اتفاق السودان في نظر رجال السياسة والقانون
كان اللورد كرومر صاحب اتفاق السودان أول المعترفين ببطلانه من الوجهة القانونية فامتدح اللورد سالسبوري الذي أَقَرَّ هذا الاتفاق لشجاعته وإقدامه على عمل لا تجيزه الشرائع المعمول بها ولا القوانين النافذة أو المتَّفَق عليها بين الأمم والشعوب، وقد كتب في ذلك رجال القانون والسياسة طويلًا.
فقال السياسيون: إن الإنكليز نظروا إلى السودان المصري بعد إخلائه وبعد استعادته وبعد ظهور الدول بمظهر الخمول والإهمال نظرتين: نظرة الطامع به وضمه إلى أملاكهم، ونظرة السيطرة عليه وحصر منافعه بهم وتكليف مصر القيام بنفقاته وأعبائه. فقال دعاة الضم منهم: إنَّا إذا ضممنا السودان إلى أملاكنا لا نكون قد فعلنا شيئًا جديدًا، بل نكون قد حوَّلنا هذه الحالة الموقوتة إلى حال دائمة. ألا ترانا وقد أخذنا من مصر الأوغندا وأونيورو وخط الاستواء وبربره وزيلع؟؟ فماذا كانت نتيجة ذلك؟ إن الأمر وقف عند حد احتجاج الباب العالي احتجاجًا ضعيفًا لم نعبأ به.
وقال دعاة الانتفاع وإبقاء عبء النفقات على مصر: لماذا نكلِّف أنفسنا تحمل المتاعب والنفقات ما دام مضمونًا لنا الربح؟
فالحكومة الإنكليزية ترددت بين النظرتين وعادت إلى اللورد كرومر لتسأله رأيه، فأجاب اللورد كرومر إنه يميل إلى النظرة الثانية؛ لأنه متشائم من مصير السودان، وقال في تقريره لسنة ١٨٩٩: «إن السودان كان دائمًا كالهوة تبتلع الملايين من الأموال فتذوب تلك الملايين التي تلقى فيه كما يذوب الثلج تحت عين الشمس في الصحراء، وإليه يعزى إفلاس الخزانة المصرية، ولقد أنفقت عليه إنكلترا مبالغ كبيرة كانت تأمل استعادتها عند تصفية الحساب، ولم يغرب عن الذهن أن حكومة إنكلترا لما وجهت حملة ولسلي لإنقاذ غوردون سنة ١٨٨٤ فتحت لذلك اعتمادًا قدره ٣٠٠ ألف جنيه فوصل هذا المبلغ إلى ١١ مليون جنيه كذلك كانت حملة ١٨٩٦–١٨٩٩ فإن مصر تحملت نفقاتها إلا ٧٩٨٨٠٢ جنيه تنازلت عنها إنكلترا لحسبان الخط الحديدي فرعًا من سكة الكاب إلى القاهرة، ولكن مصر جعلت ميزانيتها كلها وكل ما تملكه من المعدات وقفًا على الحملة وباعت البواخر الخديوية والحياض والسرايات والحدائق والأراضي وكل ما استطاعت بيعه لإنفاقه في هذا السبيل كما قلنا في كلمة سابقة.
أما أسباب تشاؤم اللورد كرومر من مستقبل السودان فهي: «قلة السكان وقلة الزراعة وانعدام الري واضمحلال التجارة والصناعة» لذلك أخذ الإنكليز بنظرية اللورد كرومر وهي أن يدعوا مصر تقوم بنفقات السودان وتعميره رويدًا رويدًا مع حفظ سيطرة إنكلترا وتقديم هذه السيطرة وتوسيعها مع تقدُّم السودان وعمرانه. ذلك هو منشأ اتفاق ١٩ يناير ١٨٩٩ ذلك الاتفاق الذي لا مثيل له في المعاملات الدولية؛ لأنه ليس بالحكم المثنوي تتعادل فيه سلطة دولتين، والسلطة كلها محصورة بيد الإنكليز، ولا حماية مزدوجة؛ لأن الإنكليز يدَّعون أن السودان ملكهم بحق الفتح.
أما رجال القانون والشرع فإنهم يقولون: إن اتفاق ١٨٩٩ باطل كل البطلان؛ لأنه لا صفة لمصر تُخَوِّلُهَا حق التعاقد؛ لأن مصر ولاية عثمانية مهما بلغت درجة استقلالها لا يجوز لها أن تعقد اتفاقًا دوليًّا، أضِفْ إلى ما تقدم أن الملكية محفوظة لتركيا وخديوي مصر الذي يُعيَّن بفرمان سلطاني هو في الحقيقة والٍ. فهو حارس لأملاك السلطان لا مالك لها؛ فلا يجوز له أن يتجاوز في أعماله حدود الفرمان الذي عُيِّنَ به، وهذا الفرمان قد بَيَّنَ سلطته وحددها تحديدًا تامًّا، ففي فرمان لتولية عباس باشا الثاني سنة ١٨٩٢ مذكور نصًّا بأنه لا يجوز له أن يتنازل عن أي امتياز ممنوحٍ لمصر ولا عن أية أرض مصرية وتابعة لمصر، فاتفاق ١٨٩٩ يخالف كل فقرة من فقرات نصوص ذلك الفرمان.
أما من جهة إنكلترا فإنها اعترفت بجميع المعاهدات والاتفاقات الدولية بصيانة الأملاك العثمانية، واعترفت باتفاق الأستانة ١٨٨٢ على وجه التخصيص بألَّا تطلب شيئًا لنفسها، وأيَّدت فرمان ١٨٩٢ الذي يحرم على مصر التنازل عن أية أرضٍ مصرية، واعترفت أيضًا بأن الأملاك السودانية أملاك مصرية صِرفة، وذكرت ذلك صراحة باتفاقها مع حكومة الكونغو البلجيكية (١٢ مايو ١٨٩٤) وتذرعت بهذه الحجة ضد فرنسا في أزمة فاشودة سنة ١٨٩٨ فمن هذه الوجوه أيضًا يعد اتفاق ١٨٩٩ باطلًا.
وفوق هذا كله اغتصب هذا الاتفاق الحقوقَ التي اكتسبتها الدول بمواده ٦ و٧ و٨ و٩ و١١؛ لأنه منع سريان أحكام المحاكم المختلطة على السودان وهو أرض مصرية، وحرَّم تعيين القناصل بدون تصريح من إنكلترا، وكذلك حقوق التجار والملاك والأوربيين، وممَّا يذكر في هذا الباب أنه لما احتلت فرنسا تونس وبسطت عليها حمايتها لم تستطع إلغاء الامتيازات إلا بعد مفاوضة الدول والاتفاق معها على ذلك.
كذلك دعوى الإنكليز بالفتح فإنها دعوى باطلة؛ لأن السودان في مدى ١٦ سنة دامت فيها ثورة المهدي والخليفة لم يكن ملِكًا بلا مالك؛ لأن مصر لم تتنازل عن هذه الملكية، ولما ادَّعى الفرنساويون ذلك في أزمة فاشوده احتجت إنكلترا على ادِّعَائهم فسلم الفرنساويون بحجة الإنكليز.
أما ادعاء الاستعادة بالفتح فهذا يَصِحُّ لمصر وحدها؛ لأن مصر في المالكة الوحيدة فهي التي يحق لها وحدها استعادة ملكها.