الفائز
أوغندا
كاتبة صحفية معروفة في شرق أفريقيا وهي أوغندية الأصل .. أصدرت مجموعتين قصصيتين في العام ١٩٨٥م.
أصبح «بيوس داولا» أكثر الناس شعبية في «بوجندا» بعد أن فاز برهان كرة القدم حيث تدفق الأقرباء نحوه من جهات المملكة الأربع .. أولاد العم، وأبناء الإخوة والأخوات، والأعمام .. كلهم جاءوا فجأة إلى «كالاسندا» — رغم عدم حضورهم من قبل للسؤال عنه — وراحوا يفكرون في استثمار أموال الجائزة لأعمالهم الخاصة.
حول كوخ «بيوس» الطيني المتواضع كان الصحفيون متربصين، وبعضهم يحمل آلات التصوير، بينما توقَّف العاملون بإذاعة أوغندا لتسجيل سرور وفرحة «بيوس» وحظه المدهش في محاولة للترفيه عن المستمعِين.
لم يكن «بيوس» يغادر كوخه إلا نادرًا، وكان يتحرك مستندًا على عصا قوية وهو يترنح ويتمايل مثل رجل أعمى أو أعرج، وعند رؤيته كان ينتاب القرية إحساس بأنه لم يغادر القرية منذ سنوات، كما لم يكن من السهل التعرف عليه.
عندما بدأت آلات التصوير عملها جاهدت «مانتوندو» لتجلس إلى جوار «بيوس»، وفي صباح اليوم التالي كانت كل صحف أوغندا تنشر في الصفحة الأولى صورة السيد «بيوس» وزوجته السعيدة .. تفرست «مانتوندو» الصورة بفرح وراحت تطوف بها على كل الزوار، وقد تملَّكها إحساس شديد بالفخر.
– أخبِرنا يا سيد «داولا» ماذا ستفعل بكل هذه النقود التي ربحتَها؟
– أخبِرنا يا سيد «داولا» كيف كنت تملأ كوبونات الرهان؟
– أخبِرنا .. أخبِرنا .. أخبِرنا.
كادت رأس «بيوس» أن تنفجر من تلك الأسئلة الكثيرة، وكان «سالونجو» وكيل مقبرة «سابالانجيرا» وصديقه الوحيد يهمس له بألَّا يقول شيئًا في الوقت نفسه الذي كان فيه الأقرباء يصيحون ويدفعون ناحيته بأطفالهم؛ مما أصابه بالاضطراب وعدم القدرة على التفكير؛ إذ لم يكن من اليسير أن يتحوَّل فجأة من عالم النسيان والتجاهل الكامل طوال خمسة وستين عامًا إلى عالم الشهرة.
لم يكن «بيوس» يملك مطبخًا نظيفًا؛ فراحوا يصنعون الشاي في الأباريق خلف الكوخ، بينما عدد كبير من بنات العم كنَّ يعملن بجدٍّ ونشاط في إعداد عناقيد الماتوك لتجهيز الطعام لكل شخص.
قدمت إحدى النساء نفسها على أنها ابنة عم «سارا»، وكانت تصيح وتتحرك بحرية تامة حتى إنها اكتشفت الموز المخبأ وقدمته للحاضرين في أطباق، لكن «بيوس» لم تعجبه طريقتها تلك وحدثته نفسه بأن يحذر منها كما قال له «سالونجو» منبهًا: يجب مراقبتها!
انتشر الخبر بسرعة في أفريقيا قبل أن تصل البرقية إلى «بيوس» فالصحافة على اتصال دائم بمكاتب الرهان .. توافدت أفواج الزائرين لرؤية «بيوس» والاطلاع على البرقية التي تفيد بفوزه، لكنه كان غارقًا في أفكاره الخاصة المتمثلة في عجزه عن إدراك ما يحدث حوله؛ حيث إنه قد افتقد رؤية كثير من أولئك الناس منذ سنوات كثيرة؛ حتى إنه كان يتعرف عليهم بصعوبة.
كانت العائلة تنعم بالسرور، وكان الجميع من حوله يهتف بفرح: ابن العم «بيوس» .. ابن العم «بيوس».
قال بعضهم: «بيوس» يا ابن العم، لماذا لم تأتِ لزيارتنا كل هذا الوقت؟
شعر «بيوس» بالسرور لرؤية أقربائه وأحبابه وهم يتجمعون حوله، فها هو يجد نفسه وسط عائلته من جديد .. لقد ملئوا قلبه العجوز بالدفء؛ فراح يرحب بهم كثيرًا غير أن ثمة جمودًا واضحًا كان باديًا عند البعض منهم.
أصبح المنزل مليئًا بالناس ودخان السجائر، وظلت البرقية الثمينة تنتقل من يد إلى أخرى.
قال الرجل الصغير: والآن يا سيد «داولا» نحن مستعدون. للتسجيل، سوف أسألك بعضًا من الأسئلة، وعليك أن تجيب ببساطة وبصوتك الطبيعي وطريقتك العادية.
نظر «بيوس» إلى الصندوق الجلدي ذي البكرتين الدائرتين، ثم لعق شفتيه دون أن يقول شيئًا.
همس «سالونجو» بصوت أجش، لكن الرجل الصغير لم ينتبه له وتوَجَّه إلى «بيوس» قائلًا: سيد «داولا»، أهنئك — قبل كل شيء — على فوزك بالرهان والآن أخبِرنا عن شعورك عندما أصبحت غنيًّا فجأة.
كان «بيوس» يحدق في الفراغ وكأنه تحت تأثير التنويم المغناطيسي؛ مما جعل الرجل الصغير يسأله مرة أخرى: أعني .. هل لديك خطط للمستقبل؟
ابتلع «بيوس» ريقه بصوت مسموع، ثم فتح فمه ليقول شيئًا لكنه سرعان ما أغلقه عندما اعترض «سالونجو» قائلًا: لا تخبره بأي شيء.
أدار الرجل الصغير آلة التسجيل وهزَّ رأسه بغضب وهو يقول: انظر هنا يا سيدي، كل ما أريده أن تقول شيئًا فأنا لا أسألك أن تُلقي خطابًا، والآن سأشرح لك .. سوف أسألك عن شعورك عندما أصبحت غنيًّا فجأة، فتجيب مثلًا، وتقول بأنها كانت مفاجأة مدهشة وإنك — بطبيعة الحال — تشعر بالابتهاج .. والآن هل تطلب من أصدقائك عدم المقاطعة؟
دارت الآلة مرة ثانية وكان السؤال واضحًا: سيد «داولا»، ما هو شعورك بالفوز؟
أجاب «بيوس»: إنها مفاجأة مدهشة، وبطبيعة الحال فإنني أشعر بالابتهاج، وهل تطلب من أصدقائك عدم المقاطعة!
كاد الرجل أن يبكي فقد كانت أول أيام عمله كمقدم للبرامج الإذاعية وأصبح واضحًا أنها آخر أيامه؛ فسارع بإغلاق آلة التسجيل، وانتابه الحزن على مستقبله، ثم راح يتأوه.
كانت «سارا» تراقب ما يحدث فانتهزت الفرصة، وقالت: ربما أستطيع مساعدتك، إنني بنت عم «بيوس».
قالت ذلك بطريقة توحي بأن «بيوس» ليس له أحد آخر غيرها؛ فأشرق وجه الرجل الصغير، وقال: حسنًا مدام، سأكون مُمتنًّا إذا استطعت أن تخبريني شيئًا عن خطط السيد «داولا».
أطبقت «سارا» ذراعيها أمام وجهها المهيب، عندما بدأت الآلة في التسجيل قالت: نعم، إن السيد «داولا» سعيد جدًّا بالنقود، ولا أعتقد أن لديه خططًا محددة في كيفية استثمارها؛ لأنه — ببساطة — لا يستطيع أن يفكر وسط كل هؤلاء الناس .. نعم، إن السيد «داولا» يعيش وحيدًا وأنا التي أجيء من وقت لآخر للعناية به ومساعدته.
نظرت النسوة الأخريات إلى بعضهنَّ نظرات تعني الكثير، ورحن يطرقعن أسنانهنَّ في الحجرة، وظل «بيوس» يتعجب من تلك الثقة التي تتحدث بها، بينما دفعه «سالونجو» برفق وهمس له: هل تتذكر ما قلته لك؟ يجب مراقبتها، احترس منها.
في الثالثة من بعد الظهر تم إعداد الشاي وبعض أوراق موز الجنة وثلاثة أطباق مختلفة، فتناول «بيوس» قليلًا من الطعام وراح يستمتع بالشاي .. كان البعض يتناول الشاي في علب من الصفيح أو في قوارير قديمة لعدم وجود عددٍ كافٍ من الفناجين .. شعر «بيوس» بألم في ذراعه من كثرة المصافحة وأصابه التعب من الثرثرة، وكل أولئك القادمين والذاهبين، وبلغت متاعبه أقصاها من بنت العم «سارا» التي كانت تعامله كضعيف معتوه دون أن تتوقف عن محاولاتها في إبعاد الآخرين.
مع بداية المساء بدأ الأقرباء في الرحيل مع وعد بالحضور غدًا، وأثناء ذلك جاء كل من «يوسيفو موكاسا» و«كيبوكا» فأبصرا ذلك الإجهاد الواضح فوق وجه «بيوس» العجوز الذي كان منهَكًا، وفوق بشرته الرمادية تتجلى بوضوح علامات الإرهاق الشديد .. تراجع كِلا الرجلين إلى الخلف عندما تقدمت بنت العم «سارا» التي أجبرتهما على تناول الشاي، والتي كانت تتصرف باحترام بالغ يُوحي بأنها سيدة البيت.
خاطبت «يوسيفو» قائلة: أعتقد أن زوجي الأخير يعرفك جيدًا يا سيدي، إنه «كيفومبي» الذي كان رئيس الميروكا في مقاطعة «بوياجا».
أجاب «يوسيفو»: آه، نعم .. لقد تذكرت «كيفومبي» جيدًا، كنا نصطاد معًا على الدوام، ولقد تأثرت جدًّا بنبأ وفاته .. كان رجلًا طيبًا.
هزَّت «سارا» كتفيها، وقالت: نعم، كان رجلًا طيبًا، وإنما هكذا هي الحياة .. لقد رحل بعيدًا.
استطاع «بيوس» عندئذٍ أن يعرف صلة القرابة بينه وبين «سارا» التي لم يكن لها في الحقيقة وجود؛ حيث إن «كيفومبي» هو ابن لزوجة أحد أبناء عم «بيوس».
علَّق «كيبوكا»: يبدو أن خبطة الحظ هذه قد أرهقتك يا «بيوس»!
كان «كيبوكا» و«يوسيفو» جالسَين فوق المقاعد الخشبية التي أحضرتها «سارا»، أما «سالونجو» فقد كان يُحدِّق في كل شيء وهو يجيب: بالطبع هو مرهق للغاية؛ لأنهم جميعًا يرغبون في تجميع عظامه.
دفعه «بيوس» كما يدفع طفلًا: لا، لا، «سالونجو» .. إنه لمن الطبيعي أن تتجمع العائلة حولي في مثل هذا الوقت، وأنا لست منزعجًا إلا أنني عجوز بعض الشيء ولا أقدر على مثل هذه الإثارة.
بصق «سالونجو» باتجاه المدخل المفتوح بعيدًا عن مجموعة الضيوف، وقال: هذه المرأة لا تدري أنه رجل عجوز وتريد الإمساك به .. لقد رأيت مثلها في مكان آخر.
تعجب «يوسيفو» .. مكان آخر! هذا يعني مقبرة «سابالانجيرا» التي كان يحرسها «سالونجو» في سنوات شبابه.
ثم قال: حسنًا، إنها امرأة طيبة .. أرجوك يا «بيوس» أن تفهمني، من الأفضل أن تقضي معنا هذي الليلة في «موتوندا» وسوف تسعد «ميريامو» كثيرًا لوجودك معنا، كما أنك في حاجة لقضاء ليلة طيبة ومريحة لن تتوفر لك هنا؛ حيث الأقرباء يعدُّون أنفسهم بالخارج لإشعال النار استعدادًا للرقص طوال الليل.
قالت «سارا» وهي تزيح فناجين الشاي: أعتقد أنها فكرة جيدة فلتذهب يا ابن العم مع السيد «موكاسا» حتى تنعم بوضع أفضل، ولا تقلق بشأن منزلك؛ لأنني سأبقى هنا وأعتني بكل شيء.
تردد «بيوس» قائلًا: نعم، ذلك شيء طيب غير أنني سأكون بخير هنا على ما أعتقد، كما أنني لا أرغب في إلقاء مزيد من الأعباء فوق كاهل «ميريامو».
قال له «سالونجو» هامسًا: اذهب مع «يوسيفو»؛ فمن الخطأ أن تبقى وحيدًا مع هذه المرأة التي لا نعرف شيئًا عما يمكن أن تفعله.
صوبت «سارا» نظرات عنيفة نحو «سالونجو» وقبل أن يتفوه أحد بشيء آخر قالت بطريقة نهائية: سأحزم لك بعض الأشياء القليلة يا «بيوس».
استقلُّوا سيارة «يوسيفو» ومضَوا في طريقهم نحو «موتوندا»؛ فانتاب «بيوس» إحساس غامر بالسرور والابتهاج؛ لأن أحدًا لن يضايقه، بينما ذهب «سالونجو» إلى المقبرة وابتسامة غير منتظمة كانت تطفو فوق وجهه الذابل العجوز وهو يتذكر وعد «بيوس» له بالمساعدة في بناء منزل جديد للسابالانجيرا، وأنه كان يومًا جميلًا بالنسبة له بالرغم من بنت العم «سارا».
أمضى «بيوس» مساءً ممتعًا مع «الموكاساس» الذين أجادوا صنع العشاء، والذي أعقبه كوب من البيرة المثلجة .. كانوا جالسِين يستمعون إلى الأخبار المحلية من الراديو، وكان «بيوس» في حالة من الاسترخاء حين أخبرهم — بتواضع — أن لقاء قد تم بينه وبين راديو أوغندا هذا الصباح، فراحوا ينصتون بشغف إلى نشرة الأخبار لسماع صوته، لكنه كان صوت «سارا» عبر الأثير .. كان الرجل العجوز قد نسي تمامًا واقعة التسجيل مثلما نسي «سارا»، لكنهم اقتربوا منه وهم خائفون، وقالوا: إن «سالونجو» على حق؛ فتلك المرأة تبغي الاستفادة منك ويجب معرفة ما وراءها.
كانت الفكرة تبعث على القلق لكن «بيوس» نام كالطفل وكأن لا شيء في العالم يهمه، وفي الصباح شعر بالانتعاش فأصرَّت «ميريامو» على بقائه يومًا آخر في «موتوندا» وقالت له: لقد فرحت بالأمس حين رأيتك وها أنت تبدو في وضع أحسن مما جئت عليه؛ ومن هنا أرى أن قضاء إجازة صغيرة معنا سيجعلك أفضل كثيرًا .. يمكنك الذهاب إلى منزلك غدًا حين يكون بعض أقربائك قد رحلوا؛ فيصير الزحام أقل مما هو عليه الآن.
بعد الغذاء مباشرة توجه «بيوس» إلى الشُّرْفة وراح يغفو قليلًا فوق الكرسي وما هي إلا لحظات قليلة حتى جاء «موسيسي» في السيارة اللاندروفر وكانت «سارا» إلى جواره فتقدمت «ميريامو» لتحيتهما، وقد بذلت جهدًا كبيرًا في التنكُّر لفضولها تجاه هذه المرأة التي سمعت عنها كثيرًا، ثم جلست إلى جوارها وقررت كل منهما أن تصبح صديقة للأخرى.
اقترب «موسيسي» في اللحظة نفسها من العجوز «بيوس» الذي أشار له إلى المقعد قائلًا: اجلس يا بني، لقد أطعمتني «ميريامو» جيدًا وها أنا ذا يقظ وفي أحسن حال.
قال «موسيسي» وهو يتلمس جيب سترته: وأنا سعيد لراحتك يا سيدي، لكنني أحمل برقية لك فهل أقرأها؟
وقف الرجل العجوز مترقبًا، وقال: سأكون ممتنًا إذا فعلت.
قرأ «موسيسي» البرقية في صمتٍ، ثم نظر إلى «بيوس» وقال معلقًا: أخشى أن تكون أخبارًا سيئة يا سيدي.
ردَّ «بيوس»: أخبار سيئة؟ هل مات أحد؟
ابتسم «موسيسي» وأجاب: لا، ليست بهذا السوء وإنما كل ما في الأمر أن شركة الرهان نسيت أن تضيف إلى البرقية الأولى أن الجائزة موزعة على ثلاثمائة شخص آخر.
أصابت «بيوس» الدهشة، وفقد توازنه، ثم تمتم: أخبرني، كم من النقود سوف أحصل عليها؟
– سبعة عشر ألفًا من الجنيهات موزعة على ثلاثمائة شخص يعني أنك ستحصل على أكثر من ألف شلن.
تعجب «موسيسي» كثيرًا حين جلس «بيوس»، وهو يضحك ضحكًا مكتومًا ويقول: أكثر من ألف شلن، لماذا؟ إنه مبلغ كبير من المال.
– ليس كبيرًا وخاصة أنك كنت متوقعًا أكثر من ذلك.
– نعم، لكنني ماذا كنت سأفعل بكل هذه الآلاف من الجنيهات يا بني؟ لقد تجاوزت العمر الذي يحتاج فيه المرء لكل هذه الأموال.
أحضرت «ميريامو» حصيرة إلى الشرفة وجلست مع «سارا» بالقرب من الرجال، ثم صاحت: يا لها من خيبة أمل.
لكن «سارا» تنشقت وقال: أنا أوافق ابن العم «بيوس»، لأنه لن يحسن التصرف مع سبعة عشر ألفًا من الجنيهات، كما أن العائلة بكل أفرادها ستتعلق برقبته إلى الأبد.
تجهَّم «موسيسي» على ذكر عائلة «بيوس» وقال: كان يجب أن أحذرك يا سيدي من أولئك الأقرباء، وها هي مدام «كيفومبي» (قالها وهو يُشير إلى «سارا») ثم توقف لحظة وأضاف: حان الوقت لإيقافهم عن اقتلاع أرضك.
قالت «سارا»: نعم يا «بيوس»، يعوزنا بعض الوقت لإعادة كل شيء إلى مكانه.
علَّق «بيوس» بوهن: أوه، يا عزيزي .. إنها أخبار مخيفة.
– لا تقلق لأنهم سيسارعون بالاختفاء فور إخبارهم بعدم وجود نقود؛ وعندئذٍ سأرسل في طلب اثنين من أبنائي الكبار لمساعدتنا في الزرع.
بادرت «سارا» بالانصراف، ثم نهض «موسيسي» من مقعده قائلًا: إنني خائف ولا أستطيع البقاء هنا طويلًا .. سأذهب الآن مع «سارا» لمساعدتها في توضيح الأمر لتلك الجموع المحتَشِدة في منزلك على أن أعود غدًا لاصطحابك في طريق العودة.
صعد هو و«سارا» إلى السيارة اللاندروفر وظلَّت «سارا» تلوِّح بيديها بقوة حتى اختفت السيارة عن الأنظار.
قالت «ميريامو» مخاطبة «بيوس»: إن بنت عمك امرأة لطيفة.
شعر «بيوس» أن هذه الملاحظة النسائية خاصة به.
عاد «بيوس» مع «موسيسي» إلى منزله في اليوم التالي، وكان كل شيء هادئًا وطبيعيًّا .. قدمت له «سارا» كوزًا من الشاي المغلي، ثم جلست فوق الحصيرة تحت قدميه وراحت تشرح له — بطريقة متشائمة — كيفية إصلاح الأشياء، بينما راح هو بدوره يخبرها عن خططه التي ينوي تنفيذها بنقود الجائزة حتى قال: وبالطبع فإنني لن أقدر على عمل كل شيء الآن خاصة وأنني وعدت «سالونجو» بعمل شيء في المقبرة.
صبَّت «سارا» مزيدًا من الشاي، وقالت: أوه، شيء جميل، لكنني أعتقد أن السقف أكثر أهمية فلقد لاحظت بالأمس أن به فجوات كثيرة، كما أن بناء حجرة أخرى ومطبخ صغير بالخارج تبدو فكرة جيدة خاصة وأن الطين رخيص جدًّا وكذلك الأغصان، وبذلك يستوي المكان وتستطيع — عندئذٍ — أن تتحرك كما تشاء، وأيضًا بالنسبة للدجاج فأنا أملك ست دجاجات من النوع الجيد وديوكًا صغيرة وبعض الفراخ، وسوف أحضرهم إلى هنا.
تطلَّع إليها «بيوس» بإمعانٍ مدة طويلة فأبصرها جميلة، ثم فكر قائلًا لنفسه: ولكن لماذا كل هذا الاهتمام؟
ثم حاول بصعوبة أن يتحدث بطريقة عفوية حين قال: أنت تتحدثين وكأنك ستقيمين هنا.
وقفت «سارا» أمامه وأجابت: ابن العم «بيوس»، دعني أكون صريحة جدًّا معك .. لقد تزوَّج ابني الصغير منذ ستة شهور وجاء بزوجته لتعيش معي وهي فتاة تفيض جمالًا ولطفًا، لكنني بطريقة أو بأخرى لم أتعود وجود امرأة ثانية في المنزل، كما أن ولدي الآخر يعيش في كامبالا وهو يرحب بقدومي في أي وقت، لكنه أيضًا لديه زوجته وثلاثة أطفال؛ وإذن فلن تكون الحال أفضل إذا ذهبتُ إليه؛ وهكذا عندما رأيت إعلانًا صغيرًا في الصحف تذكرت فجأة كيف أنك كنت تساعد كل الناس في يوم زفافي؛ ففكرت بيني وبين نفسي أنك في حاجة لمربية جيدة للمنزل تحفظ لك الأشياء وتعمل على ترتيبها؛ وعندئذٍ سارعت بالمجيء برؤيتك، وأعتقد أنني فعلت الصواب لأنك فعلًا تحتاجني.
تردَّدَت لحظة ثم استطردتْ: ربما تُفضِّل أن تبقى وحيدًا!
قال «بيوس»: أنت امرأة متهورة جدًّا.
وكان هذا كل ما استطاع أن يقوله.
بعد أسبوع كان «بيوس» يتجول خارج المقبرة حين شاهد «سالونجو» من بعيد مشغولًا بتلميع أسلحة «سابالانجيرا»، وعندما اقترب منه قال الحارس متذمرًا: فكرت أنك فارقت الحياة فقد مضى وقت طويل منذ مجيئك إلى هنا آخر مرة، وعلى أية حال فإن هذه المقبرة يا عزيزي تحترف الإهمال ولا أحد يهتم بأن واحدًا من أبناء «بوجندا» يرقد هنا.
قال «بيوس» بصوتٍ خفيضٍ: كنت مشغولًا بعض الشيء، لكنني أتذكر وعدي لك ولذلك أحضرت لك مائة من الشلنات، أو ليتني استطعت إحضار المزيد، لكن مائة شلن تُساهِم — على الأقل — في شراء قليل من الأسمنت.
تناول «سالونجو» النقود ونظر إليها فبدت وكأن القمل يزحف عليها ثم قدَّم له الشكر بطريقة حاقدة، وقال: من الطبيعي أن تزيد تكاليف الحياة الآن بعد احتفاظك بامرأة في منزلك.
ابتسم «بيوس» بخجلٍ: أعتقد أن «مانتوندو» أخبرتك!
أجاب الحارس: وهل يهم من الذي أخبرني؟ على أية حال لا تقل بأنني لم أحذرك، ولا تنسَ أنها ستطلب خاتم الزواج في المرة القادمة.
ضحك «بيوس» ضحكة غريبة، وقال: في الحقيقة إن أحد الأسباب التي جئت هنا من أجلها هي دعوتك لحفل الزفاف في الشهر القادم.
ألقى «سالونجو» بالرمح الذي ينظفه وراح يحدِّق في صديقه وكأنه أصبح — فجأة — شخصًا آخر، ثم قال: يا لك من أحمق! كنت أعرف أن شيئًا ما سيحدث .. في مثل عمرك هذا كان يجب أن تتمتع بمزيد من الإحساس .. شيء طيب، لكنني لا أستطيع أن أنصحك بشيءٍ سوى أن الفرصة ما زالت بين يديك.
سادت لحظات قليلة ساورت فيها «بيوس» الشكوك، فقال محدِّثًا نفسه: هل تصرفتُ بحماقة بعد كل شيء؟!
ظل يفكر في «سارا» والأعمال العظيمة التي قامت بها في منزله أثناء تلك المدة القصيرة التي قضياها معًا؛ فشعر باطمئنان، وقال لصديقه الحارس: سوف أتزوجها وأتوقع رؤيتك في الكنيسة، وفي المنزل، أما إذا لم تأتِ فإنه يحق لي معرفة السبب.
وكان مسرورًا بينه وبين نفسه لتلك النبرة الحادة في صوته.
اكتسى وجه «سالونجو» بالدهشة، وقال: نعم، سوف أجيء، وقبل أن تنصرف يجب أن تقطع عنقودًا من الموز، وقد تجد بعض الكرنب في الخلف لأجل زوجتك الطيبة؛ لأنها الفائزة الحقيقية.