مسز بلوم
جنوب أفريقيا
كانت «مسز بلوم» تحب الكلاب والأفارقة، وتؤمن بضرورة أن يلتزم كل شخص بالقانون .. تلك كانت ثلاثة أشياء كبيرة مهمة في حياة المدام التي أعمل في خدمتها بمنطقة جرين سايد، والتي لا تبعد كثيرًا عن جوهانسبرج .. كان العمل الأول لي كطباخة ومنظفة للملابس مع رجل أبيض وزوجته في شمال بارك تاون، لكنهما كانا يشربان كثيرًا، ولا يدفعان لي أجري؛ مما جعلني أقول لنفسي: لا، سوف أترك هذا الرجل السِّكِّير وزوجته السِّكِّيرة.
تركت العمل عندهما فعلًا، وقد كنت غاضبة بشدة في ذلك اليوم كما يحدث حين يلامس الحديدُ الساخن ماءً باردًا، وفي المرة الثانية عملت طاهية بأحد البيوت في بيلجرافيا، وكان عليَّ أن أقوم بتنظيف خمسة أطفال لم يحسنوا تربيتهم؛ إذ كثيرًا ما كانوا يدعونني بالفتاة السوداء دون أن أجرؤ على الكلام؛ لأن أمهم كانت تسمعهم ولا تقول شيئًا .. كنت حديثة العهد في تجربة الابتعاد عن بلدتي فوكينج القريبة من روستنبرج، وتتملكني رغبة شديدة في التعلم ومعرفة شيء ما عن أولئك الناس ذوي البشرة البيضاء، لكن الشيء الذي قادني للجنون وجعلني أحزم أشيائي وأرحل هو ذلك الرجل الذي اعتاد زيارتهم، قالوا إنه ابن عم أو شيء كهذا، وقد كان يأتي إلى المطبخ كثيرًا محاولًا إضحاكي وهو يربت فوق أردافي، وحين أخبرت السيد لم يهتم. وعاود الرجل فعلته مرة أخرى؛ وعندئذٍ سألت المدام أن تعطيني نقودي وتدعني أذهب.
هكذا كانت الشهور التسعة الأولى بعد مغادرتي فوكنج لأول مرة من أجل العمل في جوهانسبرج، ولم أكن أنا الوحيدة التي غادرت بلدها؛ إذ إن كثيرًا من الفتيات والفتية والنساء الشابات من فوكنج، وزيرست، وشوبنج، وكوستن، وأماكن أخرى عديدة قد جئن للعمل في المدن؛ ولذلك كانت الضواحي مليئة بالسود، وكان معظمنا ممن تجاوزوا المستوى السادس؛ وهكذا تعلمنا مزيدًا من الإنجليزية في الأماكن التي عملنا بها .. لم نكن نحب العمل لدى الفلاحين البِيض؛ لأننا نعرف كثيرًا عنهم من خلال المزارع القريبة من بيوتنا، كما أنهم لا يدفعون أجورًا معقولة ويتسمون بالقسوة.
كان معظمنا يعود إلى بلدته في إجازة عيد الفصح الطويلة لرؤية الأهل، وتناوُل الدجاج والسبانخ الجافة، واحتساء اللبن الرائب، وكنا نأخذ معنا السكر، واللبن المركَّز، والشاي، والقهوة، والحلوى، وبودرة الكاستر، والطعام المعلَّب.
كانت «شيمين» تعمل خادمة في البيت المجاور تمامًا لبيت «مسز بلوم»، فأخبرتني عن حاجتها لخادمة .. كنت سعيدة جدًّا بعملي مع «مسز بلوم» وابنتها «كيت» في جرين سايد، ولم يكن العمل سيئًا كما كان في أماكن أخرى، وحتى «شيمين» لم تكن تشكو كثيرًا .. كانوا يدفعون لنا ستة جنيهات في الشهر بالإضافة للطعام والإقامة في حجرة الخدم، لكننا — من حين لآخر — كنا نشكو بطريقة أو بأخرى.
كنا نلتقي في أمسيات يوم الخميس؛ حيث تأتي كل النساء السود من مختلف الضواحي، ونتبادل أحاديث كثيرة عن الناس الذين نعمل عندهم، وعن أمراضهم وخطاباتهم ومحاصيلهم السيئة، وعن الأخت التي طلبت زِيًّا وكُتبًا ومصاريف المدرسة .. كانت كل واحدة منا تتحدث عن السيد أو السيدة التي تعمل عندهما، وعن كرم بعضهم أو بخل البعض الآخر فيما يتعلق بالطعام أو النقود، وعن الأغبياء منهم أو عديمي الإحساس، وعن أولئك الذين يقتلون أنفسهم ويقتلون بعضهم البعض، وعن القذرين منهم، وأشياء أخرى كثيرة لا أستطيع أن أذكرها كلها.
كانت أمسيات يوم الخميس هي وقت راحتنا، ولم نكن نكتفي بالثرثرة والكلام عن البِيض الذين نعمل عندهم؛ وإنما كنا نتجول لمشاهدة المحال التجارية، ونذهب لنادي المرأة لرؤية أصدقائنا الأولاد، وكان البعض منا يذهب لرؤية البروجيكتور السينمائي، لكننا كنا جميعًا نبدو متأنقات بملابسنا التي اشتريناها من الرجال السود الذين يبيعون البضائع للخدم في الضواحي بالتقسيط .. كنا نرتدي تلك الملابس بالطريقة نفسها التي تقوم بها السيدات والبنات البِيض؛ فنبدو متأنقات حقًّا، وحين كانت تنظر إلينا امرأة بيضاء بدهشة كنا نشعر بشيء جميل ونضحك كثيرًا، حتى نكاد نقع على الأرض.
سألتني «مسز بلوم» في أول يوم جئت فيه للعمل عندها: بماذا دعتك الفتاة في البيت المجاور لنا؟
أجبت: «جين».
– أليس لك اسم أفريقي؟
– نعم، «كارابو».
– حسنًا، سوف نناديك «كارابو».
كانت تدرك أهمية الاسم ودلالته؛ فشعرت بالبهجة لأن كثيرًا جدًّا من البِيض لا يهتمون بأسماء السود؛ كما أنني لا أسمع اسم «كارابو» إلَّا حين أكون في بلدي أو عندما أتحدث مع أصدقائي.
أخبرتني «مسز بلوم» بما يجب أن أفعله، فحدثتني عن الوجبات وأوقاتها، وعن الغسيل، ومكان كل الأشياء التي سأستخدمها حتى قالت: إن ابنتي في المدرسة وسوف تكون هنا في المساء.
ثم أضافت: عندما تأتي ابنتي سوف تخبرك ببعض الأشياء التي يجب أن تقومي بعملها كل يوم.
كانت «شيمين» — صديقتي في البيت المجاور — قد حدثتني عن «كيت» الابنة، وكم أنها تبدو قاسية، كما حكت لي عن السيد «بلوم» الذي قتل نفسه برصاصة من مسدس في المنزل القديم عند نهاية الشارع قبل أن يغادروه ويأتوا إلى هذا المنزل.
إن «مسز بلوم» امرأة طويلة، وليست نحيفة أو ممتلئة، تتحرك وتتكلم ببطء، ووجهها يشع بالحكمة، كما تشير جبهتها إلى قوة الشخصية وعدم الخوف من أي شيء. كانت تدخن كثيرًا فتبدو كالخشب المبلل الذي يزيد اشتعالًا مع اللهب، وسرعان ما يتوقف عن الاحتراق، أما عيناها فمُتَورِّمتان دائمًا عند الجفنين السفليين وكأنها لم تنم عدة ليالٍ أو كأنها ضفدعة كبيرة .. حين كانت تتحدث إلى أي شخص فإنها تنظر مباشرة إلى عينيه، وهكذا كانت تفعل معي؛ مما جعلني أخشاها في البداية، غير أنني اعتدت عليها بعد ذلك، لم تكن السيدة امرأة كسولًا، وعرفت أنها تقوم بعمل أشياء كثيرة في المدينة وفي الضواحي.
قالت لي «مسز بلوم» قبل أن ألتقي بكيت للمرة الأولى: لا تبالي كثيرًا؛ فإن «كيت» تتصرف أحيانًا بطريقة غريبة مع الناس لأسباب تافهة، لكنها سرعان ما تصبح طبيعية.
أحببت «كيت» كثيرًا كما بادلتني هي الحب نفسه، وكانت تخبرني عن أشياء كثيرة لا تتفوه بها النساء البِيض للخدم السُّود عادة، وحدثتني عن الأشياء التي تحبها، والأشياء التي تكرهها، وعمَّا تفعله أمها أو لا تفعله، غير أنني لم أكن سعيدة في البداية، وحاولت كثيرًا أن أوقفها، لكنني مع الوقت توقفت عن محاولاتي، ولم أعد أهتم.
إن وجه «كيت» متشابه — إلى حدٍّ كبيرٍ — مع وجه أمها، وكتفاها مستديران وقويان، لكنها تتحرك بسرعة أكثر من أمها .. عندما جاءت إلى المنزل في عطلة نهاية الأسبوع سألتها: لماذا ما زلت تذهبين إلى المدرسة وأنت كبيرة؟
ضحكت وحاولت أن تشرح لي أنها تذهب لمدرسة الكبار الذين انتهوا من مدرسة الصغار؛ حيث تدرس الطهي وأصناف الطعام .. كان بمقدورها أن تشرح ما لا أستطيع أنا أن أشرحه.
منذ بداية عملي عند «مسز بلوم» لم تتوقف «كيت» عن تعليمي طريقة الطهي وإعداد مختلف أنواع الطعام، وأثناء وجود «كيت» في المدرسة العليا كانت السيدة تعلمني قراءة كتب الطهي؛ فعانيت صعوبة بالغة في البداية، وكنت أفهم ببطء ربما أبطأ من عربة الثور، لكنني تعلمت المزيد مع مرور الوقت، حتى إن «كيت» عند حضورها كانت لا تفعل شيئًا سوى أن تترك لي ورقة خاصة بنوع الطعام وكيفية إعداده، وما عليَّ بعد ذلك إلا أن أبدأ مباشرة في الطهي .. قالت «كيت» يومًا ما: إنني أصلح للطهي في أحد الفنادق الكبيرة، وكانت المدام توافقها الرأي نفسه، غير أن الفكرة لم تلقَ هوًى في نفسي؛ لأن الطهي في الفندق مثل إطعام الثيران حيث لا أحد سيقدم لك الشكر .. استطعت بعد أشهرٍ قليلة أن أقوم بعمل طعام يوم الأحد، ثم استطعت أيضًا أن أتولى عمل الأطباق الخاصة بضيوف المدام و«كيت».
لم تعلمني المدام الطهي فقط، وإنما علَّمتني أيضًا كيفية الاعتناء بالضيوف، وكانت تمدحني عندما أقوم بواجبي على أكمل وجه، وذلك ما لم يكن يحدث لي مع البِيض الذين عملت عندهم من قبل .. كانت المدام تعقد دراسات مسائية للخدم من أجل تعليمهم القراءة والكتابة بمشاركة امرأتين من جرين سايد تعلَّما في بهو الكنيسة؛ مما جعلني أتساءل عما يدور في رءوسهن.
لم تتوقف «كيت» عن إخباري بالمزيد عن أمها حتى قالت لي يومًا: إن أمي تحضر كثيرًا من الاجتماعات واللقاءات.
سألتها قائلةً: أي نوع من اللقاءات؟
أجابت: من أجل شعبك.
لم أفهم إجابتها، فقلت متسائلة: ولماذا تعقد اللقاءات من أجلهم؟ إن شعبي وأهلي يعيشون في فوكنج بعيدًا عن هنا، فهل تعرف هي ما يريد أبي أو أمي أن يعبِّرا عنه؟ وهل تعرف شيئًا عن شعورهما أو شعور أمثالهما؟ لماذا تعقد اللقاءات من أجلهم، وهم يملكون أفواهًا ويستطيعون الكلام عندما يريدون؟
رفعت «كيت» كتفيها ثم قامت بخفضهما، وقالت: أوه، كيف أستطيع أن أشرح لك يا «كارابو»؟ حين قلت شعبك لم أكن أقصد عائلتك فقط، وإنما السود في كل مكان بالبلد.
قلت: وما الذي يريد السُّود أن يقولوه؟
رفعت «كيت» كتفيها مرة أخرى وتنفَّست نفسًا عميقًا، ولم تجد ما تقوله.
سألتها: مَن يكون معها في تلك الاجتماعات؟
أجابت: آخرون ممَّن يفكرون مثلها.
قلت: هل تقصدين أن هناك آخرين في العالم ممن يفكرون في الأشياء نفسها؟
أومأت برأسها، فقلت: أية أشياء؟
– بإمكان القليل منكم أن يشاركوا في حكم هذا البلد؛ وعندئذٍ يستطيعون المطالبة بمزيد من النقود في مقابل ما يفعلونه للرجل الأبيض.
– لقد فهمت الآن، ولكن لماذا تكتب سيدتي دائمًا على الآلة الكاتبة طوال الوقت، وكل يوم تقريبًا؟
– إن أمي تؤلف كتبًا.
أشرت إلى الأرفف المليئة بالكتب، وقلت: أتعنين كتبًا مثل تلك الكتب؟
أجابت «كيت»: نعم، لقد كتبَتْ كثيرًا من الكتب بالإضافة إلى المقالات التي تنشرها في الصحف والمجلات، والتي تتضمن دفاعًا عن السود، وكثيرًا ما طالبت برفع أجورهم، ومعاملتهم معاملة حسنة، ودائمًا ما كانت تحث السُّود — وخاصةً أولئك الذين يستطيعون القراءة والكتابة — على اختيار من ينوب عنهم للدفاع عن قضاياهم.
أضافت «كيت» قائلة لي: إن أمي وأخريات ممن يفكرن مثلها يرتدين أحزمة سوداء فوق أكتافهنَّ عندما يشعرن بالحزن للتعبير عن عدم رضائهن عن الأشياء التي يفعلها البِيض ضد السود .. إن أمي وأمثالها يذهبن إلى الدوائر الحكومية ويقفن أمامها أثناء دخول الناس وخروجهم من العمل.
سألتها: هل تستمع الحكومة إليهن؟ وهل تضع الحكومة حدًّا لما يفعله البِيض بالسود؟
– لا، لكن أمي في مجموعة البِيض الأخرى.
– هل يقدمون في الحكومة الشاي والكعك لأمك ومن معها من النساء؟
– «كارابو»، يا لك من غبية! أوه.
– لكننا نحن السود إذا جاء إلينا شخص ما ووقف أمام البيت فإننا نسأله الدخول على الفور، ثم نقدم له الطعام، أما أنتم فإنكم مختلفون ومثيرون للعجب .. شيءٌ غريبٌ أن تقف النساء أمام المبنى دون أن يُقدِّم رجال الحكومة لهنَّ أيَّ شيء!
– أنت تعنين أنهم مختلفون أو فاترون، لقد علَّمْتُك كثيرًا ألَّا تقولي مثيرون للعجب عندما تريدين القول إنهم فاترون.
تطلعت «كيت» عبر المكان ثم أضافت وهي تصيح بلا حماس: حسنًا، إن النساء لن تقف هناك طوال اليوم لكي يطلبن شايًا وكعكًا يا غبية، أوه عزيزتي!
كانت سيدتي تطلب مني قراءة الصحف بعد أن تنتهي هي من قراءتها؛ لكي تساعدني على التحدث والكتابة بإنجليزية أفضل، وعندما كنت أقرأ شيئًا؛ كانت تسألني أن أخبرها بما فهمت؛ وهكذا تقدمت كثيرًا كما اتسعت مداركي قليلًا، وظللت أتعلم وأتعلم أشياء كثيرة عن السود داخل وخارج المدن مما لم أكن أعرفه من قبل. عندما كنت أجد بعض الكلمات الصعبة والتي لا أستطيع أن أفهمها؛ كنت أسأل السيدة، فتقول لي دائمًا بصبرٍ وكأنها تواصل السير في طريق طويلة: هل ترين هذا؟ هل ترين ذلك؟ إيه؟
نعم، كانت «مسز بلوم» تكتب كثيرًا للصحف، ودائمًا ما كانت تتألم للطريقة التي يضرب بها البوليس الأبيض السود، وللطريقة التي يجلس بها السود العاملون عند البِيض أمام بحيرة حديقة الحيوان بقلوب معلقة دونما إحساس بالحرية والاسترخاء؛ فقد كان البِيض يتهمونهم بإحداث الضوضاء في أمسيات أيام الآحاد في الوقت الذي يريدون فيه الاستمتاع بالراحة في بيوتهم وحدائقهم.
كانت السيدة تتألم لأشياء كثيرة قبيحة وسيئة كتلك التي تحدث عندما يقابل البِيض رجلًا أسود في الشارع أو على الرصيف، فظلَّتْ تكتب للصحف حتى يعرف الآخرون كل شيء مطالِبةً الحكومة أن تكون رحيمة معنا.
في العام الأول طلبت مني «مسز بلوم» أن أتناول الطعام معها على المائدة، لكن ذلك كان أمرًا صعبًا؛ إذ إنني لم أتعود استخدام الشوكة والسكين، كما أنني لم أسمع أبدًا — من قبل — عن أي عامل مطبخ قد تناول الطعام مع مخدومه، بالإضافة إلى خوفي من ضيوف السيدة إذا ما اكتشف أي شخص منهم أنني أتناول معها الطعام على المائدة نفسها.
قالت لي السيدة: لا تكوني سخيفة، إن الخدم الأفارقة بإمكانهم أيضًا أن يأكلوا على المائدة.
لكني في الحقيقة لم أستطع؛ لأن ذلك يعني أنه لن يكون بمقدوري تناول بعض الأطعمة التي أحبها جدًّا، مثل: عصيدة الذرة باللبن الرائب، والذرة المخلوطة، وزبدة الفول، وعصيدة الإفطار الحارة، وبعض المأكولات الأخرى، بالإضافة إلى أن طعامنا جميل عندما نأكله باليد، نعم، إنه جميل جدًّا حتى إنك لا تستطيع أن تبادل أي شخص التحية وأنت تأكل قبل أن يمر الطعام عبر الفم والزور متسللًا برفقٍ ونعومةٍ إلى أسفل.
كنت غالبًا ما أتناول الغذاء مع «شيمين» وذلك الولد البستاني، أوه! يجب أن أتوقف عن ذكر كلمة ولد هذه مرة أخرى عندما أتحدث عن رجل؛ فلقد تذكرت ذلك اليوم أثناء الأسابيع الأولى لي في بيت «مسز بلوم» عندما تحدثت عن «ديك» البستاني الذي يعتني بحديقتها ووصفته بالولد؛ عندئذٍ قالت لي «مسز بلوم»: توقفي يا «كارابو» عن كلمة ولد هذه.
ثم أضافت: استمعي «كارابو»، يجب عليكم أنتم الأفارقة أن تتحدثوا مع بعضكم البعض بشكلٍ لائقٍ، وإلا فإن البِيض لن يتحدثوا معكم هكذا.
قلت لها: لقد تعلمت الكلمة من البِيض الذين كنت أعمل عندهم، كما أن كل خادمات المطبخ يرددن هذه الكلمة.
أجابتني قائلة: أولئك هم البِيض الذين لا يعرفون شيئًا، إنهم من طبقات البِيض الدنيا.
قلت: لكنني أعتقد أن البِيض يعرفون كل شيء.
ردَّت «مسز بلوم»: سوف تتعلمين وتعرفين الكثير يا فتاتي، وعليك أن تبدئي في هذا البيت، أتسمعينني؟
ثم تركتني، ورحت أفكر حتى لم يَعُد عقلي الصغير قادرًا على الفهم.
لقد تعلمت وكبرت وعرفت الكثير في بيت «مسز بلوم».
كانت أية امرأة أو فتاة لا تعرف نادي الغراب الأسود بشارع «بري» لا تعرف بالتالي أي شيء .. إنه المكان الذي يبدأ بالمنطقة القذرة من المدينة؛ حيث المصانع والسوق ومكان إقامة الهنود والملونين، وحيث تعج بالحافلات سيرًا في طريق عودتها إلى أحياء السُّود .. إنه المكان الحافل بالضوضاء طوال الوقت؛ إذ تجلس النساء فوق الرصيف لبيع البطاطا الساخنة والفاكهة والفول السوداني والبَيض المسلوق في موسم الشتاء، والذرة المغلية وأشياء أخرى في الصيف؛ فتمتلئ الشوارع بالصياح وقشور البطاطا والفاكهة والفول السوداني والبَيض المسلوق، كما لم يكن بمقدور المرء أن يتجنب الرائحة النفاذة للخنازير المشوية المنبعثة من دكان «بيلز» عند نهاية الشارع.
شعرت «مسز بلوم» بالسعادة حين عرفت أنني أمضي أمسيات يوم الخميس في نادي الغراب الأسود، وأخبرتني بأنها تعرف السود الذين يعملون فيه، ثم قالت: سوف تتعلمين الحياكة، والتريكو، وأشياء أخرى تحبينها .. هل تحبين الرقص؟
أجبت: نعم، أريد أن أتعلم.
كانت تدفع لي شلنين كل شهرٍ ثمنًا لتعلُّمي الحياكة والرقص، وكنت أنتظر المعلمة في الطابق الأول مع أخريات ممن يتعلمن الحياكة معي، وأتبادل معهنَّ الحديث والضحكات عن السيدات والسادة الذين نعمل عندهم، وعن أطفالهم، وكلابهم، وطيورهم، ثم نتهامس عن الحب، وعلاقتنا بمن نحب مثلما قالت واحدة منا ذات يوم على سبيل المثال: أنتم لا تعرفون أن سيدتي بخيلة جدًّا.
وقالت أخرى: يجب أن تشاهدن الكلب الكبير في البيت الذي أعمل به .. إنه كلب كبير، كبير بطريقة غريبة.
ثم تبعتها ثالثة: ماذا؟ إنني أمسك كلب السيد من قدمه وألقي به بعيدًا حتى يظل ينبح وينبح؛ فأنا لا أداعب الكلاب ولا أجيد ملاطفتها.
ردت عليها إحداهن: يا للعار، ويا له من كلب مسكين .. إن الله يراك!
فقالت أخرى: كانوا يريدونني أن أصحب كلبهم للنزهة بالخارج كل يوم بعد الظهر، لكنني أخبرتهم أن ذلك لم يكن من طبيعة عملي في البيوت الأخرى التي عملت بها من قبل، وإنما كان ذلك من اختصاص البستاني.
قاطعتها واحدة أخرى قائلة: دعوني أحدثكنَّ عن ذلك الطفل الأبيض الذي يحتفظ بفأر أبيض كبير .. هل تعرفون ماذا يفعل؟ إنه يضع الفأر على سريره عندما يذهب للمدرسة فتمتلئ البطانية برائحة بول الفأر، ثم يخبرني بأن أغسلها .. هيه، أيها الناس!
قالت إحداهن: هل سمعتم عن «ريبون»؟ لقد طردتها سيدتها؛ لأن سيدها كان دائمًا يداعبها فوق أردافها بأصابعه، كما شاهدته السيدة ذات يوم وهو يضم «ريبون» إليه ويقبلها.
– أوه، أوه، أوه!
– رجل أبيض قذر!
– لا، ليس قذرًا؛ فالسيدة كبيرة جدًّا بالنسبة له، وقد اكتفت بأن تقول له أن يذهب ويغسل فمه بالصابون لأن فم «ريبون» قذر.
– أوه، «ريبون»، إنها واحدة منا، ويجب أن نساعدها لتجد وظيفة قبل أن تفكر في العودة إلى بلدها.
ثم جاءت المعلمة وهي امرأة ذات أقدام قوية، ووجه قاسٍ، وعينين توحيان بالطيبة، وشعر قصير، وترتدي ثوبًا بسيطًا لكنه جميل ومطعَّم بالأزهار .. كانت تقف على قدميها بثبات، وكانت تبتسم لنا وكأننا أطفالها فيصبح من اليسير رؤية تلك العلامة السوداء التي بين أسنانها. بدأت مجموعتنا باللعب، ثم قامت «ليليان جويي» بتوزيعنا على فصول الحياكة المختلفة، وتبادلت معنا بعض الأحاديث القليلة.
لم أستطع أبدًا أن أنسى ما قالته لنا تلك المرأة، لقد شرحت لنا كل شيء، وتعلمنا منها الكثير .. لقد أخبرَتنا أن وقت قناعة السود في الضواحي بالعمل، والرضوخ له من أجل إرسال النقود فقط إلى أهلهم، والذهاب لرؤيتهم مرة واحدة في العام قد انتهى، أو يجب أن ينتهي حتى إنها قالت: عليكم أيها السود أن تتعلموا؛ فالعالم لن يكون آمنًا أبدًا بالنسبة لكم إلا إذا أصبحتم أعضاءً في الحكومة، وهكذا تستطيعون صياغة القوانين .. إن القوة لن تتحقق إلا عن طريقكم؛ لأنكم أكثر عددًا من البِيض.
كانت تجيب على أسئلتنا بحكمةٍ واقتدارٍ حتى إنني كتبتُ بعض إجاباتها بخطي؛ ليصبح بإمكاني تذكُّرها فيما بعد.
– هل سيأتي يوم ونحتل مقاعد البِيض في الحكومة؟
– إلى حدٍّ ما، وستكونون أنتم الأكثرية، وعندئذٍ سيتَّحد كل الملونين الآخرِين، كما أن بعضًا من الرجال البِيض الجيدين لن يجدوا ما يمنعهم من الانضمام إلى الحكومة.
– يوجد بعض السيدات والسادة من البِيض ممن هم طيبون وممتازون فعلًا، وهناك أيضًا السيئون منهم، فهل نتخذ من الطيبين أصدقاء لنا؟
– إن السيد والخادم لا يمكن أبدًا أن يكونا صديقين، ويجب أن تكون هذه الفكرة بعيدة عن تفكيركم .. أنتن حتى غير متأكدات أن بعضهم طيبون؛ لأنهم لا يستطيعون التنفس، أو مجرد العيش بدون أن تعملْن عندهم وبدون أن يعمل كل السود في خدمتهم، وطالما أنكم معشر السود في حاجة لنقودهم فلا بد من مواجهتهم باحترام، ولكن يجب أن تعرفوا أن كثيرًا من الأشياء الحزينة تحدث في بلدنا؛ ولذلك يجب على كل السود أن يتعلموا، ويضيفوا إلى معرفتهم مع الاستمرار في إطاعتنا عندما نطلب منكم المساعدة.
في وقت آخر قالت لنا «ليليان جويي»: عليكنَّ بتذكر أهلكم الفقراء في بلدكم، وتلك الطريقة التي يحركهم بها البِيض من مكانٍ لمكان كالأغنام والماشية.
وفي أحيان أخرى كانت تقول لنا: تذكَّرْن دائمًا أن يدًا واحدة لا تستطيع أن تغسل نفسها؛ لأنها تحتاج ليدٍ أخرى تساعدها.
عندما كانت «ليليان جويي» تتحدث كنت أفكر في سيدتي، فقلت لنفسي ذات مرة: ماذا ستقول سيدتي لو عرفت أنني أُصغي لمثل تلك الكلمات؟
قالت لنا «ليليان» ذات يوم: إن أم الرجل الأبيض وخادمته السوداء هما اللتان قامتا بالعناية به حين كان رضيعًا، ثم تولت الحكومة البيضاء أمره عندما كبر؛ فأرسلته للمدرسة وعملت جاهدة على أن توفر له الغذاء وكل شيء، كما أتاحت له فرص العمل في الوقت الذي يشاء، حتى إذا ما رغب في ترك المدرسة في أي وقت.
ثم تساءلت: كم من البِيض يمكن أن يولدوا في مستشفى البِيض، وينشئوا في شوارع البِيض، ويرتدوا الملابس القطنية الجميلة، ويناموا على وسادات بيضاء؟! .. كم عدد البِيض الذين يعيشون داخل السياج بعيدًا عن الملونين؟! كم من البِيض الذين يتعلمون طريقة التفكير الصحيحة، ويعرفون توجيه الأسئلة؟! إنهم قليلون جدًّا جدًّا.
كنت أكبر يومًا بعد يوم وأتعلم، وكثيرًا ما كنت أفكر في «مسز بلوم» التي أصبحت بالنسبة لي كالغابة السوداء التي يخشى المرء دخولها، والتي لا يبدو أنه سيعرفها في يوم ما، غير أنني في أوقات أخرى كثيرة كنت أشعر أنَّ فهم هذه المرأة أمر سهل؛ فهي مثل كل النساء البِيض الأخريات.
سألتني: ماذا يعلمونك أيضًا في نادي الغراب الأسود يا كارابو؟
أجبت قائلة: لا شيء سيدتي.
ثم أضفت: لماذا تسألينني يا سيدتي؟
– لأنك تتغيرين.
– ماذا تعنين؟
– أنت فقط تتغيرين.
– لكننا دائمًا نتغير يا سيدتي.
هكذا دار الحوار بيننا بعد أيام قليلة من إخبارها أنني لا أريد أن أستمر في قراءة صحيفة البِيض المحلية، وإنما أرغب في قراءة الصحف القادمة من الخارج .. كنت قد أخبرتها أن تلك الصحف التي يُشرِف عليها البِيض لا تهتم بشيءٍ سوى تصوير حياة البِيض، والحديث عنهم، وعن حدائقهم وكلابهم، وتناول حفلاتهم، وأخبار زواجهم، ثم سألتها إذا كان ممكنًا أن تبيع لي صحيفة الصنداي التي تتحدث عن أمثالي، فلم تتردد في بيعها لي رغم عدم اعتقادي أنها ستفعل.
كنت أنا و«شيمين» نسرق قليلًا من الوقت بعد أن ننتهي من الغسيل ونضعه على الحبال في الصباح، ثم نختبئ ونقف عند الجدار ونتبادل الحديث.
– هيه، «كارابو» .. إنني «شيمين».
– أوه، قبل أن تتكلمي في أي شيء .. هل عاد إليك «تيمي»؟
– هآه، أنا لا أبالي بعودته، إنه لا يزال غاضبًا؛ فالأولاد حمقى كما تعرفين، وهم يعودون دائمًا ببطون خاوية.
– نعم.
– رأيت «موروتي» يوم الخميس الفائت، فضحكت كثيرًا حتى وقعت على الأرض .. كان واقفًا أمام نادي الغراب الأسود، وكانت معدته الكبيرة — على ما يبدو — تستنجد، وتصرخ من الجوع وهو يحمل كلبًا صغيرًا تحت إبطه، ويقف بجوار امرأة تبيع البِيض المسلوق حين قال لي: هاي يا فتاة موطني .. كانت لحوم الكرشة والأمعاء تغلي في الإناء، وتنبعث منها رائحة لذيذة تُثير أي بطن جائعة، كان «موروتي» في انتظار المرأة لشراء بيضة مسلوقة، وكنت واقفة بالقرب فاستطعت أن أرى الكلب بوضوح وهو يتلوَّى ويتحسس أنفه حين كان ينظر إلى لحم الكرشة، فراح «موروتي» يداعبه بيده، لكن الكلب حاول أن يعضَّه في يده، وقد نجح أخيرًا في التقاط بعض من اللحم الطيب دون أن يسقط في الصلصة الساخنة التي تسبح فيها الكرشة .. كان اللحم يتقلب مع البِيض والبطاطا والتراب، فحاول «موروتي» أن يفعل مثل الكلب؛ لكن البائعة ظلت تنادي عليه وتصيح طالبةً منه أن يدفع .. كنت في ذلك الوقت واقفة خلفه، وأنا أضحك بشدة حتى تدفقت دموعي؛ فأمسكت السياج بكلتا يدي تجنبًا للوقوع من كثرة الضحك.
سألتها: هل عاد «موروتي» ودفع ثمن الطعام؟
– نعم، لقد دفع.
– والكلب؟
– لقد أمسك به؛ إنه كلب أفريقي جيد يعرف كيفية البحث عن طعامه الخاص؛ لأنه ليس كتلك الكلاب الغبية المدلَّلة التي يقدمون لها البَيض والشاي والبسكوت في وجبات منتظمة.
– هاآم.
لحق بنا «ديك» البستاني كما يفعل دائمًا، وعندما أخبرناه بالقصة راح يتلوى على الأرض من كثرة الضحك، ثم سأل: مَن ذلك الموقَّر «موروتي»؟
أجبت: إنه صاحب نادي الغراب الأسود.
– أوه.
رحت أنا و«شيمين» نتذكر ذلك القس ذا الجسد الممتلئ الذي كان يأتي إلى النادي ويخترقنا بنظراته وهو يرسم ابتسامة رقيقة فوق وجهه المستدير .. كان ينظر إلينا بالابتسامة نفسها طوال الوقت بعينيه الدامعتين المتلألئتين بطريقة مضحكة وكأنه فلاح ينظر إلى حبات قمحه اليانعة، وهو يفكر في أشياء أخرى.
عندما بدأتُ في سرد قصتي كنت سأحكي لكم عن الكلبين اللذين تمتلكهما «مسز بلوم»، لكنني وجدت نفسي أتكلم عن الناس، كان «ديك» على صواب حين سأل مستنكرًا: وماذا يعني كلب؟ .. كان يوجد الكثير من الكلاب والقطط والببغاوات في جرين سايد وأماكن أخرى؛ وبالتالي لم تكن كلاب «مسز بلوم» شيئًا غريبًا أو خاصًّا سوى في طبيعة عملها في البيت، وربما لذلك كانت «مسز بلوم» تحب الكلاب.
كان «مونتي» حيوانًا رقيقًا ذا شعرٍ طويلٍ، وعينين سوداوين صغيرتين، ووجه يُشبه وجه امرأة عجوز، أما الكلب الآخر «مالان» فهو أكبر من «مونتي» قليلًا، وذو لون بُنِّي ممتزج باللون الأبيض، وله شعرٌ قصيرٌ .. كان الكلبان ينامان في سلَّتين منفصلتين بحجرة نوم السيدة، وغالبًا ما كان يتم غسلهما وتنظيفهما بالفرشاة، ورشهما بالعطر قبل أن يناما في ملابس من الكتان القرنفلي، وفي كثير من الأوقات كان يطوق رقبةَ «مونتي» شريطٌ قرنفلي، وكان كلاهما يحمل غطاءً فوق ظهره .. لقد أصاباني بالضجر عندما شاهدتهما يستلقيان في السلة، وهما يتمتعان بصحة جيدة ويبدوان كأنهما يعرفان كل شيء يحدث في كل مكان.
كان «ديك» هو الذي يعتني بهما ويقوم برعايتهما وإطعامهما، بالإضافة إلى عمله في الحديقة وتنظيف المنزل .. لم يكن قد مضى وقت طويل على عمل «ديك» عند السيدة التي قبِلته للعمل عندها بعد أن طردت اثنين من قبله — كما أخبرتني — لأنهما لم يستطيعا الاعتناء بالكلبين: «مونتي» و«مالان».
أخبرني «ديك» ومعه «شيمين» أن الكلاب الأوروبية غبية ومدلَّلة، وقال «ديك» ذات يومٍ: إن أولئك البِيض سوف يعلِّقون الخواتم في أذن الكلاب والأطواق والخلاخيل في أقدامهم؛ وعندئذٍ سوف يترك العمل عند «مسز بلوم»؛ لأنه متأكد أنها ستطلب منه عندئذٍ أن ينظف الخواتم والأساور بالفرشاة، لكنه كان صبورًا رغم عدم تأكد السيدة منه؛ فقد كانت تذهب للكلبين بعد تناول وجبتيهما أو بعد تنظيفهما وتقول لهما: هل قدم «ديك» الطعام لكما يا أحبائي؟ وأحيانًا كانت تلاطفهما وتقول: هل قام «ديك» بتنظيفكما يا أحبائي؟ سوف أرى بنفسي.
استطعت أن أرى «ديك» في تلك الأثناء وقد انتفخ كالبالون من شدة الغضب قائلًا لي: يا لها من أشياء غريبة تلك التي يفعلها البِيض! إنهم يتحدثون إلى الكلاب!
قلت له: إن الناس تتحدث إلى الثيران أيضًا، ألم أقل لك ذلك؟
أجابني: نعم، إن الرجل يتحدث إلى الثور؛ لكي يشد له المحراث أو العربة، أو لكي يوقفهما له، لكن أحدًا لا يذهب إلى الثور ويلاطفه ويتحدث إليه .. هل رأيتِ طوال عمركِ شخصًا من بلدتنا اقترب من بقرة، وداعبها فوق بطنها أو خديها؟ أخبريني!
قلت: نحن نتحدث عن الثور وليس عن البقرة.
ضحك كثيرًا حتى اتسع فمه وتساقطت الدموع من عينيه، وفي لحظة بعينها وجدت نفسي أشاركه الضحك بصوتٍ عالٍ، ثم قال لي: عندما تجدين الوقت والفرصة المناسبتين تعالي وانظري إلى السيدة وهي تضع ورقة تتضمن بعض الملاحظات فوق باب حجرة نومها.
سألته قائلة: ماذا تقول يا «ديك»؟
أجابني: أنا لا أتكلم، إن بداخلي أشياء كثيرة غامضة.
كان «ديك» في نحو عمرنا أنا و«شيمين»، ولم نكن نهتم بألاعيبه ومداعباته؛ لأنه لم يكن يكبرنا بما يكفي لأن يكون محبوبًا لنا .. كان يقول لنا: هاي، هاي يا بنات .. لكن السيدة لم تكن تحب ذلك، وقد سألتنا كثيرًا عن السبب الذي يجعلنا نضحك حتى قالت ذات مرة: عندما تحتاج الوردة في الحديقة إلى الماء فإن ذلك لا يدعو إلى الضحك.
ثم أضافت: إذا توقفتم عن رش نباتاتي بضحكاتكم، وقمتم بمزيد من العمل فإن ذلك سيكون مفيدًا أكثر.
وفي الأوقات التي لم نكن نضحك فيها أيضًا لم تتوقف السيدة عن القول: إذا سمحتُ لكم أن تعتنوا بكلابي دون أن يعتني بكم أحد في الوقت نفسه فسوف تجلبون نتائج سيئة.
تساءل «ديك» وهو يبتسم: هل تسببت في أي أذًى لكلاب «مسز بلوم»؟
كان «ديك» يخاف من أولئك البِيض، وأعتقد أنه كان يحاول جاهدًا أن يقهر ذلك الخوف حين كان يعرض علينا أنا و«شيمين» — في جلسات خاصة — الطريقة التي تمشي وتتحدث بها «مسز بلوم»، حتى إنه تناول ذات مرة كُرَتين وضمهما إلى صدره وراح يتحدث إليهما برقة كما تفعل السيدة مع الكلبين «مونتي» و«مالان»، ثم جلس إلى مائدة السيدة وراح يمثل طريقتها في الكتابة؛ حيث رجع للوراء وشد وجهه كالحصان وهو يأمرني بعمل شيء، في اللحظة نفسها التي بدأ فيها وكأنه يبحث عن نظارته، كما جلس فوق أحد مساند الكرسي فاردًا قدميه كما تفعل السيدة حين تشرب الشاي .. أمسك فنجان الشاي بإبهام يده، وضحك كما كان يضحك بعد كل عملية يقوم بتمثيلها، أما أنا فقد كنت أنبطح أرضًا من كثرة الضحك في كل مرة.
ارتعش «ديك» من شدة الخوف عندما قامت «مسز بلوم» بتوبيخه فتساءل بينه وبين نفسه: لقد قمت بواجبي في تنظيف البيت على أكمل وجه فأين الخطأ إذن؟ .. لا بد أن خطأ ما قد حدث في إطعام الكلبين أو في طريقة ارتدائهما لملابسهما الكتَّانية.
لقد كان ذلك الرجل الذي جاء ذات يوم بعد الظهر وأخبر السيدة أن «ديك» أهمل كثيرًا عندما اصطحب الكلبين في نزهة بالخارج، وأضاف قائلًا لها وكأنه يريدها أن تعرف مدى اهتمامه وخوفه على الكلاب: لقد كنت أقود سيارتي باتجاه شارعكم حين رأيت «ديك» يترك «مونتي» و«مالان» يعبران الشارع وحدهما، ولقد حالَفنا الحظ كثيرًا حين وضعت قدمي على الفرامل في الوقت المناسب؛ إذ لم تكن بيني وبينهما سوى بوصة واحدة، بوصة واحدة فقط، غير أن الغريب في الأمر كله أن ذلك الولد لم يتأثر، وإنما ظل يبتسم .. أمر غريب حقًّا! لقد فعل الولد الذي كان يعمل عندي مثل هذه الفعلة مرتين؛ فلم أتردد في طرده. ثم سارعت بمخاطبة الكلب قائلًا: تعال يا «روستي» فالولد في انتظار أن ينظفك.
الكلاب لها أسماء، الرجال بدون أسماء .. هكذا فكرت.
ذات يوم مزق أحد الكلبين جوربي بأسنانه وكفَّيه؛ فغضبت بشدة، وعندما أخبرت السيدة أعطتني نقودًا لأشتري زوجًا آخر من الجوارب، ولكن عندما مزق الكلب جوربي مرة ثانية قالت لي: لن أعطيك نقودًا هذه المرة، وعليكِ أن تحفظي جواربك بعيدًا عن مُتناوَل الكلبين المهذبَين.
في العام الثالث من العمل عند «مسز بلوم» في بيتها حدثت أشياء كثيرة سيئة بالنسبة لها، فقد واجهت بعض المتاعب مع «كيت»، كما كانت «شيمين» تعاني مشكلة كبيرة فتأرجح قلبي بين حبين.
كانت السيدة تعقد عددًا من الحفلات ودعوات العشاء التي تدعو إليها بعض الأفارقة، وعندما سألت «كيت» عن السبب وراء تلك الحفلات ودعوات العشاء أخبرتني بأن أمها تفعل ذلك عندما تنتهي من كتابة أحد كتبها، وأحيانًا عندما يأتي زائر من بلدٍ بعيدٍ، وعلى أية حالٍ فإنني لم أكن أحب السُّود الذين يحضرون تلك الحفلات لكي يشربوا ويأكلوا، فقد كانوا يتحدَّثون بإنجليزية صعبة مثل أولئك المثقفين، وكانوا ينظرون نحوي كنموذج لشخص أسود مثلهم وأحد الذين يفكرون فيهم وينشغلون بهم.
سمعت «كيت» ذات مرة وهي تتحدث إلى أمها قائلة: أنا لا أعرف لماذا تقومين بدعوة كثير من الأفارقة؟!
ثم قالت شيئًا عن الحكومة لم أستطع أن أسمعه جيدًا.
أجابت السيدة قائلة: أنت تعرفين أن بعضهم لا يجد فرصة أخرى لمقابلة البِيض، كما أنهم لا يأتون إلى هنا طمعًا في صداقتي، وإنما من أجل الشراب فقط.
شعرت بعدم قدرتي على أن أكون خادمة للبيض والسود في وقت واحد، فأنا في بلدي أو حتى في حجرتي أستطيع القيام بخدمة السود دون أي شعور بالخجل، أما هنا فإنهم يأتون فقط من أجل الشراب، فيما عدا ذلك الأسود الذي كان يأتي دائمًا للمطبخ مع أخته ليتحدثا معي، لكنني — في البداية — كنت أنظر إليهما بغير مودة؛ لأن «كيت» تحدثت معي بشأنهما ذات يوم عندما شاهدَتْهما معي في المطبخ .. عرفت عندئذٍ أن بيت الشخص الأبيض ليس هو المكان الذي يحق له فيه أن أبدو سعيدة أمام السود؛ فالأبيض دائمًا ينظر إلى كلِّ شيء بارتياب.
لكنني لم أستطع — ولن أستطيع أبدًا — أن أنسى تلك الليلة التي حدثني فيها ذلك الرجل بكلمات طيبة ورقيقة جعلتني أشعر بأن قلبي يكبر ويرتجف بداخلي، وحين تكررت زيارته عدة مرات أخرى عرفت أنني أحبه، غير أنني لم أستطع معرفة ما يفكر فيه هو كرجل تجاهي أنا كامرأة، وأيًّا كان الأمر فلقد أحببته، ولم أتوقف عن التفكير فيه بقلبٍ متألمٍ .. كنت أتألم لمعرفتي بأنه طبيبٌ ومثقفٌ ويجيد الإنجليزية، وأنني لن أستطيع أن أفهمه.
أصيبت «مسز بلوم» بقلقٍ شديدٍ عندما تغيرت «كيت» فجأة، وبدت كأنها شخص آخر يتعامل ويتصرف بطريقةٍ جديدةٍ، حتى إنني لم أعد قادرة على إدراك الصواب من الخطأ .. لقد بدأت «كيت» ترفع صوت الجرامافون الكبير عاليًا، وكأنها تريد أن يستمع كل الناس في جرين سايد إلى الموسيقى .. كانت «كيت» تتلوى مع الموسيقى الصاخبة بفم نصف مفتوح، وحينما أبصرت وجهها عرفت أن هناك شيئًا ما عميقًا وغاضبًا وراء كل ذلك، وقد بدت لي شابة أحيانًا وعجوزًا في أحيان أخرى .. كنت أنا وهي في سن الثانية والعشرين، وأعتقد أنني استطعت معرفة السبب وراء قلق أمها الشديد ومعاناتها.
كانت السيدة وابنتها تصرخان في وجه بعضهما داخل حجرة الجلوس، ثم توجهتا للدور العلوي، وهما تتحدثان بكلمات ساخنة، وبطريقة سريعة لم أستطع أن أفهم بعضها، وفي يوم ما تقدمت السيدة نحوي، وقالت: أتعرفين أن «كيت» تحب شخصًا أفريقيًّا؟ إنه الطبيب الذي يأتي للعشاء هنا، وهي تقول إنه يحبها أيضًا، وإنهما سيغادران البلد ويتزوجان.
ثم أضافت: كيف ينظر أهلك يا «كارابو» إلى مثل تلك العلاقة بين امرأة بيضاء ورجل أسود؟ إن ذلك غير صحيح على الإطلاق.
قلت: لم يحدث أن رأينا مثل ذلك الشيء أبدًا في بلدتنا.
قالت السيدة وكأنها تحدث نفسها: نعم، هو كذلك يا «كارابو»، إن مثل تلك العلاقة هي الجنون بعينه.
تركتني السيدة وقد بدت كشخص مطرود، وعندئذٍ قلت لنفسي: لماذا لا تحب النسوة البِيض رجالهن البِيض ويتركن لنا الفرصة لنحب رجالنا؟ ثم عرفت في اللحظة نفسها أنني لم أعد راغبة في الحديث مع «كيت» التي بدت لي كاللص، أو كالثعلب الذي ينقضُّ على قطيع من الماشية في الليل، وأخشى أن يصبح الأمر أكثر سوءًا ولا يسمحوا له بالحضور إلى البيت مرة أخرى .. لقد كرهت «كيت»، ولم أعُد أتبادل معها الحديث طوال وجودها بالبيت، كما أنني لم أكن شغوفة بمعرفة أي شيء عن كيفية ما تنوي عمله.
ظللت مستيقظة عدة ساعات فوق سريري، كنت مستلقية، وكانت أجزاء من جسدي تنبض وتدق كما تفعل الماكينات الكبيرة، وحين نمت حلمت بأشياء مؤلمة؛ فكان لا بد بعد ذلك أن أتخذ قراري .. أخبرت صديقي ذات مساء بأنني لم أعد أريده فتأثر كثيرًا وتألم؛ مما جعلني أتألم أيضًا، ثم تركني ومضى، غير أنني لم أتوقف عن التفكير فيه، وقد تألمت لعدم إمكانية رؤيته مرة أخرى إلا إذا قابلته في الشارع مصادفة في إحدى أمسيات أيام الخميس، لكنه كان يمتلك سيارة، فكيف يمكنني أن أجعله يشعر بحبي؟ .. آه، أعتقد أن ذلك الطبيب الأفريقي لن يتوقف ليفكر فيَّ، ولن يشغل باله بي.
في ذلك الوقت من الشتاء حيث يذهب البِيض إلى البحر، وحيث نجد — نحن الخدم السود — أشياء كثيرة نفعلها، كنت أجد نفسي مشتعلة بالحب والأشواق. وفي الحقيقة كان الشتاء هو وقت الخدم فيما عدا الخادمات اللاتي يذهبن مع سيداتهن لرعاية الأطفال، أما أمثالي فقد كنا نبقى بالمنزل للعناية به، وللقيام برعاية الكلاب التي تصبح هي السادة في غياب أصحابها، فنقوم باصطحابها للتنزه في الشوارع كما يفعل البِيض.
كان العمل قليلًا حتى إن ولدًا من الخدم فكَّر في إقامة حفل بحجرته، وحين سمعنا بذلك لم نصدِّق، واعتبرنا الأمر مجرد مزحة لطيفة، وقال بعضنا: يا له من جريء وغبي! .. إن البوليس يتجول دائمًا في الليل بحثًا عن السود، وماذا لو سمع البِيض المجاورون لنا ثمة ضوضاء صادرة من الحفلة؟ أوه! .. لكننا كنا متحمسِّين وفرِحين جدًّا للفكرة، وراغبين في الاشتراك في الحفلة، غير أن «ديك» فتح فمه الكبير، وأصابه الإغماء عندما سمع عن الحفلة، وعرف أنني أنوي الذهاب.
جاءت «كيت» في يوم الحفل، وقد بدت أقل غضبًا وغلظة، لكنني لم أكن مستعدة للحديث معها حين قالت لي: لقد أخبرتني أمي أنك لا تحبين أن يتزوج رجل أسود من فتاة بيضاء.
صمتَتْ قليلًا ثم أضافت: لكنني أريد مساعدته يا «كارابو».
سألتها: كيف تريدين مساعدته؟
أجابت: أريده أن يرتقي حتى يصل للقمة.
كان صدري يجيش بالكثير من القول، لكنني لم أستطع البوح بأي شيء، ورحت أفكر في «ليليان جويي» وفي كل ما قالته لنا؛ وعندئذٍ غرقت في أفكار كثيرة، وأصابني التشوش.
قالت «كيت»: إن أمي أيضًا تميل إلى الرأي نفسه، فهل ما زلت توافقينها؟
قلت: لقد قلت لأمك بأنه لم يسبق لي أن رأيت رجلًا أسود يتزوج من فتاة بيضاء، وعلى أية حال فإن ذلك لا يعنيني؛ لأنني لا أفكر إلا في عملي.
تذكرت أنني كنت سأقوم بكَيِّ فستان الحفلة، فتركتها ومضيت، ورحت أفكر في الحفلة مرة أخرى وأنا أقول لنفسي: غدًا ستشرق الشمس علينا جميعًا .. نعم، ستشرق الشمس في وجود «كيت» أو عدم وجودها، وفي وجود الطبيب، أو عدم وجوده.
انتابني شعور بالسرور لأن «كيت» والطبيب لن يتسبَّبَا في تكدير صفوي في ذلك اليوم.
ارتدينا أحسن ملابسنا التي نشتريها عادة من الأولاد الذين يقومون بسرقتها، ومضينا إلى حفلة قريبنا في البيت الذي يعمل فيه ونحن نتهامس طوال الطريق، وحين أخبرنا شخص ما أن البِيض في البيت المجاور غير موجودين قلنا: أوه، هذا هو المطلوب.
انتشرنا عبر الحديقة في الخلف، ثم وقفنا أمام حجرته ونحن نضحك في هدوء، وحين جاء من البيت الكبير، وأخبرَنا أن ندخل بيت أولئك البِيض لم نصدق؛ فقال أحدنا: كيف يجرؤ؟ هل أصابه الجنون؟
دخلنا بخطوات بطيئة وكأننا نتشمم الأرض، وما هي إلا لحظات قليلة حتى وجدنا أنفسنا واقفِين فوق سجاد ناعم، أو جالسِين فوق وسادات جميلة دافئة، وكانت سخانات التدفئة تقوم بدورها على أكمل وجه .. قام قريبنا بخفض الأنوار، وكانت البنات متأنقات، كما بدا الأولاد في أحسن صورة.
كانت «ناومي» — صديقة قريبنا — مشغولة بإعداد الطعام في المطبخ، بينما راح هو يجهز الأكواب، والمشروبات المثلجة، وعصير الفاكهة، وعصير الطماطم، والبيرة، وأنواعًا أخرى كثيرة من المشروبات الخفيفة، وكان كل شيء جميلًا: الكعك، والبسكوت، والوجبات الخفيفة، والكيك .. ووه، لقد كانت حفلة حقيقية!
تناولت كثيرًا من كعك الزنجبيل الذي قامت «ناومي» بعمله .. جاء قريبنا نحوي وقال: لن أقدم المشروبات الكحولية ولا حتى البيرة؛ كي لا يجد البوليس سببًا للقبض علينا إذا جاء فجأة؛ إذ يجب أن نشعر أننا أحرار، لكن مجرد إقامة حفلة فإنني أعتقد أنه لا يوجد قانون يحظر علينا إقامة الحفلات.
قلت له: إن لديك كبدًا قويًّا فلا تخف من الشراب.
ضحك وبدأ في تشغيل الجرامافون فسمعنا موسيقى «مريم ماكيبا» و«دوروثي ماسوكا»، وبعض العازفين والمطربين الأفارقة الآخرين، ثم رقصْنَا، وأصبحت الحفلة أكثر صخبًا وسعادة .. تناولْنا مزيدًا من الطعام، وضحِكنا كثيرًا، وتبادلنا الحكايات والقصص، وفي منتصف الحفل تقريبًا أخبرنا قريبنا أنه وصديق له من أورلاندو كانا يجمعان النقود كل عام للمشاركة في سباق الجياد، والمراهَنة على الحصان الرابح دون أن يربحا أبدًا، لكنهما ربِحا هذا العام مائتين من الجنيهات .. هتفْنا جميعًا مشجعين وصفَّقْنا قائلِين: مائتان من الجنيهات .. أووه!
قلت له: يجب أن تلزم البيت إذن لتعاني من الفراغ.
ضحك قليلًا: أنتِ لم تفهمي شيئًا.
ثم قال لنا جميعًا: والآن إخواتي وأخواتي، استمتِعوا بوقتكم .. لو كنا في بلدتنا ووسط أهلنا لكنت ذبحت خروفًا، وتوجهت بالشكر لأجدادنا، ولكن هكذا هي حياة المدينة، وعلى أية حال فإننا يجب أن نشكر أهل المدينة على الشاي، والكعك، وكل هذه الأشياء الحلوة .. أعرف أن بعضكم يفكر في جرأتي، فأرجوكم ألا تخافوا، واستمتعوا بوقتكم.
عادت السيدة في حالة جيدة، وقد بدت أكثر نضارة، وفي الأسبوع نفسه بدأت الشرطة تفتش حجرات الخدم مرة أخرى .. كانوا يبحثون عمن يدعوهم بالمتسكعين، وأولئك الذين يعيشون مع أصدقائهم في الضواحي بدون تصاريح، وبطريقة غير قانونية، فأصبح عدد الأولاد قليلًا أو نادرًا .. أولئك الأولاد الذين كانوا يذهبون إلى صديقاتهم ممن يعملن مثلي في المطابخ؛ لكي نُقدِّم لهم قطعة من اللحم الذي يشتريه البِيض خصوصًا للكلاب أو لنا.
ذات مساء دخل شرطي أبيض وآخر أسود إلى فناء «مسز بلوم» للتفتيش لكنها اعترضت، فقالا لها: يجب أن نقوم بالتفتيش.
قالت «مسز بلوم»: لا.
لكنهما شقَّا طريقهما بالقوة إلى الخلف حيث حجرة «ديك» وحجرتي، فسارعت «مسز بلوم» بالتقاط خرطون المياه من الحديقة الأمامية بينما كان الشرطيان يتحدثان إلى «ديك» بعبارات قذرة، وراحت تلف وتدور بسرعة .. انطلقتُ أنا مسرعة؛ لمعرفة ما ستقوله لهما فأبصرتها وهي تشير لهما بخرطوم المياه؛ مما أصابهما بالدهشة، وما أن استدارا إلى الناحية الأخرى حتى سلطت «مسز بلوم» الخرطوم إلى وجهيهما، فانتهزت الفرصة وتسللتُ دون أن يراني أحد إلى صنبور المياه في ركن البيت وفتحتُه بقوة؛ وعندئذٍ رأيت «ديك» يحاول مثلي أن يُخفي ضحكاته. صاح الشرطيان وحاولا الابتعاد عن المياه قدر استطاعتهما، غير أن «مسز بلوم» كانت تُصَوب الخرطوم ناحيتهما إلى أعلى وأسفل؛ فلم يَجِدا بديلًا عن الهرب عبر بوابة الفناء وهما يتوعَّدان فقالت «مسز بلوم»: لقد انتقمنا منهما.
في صباح اليوم التالي كان الخبر منشورًا بإحدى الصحف، وبعد انتصاف اليوم بقليل عاد الشرطيان مرة أخرى وبصحبتهما شرطي آخر أشار له إلى «مسز بلوم» التي توجهت معهم إلى قسم الشرطة للإجابة عن سبب وقوفها ضد قيام الشرطة بمهامها، لكنها عادت وقالت إنها دفعت كفالة.
قالوا في المحكمة: إن السيدة قامت بعمل سيِّئ ولا بد من دفع غرامة مالية، أو قضاء أسبوعين في السجن، فقالت لها «كيت»: أنتِ لم تفعلي شيئًا يستحق السجن، كما أنه لا يستدعي المحكمة أيضًا .. ادفعي النقود، إنها خمسة جنيهات فقط.
لكن «مسز بلوم» اختارت السجن بعد أن تأكدت أنها غير مخطئة.
بعد خروجها من السجن كانت تبدو حزينة جدًّا، ورحتُ أنا أفكر فيما قالته لنا «ليليان جويي» كثيرًا: يجب أن تكون مستعدًّا للذهاب إلى السجن في أي وقت من أجل الأشياء التي تؤمن بها.
سألت نفسي: كيف تفكر «مسز بلوم»؟ وفي أي شيء تعتقد؟ كيف تفكر بشأني وشأن «شيمين» و«ديك» وكل السُّود الآخرين؟
لم أكن أعرف الإجابة، لكن كتاباتها الكثيرة للصحف، وتلك الاجتماعات التي كانت تتحدث فيها مع أمثالها من البِيض عن السود، بالإضافة إلى طريقتهم في التعامل مع الحكومة ورجالها البِيض جعلتني أعرف أنها تفكر فينا نحن السود، لكنني ظللت أتساءل: لماذا تبدو حزينة جدًّا؟
عادت «كيت» للبقاء في المنزل وكانت كعادتها ترقص وتتمايل على صوت الجرامافون العالي حتى إنني اعتقدت — ذات مرة — أن خصرها سيتكسر من كثرة الرقص، وفي تلك المدة كان يأتي لزيارتها شاب أبيض يُدعَى «جيم»، وكنت أشاهدهما من خلال فتحة باب المطبخ وحجرة الجلوس وهما يقبِّلان بعضهما بعضًا لأوقات طويلة، وقد رأيته — ذات مرة — وهو يرفع فستان «كيت» وقد بدأت أقدامها ترتعش وأوه، أخشى أن أقول المزيد، لكن قلبي كان يدق بقوة؛ فقد كنت في ذلك الوقت أعيش حالة حب كبيرة تفوق في حدَّتها حبي الأول .. كان وجه الطبيب يقفر إلى ذهني كثيرًا، غير أنني لم أعد أتألم .. توقفتُ عن النظر خلسة إلى «كيت» و«جيم» من خلال الفتحات وبدأت «كيت» تتحدث معي بحرية أكثر مما سبق، ولكن بطريقة عصبية في معظم الأوقات؛ فلقد صارت هي وأمها صديقتين من جديد.
ذات صباح بينما كنت أرتب مئزري سمعت «شيمين» تناديني قائلة: هاللو «كارابو».
كنت في طريقي لتعليق حبل الغسيل فأبصرتها واقفة عند السور، وانتابني إحساس بأن لديها شيئًا خاصًّا تريد إخباري به، ثم توجهتُ إليها وأجبت: هاللو «شيمين».
في تلك اللحظة خرجت امرأة من الباب الخلفي للمنزل الذي تعمل فيه «شيمين»، ولم أكن قد رأيت تلك المرأة من قبل، وحين سألت «شيمين» أجابتني: إنها حماة السيدة، ألم أخبرك عنها أبدًا؟
– بلى، أبدًا.
– هذه المرأة الفقيرة موجودة هنا منذ يومين، وهي تُعِدُّ الطعام لنفسها بينما أقوم أنا بإعداد طعام العائلة.
– في الموقد نفسه؟
– نعم، إنها تأتي بعد أن أنتهي أنا من كل شيء؟
– أهي تعد طعامًا خاصًّا لنفسها؟
– نعم يا «كارابو»، فالبِيض ليس لديهم قلب أو إحساس.
– ماذا سيحدث لو أنها شاركتهم الطعام نفسه؟
– أجابت «شيمين» وهي تضرب كفًّا بكفٍّ: إنه شأن الله وهو وحده الذي يعلم، وليس من شأننا نحن أن نعرف.
قالت «شيمين» ذلك، لكنني حين نظرت إلى عينيها عرفت أنها كانت تفكر في شيء آخر، فقلت لها: اعذريني يا «شيمين»، سوف أقوم بإخراج الكعك من الفرن وأعود إليك .. انتظريني.
عندما عدت إليها كانت تمسح عينيها المبللتين؛ فقالت لي: «كارابو» أتعرفين؟
هززت رأسي فاستطردت «شيمين»: إنني حامل.
– أووه.
سادت لحظة من الصمت، قلت بعدها: ومَن هو يا «شيمين»؟
– «تيمي» .. وكأنه قد عاد فقط ليمنحني ذلك.
– لكنه يحبك .. هل أخبرته؟ وماذا قال؟
– لقد أخبرته بالأمس حين التقينا في المدينة.
– حسنًا، وماذا قال؟
– أخبرني بألَّا أنزعج، ومن الممكن أن أكون زوجته.
– إن «تيمي» شخص جيد يا «شيمين» .. إن القليل جدًّا ممن يمارسون تلك العلاقات في المدينة هم الذين يعترفون بأطفالهم.
– أوه .. «كارابو»، أنت تتحدثين عن شيء آخر .. ألا تعرفين أنني لم أعمل بما يكفي لتلبية احتياجات أهلي حتى الآن؟ .. إذا تزوجت الآن فمن سيعتني بهم خاصة وأنني ابنتهم الوحيدة؟
– نعم، نعم .. إنها مشكلة حقيقة فعلًا، ولكن يمكنك مناقشة الأمر مع «تيمي» إذ يمكنك العودة إلى بلدك قبل الولادة بقليل للعناية بالطفل لمدة ثلاثة أشهر، ثم تعودين للعمل في المدينة، وبنقودك ونقود «تيمي» تستطيعان مساعدة الكبار الذين سيتولون رعاية الطفل.
– وماذا سنأكل جميعًا طوال الأشهر الثلاثة التي سأقضيها في البيت؟ إن الأمر مختلف؛ ففي الماضي كان لدينا أرض، وكان بمقدور أمي أن تذهب للحقل حتى يأتي موعد ولادة الطفل.
توقَّف عقلي عن التفكير ولم أستطع أن أجد إجابة شافية .. يا إلهي، كم مرة خشيت فيها من الشيء نفسه .. إنني أحب وأطمع في رحمه الله؛ فنحن جميعًا هكذا، ولا نملك إرادتنا.
– اسمعي يا «كارابو» يجب أن أذهب لعمل شاي للسيدة؛ فالساعة الآن العاشرة والنصف.
عدت للبيت ولم تكن السيدة موجودة؛ فألقيت بنفسي فوق الأريكة في حجرة الجلوس .. اقترب مني الكلب مالان وراح يتشمَّم قدمي حتى صرخت وذهبت بعيدًا وأنا أَقول له: اذهب وأخبر أخاك بما فعلته معك وأخبره أيضًا أنني سأفعل معه ما هو أكثر من ذلك إذا ما حاول أن يفعل مثلك، ولا تنسَ أن تقول لجدتك عندما تعود.
عندما رفعت عيني كان «ديك» واقفًا عند باب المطبخ، فقال: هيه، أنت الآن أيضًا تتحدثين إلى الكلاب!
لم أقل شيئًا، وإنما ظللت أنظر إليه، ثم توجهت إلى غرفتي وجلست فوق سريري، ورحت أنظر إلى وجهي في المرآة، فشممت رائحة السيدة، أوه! إنها أيضًا رائحتي، لقد استخدمت مستحضرات التجميل الخاصة بالسيدة؛ فكنت أشم رائحتها منذ الصباح، كما شعرت وكأن سحابة سوداء تحلِّق فوقي وتضغط على رأسي وأكتافي.
لم أستطع الجلوس فخرجت ورحت أمشي وأتجول عبر المنزل؛ فقد أصابتني رائحة المنزل بالسأم وغمرت كل حلقي، ثم توجهت للحمَّام دون سبب ما؛ فشممت رائحة السيدة تفوح بقوة، وأبصرت «ديك» وهو ينظف الحمَّام، فوقفت عند الباب وظللت أنظر إليه وهو يزيل الوسخ الخاص بجسد السيدة ويقوم بإخراجه من الحمَّام.
قلت لنفسي بصوتٍ عالٍ: لماذا لا ينظِّف الناس الأشياء الناتجة عنهم؟ ثم خرجت قبل أن يلحظني «ديك».
قلت لنفسي مرة أخرى: لماذا أفكر في ذلك الآن وأنا التي قمت بتنظيف الحمَّام مرات كثيرة عندما كان «ديك» مريضًا، كما أنني أقوم بغسل ملابسهم منذ مدة طويلة، بالإضافة إلى المرَّات الأخرى الكثيرة، والتي لا يمكن إحصاؤها التي قمت فيها بالإمساك بأسوأ الأشياء الخارجة من جسدها؟
وقفت في منتصف الطريق بين البيت وحجرتي، ورحت أتطلع إلى الفناء، لكنني فوجئت بالقطط الثلاث الرمادية وهي تقف عند السور، ولا أعرف كم من الوقت قد مضى وأنا أتطلع إلى القطط التي كانت تبادلني بنظرات متشابهة حتى استدارت وذهبت بعيدًا وهي تموء وتقفز مثل شخص يشعر تجاهك بالشفقة، ثم فكرت قائلة لنفسي: لماذا لا تذهب هذه القطط، وتنظر إلى السيدة كما تنظر لي؟
دخلت حجرتي ونظرت في المرآة ثم تساءلت: هل هذه هي «كارابو»؟
في يوم الخميس التالي لم أرَ «شيمين» في مقهى الغراب الأسود؛ فانتابتني الحيرة وشعرت بقلق نحوها حتى جاء المساء، فوجدت ورقة تحت بابي تُفيد بأنه في حالة عدم عودة «شيمين» فإنها ستكون في الشارع الثالث، رقم ٦٦٠ بمنطقة أليكساندرا.
لم يرحب «ديك» في البداية بالذهاب معي إلى حيِّ أليكساندرا بعد أن انتهى من تنظيف الأطباق، لكنه وافق أخيرًا بعد أن أخبرته أن «شيمين» لن تصدق عدم حضورك معي.
حدثني «ديك» في الباص عن أخته الصغرى، وكيف أنه يساعدها بالنقود؛ كي تواصل دراستها وتصبح ممرضة وقابلة .. عرفت من حديثه عن أخته أنه يحبها كثيرًا، وأنه يصلي دائمًا حتى لا يفقد وظيفته كما فقدها مرات عديدة من قبل؛ حتى يتمكن من شراء الملابس والكتب لها، ولا يضطر لاقتراض المال من الناس؛ كي يدفع مصاريف مدرستها .. كان «ديك» يتحدث عن أخته وكأنها حبيبته، إنها متفوقة في المدرسة كما أنها تبدو جميلة مثلما رأيتها في الصورة التي يحتفظ بها «ديك» .. كانت تعتني بكبار السن في حي أورلاندو بالرغم من عمرها الذي لم يكن قد تجاوز الثالثة عشرة.
قال لي «ديك» في ذلك اليوم: ما زلت مدينًا لكثيرٍ من الناس؛ لأنني كثيرًا ما فقدت وظيفتي.
قلت له: حاول هذه المرة أن تواصل العمل مع «مسز بلوم».
كنت لا أزال أفكر في «شيمين» فلم أستطع أن أفهم كل ما قاله «ديك»، وعندئذٍ سألت نفسي: ماذا تفعل «شيمين» الآن؟ ولماذا تلك الورقة تحت الباب؟
عندما وصلنا إلى ذلك الحي المرعب المليء بالسكاكين ليلًا ونهارًا، والذي يعج بسلاسل الدراجات والبنادق والكلاب الضالة والناس الغارقين في المتاعب، وجدناها تتألم فوق السرير، وكان وجهها — رغم ضوء الشموع — رماديًّا وكئيبًا حتى إنني أمسكت بقلبي بين يدي .. استدارت «شيمين» نحوي وكانت امرأة عجوز تجلس فوق الكرسي واضعة إحدى يديها فوق الأخرى وذقنها فوق كتفها، إنها المرأة نفسها التي فتحت لنا الباب بصعوبة بعد أن أخبرناها باسم كل منا بصوتٍ عالٍ، ثم عادت لتجلس فوق مقعدها مرة ثانية كما لو أنه لا يوجد شيء آخر تفعله، لكنها بعد لحظةٍ قصيرةٍ تنحنحت وقالت: ها هي صديقتكم، إنها ابنة أختي وقد جاءت من رحم أختي، أختي التي كانت ترفض أثداء أمي؛ حتى تمنحني فرصة الرضاعة .. لماذا فعلت بنفسها ذلك الشيء الشرير؟ أوه .. أنتنَّ يا فتيات هذه الأيام لا تعرفن بأن الأطفال يموتون سريعًا هذه الأيام، ولذلك يجب أن تشكرن الرَّبَّ الذي يزرع البذرة في أرحامكنَّ حتى تنمو وتصبح طفلًا .. إذا شاء للطفل أن يولد فلا بد أن أعتني به، وستكون أختي سعيدة حين تضع حفيدها فوق حِجرها، ولكن فيمَ يساعد ذلك؟ أنا لا أعرف!
عندئذٍ أبصرت خالة «شيمين» وهي تبكي فقد كان قلبها مفعمًا بالحزن مثلما كانت «شيمين» تمامًا.
واصلت الخالة حديثها بلا انقطاع، بينما كنت أفكر في تلك اللحظة وفي تلك الحجرة المظلمة الصغيرة الواقعة في تلك الضاحية المرعبة، والتي لا توجد بها شوارع مضيئة.
شكرت الله عندما عادت «شيمين» للعمل قبل نهاية الأسبوع، لكنها كانت لا تزال ضعيفة .. تذكرت أن «شيمين» لم تخبرني عن خالتها من قبل، لكنني لم أشأ أن أسألها، وإنما أخبرتها أنني قلت للبيض: إنها مريضة، وإن أخيها أخذها إلى نوكانينج، غير أنهم لم يحاولوا مجرد معرفة الأمر .. إن أولئك البِيض قوم لا يشغلهم ما يحدث للسود، وما عليك إلا أن تكذب عليهم أية كذبة سوف يسمعونها دون أدنى اهتمام، لكنهم نادرًا ما يصدقونها .. إنهم دائمًا الذين يسألون والشخص الأسود دائمًا هو المُطالَب بتقديم الإجابات.
أخبرتني «شيمين» بكل شيءٍ .. لقد ذهبت إلى امرأة متخصصة في مثل هذه الأشياء فأمسكت المرأة بإبرة حادَّة واتجهت بها صَوب الرحم، ثم تحسست داخل الرحم حتى شعرت بالبويضة فقامت بثقبها وبعد ذلك أعطت «شيمين» شيئًا للحدِّ من النزيف.
ذات مساء على العشاء كانت «مسز بلوم» تتحدث مع «كيت» عن الكلاب، وفي كل مرة قمت فيها بإحضار شيء إلى المائدة كنت أحاول معرفة وفهم ما تقولان، لكنني لم أستطع أن أتبيَّن شيئًا سوى أنهما كانتا تتحدثان عن الكلاب، وعن شيء شائع في المدن الكبرى بأمريكا مثل نيويورك مثلًا، حتى سمعت أن «مونتي» و«مالان» سوف ينعمان بمقبرة جميلة.
في الصباح التالي — وأنا جالسة في حجرتي — جاءني صوت «شيمين» عبر السور؛ فخرجت من الحجرة وسمعتها تقول لي: هاي أختي، إليك خبرًا غريبًا .. أتعرفين ما هو؟
قلت: ماذا؟
أجابت: أولئك البِيض يفعلون أشياء تغضب الرب، إنهم من أكثر الناس الذين رأيتهم إلحادًا؛ فلقد قالت السيدة التي أعمل عندها: إن الناس في جرين سايد يرغبون في شراء أرض؛ لكي يدفنوا فيها كلابهم .. نعم، لقد سمعتهم وهم يقولون ذلك في حجرة الجلوس عندما كنت أُقدِّم لهم القهوة ليلة أمس .. هيه، يا إلهي، فليأتِ أجدادنا لإنقاذنا!
قلت: وأنا أيضًا سمعت «مسز بلوم» وهي تتحدث مع ابنتها في ذلك الشأن، وفي الحقيقة لم أستطع سماع كل شيء، لكنني أقسم بأمي أن يومًا ما سيأتي يجلس فيه الكلاب على المائدة ويستخدمون الشوكة والسكين.
تنهدت «شيمين» وقالت: لماذا لا يقدمون لي بعض تلك النقود التي ينفقونها في شراء الأرض وعمل الأضرحة حتى يمكنني شراء بعض الجوارب! أقسم بأمي إنني لا أملك شيئًا أرتديه.
كنت على وشك المغادرة فتذكرت ما كنت أريد قوله .. كان على «شيمين» أن تدفع لتلك المرأة من أليكساندرا؛ التي قامت بإجهاضها، وكانت كل واحدة منا نحن العشرة تدفع جنيهين كل شهر على أن تأخذ كل واحدة منا عشرين جنيهًا كل عشرة شهور؛ فقررنا أن تأخذ «شيمين» نصيبها هذه المرة رغم أنه لم يكن دورها؛ وهكذا قدمت لنا الشكر لمساعدتها.
تأخرت «مسز بلوم» في الاستيقاظ في ذلك الصباح فذهبت لإيقاظها كما أخبرتني، وقبل أن أبدأ في طَرْق الباب سمعت أصواتًا غريبة فسألت نفسي: ماذا يحدث مع «مسز بلوم»؟ وهل يجب أن أنادي عليها إذا كانت مريضة؟ .. ولكن، لا .. إن ما أسمعه ليس صوت شخص مريض وإنما هو صوت يوحي بالسعادة .. انحنيت قليلًا ونظرت من فتحة المفتاح فأصابتني الدهشة وظللت أسال نفسي: ما هذا؟ «مسز بلوم»! «مالان»! ماذا يفعلان؟ كان ذراع «مسز بلوم» ملتفًّا حول «مالان» ضاغطة إياه فوق بطنها، وكان جسدها يرتعش داخل قميص النوم، وقدماها ترتفع إلى أعلى وتنزل إلى أسفل بينما «مالان» صامت كشيء تم امتلاكه دون أي اختيار منه.
عندئذٍ فهمت ما قاله «ديك»، ثم سمعت نفسي أردد بكلمات تندفع كالريح من فمي: لقد أنقذني الله!
عادت الشرطة لاستئناف حملاتها، واقتياد السُّود الذين لا يحملون تصاريح، أو أولئك الذين يعيشون مع الخدم بطريقة غير رسمية إلى المخفر؛ لكن السبب الحقيقي وراء ذلك كان هو تلك القصة المنتشرة في طول جوهانسبرج وعرضها، والتي تقول: إن السود يقتلون كلاب البِيض بالسُّم؛ لأن الكلاب تعني بالنسبة لهم مزيدًا من العمل، ولقد سمعنا أن البِيض أرسلوا خطابات للصحف يستنجدون فيها بالشرطة لمراقبة الكلاب وإيقاف أي أعمال شريرة من جانب السود الذين لا يعرفون الصواب من الخطأ عندما يغضبون؛ مما قد يؤدي بهم إلى وضع السم للسيدات والسادة البِيض.
اقتحمت الشرطة الضواحي كما يقتحم الجراد حقول الذرة، وألقت القبض على كثير من الرجال، وكانوا يسألون كل شخص قائلين: أين السم؟ وأين تقوم بإخفائه؟ إذا أخبرتنا سنطلق سراحك .. أتسمع؟
كان «ديك» دائمًا يقول: من الخطأ أن تقتلوا الكلاب المسكينة ماذا تفعل هذه المخلوقات لكي تقتلوها؟ هل الكلاب هي التي تفرض علينا حمل التصاريح؟ وهل هي التي تضع تلك القوانين الجائرة والتي نعاني ونتألم بسببها؟ إن الذين يفعلون ذلك مجانين حقًّا ولا يعرفون ما يريدون، إنهم أغبياء! .. لكن «ديك» كان يرتعش ويتلعثم في الكلام عندما تحدَّث إليه الشرطي الأبيض، وكان يهز رأسه فقط، ثم راحوا يفتشون جيوبه وهو رافع كلتا ذراعيه مثل الفزَّاعة التي تقوم بإفزاع الطيور في الحقل.
خافت «مسز بلوم» على «مونتي» و«مالان»؛ فوضعتهما إلى جوارها في حجرة الجلوس، ولم تستطع أن تخفي قلقها الشديد حين استدعتني، وقالت: أتعتقدين يا «كارابو» أنه بإمكاننا الوثوق بالولد «ديك»؟
كان الجواب على سؤالها هذا صعبًا بعض الشيء، كما أنني لم أستطع أن أعرف ما تعنيه بقولها «إنه بإمكاننا»: فقلت: أنا لا أعرف يا سيدتي.
قالت: أنت تعرفين.
نظرت إليها وأضفت: أنا لا أعرف ما تقصدينه يا سيدتي.
قالت: أنا لا أقصد شيئًا، ولذلك أسألك.
ضحكت بينها وبين نفسها؛ لأنها كذبت هذه المرة ولست أنا التي كذبت عليها، لكنني لم أغضب؛ لأننا غالبًا ما نكذب على بعضنا مثلما قالت بعد خروجها من السجن بأن كل شيءٍ كان جميلًا رغم شعورها بالخجل؛ فهي ليست كالسود من أمثالنا الذين ينظرون إلى السجن على أنه لعبة شريرة من ألعاب الرجل الأبيض .. كنت أنا و«كيت» نمارس معًا لعبة الكذب، وكنت متأكدة أننا جميعًا نكذب على بعضنا بعضًا.
كانت «مسز بلوم» قلقة وبدا وجهها موحيًا بشيءٍ ما وهي تتكلم؛ مما جعلني أخاف منها وأشفق عليها في الوقت نفسه .. لقد رأيتها عندما عادت من السجن وعرفتها عندما كانت تصيح في وجه «كيت» وعندما تركت «كيت» البيت، لكنني لم أرها هكذا من قبل بعد أن سمعت بقصة وضع السم للكلاب .. العيون، الشفاة، فتحة الأنف، الأسنان، كل شيء كان مختلفًا ومليئًا بالكراهية، وبدت كأنها في طريقها لعمل شيء سيِّئ كما استطعت من خلال إمعان النظر إلى وجهها أن أعرف أنها كانت تريدني إلى جانبها.
وجدت نفسي أقول لها: يمكننا الوثوق بالولد «ديك» يا سيدتي.
ضمت «مونتي» و«مالان» إلى ذراعيها، وقامت باحتضانهما، ثم راحت تداعب رأسيهما؛ مما جعلهما يشعران بالأمان كما يشعر الطفل بين ذراعي أمه، وعندئذٍ قالت: حسنًا، والآن تستطيعين الذهاب.
ثم أضافت: لا تخبري أي شخص أنني سألت عن «ديك» .. إيه!
عندما أخبرت «ديك» بما قالته لي شعر بالقلق فقلت له: إن الأمر لا يدعو للقلق .. إنه لا شيء.
قال «ديك»: لم أكن أفكر من قبل في مشاركة أولئك الذين يضعون السم للكلاب، لكن الشرطة جاءت، وأنا الآن لا أهتم.
سألته: هل كنت ستضع السم للكلاب إذا طلب منك أحدهم أن تفعل ذلك؟
أجاب: لا .. لكنني لا أهتم.
في اليوم التالي توجَّهت «مسز بلوم» إلى «ديك» وقالت: عليك بالذهاب فأنا لم أعد في حاجة إلى عملك.
بكى «ديك» وراح يتساءل: هل السيدة لا تثق بي إلى هذا الحد؟
ثم أضاف وهو يغادر: لم يخطر ببالي أبدًا أن شخصًا أبيض يمكن أن يخاف مني!
وقالت «مسز بلوم» إنها ستستأجر رجلًا بعد الانتهاء من هذه المشكلة.
جاءني خطاب من أبي وأمي في فوكنج أخبراني فيه أن خالي قد مات، كما أخبراني بموت آخرين، قالا لي بأنني لا أتذكر بعضهم، لكنني كنت متأكدة أنني أعرفهم كما عرفت أسماء بعض المرضى؛ فتوجهت إلى «مسز بلوم» وسألتها عن إمكانية ذهابي إلى بلدي، لكنها بادلتني بسؤال آخر، وقالت: متى تُوفِي؟
أجبت: منذ ثلاثة أيام يا سيدتي.
– إذن، لقد دفنوه.
– نعم.
– ولماذا تريدين الذهاب إذن؟
– لأن خالي كان يحبني جدًّا يا سيدتي.
– وماذا ستفعلين هناك؟
– سوف أحمل دموعي وكلماتي الحزينة إلى قبره، وإلى قبر خالتي العجوز يا سيدتي.
– لا، لا تستطيعين الذهاب يا «كارابو» .. ألا تعرفين أنك تعملين عندي ومن أجلي؟
– نعم سيدتي.
– أنا التي تدفع لك أجرك وليس أهلك.
– يجب أن أذهب يا سيدتي فتلك هي تقاليدنا.
توقفت لحظة دخلت بعدها المطبخ، ثم خرجت وقالت: إذا شئتِ الذهاب يا «كارابو» فلن أدفع لك أجرة اليوم الذي ستذهبين فيه.
– أفقد أجري يا سيدتي؟!
– نعم، «كارابو».
في اليوم التالي أخبرت «مسز بلوم» أنني سأذهب إلى فوكنج بلا عودة، وطلبت منها إعطائي خطابًا يُفيد أنني كنت أعمل عندها، فسارعَتْ بكتابة الخطاب دون ترددٍ ومن غير أن تفتح فمها أو تحرك شفتيها .. كتبَتْ في الخطاب أنني عملت عندها لمدة ثلاث سنوات لا أكثر؛ وعندئذٍ عاودتني ذكرى «ديك» وكيف أنها قامت بالاستغناء عنه في لحظة؛ فشعرت — فجأة — بألمٍ ما في قلبي.
لملمت أشيائي ورحلت قبل حلول الصباح التالي، وكان لدى «شيمين» قصتها الخاصة التي ترغب في قولها لي حين جاءت لرؤيتي في حجرتي، وقالت: لقد تركني «تيمي».
سألتها: لماذا؟
أجابت: لأنني تخلصت من الطفل.
– ألم يوافق على فعل ذلك؟
– لا.
– هل ظهرت عليه علامات القلق عندما قلت له إنك حامل؟
– كان قلقًا مثلي كما تعرفين يا «كارابو»، لكنه قال لي إنني إذا قتلت واحدًا؛ فذلك يعني أنني سأقتات على كل أطفاله عندما نتزوج.
– أتعتقدين أنه كان يَعْني ما يقول؟
– نعم، «كارابو»، وقد قال أيضًا إن والديه سيسعدان جدًّا إذا عرفا أن المرأة التي ينوي الزواج منها ستساعد في نمو بذرته.
كانت «شيمين» تبكي بهدوء، وحين حاولت إخبارها أن «تيمي» تركها لأنه لم يشأ منذ البداية أن يتزوجها، لم أستطع، كما لم أجد شيئًا أقوله سوى: لا تبكي يا أختي، لا تبكي.
ثم قدمت لها منديلي.
كانت «كيت» في مكانٍ بعيدٍ جدًّا لا أستطيع تذكره، لقد عادت أثناء مغادرتي فتحدثت مع أمها بشأن إبقائي غير أن أمها لم تهتم، وحتى أنا لم أكن مهتمة.
بعد ساعة واحدة كنت في محطة الأتوبيس المتجه إلى فوكنج، وأثناء الساعات الأولى من الرحلة لم أشعر بأي شيء تجاه البيت الذي كنت أعمل فيه؛ فلقد أحسست أنني شخص آخر، وكانت أفكاري تتأرجح بين «مسز بلوم» وخالي وأبي وأمي وفوكنج وبلدي حتى غلبني النوم، لكنه كان نومًا متقطعًا؛ فاستيقظت مرات عديدة أثناء الرحلة، ويبدو أنني رأيت — في نومي المتقطع أو في الحالة التي بين النوم واليقظة — عربة حمراء تنطلق من خلفنا، لكنني لم أستطع أن أراها أبدًا كلما نظرت من نافذة الأتوبيس.
كانت الأحلام والرؤى تروح وتجيء، فطالعني «تيمي» وهو يتهم «شيمين» أنها قتلت بذرته التي أراد أن يثبت بها لأمه أنها امرأة يمكن لبذرته أن تنمو فيها .. رأيت أيضًا «ليليان جويي» وهي تقول لنا: يجب أن يكون ذهابك إلى السجن من أجل شيءٍ كبيرٍ وإلا فإنك ستخرجين بقلبٍ نازفٍ، وعقلٍ مرهقٍ.
توقف الأتوبيس لحظة فاستيقظت من غفوتي، وتذكرت نادي الغراب الأسود، نادي النساء، هيه لقد طافت بذاكرتي أيضًا تلك الكذبة التي أخبرت «مسز بلوم» بها بشأن البرقية التي تسلمتها من أمي، وقالت لي فيها إنها مريضة جدًّا؛ واستطعت عندئذٍ أن أقضي إجازة جميلة.
كانوا يقومون بأعمال حفر في الطريق، فامتلأ الأتوبيس بالتراب، وعندما غلبني النوم مرة أخرى رأيت السيارة الحمراء خلفنا تمامًا، لكنني حين استيقظت لم أجد لها أثرًا.
ظلت الذكريات تلاحقني في نومي ويقظتي .. ذكريات كثيرة وأحلام لم يستطع صوت الأتوبيس المُروِّع أن يوقفها .. «مونتي» و«مالان»، السيدة «كيت»، قوم آخرون وأشياء كثيرة، لكن الأتوبيس كان يمضي الآن في طريق ممهدة وجميلة وتحيطها الأشجار من كلا الجانبين، فقلت لنفسي: يا له من لغوٍ كل ذلك الذي أفكر فيه!
ساعدني اهتزاز الأتوبيس على النوم مرة أخرى؛ فحلمت هذه المرة بمن يقول لي: انظري يا «كارابو»، لقد ماتت كلاب السيدة، لقد قتلتهم بالسُّم بعد أن طردتني من وظيفتي، ألم تطردك أنت أيضًا؟ ومن أجل ماذا؟ من أجل لا شيء! .. لقد قتلت الكلبين حتى أشعر بأنها طردتني من أجل شيء ما.
صرخت قائلة: لا يا «ديك»، لا يا «ديك».
بعد أن صرخت باسم «ديك» قفزت من فوق المقعد؛ فاستيقظت وقد ارتطم وجهي بالنافذة، وكان العرق يغمر جبهتي.
أخبرت أبي بقصتي فقال لي: لا يهم طالما أنك بصحة جيدة، إن العامل يموت يا ابنتي، لكن العمل لا يموت وهو موجود دائمًا .. عندما كنتُ صبيًّا وقويًّا كان هناك كثير من العمل ولم يكن الرجل الكسول بقادر على القول بعدم وجود عمل، لكن الناس هذه الأيام مختلفون.
قلت: تلك الأيام قد ولَّت بابا، ويجب أن أعود للمدينة بعد أن أستريح قليلًا للبحث من جديد عن عمل؛ إذ يجب أن أعتني بك وبأمي فالناس هذه الأيام فقراء جدًّا ولا يستطيعون مساعدتكما.
كان لا بد من العودة إلى جوهانسبرج حيث غزارة الحياة وتنوعها؛ إذ إننا هنا في فوكنج لا نفعل شيئًا سوى مراقبة شروق وغروب الشمس بالإضافة إلى صعوبة العيش في ظل ظروف اقتصادية بالغة القسوة؛ لذلك أخبرت «شيمين» أن تفعل ما في وِسْعِها للحفاظ على وظيفتها.
بعد أسبوع من عودتي إلى فوكنج أبصرت سيارة حمراء، وكانت امرأة بيضاء جالسة إلى جوار السائق .. عرفت في الحال أنها سيارة «مسز بلوم»، وكان الرجل الجالس إلى جوارها يبين لها الطريق؛ فقد رأيته وهو يشير إلى بيتنا حيث كنت أجلس .. ارتجف قلبي قليلًا بعد أن خرج كلاهما من السيارة، وتقدَّم الرجل نحوي، ثم قدمت له المرأة البيضاء الشكر بعد أن تبادل معي الحديث قليلًا.
كنت أنظر إلى قطعة القماش التي كنت أعمل فيها عندما بدأتْ تتحدث معي، فلم أكن في الحقيقة أعرف ما أفعله، ولم أستطع النظر إليها .. ثَمَّة ابتسامة رقيقة ولكنها مرهقة كانت ترتسم فوق وجهها، سارعت بالدخول إلى البيت وأحضرت مقعدًا منخفضًا، وطلبتُ منها أن تجلس، لكنني تذكرت فجأة أن البِيض لا يرغبون في أشياء كثيرة عندما يقومون بزيارة السُّود لأول مرة مثل الجلوس، أو شرب المياه، أو الدخول إلى البيت، هكذا فعل القس الأبيض حين جاء لزيارتنا، وهكذا كنت مرتبكة حين ذهبت مع «كيت» في سيارتها إلى بلدتي فوكنج في عيد الفصح؛ ولم أدرِ يومئذٍ ما يمكنني عمله.
قالت «مسز بلوم»: هل ترغبين يا «كارابو» في العودة للعمل عندي؟
أجبت: لا أعرف، ويجب أن أفكر أولًا.
قالت: هل تستطيعين التفكير في الأمر والانتهاء منه قبل صباح الغد؟ حيث يمكنني الذهاب والنوم في فندق المدينة على أن أعود غدًا صباحًا، وإذا كان جوابك بنعم؛ فإنه بإمكانك العودة معي.
تمنيت لو أنها قالت إنها تأسف لطردي، ولم أكن أعرف طريقة تجعلها تقول ذلك؛ فالبِيض لا يتأسفون أبدًا لشخص أسود، كما أنها لم تفعل ذلك من قبل فرحت أفكر في طريقة تجعل عودتي معها أمرًا صعبًا، ثم قلت لها: أنا لا أعرف، يجب أن تسألي أبي أولًا فهل أنادي عليه؟
أشارت برأسها وقالت: نعم.
قمت باستدعاء أبي وأمي فقاما بتحيتها، بينما رحت أنا لإحضار المقاعد، ثم أخبرتهما بما تريده «مسز بلوم».
تشاورت في الأمر مع أبي وأمي، ثم قلت لهما: إذا وافقتما فسوف أفكر في الأمر وأخبرها غدًا.
قال الأب: إن الأمر متوقفٌ على ما تشعرين به يا ابنتي.
قلت مخاطبة «مسز بلوم»: إذا شئت أن أفكر بالأمر فإنني أريد أولًا أن تدفعي أكثر؛ لأن راتبي ضعيف جدًّا.
سألتني: كم تريدين؟
– أربعة جنيهات على الأكثر.
ثم نظرت إلى الأرض لحظة، وأضفت: كما أريد إجازة لمدة أسبوعين في عيد الفصح؛ حيث إن إجازة نهاية الأسبوع لا تكفي.
هكذا قلت، وأنا أفكر بأنها إذا كانت تريدني حقًّا فإنها ستوافق؛ وعندئذٍ يمكنني التأكد من شعورها بالأسف لفقداني.
قالت «مسز بلوم»: أستطيع أن أعطيك أسبوعًا واحدًا؛ لأنك — كما تعلمين — تنعمين بما يُشبه الراحة عندما أذهب أنا إلى دوربان في الشتاء؟
قلت لها: سوف أفكر في الأمر.
ثم غادرت.
في اليوم التالي كنت قد حزمت أشيائي وأصبحت مستعدة للعودة معها، وعندما جاءت بدت سعيدة جدًّا وأكثر طيبة، فشعرت بثقة في نفسي لم أشعر بها من قبل أبدًا، ثم قالت لي: لن تجدي «مونتي» و«مالان».
– أوه؟!
– نعم، لقد سرقهما شخص ما في اليوم التالي لرحيلك، ولم يعثر عليهما البوليس حتى الآن .. أعتقد أنهما ماتا.
فكرت في «ديك» وفي الحلم الذي رأيته في الأتوبيس، فهل استطاع أن يفعل ذلك؟ وهل جاءت هذه المرأة لأعود معها؛ لأنها فقدت حيوانين كانت تحبهما كثيرًا؟
قالت «مسز بلوم»: أنت تعرفين يا «كارابو» أنني أحب شعبك وأحب الأفارقة.
فسألتها على الفور: وهل تحبين «ديك» وتحبينني؟