتستعاد بعض الوظائف
تدريجيًّا أو جزئيًّا، (٣) «المرحلة الدائمة»، وفيها يستقر
الأداء عند مستوًى مشابه أو أقل من المستوى الطبيعي. والتلف
الذي يصيب البنى المختلفة في شبكة اللغة يؤدي إلى آثار
مختلفة تمامًا في المرحلة الحرجة. إن نمط هذه الآثار
معقَّد، ويمكن تبسيطه على النحو التالي.
10 عادة ما تؤدي السكتة الدماغية التي تصيب الفص
الصدغي والجداري الأيسر إلى خفض النشاط العام في شبكة
اللغة، وأيضًا في المناطق الأبعد مثل التلفيف الجبهي السفلي
الأيسر. في المقابل، غالبًا ما تؤدي السكتات الدماغية في
المناطق الأمامية إلى استنفاد النشاط الجبهي (الموضعي)،
بينما قد تكون الاستجابات في القشرة الصدغية الجدارية سليمة
نسبيًّا. ويشير هذا الأمر، على المستوى الوظيفي، إلى أن
النشاط في المناطق الجبهية يتوقف على المدخلات من المناطق
الصدغية الجدارية، في حين لا يكون العكس من ذلك هو الحال
بالضرورة.
قد تختلف عملية إعادة تنظيم اللغة في المخ بين المرضى
المصابين بالسكتات في المناطق الصدغية الجدارية وأولئك
المصابين بها في المناطق الجبهية. وفي كلتا الحالتين
يُلاحَظ نشاط متزايد للمناطق التي تجاور منطقة الإصابة
(القشرة المحيطية) وللقشرة المعافاة في مناطق اللغة في
النصف الأيسر من المخ؛ خاصة في أثناء المرحلة شبه الحادة.
وهذا يتسق مع عملية إعادة تعيين الوظائف الموضعية
والاحتياطي الوظيفي. وهناك سعة وظيفية داخلية في داخل شبكة
اللغة يمكن استغلالها استجابة للتلف؛ وهذا ينطبق على
المناطق الصدغية الجدارية والمناطق الجبهية على حد سواء. في
المرضى المصابين بسكتات في المناطق الصدغية الجدارية، تحدث
إعادة تعيين وظيفي ضئيلة، إن حدثت، في المناطق المتماثلة في
النصف الأيمن من المخ. في المقابل، توظَّف الشبكات العامة
المجال التي تدخل في عديد من المهام عبر المجالات المعرفية
للتعويض عن خسارة الوظائف في المناطق الصدغية الجدارية
اليسرى. في المقابل، نرى في مرضى السكتات في المناطق
الجبهية استجابة تعويضية سريعة على عدة جبهات في آنٍ واحد:
في مناطق اللغة السليمة، وفي المناطق المتماثلة في القشرة
الجبهية الأمامية من نصف المخ الأيمن، وفي الأنظمة عامة
المجال. لا تخبرنا هذه النتائج بما يقوم به المخ على الصعيد
الوظيفي للتعافي من السكتة، لكنها تُظهر أنه يستخدم عدة
استراتيجيات في آنٍ واحد: استعادة الوظائف في داخل مناطق
اللغة المعافاة من النصف الأيسر للمخ، والتعويض عن طريق
الأنظمة العامة المجال. وتهيمن هذه الاستراتيجيات لدى مرضى
السكتات على توظيف المناطق أو الشبكات غير المرتبطة
وظيفيًّا بالكلام أو اللغة.
هناك سعة وظيفية داخلية في داخل شبكة اللغة يمكن
استغلالها استجابة للتلف.
لغز الحبسة النحوية
يظهر بعض مرضى الحبسات المفتقدين لطلاقة الكلام قصورًا
يمكن وصفه وصفًا تقريبيًّا بأنه ضعف نحوي. وأطلِق على هذا
القصور مصطلح «الحبسة النحوية»، وهو أيضًا اضطراب معقَّد في
إنتاج اللغة واستقبالها. يفتقر الكلام غير النحوي إلى
مورفيمات أو وحدات نحوية قائمة بذاتها (على سبيل المثال،
الكلمات الوظيفية كحروف الجر والضمائر والعناصر اللغوية
المساعدة)، ومورفيمات تصريفية أو عناصر تطابق (مثل الزمن).
جرت العادة على التمييز بين مصطلح الحبسة النحوية و«الخطل
النحوي»، الذي يكون فيه التكوين النحوي سليمًا، لكن ثمة خطأ
في اختيار العناصر المعجمية أو الوظيفية أو يحل محلها عناصر
غير صحيحة. وقد كان يُعتقد أن الخطل النحوي مظهر لاضطراب
كلامي حركي؛ خاصة حبسة بروكا، قبل أن تؤخذ فكرة وجود تلف في
أحد المكونات التركيبية لنظام اللغة على محمل الجد وتستكشَف
بصورة ممنهجة. وقد أدى هذا إلى برامج بحثية مثيرة، في ظل
إسهامات كبيرة من اللغويات النظرية.
11
من الألغاز الكبيرة في الحبسة النحوية ما إن كان هناك
خلل أو ضعف نحوي في كلٍّ من إنتاج الكلام وفهمه. يُزعَم أن
الأبحاث المبكرة توضح أن المصابين بالحبسة النحوية يعانون
من اختلالات في الفهم؛ إذ يفهمون الجمل المعقدة تركيبيًّا
لكنها محدودة دلاليًّا (
The Apple That the
Boy Is Eating Is Sweet ، بمعنى «التفاحة
التي يأكلها الولد حلوة»)، التي تستوحى فيها تأويلات تلك
الجمل من المعرفة الواقعية، لكنهم يواجهون صعوبة مع الجمل
التي تتطلب معالجة تركيبية (
The Cow That
the Monkey Is Scaring Is Yellow بمعنى
«البقرة التي يخيفها القرد صفراء»).
12 وقد أظهرت أبحاث لاحقة أن الكلام غير النحوي لا
يشير بالضرورة إلى قصور في الفهم، وأن مرضى الحبسة النحوية
قادرون على تحديد ما إن كانت الجمل صائبة نحويًّا. من ثَم
فإن المعرفة النحوية في الحبسة النحوية قد لا تكون مفقودة،
لكن يمكن أن تكون العمليات النحوية ضعيفة أو بطيئة أو
مبتورة من أنظمة الصوتيات والدلالات.
أشارت دراسات أحدث أجريت على الأسس العصبية لضعف
القواعد النحوية إلى أن الحبسة النحوية قد تكون نتيجة
إصابات في المناطق القشرية الجبهية، في حين يرتبط الخطل
النحوي بتلف المناطق الصدغية الخلفية. ويرجح أن هاتين
المتلازمتين تنشآن عن الإصابات التي تصيب النصف الأيسر من
الدماغ أكثر من النصف الأيمن. ومرة أخرى يشير هذا الدليل
إلى الطبيعة التوزيعية للتمثيلات والعمليات اللغوية
والنحوية في المخ.
13 إضافة إلى ذلك، يتصل النحو بأنظمة الصوتيات
اللغوية والدلالات. فتعمل واجهات الربط هذه على دعم قدرة
نظام اللغة على إعادة تنظيم نفسه ديناميكيًّا استجابة لتلف
المناطق الجبهية أو الصدغية. على سبيل المثال، في تجارب
الجهود المرتبطة بحدث، يُظهر المرضى المصابون بالحبسة
النحوية تأثيرات الاستجابة
N400، في حين يُظهر
المشاركون من المجموعة الضابطة تأثيرات الاستجابة
P600 في الجمل التي تحتوي
على أخطاء نحوية.
14 وتشير هذه النتائج إلى أن النظام الدلالي
يعوِّض آنيًّا أي فقدان أو انخفاض مهارات المعالجة النحوية،
الأمر الذي يتسق مع اللدونة متعددة المسارات (انظر
أعلاه).
تركز النقاشات الآن على ما إن كان الكلام غير النحوي
انعكاسًا للقصور أو ما إن كان محاولة من المخ للتأقلم معه.
فهذا القصور في حد ذاته عبارة عن بطء أو ضعف في الاسترجاع
المعجمي والمعالجة التركيبية، وتتمثل استجابة الدماغ في
تبسيط تلك العمليات الصعبة أو تخطيها، الأمر الذي ينتج عنه
النمط المميز للكلام غير النحوي. ثمة مجال آخر للنقاش، وهو
ما إن كان هذا الاضطراب يؤثِّر على بناء الجملة في حد ذاته
أو على علاقته بالصوتيات والدلالات، خاصة على مستوى الخطاب.
في الواقع أن بعض أعراض الحبسة النحوية المعروفة تنطوي على
ضعف في إنتاج الجمل أو فهمها في المنطقة التي يتفاعل فيها
بناء الجملة مع دلالات الخطاب؛ مع ضمائر الوصل، أو زمن
الفعل، أو الأدوات النحوية الأخرى البالغة الأهمية للتعبير
عن المعنى بما يتجاوز مستوى الجمل. ويجري الآن إعادة صياغة
الحبسة النحوية بوصفها قصورًا في كيفية تنظيم الصوتيات
والتصريفات والدلالات من أجل إنتاج وفهم اللغات المنطوقة.
وتتحدى هذه التطورات فكرة وجود نظام نحوي مستقل بذاته في
المخ يمكن أن يتلف على نحو محدد ومستقل.
15