المرأة المتزوجة حقًّا
سيراليون
ولد أبيوسيه نيقول في سيراليون، وتلَقَّى تعليمه في نيجيريا وإنجلترا، درس الطب في جامعات لندن وكامبريدج، وعمل سفيرًا لبلاده في الأمم المتحدة، يُلقِّبونه في دوائر الأدب الأفريقي بصانع القصة القصيرة الماهر .. نشر العديد من المقالات والقصص القصيرة في طبعات أفريقية وإنجليزية وأمريكية، وفي العام ١٩٥٢م حصل على ميدالية وجائزة مارجريت في الأدب الأفريقي.
تحرك «أجايي» قليلًا ثم نهض مُصوِّبًا بصره باتجاه الساعة الرخيصة فوق المقعد المجاور للسرير .. كانت تمام السادسة والربع، والضوء قد بدأ يتسلَّل من الخارج، كما بدأت المدينة الأفريقية في الاستيقاظ ببطء لمواجهة الحياة وبداية يوم جديد .. صاحت الدِّيَكة فنهض حراس الليل من نومهم، وراحوا يدقُّون فوق أقفال المخازن والمنازل لتأكيد وجودهم وكفاءتهم لمستخدميهم إذا ما كانوا بالقرب منهم.
كانت نساء القرية في طريقهن إلى السوق عَبْر الشوارع حاملات بضائعهن وهن يتبادلن الأحاديث.
تناول «أجايي» فنجان الشاي الصباحي الذي كان خفيفًا وحلوًا وبدون حليب كما يفضله دائمًا، ثم نهض بصعوبة نحو الشباك حيث توقف ليأخذ نفسًا عميقًا ست مرات متتالية كما يفعل كل يوم تجنبًا لمرض السُّل، وبعد ذلك مشى فوق الأرض المتداعية قاصدًا الحوض الخارجي لتناول حمام سريع .. صب الماء فوق رأسه بعلبة كان يجرف بها الماء من الدلو، بينما كانت زوجته «آيو» — في الوقت نفسه — تُعِد له الإفطار بصعوبة.
كان يقول لأصدقائه المقرَّبين إن «آيو» سيدة طيبة .. عاشا معًا اثني عشر عامًا أنجبت له خلالها ثلاثة أطفال، وهي امرأة صبورة، وجميلة ذات عينين واسعتين، وبشرة سوداء، وأسنان ناصعة البياض، ودائمًا ما تضفر شعرها بعناية.
لجأت إليه «آيو» أول الأمر وهي ساخطة من أهلها؛ فعقد العزم على الزواج منها فور أن تبين علامات الرضا، وفي العام الأول كتبَت له عن تفاصيل احتفالات الزواج العظيمة التي تتصف بالبذخ وعن زواج صديقاتها، وأنها تتطلع إليه بعيون ملؤها الأمل، لكنه لعن ذلك البذخ وحُب التظاهر، وما هو إلا وقت قليل حتى توقَّفَت عن محاولاتها وغادرت المنزل لتعيش مع «أجايي» فانقطعت صلتها بأبيها الذي لم يتحدث إليها أبدًا، غير أن أمها ظلَّت تزورها سرًّا، ولم تنسَ أبدًا حضور طقوس تعميد أطفالها الثلاثة.
طالبت الكنيسة بمزيد من الردع لأولئك الآباء والأمهات الذين ينجبون أطفالًا غير شرعيين؛ فقررت غرامة قدرها دولاران بدلًا من خمسين سنتًا، ولم يعترض أحد؛ فقد كان القس يعظ الناس ويحرضهم بشدة ضد الفسق والزنا وتعدد الزوجات وأولئك الذين يعيشون معًا دون زواجٍ، وكان كل من «أجايي» و«آيو» من المتردِّدين على الكنيسة بانتظام، لكنهما كانا يجلسان متباعدَين، وكان الأصدقاء متعاطفِين معهما ومع الحالات الأخرى المشابِهة.
تذمر الأعضاء الذكور من المصلِّين، وحين اجتمعوا عرفوا أن متاعب الكنيسة تتجلَّى في انحرافها عن الأخذ بتعاليم الإنجيل، وتدخُّلها في حياة الناس الخاصة، فانقطع «أجايي» عن الذهاب للكنيسة لأسابيع قليلة، لكنه عاد مرة أخرى يتردَّد عليها دون انقطاع؛ لأنه يحب التراتيل، ويعرف بينه وبين نفسه أن القس على حق.
كانت «آيو» سيدة طيبة، وكان والدها يحلم بزواجها من أحد المدرِّسِين في المدارس العليا أو أحد الصيادلة، لكنها ارتبطت بكاتب الحكومة الأقل شأنًا والذي تحبه وتشعر بسعادة معه؛ فهي تجهز له الطعام وتنجب له الأطفال، كما أنها تملك الوقت لشراء حاجاتها، وزيارة الأصدقاء، والثرثرة مع جارتها «أومو» في الباب المجاور.
مضى «أجايي» مسرعًا نحو حجرة النوم والفوطة حول خصره وراح يجفف نفسه بسرعة، ثم ارتدى بذلته القرنفلية بعناية وهو يتناول جرعة من الدواء الذي أوصى به صديقه الموظف في مخزن العقاقير.
كان «أجايي» يعتقد في أثر هذا الدواء فأصبح لزامًا عليه تناول بعض الجرعات منه؛ خاصة بعد أن قرأ النشرة وعرف أنه يجلب الشفاء لعشرين حالة مختلفة من حالات المرض إذا واظب المريض على تناوله كل يوم.
فكَّر «أجايي» في الأمراض التي يُعاني منها، أو على وشك الإصابة بها: صداع الرأس، وآلام العضلات، والضعف العام، والحُمَّى، ومرض اليرقان، والرعشة الشللية، ثم استبعد — بذكاء وشجاعة — تلك الأمراض المتعلقة بالنساء مثل الهزال العصبي، وآلام المثانة؛ ولأنه لا يتذكر وجوب تناول ما يعادل ملعقة شاي من الدواء ثلاث مرات يوميًّا كما تقول النشرة؛ فقد قرر أن يتناول جرعةً كبيرةً تُعادل المرات الثلاث. رشف رشفتين كبيرتين وكان الدواء قابضًا؛ فتغيرت ملامح وجهه، غير أنه كان راضيًا وهو يقول لنفسه: من الواضح أنه دواء جيد وقوي وإلا لما كان مرًّا هكذا.
جلس لتناول الإفطار، وراح يلتهم الذرة والعصيدة والفول المحمر والكاكاو، وسرعان ما أجهز على كل شيء، ثم توجه ناحية ابنه الكبير ذي العشرة أعوام وقام بجلده جلدات قوية؛ لأنه بلَّل فراشه الليلة الفائتة .. هرع الولد إلى الفناء الخلفي وهو يصرخ، فجاءت «آيو» وقالت: أنت تضرب هذا الولد كثيرًا.
أجاب: يجب أن يكفَّ عن التبول وهو نائم .. إنه ولد كبير، وأعتقد أنه لا يحق لأحد أن يدلني على الطريقة التي أعامل بها ابني.
قالت «آيو»: إنه أيضًا ابني.
(لم تكن تعترضه إلَّا إذا كانت تشعر بقوة ما تعترض بشأنه.)
ثم استطردَت: إن ضربه كل مرة لن يجعله يكف عن ذلك الفعل؛ ففي الحقيقة أنه يتبول الآن أكثر وأكثر، وأعتقد أنك لو توقفت عن جلده سيكون أفضل.
سأل «أجايي»: وهل أجلده ليفعلها من جديد؟
– لا.
– وهل سيكف عن التبول إذا توقفت عن ضربه؟
– إن «بيمبولا» إحدى نساء مدينتنا والعائدة توًّا من إنجلترا وأمريكا — حيث درست التمريض — أخبرَتْنا في اجتماع النساء أنه من الخطأ معاقبة الأطفال على مثل هذه الأفعال.
قال وهو يلتقط خوزة الشمس: حسنًا، سوف أرى.
ظل طوال اليوم في المكتب يفكِّر في اجتماع النساء وأشياء أخرى .. إن «آيو» تحضر اجتماعات النساء، أوه، ماذا تعرف؟ لا بد أنها تهرع بعد ذلك إلى مجلس المدينة .. يا لها من امرأة خبيثة! إنها تنظر بهدوء ووداعة، ثم تستشهد بنظريات حديثة مما يقوله أطباء ما وراء البحار .. ابتسم بفخرٍ وقال لنفسه: إن «آيو» — في الحقيقة — شيء نافع، فقد يكون من الخطأ ضرب الولد.
قرر ألَّا يضربه مرةً ثانيةً.
قبل انتهاء العمل بقليل أرسل رئيس الكتبة في طلبه؛ فتساءل بينه وبين نفسه عن الخطأ الذي ارتكبه في ذلك اليوم، أو عن المهمة التي سيكلفونه بها، ثم أسرع إلى المكتب الأمامي؛ فإذا بثلاثة من الرجال البِيض جالسِين فوق مقاعدهم بجوار الرئيس الأفريقي الذي كان جالسًا باحترام زائد عن الحد.
بدأ قلب «أجايي» يدق بشدة، وفكر قائلًا: الشرطة! يا الله .. ماذا فعلت؟
قال الرئيس بطريقة رسمية: السيد «أجايي» هؤلاء السادة يسألون عنك.
بدأ الرجل الطويل بالقول: سعداء بلقائك يا سيد «أجايي»، نحن نمثل الاتحاد العالمي للمدافِعِين عن الإنجيل؛ أي إننا جماعة المبشِّرِين من «مينيسوتا» .. اسمي «جوناثان أولن».
تقدم «أجايي» للمصافحة، وقام الاثنان الآخران بتعريف أنفسهما.
- لقد عبَّرْت عن رغبتك في الانضمام إلينا منذ عام مضى؛ ولأننا لا ننسى فقد فكرنا — ونحن في طريقنا للهند — أن نعيد النظر بشأنك.
(قيل: إن أولئك المبشِّرِين الثلاثة كانوا في طريقهم حين توقَّفَت سفينتهم في أفريقيا لساعات قليلة من أجل التزود بالوقود).
نظر رئيس الكتبة إلى «أجايي» باحترام غير عادي، بينما كان «أجايي» يحاول جاهدًا أن يتذكر الصلة التي تربطه بجماعة المبشِّرِين هذه، وما هي إلا لحظات قليلة حتى تذكر فجأة أنه قد حصل منذ مدة طويلة على مجلة من شخص ما يعمل في هيئة الاستعلامات الأمريكية وقطع منها قسيمة، ثم أرسلها إلى جماعة المبشِّرِين سائلًا إياهم عن بعض المعلومات، وتمنى لو أرسلوا له بعض الأناجيل المزَيَّنة بالصور؛ إذ يمكنه أن يقدِّمها هدية أو يقوم ببيعها، كما تَمنَّى أن يرسلوا له — على الأقل — تلك الصور الكبيرة ذات الإطارات ليزين بها الردهة أو يلصقها فوق حائط حجرة النوم، لكن شيئًا من ذلك لم يحدث؛ فنسى الموضوع تمامًا.
قام بدعوتهم إلى منزله بصحبة الرئيس لتناول شراب بارد، فوافقوا جميعًا، ثم قال محذرًا: إن منزلي متواضع.
أجاب «أولسن»: ليس متواضعًا، إنه مضيء بحب المسيحية.
قال رئيس الكتبة بجفاف: إنه كذلك بالفعل .. فلتطمئنوا.
اقترح «أولسن» أن يذهبوا بالسيارة، لكن «أجايي» اعترض بلباقة، وقال: إن الطريق غير ممهدة.
ثم همس بسرعة لأحد الكَتبة التابعين له أن يسرع بالذهاب إلى المنزل على الدراجة لإخبار «آيو» أنه قادم مع بعض الرجال البِيض خلال نصف ساعة، وعليها أن تقوم بتنظيف المنزل وتجهيز عصير الفاكهة.
ارتبكت «آيو» لمضمون الرسالة؛ فهي تعرف عن يقين أن كل الرجال البِيض لا يشربون سوى الويسكي والبيرة المثلجة، لكن الرسول أزاح عنها ارتباكها حين أخبرها أنهم نوع من الناس لا تربطهم أية صداقة، وتبدو على هيئتهم مظاهر التقوى والورع؛ مما جعله يشك أنهم جماعة من المُبشِّرين، وكان سيرهم على الأقدام بدلًا من ركوب السيارة هو ما أكد لديه هذا الإحساس .. فهِمَت «آيو» وبدأت على الفور في العمل.
كان «أوجو» قد انتهى من فضيحة التبول الصباحية، فوضعت «آيو» السلة فوق رأسه وأرسلته لشراء بعض المشروبات الخفيفة، ثم راحت تنظِّف الحائط، وتنزع الرزنامة المليئة بالصور، وتُثبِّت صور الأُسرة التي سقطت فوق المائدة، وتذكرت ضرورة أن تُبعد عن مرمى النظر تلك الروايات الغريبة، والمجلات الرومانسية التي تملأ الصالة، وحرصت على إظهار نشرة الحج، وكتاب الصلاة، وهي تفكر أن ذلك يضيف قدرًا من الثقافة ذا لمحة دينية إلى الديكور .. تذكَّرت كئوس الخمر ومفارش إعلانات البيرة، فسارعت بإخفائها تحت الأريكة، وفكَّرت أنه الوقت المناسب لارتداء فستان يوم الأحد، وعندما يصل «أجايي» والضيوف يمكنها استعارة خاتم الزفاف من جارتها.
لم يستطع رئيس الكتبة إخفاء دهشته عندما شاهد ذلك التغيير في الحجرة التي زارها من قبل، ولما أبصر فستان «آيو» وخاتمها حاول إخفاء شعوره بسرعة .. تقدمت «آيو» وتعرَّفَت عليهم، ثم تَبادلوا حديثًا قليلًا بالإنجليزية؛ مما بعث السرور في نفس «أجايي» .. ارتدى الأطفال ثياب يوم الأحد، وكانت وجوههم نظيفة وشعورهم مصفَّفة؛ فشعر «أولسن» بالسرور، وأصرَّ على التقاط بعض الصور لصحيفة التبشير.
كانت «آيو» تُقدِّم الشراب ثم تتراجع بتواضع تاركة الرجال يتناقشون في الأمور المهمة، وكان «أولسن» يَتحدَّث بحماس عن القدوم الوشيك للمسيح الثاني، وعن محاولة تقديم «أجايي» وتعيينه في الكنيسة.
انتهت الزيارة وسارَع المبشِّرون بالرحيل للحاق بسفينتهم، وبعد ذلك تَوقَّف الرئيس عن توجيه الأوامر إلى «أجايي»، والتي كانت تزداد مع الوقت.
في اليوم التالي توجه «أجايي» إلى مكتب الرئيس حاملًا بين يديه زجاجة من البيرة كهدية لمساعدة الرئيس له في هذه المناسبة، خاصة وأنهما تناقشَا بودٍّ وفي جوٍّ من التكافؤ؛ حتى إنهما أثارا اهتمام الرجال البِيض.
بعد ذلك الحدث واحتجاج «آيو» على ضرب الولد ظل يفكر بجدِّية طوال أسبوع كامل، ثم قرر في النهاية أن يتزوج «آيو»، وكانت الصور التي التقطها «أولسن» لمجلته عاملًا مساعدًا في اتخاذ قراره .. يجب أن يتزوج «آيو» فقد أكد له «أولسن» أن ملايين من الأمريكيين سيشاهدون صورهم باعتبارهم أسرة أفريقية سعيدة.
ذات مساء وبعد تناول عشاء جيد انتهز «أجايي» فرصة من الصفاء والرضا والهدوء، فأخبر «آيو» بعزمه على الزواج منها، لكن «آيو» اضطربت في الحال ونظرت إليه بقلق وهي تتساءل: هل يعاني من مرض ما؟ هل ثمة متاعب في العمل، أو أن أحدًا قد تسبب في إهانته؟!
هكذا سألتْ نفسها ثم أجابتْ: لا، لا شيء فليس ثمة خطأ في أن يطلب الزواج.
ثم ضحكتْ وقالت له: كما تشاء، فلنتزوج ولكن لا تقل إنني أجبرتك على ذلك.
تناقشَا في شئون العرس، واقترح «أجايي» فستانًا أبيض للزفاف وحجابًا وزهرة برتقالية، لكن «آيو» اعترضت، وتم الاتفاق أخيرًا على اللون الرمادي، كما اقترحت ضرورة أن ترتدي مشدًّا للوسط كي تداري وتطوق تلك البدانة عند الوسط؛ فوافق «أجايي» على طلبها ورَبَّت فوق ذقنها بلطف قائلًا: أنت امرأة مَزهوَّة بنفسها.
لم يكن قادرًا على مجرَّد التفكير في شهر العسل بتكاليفه الباهظة، كما تسببت فكرة النفقة في تعكير صفوه؛ فقال لها: إن هذا السرير بحالة جيدة ومثله مثل أي سرير جديد.
استسلمت «آيو» موافقة.
ظل «أجايي» طيلة ذلك المساء لا يفكر في شيء سوى فكرة الزواج وإجراءات الزفاف، وبينما كانا راقدَيْن فوق السرير انتابته رغبة ملحة في ممارسة الحب معها؛ فراح يداعبها ويُقبِّلها، لكن «آيو» دفعته إلى الخلف برقة وقالت: لا .. انتظر بعد الزواج.
قبل «أجايي» رغبتها رغم اندهاشه، ثم سألها: لماذا؟
أجابت «آيو» بحدة وتصميم: لأنه مهما كان الأمر فلن يكون ذلك صحيحًا.
سمع والد «آيو» بفكرة الزواج، لكنه لم يتراجع عن رأيه وإنما ازداد إصرارًا على مقاطعتها قائلًا: حتى لو عادت بكل ممتلكاتها.
ذهب الأطفال إلى أخت «آيو» المتزوجة، وكانت أسرة «أجايي» فرحة بذلك القرار ما عدا أخته التي لم توافق إلا من أجل تحسين وضعه الاجتماعي، لكنها نصحته أن يذهب أولًا للعرَّاف كما فعلت «آيو» حين تناقشت مع الأصدقاء في سوق يوم السبت وذهبت للعرَّاف، ثم اتخذت قرارها.
في الليل ذهب «أجايي» مع أخته إلى العرَّاف الذي كان مشغولًا بالتكهن بالغيب، وإيحاء زوَّاره بالسعادة والمستقبل المشرق.
كان كل شيء موفقًا بالنسبة إلى «آيو» باستثناء جارتها «أومو» التي كانت تُعِيرها — دائمًا — خاتم الزفاف في المناسبات المهمة، والتي تشعر الآن تجاهها بالبرود بعد أن عرفت بهدايا الزفاف التي ينوي «أجايي» أن يقدمها لها، حتى إنها قدمت لها قمصان النايلون المهلهَلة بإحساسٍ ممتزجٍ بالحسد والغضب وهي تسألها: هل يعني ذلك أنك سترتدين هذه القمصان؟
أجابت «آيو» ببساطة: نعم.
اعترضت «أومو» قائلة: لكن البرد سيصيبك إذا ما ارتديت هذه القمصان يا أختي كما لو أنك أصبت في حادثة، وقام الأطباء برفع ملابسك في المستشفى فلا شك أنهم سيشاهدون كل شيء.
قالت «آيو»: لن تصيبني حادثة.
ثم أضافت: يقول «أجايي»: إن ممثلات السينما في هوليود يرتدين مثلها .. انظري، هوليود ماركة مسجلة.
قالت الجارة الغيور وهي تلقي بالملابس إلى الخلف في غضب: إن ذلك شيء فاضح، إنه لا يُخفي أي شيء، ومن الفجور الشديد ارتداء مثل هذه الملابس.
شعرت «آيو» بالانتصار فقالت بهدوء: ولماذا ينبغي إخفاء مفاتني عن زوجي؟
عادت «آيو» إلى المطبخ وهي سعيدة لزواج «أجايي» منها، وكان ينتابها شعور قوي بمستقبل آمن.
حاول «أجايي» — بصعوبة — أن يتخلص من روتينه اليومي وبخاصة فنجان الشاي الصباحي الذي افتقده كثيرًا، كما استدان كثيرًا من الأموال من أجل المهر، وتكاليف الموسيقى الراقصة، ومراسم الاحتفال، وفساتين «آيو» وقريباتها التي يجب ارتداؤها بعد الانتهاء من مراسم الزفاف، وكان على «آيو» أن تسرع بتجهيز نفسها والانتهاء من مَشدَّات الوسط.
ذهب عم «أجايي» وبعض أقربائه إلى والد «آيو» حاملِين معهم الكتاب المقدس، وخاتم الخطوبة طالبِين يدها للزواج، وهكذا تمت الخطوبة في هدوء، وفي اليوم السابق ليوم الزفاف اصطحبوا معهم فتاتين صغيرتين فوق رأسيهما زجاجات كبيرة مجوفة بداخلها بعض الدبابيس والعملات الإنجليزية الصغيرة والفاكهة وبذور الكولا، والفستان كهدية رمزية من العريس إلى العروس تجنبًا لأي نزاع في المستقبل يمكن أن يقال فيه: لم يقدم لي هذا الوغد منذ زواجنا دبابيس أو عملات.
اقترب الموكب الصغير من منزل والد «آيو» ولعدم تأكدهم منه فقد تجاوزوه، ثم عادوا إليه مرة أخرى .. طرق عم «أجايي» الباب عدة طرقات فانطلقت الأصوات صائحة من الداخل مطالبة بالاسم واسم الجد والمهمة التي جاء من أجلها؛ فتبادل الجانبان الشتائم، وبعد أن تفحصوا أوراق الأسرة بدقة ساورت الشكوك كلا الجانبين، ثم بدأ عم «أجايي» في التملق والمداهنة وكانت نصف ساعة من المتعة والدهشة والانتظار فتح بعدها والد «آيو» الباب وسأل متجهمًا: أية مهمة جئت من أجلها؟
أجاب عم «أجايي» بهدوء وتواضع: جئنا لكي نقطف الوردة الحمراء التي تنمو في حديقتك الجميلة والتي لم يقطفها أحد من قبل .. إنها أجمل من أية وردة أخرى.
سأل أحد أقرباء «آيو» الذكور: هل تستطيعون تهذيب وردتنا الجميلة؟
أجابت أسرة «أجايي»: سوف نحسن تهذيب وردتكم الجميلة.
اتفق الجميع وراحوا يتبادلون الهدايا، ويتناولون الشراب، ويقيمون الصلوات، ثم بدءوا يتناقشون حوالي نصف الساعة حول ما يمكن تصوره، وما يمكن أن يفعلوه لإنهاء كل شيء على أكمل وجه.
كانت «آيو» وأخواتها البنات وبعض قريباتها الشابات يختبئن في حجرة النوم المجاورة حين قال والدها مخاطبًا عم «أجايي»: في هذا المنزل توجد فتاة عذراء طاهرة، وهي جميلة ومطيعة ومعروفة لدى الجميع باسم «آيو»، وأنت تبحث عن هذه الفتاة العذراء لتصبح زوجة لقريبك «أجايي».
ثم فتح باب حجرة النوم وجاء بأخت «آيو» الرابعة وقال: هل هي هذه؟
أجابوا بعد أن تفحصوها جيدًا: لا، ليست هي .. إنها أقصر من «آيو».
جاءت بنت العم فقال والد «آيو»: هل هي هذه؟
– لا، هذه بدينة جدًّا.
شاهدوا عشر فتيات غير أن واحدة منهن لم تكن هي المطلوبة فهذه قصيرة جدًّا وبدينة جدًّا أو متوسطة جدًّا؛ مما جعل عم «أجايي» يضرب فوق فخذه وقد تأكد من شكوكه؛ وعندئذٍ سارع إلى مجموعته وأخبرهم بضرورة أن يشاهدوا العروس بأنفسهم فأشاروا برءوسهم موافِقين.
قال والد «آيو»: حسنًا، ليس ثمة ما يدعو للقلق .. كنت أبغي التأكد من أنكم تعرفون ما تريدون.
ثم وقف أمام باب حجرة النوم في مواجهة الجميع وأشار إلى «آيو» الجالسة فوق السرير، وكان من اليسير رؤية الدموع المتدفِّقة من عينيه، قبَّلها برقة فوق جبهتها؛ كي تصفح عنه لمقاطعتها كل تلك السنوات، ثم أمسك يدها وقادها متَّجهًا صَوْب الحاضرين، وقال: هل هذه هي الفتاة التي تريدونها؟
أجاب عم «أجايي» بفرح: نعم، هي بالتأكيد.
وعندئذٍ راح الجميع يصيحون: «هيب .. هيب .. هوراي».
أحاطوا «آيو» من كل اتجاه، وظلوا يلوحون بالمناديل البيضاء فوق رأسها، وتناول الموسيقيون قيثاراتهم، ثم بدءوا في العزف، بينما راح شخص ما يصدر أنغامًا متناسقة بزجاجة خمر فارغة، وبعد الانتهاء من الزغاريد التمهيدية ارتفع صوت الفلوت بلحنٍ عذبٍ؛ فسارع الجميع بالرقص حول «آيو» حتى أصبحت في المنتصف تمامًا .. ها هي «آيو» في منتصف الثلاثينيات من عمرها بشعرها المخطط باللون الرمادي تشهد مراسم الحفاوة والتكريم الخاصة بها، تلك الاحتفالات التي غالبًا ما شهدت عليها دون أن تكون طرفًا فيها .. راحت تبكي بفرح.
في الصباح التالي كانت تستحِم بمساعدة امرأة عجوز من أفراد أسرتها، وبعد أن ارتدت ملابسها أمام أمها سارع أبوها بزفها إلى الكنيسة .. كان زفافًا هادئًا يتكون من ستين ضيفًا أو نحو ذلك، وقد بدا «أجايي» متماسكًا في سترته المليئة بالأزرار والتي كان يرتديها فقط في المناسبات الخاصة .. اتجهوا بعد ذلك إلى منزل أسرة «آيو» لتناول غذاء الزفاف، وعند الباب التقوا بواحدة أخرى من عمات «آيو» العجائز التي كانت تمسك كوبًا من الماء أشارت به إلى شفاههم ليرشفوا منه على التوالي على أن يكون «أجايي» أولهم .. تجمَّع الضيوف في الخارج خلف الزوجين فيما كانت العمة تلقي خطابًا طويلًا بطريقة مرحة، وقالت محذرة «آيو»: ليس من الصواب أن تكوني لطيفة جدًّا مع النساء الأخريات حين يلاطفن زوجك، ويجب أن تَعيشَا في سلامٍ وألا تجعَلا الشمس تغرب بينكما حين ينشأ خلاف ما.
أضافت العمة مخاطبة «أجايي» بومضة سريعة من عينيها: بإمكان الزوجة أن تكون هادئة ومسلية وسيدة، وأتمنى ألا تستخدم العنف مع ابنتنا التي هي زوجتك.
اتخَذوا من الجانب الغربي مكانًا لممارسة طقوس الاحتفال، وراحوا يقطعون كعكة الزفاف التي صنعتها «آيو» بنفسها، وبدأ كل منهم يلقي خطابًا، ثم رحل «أجايي» إلى منزله حيث كان في انتظاره حفل آخر؛ فقام بتغيير ملابسه ببذلة أخرى طويلة وسارع باستدعاء «آيو» التي رحَّبَت بالاستدعاء، غير أن أهلها بدءوا في البكاء؛ لأنها ذاهبة في رحلة طويلة، وكان من اليسير رؤية الدموع في عيني أمها، وهي تقول: وداعًا؛ خاصة وأنها لن تشهد شرف عذرية ابنتها في اليوم التالي.
عادا إلى منزلهما في النهاية بعد أن ظلَّا يتنقلان بين الأقارب من الأسرتين؛ فبدت «آيو» مختلفة في عين «أجايي»؛ إذ لم يكن ينظر إليها بإمعان من قبل، لاحظ أن رأسها منتصبة برشاقة، وأن رقبتها ذات الأخاديد الثلاثة الطبيعية الأفقية بجمالها الكلاسيكي ليست سوى نموذجًا رائعًا من نماذج الجمال، وكذلك كتفاها الرقيقان؛ فقام باحتضانها برقة لم يعهدها من قبل.
في صباح اليوم التالي نهض «أجايي» متأخرًا على غير العادة، ثم راح ينظر حوله بحثًا عن فنجان الشاي، لكنه لم يجده؛ فقفز من مكانه وراح ينظر في كل اتجاه دون أن يرى شيئًا، أرهف السمع بحثًا عن خطوات «آيو» في المطبخ، لكنه أيضًا لم يسمع شيئًا وحين نظر إلى جواره كانت «آيو» راقدة وقد أثار ظهرها الأبنوسي المكشوف رجولته ففكر قائلًا لنفسه: ربما تكون مريضة فلقد أرهقتها أحداث الليلة الماضية.
هتف قائلًا: «آيو» .. «آيو» .. هل أنت مريضة؟
استدارت بجسدها في بطء حتى أصبحت في مواجهته، ثم قرصت إصبع قدمها في دلالٍ وكبرياء تحت الغطاء القطني، وربتت فوق نهديها بنعومةٍ وبطءٍ، وأجابت بهدوء يثير الدهشة والفزع: لا، «أجايي»، لست مريضة.
ثم سألته: هل أنت كذلك؟
وأضافت: هل قدماك مشلولتان؟
ارتبك كثيرًا وفكر أن عقلها أيضًا قد أصابه التشوش من كثرة الإجهاد فأجابها قائلًا: لا.
قالت: «أجايي»، أنت زوجي منذ اثني عشر عامًا، وأنا أستيقظ كل صباح في الخامسة؛ كي أصنع لك الشاي والإفطار؛ لكنني الآن امرأة متزوجة حقًّا؛ فيجب أن تعاملني بمزيد من الاحترام؛ إذ إنك الآن زوج ولستَ عاشقًا، هيا انهض إذن واصنع لنفسك كوبًا من الشاي.