سارزان١
السنغال
تَعلَّم «إسماعيل بيراجو ديوب» بمدارس الليسيه في السنغال، ثم درس الطب البيطري في جامعة تولوز بفرنسا، وبعد عودته لأفريقيا عمل بيطريًّا لعدة سنوات في «أواجادوجو» التي هي الآن جزء من فولتا العليا .. كتب ثلاث مجموعات قصصية، وقصة «سارزان» هي إحدى قصص المجموعة الأولى.
غادرت كل العائلات «دوجوبا» كما تَفِر حبَّات الذُّرة من ضربات المدقة، أو كما تتساقط الفاكهة الناضجة من فروعها المليئة بعصارة النبات؛ حيث رحل بعض الشباب للعمل في «سيجو» و«باماكو» و«داكار»، بينما اتجه آخرون للعمل في حقول الفول السوداني السنغالية، وكانوا يعودون في موسم الحصاد فقط بعد أن تصعد المنتَجات للسفينة؛ فهم يعرفون جيدًا أن جذور حياتهم لا تزال في «دوجوبا» المقيَّدة بتعاليم الأجداد والتقاليد القديمة؛ مما جعلهم غير قادرين على الابتعاد عنها طويلًا. لكن «تيمو كيتا» استجاب للمغامرة أكثر من الآخرِين؛ حيث ذهب إلى «كاتي» و«داكار» ومنها إلى «الرباط»، ثم إلى «فريجوس» و«دمشق»، وكان قد تلقى تدريبه في السنغال، وحارب في المغرب، وعمل حارسًا في فرنسا، ودوريًّا في لبنان، ثم عاد إلى «دوجوبا» رقيبًا في قافلتي الطبية بعد أن التقيتُ به أثناء جولاتي البيطرية في السودان داخل مكتب المدير المحلي عندما كان يطلب تسجيل اسمه في الشرطة، أو العمل كمترجم.
قال له الحكمدار: لا .. من الأفضل أن تعود إلى قريتك؛ لأنك سافرت كثيرًا، وتتمتَّع بخبرةٍ كبيرةٍ؛ وهكذا فإنك تستطيع أن تُعلِّم أهلك شيئًا عن حياة الرجل الأبيض، وتساعد في تحضُّرهم بعض الشيء.
ثم خاطبني الحكمدار قائلًا: دكتور .. هل من الممكن اصطحاب «كيتا» معك؟ أعتقد أن عودته معك في الطريق بعد غياب خمسة عشر عامًا سيُخفِّف عنه كثيرًا، وسيحميه من البكاء والتمزق.
جلستُ أنا والرقيب في مقعد الشاحنة الأمامي بجوار السائق، واحتل مساعد السائق، والحارس المدني مكانًا صغيرًا بالقرب من الأمصال ومواد التلقيح، بينما وضعوا الطعام والأدوات الطبية في الخلف، وما هي إلا لحظات قليلة حتى بدأ الرقيب يسرد لي حياته، جنديًّا حتى أصبح رقيبًا متقاعدًا، وحين راح يحدثني عن «مارسيليا» و«تولون» و«فريجوس» و«بيروت» كان واضحًا أن «كيتا» شارد الذهن.
كان الطريق متعرِّجًا ومؤطَّرًا بألواح خشبية مغطاة بالطين، وقد تحوَّلت بفعل الحرارة الشديدة إلى تراب ملوث بالزيت والشحم؛ مما حجب عنا رؤية القِرَدة التي تقفز علينا أثناء السير .. اكتسَت وجوهنا بالتراب؛ فبَدَت كالقناع الأصفر، وأحاط بنا الضباب الخانق؛ وعندئذٍ أبصر «كيتا» زحام مرسيليا، والبحر الأزرق، وبنايات فرنسا الجميلة، وعند الظهيرة وصلنا إلى نهاية الطريق حيث مدينة «مادوجو»، ثم واصلْنا مسيرتنا فوق الجياد؛ أملًا في الوصول إلى «دوجوبا» قبل الغروب.
قال «كيتا»: سأبدأ غدًا في إصلاح هذا الطريق حتى تتمكن في المرة القادمة من قطع الطريق كله بالسيارة إلى «دوجوبا».
أعلنَت دقات الطبول الخفية عن اقترابنا من القرية، وقُبالة السماء الرمادية الشاحبة لاحت في الأفق أكواخ، وعشش كثيرة ذات لون رمادي مُعتِم تحيطها ثلاث شجرات من النخيل، كما امتزجت نغمات الفلوت الحادة بأصوات الطريق المتهالك عندما وصلنا إلى «دوجوبا»، وعندئذٍ سألت عن عمدة القرية.
- دوجوتيجي .. ها هو ابنك الرقيب «كيتا».
توقَّفَت دقات الطبول، وقفز «كيتا» من فوق حصانه؛ فاستقبله العمدة العجوز بكلتا يديه، وقام باحتضانه، بينما راح الرجال الكبار يتحسسون ذراعيه وكتفيه، وقامت بعض النسوة العجائز برفع اللفافة من فوق ركبته، ثم تدفَّقَت الدموع بغزارة فوق الوجوه السوداء المليئة بالتجاعيد والندوب، بينما راحوا جميعًا يصيحون: كيتا .. كيتا .. كيتا.
قال العجوز مرتجفًا: إنهم حقًّا رجال طيبون وكرماء، أولئك الذين جاءوا بك اليوم.
كان يومًا غريبًا في «دوجوبا» ولا يشبه أي يوم آخر .. إنه يوم كوتيبا أو يوم الاختبار الذي يعني عودة شخص ما بعد أن رحل بمتاعبه، وتجوَّل بها ثم أعادها لشخصٍ آخرَ.
جلس «كيتا» وسط دائرة متحركة من الناس وهو يلهث من ضربات السياط التي يختلط صوتها بنغمات الفلوت الحادة ودقات الطبول الصاخبة، وكانت النار تضيء جسده الأسود ويصعد بريقها إلى قمة أشجار النخيل المتأرجحة بفعل رياح المساء .. إنه يوم كوتيبا، أو اختبار قوة الاحتمال ومدى الإحساس بالألم؛ فالطفل الذي يصرخ عندما يؤذي نفسه ليس سوى طفل صغير، أما الذي يصرخ عندما يُصاب بأذًى فإنه لن يكون رجلًا.
إنها وسائل البدائيين المتوحشين نفسها التي جعلت من «تيمو كيتا» وأمثاله يواصلون السير طوال يوم كامل وهم مُحمَّلون بأعباء ثقيلة فوق رءوسهم دونما توقُّف حتى أصبحوا قادرِين على خوض المعارك بشجاعة.
كنت أعتقد أننا تحرَّرْنا من هذه البدائية، لكن شباب قريتنا لا يزال مؤمنًا بالأحجية، والألغاز، والضرب فوق الظهور وأطراف الأصابع، كما أن الذكريات القديمة وكلمات الأغاني التي سمعناها في الليالي المظلمة لا تزال تحتل مكانًا بارزًا في رءوسهم .. أدركتُ عندئذٍ أننا لم نحقق شيئًا وتمنيتُ لو استطعنا التخلِّي عن هذه الأساليب والعادات القديمة .. دخلتُ الكوخ الذي أعدُّوه لي، فشممتُ رائحة البانكو والصلصال والقش المتعفن الذي يقي الكوخ من الأمطار .. كانوا يدفنون موتاهم في تلك الأكواخ، ويشيرون إليهم بقرون الحيوانات المثبَّتة فوق الحائط، وهكذا تسللت إلى أنفي أيضًا رائحة الموتى الثلاثة المشار إليهم.
في الصباح الباكر سارعتُ بالرحيل حين كانت «دوجوبا» لا تزال نائمة ومخمورة من التعب وطاسات البيرة التي كانوا يتبادلونها طوال الليل.
قال «كيتا»: إلى اللقاء، وأعدك بأن يكون الطريق ممهدة حين تعود في المرة القادمة.
أعاقني العمل في القطاعات والمواقع الأخرى عن العودة إلى «دوجوبا» قبل عام كامل .. كان الوقت متأخرًا والهواء ساخنًا ولزجًا؛ فاخترقْنا الطريق بصعوبة، ووصلْنا بعد رحلةٍ شاقةٍ غير أن الرقيب «كيتا» التزم بوعده ومهَّد الطريق حتى «دوجوبا» .. احتشد الأطفال حول العربة صائحين كما يحدث في كل القرى؛ حتى اكتستْ أجسادهم الصغيرة بالتراب وتلوَّنت بلونٍ أبيض رمادي، وبجانبهم كانت تسير الكلاب بعظامها البارزة وآذانها المقصوصة، وكان أحد الرجال يتوسطهم مشيرًا بإحدى يديه وملوحًا بذيل البقرة في يده الأخرى.
توقَّفت العربة فلم أخطئ في التعرُّف عليه .. إنه الرقيب «كيتا» .. نعم، إنه «كيتا» وقد ارتدى سترة قديمة بدون أزرار وذات لون شاحب وبنطالًا قطنيًّا قصيرًا كاكي اللون يصل إلى ركبتيه، وكان حافي القدمين يلفُّ ساقيه ببعض الخِرَق القديمة، ويضع فوق رأسه قبعة عسكرية.
– كيتا.
تبعثر الأطفال كالعصافير صائحين: آيي .. آيي.
لم يصافحني «تيمو كيتا»، لكنه نظر إلى وجهي وبَدا كأنه لا يعرفني، أو كأنه لم يشاهدني من قَبل، ثم راح يحدِّق إلى لا شيء، وسارَع فجأة في تحريك ذيل البقرة وهو يصيح بصوت أجش:
قال السائق: إنه مجنون.
أصدرت له بإشارة مني أمرًا بالسكوت؛ فبدأ الرقيب يغني بصوتٍ غريبٍ:
عاد الأطفال وتجمَّعوا في دائرة حول العمدة العجوز وكبار رجال القرية، قدمتُ التحية ثم سألتُ عما حدث للرقيب «كيتا».
أجاب الرجال: آيي .. آيي.
وردَّد الأطفال: آيي .. آيي.
ثم قال الأب العجوز: إنه الآن ليس «كيتا» وإنما هو سارزان الذي أساء للموتى والأرواح فعاقبوه ونالوا منه.
عرفت أن والد «كيتا» أراد أن يُقدِّم قربانًا عبارة عن دجاجة بيضاء؛ امتنانًا منه للأسلاف الذين أعادوا إليه ابنه، لكن «كيتا» قال يومئذ: لقد عدت؛ لأنني كنت مضطرًّا للعودة، ولا شأن للأسلاف بعودتي.
كما أضاف: دع الموتى جانبًا؛ لأنهم لا يستطيعون فعل أي شيء للأحياء.
لكن العمدة العجوز لم يهتم بما سمع وقدَّم القُربان، فقال «كيتا» أثناء الذبح: لا فائدة من ذلك، كما أنه من الغباء أن نقتل الدجاج ونَصُب دمه في أركان الساحة.
ثم استطرد قائلًا: إن الذُّرَة، والقمح، والفول السوداني، والبطاطا سوف تنمو وتثمر بشكلٍ أفضل لو استخدم الفلاحون المحراث الذي أرسله لهم المدير المحلي.
عرفت أيضًا أن «كيتا» قطع فروع الشجرة المقدسة وأحرقها .. تلك الشجرة التي كانوا يذبحون عندها القرابين، ويَعتبرونها حامية القرية والأرض المزروعة، كما أنه في يوم ختان الأولاد والبنات هرع الرقيب «كيتا» إلى من يقوم بعملية الختان وانتزع من تحت رأسه ريش القنفذ، وذلك الريش الذي يخفي به جسده وهو يقول: وسائل البدائيين.
أبصر في يوم الكرنفال تلك الأقنعة المخيفة المضحكة فتذكر أن البِيض يرتدون الأقنعة من أجل المتعة واللهو، وليس من أجل تعليم أبنائهم حكمة القدماء. وحين توجه إلى كوخه انتزع حقيبته الصغيرة المعلَّقة — التي تمثل بالنسبة لهم روح العائلة — وألقى بها في الفناء، بينما اتجَه في يوم آخر ناحية الخشب المقدَّس، وحطَّم أواني الذُّرة المغلي واللبن الحامض، وكسر التماثيل، واقتلع الأوتاد الملوثة بالدم المتجمد وريش الدجاج وهو يكرر: وسائل البدائيين.
كانت الشمس في طريقها للغروب حين انحنى «كيتا» فوق جذع الشجرة، وراح يتحدث عن العرَّاف الذي ذبح الكلاب وقدَّمها قُربانًا في الصباح، وواصَل حديثه عن الكبار الذين لم يتجرءوا على سماعه، وعن الصغار السائرين في ركْب الكبار وما زالوا يستمعون إليهم حتى شعر — أثناء الحديث — فجأة بوخزة في كتفه الأيسر؛ فمالت رأسه وزاغت عيناه وهو ينظر إلى مستمعيه، وحين بدأ يتحدث من جديد امتلأ ركن فمه برغوة بيضاء ولم تَعُد الكلمات هي الكلمات نفسها.
سلبَت الأرواح عقله فصاحوا بفزع: ليلة سوداء .. ليلة سوداء.
ارتعش الأطفال والنساء في أكواخهم، وقالوا مرددِين: ليلة سوداء .. ليلة سوداء.
لم أستطع النوم قبل الفجر وفي الكوخ حيث يعيش الأموات، كنت أستمع للرقيب «كيتا» وهو يروح ويجيء طوال الليل باكيًا ومغنيًا:
لم يَعُد يناديه أحد باسمه؛ فلقد نالت منه الأرواح وصنع منه الأجداد رجلًا آخر .. كان «تيمو كيتا» قرويًّا مولعًا بالقرويين، أما الذي رحل فهو سارزان .. سارزان المجنون.