أحرار ومحافظون
نشرنا كلمة المستر غلادستون زعيم الأحرار في سنة ١٨٧٧ عن تطلع الإنكليز إلى احتلال مصر والمرور منها إلى السودان والمرور من السودان إلى خط الاستواء ومد اليد من هناك إلى الناتال والكاپ وهضم بلاد الحبشة أثناء السير، والآن نرجع إلى آراء النواب والصحف في ذلك بعد تجريد حملة «كتشنر» ففي منتصف ١٢ مارس ١٨٩٦ تلقى السردار كتشنر باشا الأمر من حكومته بالزحف، وفي مساء ١٣ مارس أبلغ الخبر إلى رئيس الوزارة المصرية الذي حمله إلى الخديوي عباس في الليل، وفي ١٤ مارس دعي الرديف المصري إلى حمل السلاح، وفي ١٥ منه سافر الجنود إلى السودان وعينت عكاشة محلًّا للحشد، وفي ٢٧ تولى السردار كتشنر قيادة الحملة، ومن ١٣ إلى ١٦ مارس ١٨٩٦ شغل مجلس نواب إنكلترا أمر هذه الحملة فقالت الحكومة الإنكليزية: «إنها أمرت بها لصد الأحباش الذين استفحل أمرهم بعد وقعة عدوة وانكسار الطليان وانحصار قوتهم التي تحمي كسله» وقابلت لندره خبر زحف الحملة بملء الارتياح، ووقف لابوشير يستنكر أمر هذه الحملة في مجلس النواب فأعلن رئيس المجلس إقفال باب البحث والمناقشة، وقالت الدالي كرونيكل في وصف هذه الحملة: «إنها بمثابة وضع اليد نهائيًّا على القطر المصري، ومحو المواعيد التي كُرِّرَتْ منذ سنة ١٨٨٢، وإبلاغ فرنسا أنَّا لا نعبأ بمصالحها ولا بأمانيها ولا بعواطفها ولا بصداقتها وبغضبها.»
ووصفت الطان الفرنساوية الحملة يومئذٍ بقولها: «إن الشعب الإنكليزي شعب مُتاجر وهو يُنزل السياسة منزلة الأعمال التجارية والقاعدة في التجارة: الربح جهد الطاقة وقلة النفقة جهد الطاقة.»
وانتقد السير ويليام هركور الحملة؛ لأنها تكلِّف إنكلترا أموالًا وفيرة فَرَدَّ اللورد كرزون «إن نفقات هذه الحملة التي لا يمكن تقديرها الآن حتى تقدير تقريبي ستكون على عاتق مصر» فارتضى النائب الحر بهذا البيان. ثم سأل المستر لابوشير وزير الخارجية بلفور عن قدرة مصر على الإنفاق فأجاب: «أنا أبلغت سفراءنا لدى الدول أنه إذا لم تستطع خزانة مصر الإنفاق فإنَّا سنأخذ المال من صندوق الدَّيْنِ المصري.» ثم زاد على ذلك قوله: «أما نحن فإذا أقدمنا على أمر فإنَّا لا نتقهقر، وأينما نزل العسكري الإنكليزي يجب أن يظل إلى الأبد.» فلم يرد لابوشير زعيم الأحرار بكلمة واحدة على هذا القول؛ لأنه عده قولًا مرضيًا مقنعًا.
ولما دخل كتشنر الخرطوم وعرف أن مارشان في فاشودة اتحد الأحرار والمحافظون ضد الفرنساويين، فالدالي تلغراف مثلًا عدت مارشان وقوته جماعة من الشاردين الذين لا مندوحة عن عقابهم، والتيمس أنذرت فرنسا بأن أقوال السير إدوار غراي في ٢٧ مارس ١٨٩٥ لا تتغير ولا تتحول وهي: «حيثما نزل جندي إنكليزي ظل أبد الدهر.»
وفي ١٢ أكتوبر ١٨٩٨ خطب اللورد روزبري الحر في أبسوم فقال: «إن فرنسا ارتكبت ضدنا عملًا عدائيًّا، فالأمة كلها وراء الحكومة تؤيدها فإذا هي ترددت لا تظل ساعة واحدة في كراسيها فإذا ادَّعَتْ فرنسا أن في المسألة شرف علمها فإن العلم شيء ينقل ويحمل» وخطب المستر إسكويث الحر «أيضًا» خطابًا قال فيه: «إن الأمة تؤيد الحكومة، وليس بيننا وبين فرنسا خلاف في المبدأ، أي أن الملك لمصر»، وفي ٢٦ أكتوبر ألقى المستر ريتشي الحر «أيضًا» خطابًا قال فيه: «إنَّا لا نسمح لفرنسا بأن تقاوم مشروعنا وهو وَصْلُ القاهرة برأس الرجاء الصالح» فقال السير إدوار غراي: «إن إنكلترا لا تتساهل بشيء مع فرنسا فمصر هي النيل، والواجب أن تكون لنا الرقابة على مجرى النيل كله من منبعه إلى مصبه.»
ومن هذه الأقوال كلها يعرف القارئ أن الأحرار الذين كانوا ينادون بالجلاء عن مصر باتوا على رأي المحافظين عندما وصل كتشنر باشا إلى الخرطوم، وتوج اللورد سالسبوري إجماعهم بتلغراف إلى سفير إنكلترا بباريز قال فيه: «إن جميع الأراضي التي كانت خاضعة للخليفة قد انتقلت الآن إلى يد الحكومة الإنكليزية والحكومة المصرية؛ فالأمر في ذلك لا يقبل الجدل.»
فإذا ما تعلم المصريون الاتحاد في مرافقهم ومصالحهم فإن أَجَلَّ درس يتلقونه إنما هم يتلقونه من الإنكليز قبل سواهم ويتلقونه في سياسة إنكلترا في وطنهم وسودانهم أي في أنفسهم.
وما تريد أن يفعله الناس بك افعله أنت بهم.