مصر بعد ٣٥ سنة والسودان بعد ٥٣ سنة
لا يبقى في مصر بعد ٣٥ سنة شبر واحد من الأرض لم يزرع، فماذا يفعل أبناء المصريين الذين يولدون بعد أن تضيق الأرض بآبائهم؟؟ إنهم لا يجدون مكانًا يلجأون إليه سوى السودان، والسودان بعد ٥٣ سنة لا يتوصل إلى إصلاح ثلث أرض الجزيرة، إذا سلمنا بقول السير مكدونالد بأن الأرض المُعَدَّةَ لزرع القطن في الجزيرة ثلاثة ملايين فدان، مع أن مساحة الجزيرة وهي الأرض الواقعة بين النيل الأزرق والنيل الأبيض عشرة ملايين فدان، قالوا: إن ثلاثة ملايين فدان منها صخرية، وليست أراضي السودان محصورةً بالجزيرة فقط فهناك السودان الشرقي وتربته خصبة وأوديته كثيرة يسهل حصر المياه فيها، ومتى حصرت هذه المياه سهل الري، وهذه أراضي كردوفان كانوا يصفونها بأنها أهراء السودان لكثرة غلالها، وهذه بلاد دارفور ذات أرضٍ خصبة فضلًا عن المراعي الواسعة والمواشي العديدة والمعادن المتنوِّعة والأخشاب. فالسودان كبير جدًّا وغناه ناجم عن مساحاته الواسعة، ولقد عرفنا أن أول من زرع القطن في السودان هو ممتاز باشا الذي عُيِّنَ حاكمًا عامًّا، ولا يزال السودانيون يزرعون هذا القطن حتى الآن ويُسَمُّونَهُ بقطن ممتاز، ومنه يصنعون الدمور السوداني الذي اشتهر في مصر ذاتها بملابس الصيف.
إن الدلتا — أي الوجه البحري من القاهرة حتى البحر المتوسط — أربعة ملايين و٨٠٠ ألف فدان يزرع منها الآن زرعًا دائمًا ثلاثة ملايين فدان، والصعيد أي الوجه القبلي مليونان و٥٠٠ ألف فدان يزرع منها الآن مليونان و٢٠٠ ألف فدان، فمجموع مساحة القطر المصري سبعة ملايين و٣٠٠ ألف فدان منها ٥ ملايين و٢٠٠ ألف فدان تزرع الآن، ولكن هناك البحيرات ومساحتها ٢٠٠ ألف فدان تُرَبَّى فيها الأسماك ولا يُستطاع تحويلها إلى أرض زراعية، ومن المعروف المشهور أن الأهالي يَوَدُّونَ إعداد الكثير من الأراضي البور للزراعة، ولكن الحكومة لا تجد الماء الكافي لري تلك الأراضي، مع معرفتها أن عدد الأهالي يزداد في كل عام من ٢٠٠ ألف إلى ٢٥٠ ألفًا، وأن الحاجة ماسة إلى إصلاح ٦٠ ألف فدان من البور؛ ليظل الرزق متوافرًا للأهالي، وإلا حل بفريق منهم الضيق والعسر.
لقد كان السير جارستن يقول بتقاريره بعد استعادة السودان وقبل ظهور المطامع بمظهرها الجلي: إنه لا يجوز إعطاء السودان قطرة واحدة من الماء قبل أن تتم جميع السدود والخزانات في مصر، وقد قدر المال اللازم لهذه السدود والخزانات يومئذٍ بمبلغ ٢٢ مليون جنيه، ولكن حكومة السودان أخذت منذ سنة ١٩٠٢ باختبار زرع القطن في السودان فلما ثبت لها نجاح الأشموني والعفيفي حوَّلت الأمر إلى يد الشركة فأعطتها في سنة ١٩٠٣ امتيازًا بزرع عشرة آلاف فدان فقط، وإذا كانوا قد قالوا إن اللقمة مفتاح الفم، فإن الشركة لم تلبث أن طلبت عشرة آلاف فدان أخرى، وكانت حجتهم لأخذ الماء أن خزان أسوان يوفر من الماء لمصر ما يؤخذ للعشرة الآلاف فدان في الجزيرة، ولما تم رفع الخزان في سنة ١٩١٢ قالوا إن رفعه يمكن حكومة السودان من إصلاح عشرة آلاف فدان أخرى، كأن هذا الخزان أنشئ لذلك، وحقيقة الواقع أنه أنشئ لغير هذا الغرض، أي لإمداد الزراعة الصيفية، فهو يخزن ٢٤٠٠ مليون متر مكعب فقط وهذه الكمية لا تكفي. أما خزان مكوار فقد قدروا له ٥٠٠ مليون متر مكعب لري ٣٠٠ ألف فدان، ولا ندخل هنا في التفصيل ولكنا نلمح الخطر من جانبين؛ الأول: تحويل قسم من مياه الري، ومصر لا تجد من الماء ما يكفيها، والثاني: تحويل طمي النيل الأزرق إلى الجزيرة وكل خصب تربة مصر من ذلك الطمي وحده، وإذا كانوا قد قالوا إن مصر بحاجة إلى ٥٠ مليار متر مكعب من الماء وإن السودان إذا أصلح فيه مليون فدان يكون بحاجة إلى ٦ مليارات متر مكعب وأن هذه الكمية من المياه لا تتوافر لمصر والسودان إلا بإنشاء الخزانات. فإن هذا العمل ذاته يقضي حتمًا بأن تكون مصر والسودان متحدين تحت حكم واحد فيهما يوفق بين جميع المصالح، ولا يجعل تلك المصالح متضاربة متناقضة، ولا يجعل مصر عرضة للحاجة ولاستبداد من يحكم السودان بها.
ومن العبث قول هؤلاء السياسيين الإنكليز إن المصريين يريدون حكم السودانيين، فإن المصري لا يتطلع إلى ذلك، ولكنه يقول للسوداني إنَّا أخوة متساوون يندمج أحدنا بأخيه وتندمج مصلحة كل مِنَّا بمصلحة الآخر حتى تكون مصلحة واحدة، فلا نفضل الجزيرة على الدلتا ولا الدلتا على الجزيرة؛ بل نعمل معًا لإحياء الاثنتين لنا. فالمصري سوداني في السودان والسوداني مصري في مصر، وإذا أحيينا الجزيرة معًا وعمرناها فإنَّا نحييها ونعمرها لأهلها وسكانها لا للشركة التي تدفع الآن لأصحاب الأراضي في تلك الجزيرة ٥٠ قرشًا ثمنًا للجدعة الواحدة (والجدعة تعادل خمسة أفدنة وثلثًا) قال السير مردوخ مكدونالد في تقريره عن مياه النيل (١٩١٩): إن البحث الدقيق دَلَّنَا على أن مصر تحتاج في المستقبل إلى ٥٠ مليار متر مكعب من الماء لتروي سبعة ملايين و١٠٠ ألف فدان، وعندما تكون مصر قد بلغت هذا الحد من العمران — وهو الحد الأخير الذي لا زيادة بعده لمستزيد — يكون قد أعد في السودان مليون فدان للزراعة يحتاج إلى ستة مليارات متر مكعب من الماء؛ لأن أرض السودان تحتاج من جراء حرارة الجو إلى كمية من الماء أكبر من الكمية التي تحتاج إليها مصر، ولكن أرض السودان تحتاج إلى الراحة أكثر من أرض مصر فلا يزرع القطن في الأرض السودانية إلا مرة في كل ثلاث سنين، فإذا أعد ٣٠٠ ألف فدان لزرع القطن يزرع منها في السنة مئة ألف فدان فقط.
هذا ما يقوله السير مكدونالد، وفَاتَه أن يقول إن خصب تربة مصر ناشئ عن طمي النيل الأزرق فإذا تحول هذا الطمي إلى الجزيرة وحرمت منه مصر قل خصب مصر وزاد خصب الجزيرة.
وقد ذكر السير مكدونالد في تقريره عن انخفاض النيل سنة ١٩١٣ فقال: إن مثل هذا الانخفاض كان يُحْدِثُ قديمًا المجاعةَ في مصر، وإن هذا الانخفاض لو أنه وقع وأعمال الري في السودان قد تمَّت لكان الضرر بمصر أشد وأكبر، ونصح هذا المهندس بإنشاء قناطر نجع حمادي ومد الترع المستمدة مياهها من قناطر إسنا.
ولا مندوحة لنا عن كلمة في خزان مكوار الذي ينشئونه الآن لري ٣٠٠ ألف فدان في الجزيرة، فهذا الخزان يقوم بمهمتين: الأولى: خزن ٥٠٠ مليون متر مكعب من الماء، والثانية: رفع الماء على مثال القناطر في مصر حتى تروي الجزيرة بالراحة، ولولا زرع القطن في الجزيرة لما قام الإشكال العظيم التعقيد بشأن المياه؛ لأن مشروعات السودان شتوية وتنتهي في شهر يناير، ولكن القطن في السودان يحتاج إلى الماء في شهري فبراير ومارس، أي حين حاجة مصر إلى الماء، وقد كان المهندسون المصريون وأخصهم محمود باشا فهمي يرون أن الغلال التي تنمو بأرض السودان تأتي بحاصلات للسودانيين فوق حاصلات القطن فلو أن لمراعاة مصلحة السكان دخلًا في ذلك لكان الأفضل للسودانيين أن يزرعوا جميع المزروعات ما عدا القطن، ولما قام النزاع بين مصر والسودان على الماء، وهذا القول يقوله السير مكدونالد في موضوع الري، ولكن المسألة ليست مسألة مصلحة السكان ولكنها مصلحة معامل لانكشير التي أخذت أمريكا تحبس عنها قطنها، فوجهت الحكومة الإنكليزية وجهها شطر السودان ووجهت عنايتها لاحتكار ثلاثة ملايين فدان في الجزيرة حتى إنهم قالوا في مجلس نواب إنكلترا بتحديد سعر القطن السوداني، وبمنع تصديره إلى غير إنكلترا؛ لذلك أخذوا أملاك الجزيرة من الأهالي، وأنشأوا خزان مكوار لري ٣٠٠ ألف فدان، ثم باشروا وضع الرسوم لخزان آخر في أعالي النيل الأزرق لخزن سبعة مليارات متر مكعب منها أربعة مليارات دائمة حتى إذا ما كان النيل واطئًا استخدمت هذه الكمية من الماء للري، ولا ينقذ مصر من الشرق إلا إقامة السدود في بحيرة ألبرت وإنشاء الخزانات على النيل الأبيض إلخ إلخ، وقد أظهر الإنكليز سرعة وعجلة عجيبتين في إنشاء خزان مكوار الذي ينتهي في سنة ١٩٢٥ أي في العام المقبل أما الخزان الكبير على النيل الأزرق فإنه ينتهي في سنة ١٩٣٠، وقد قدروا مذ الآن نفقته بمليون ونصف مليون جنيه.
هكذا يفعلون، وهكذا تَهَدَّدُ مصر بقلة الماء والخصوبة، وهم يقولون كما ورد في تقويم «ضبط النيل» إن حاجة مصر إلى المياه بعد إنجاز هذه الأعمال ستكون كبيرة جدًّا، حتى إنه لا يفي بهذه الحاجة إلا بتحويل بحيرة ألبرت إلى خزان لمصر، ومساحة هذه البحيرة ٥٥٠٠ كيلو متر مربع، فإذا ارتفعت حافتها مترًا واحدًا خزنت خمسة مليارات ونصف مليار متر مكعب، فإذا ما أقيم سد على فوهة البحيرة بلغ المخزون ٤٠ مليار متر مكعب.
تلك أقوالهم، ولكنها حتى الآن تقديرية يفندها كثير من المهندسين ولا يسلمون بهذا الحساب، وعلى رأس هؤلاء جميعًا السير ويلكوكس، أما المهندسون المصريون فهم لا يسلمون بأنه يصل إلى أسوان من وراء نهر بحيرة ألبرت ٥٢ مليار متر مكعب، كما لا يسلمون بأن الماء الذي يمر بخزان أسوان إذا كان النيل واطئًا كنيل ١٩١٣ واحدًا وأربعين مليارًا، فإذا تركنا هذا الموضوع جانبًا لأنه لم يدرس الدرس الكافي حتى الآن بقي أمامنا أمر واحد ثابت لا يجادل به أحد، ويعترف به جهارًا علانية أصحاب مشروع ري الجزيرة، وهو أن مصر لا تجد الآن وفي الحالة الحاضرة عن النيل الأزرق بديلًا.
وهذا ما يقضي على الذين يتحملون تبعة شئون الدولة المصرية تدبر الأمر ورفع الضرر.
- أولًا: لأن مصر والسودان كُلٌّ لا يقبل التجزئة، وكل مشروع يتعلق بهما لا يجوز تنفيذه قبل أن توافق الأمة عليه.
- ثانيًا: لأن هذه المشروعات لم تلاحظ فيها مصلحة السودان منفردًا ولا مصلحة مصر ولا مصلحة الاثنين معًا، وقد قامت عليها اعتراضات فنية واقتصادية وسياسية وصحية من كثيرين ومنهم رجال من الإنجليز ذوو المكانة الذين أثبتوا بأن هذه المشروعات ضارة بالبلاد، وأنه لم يقصد بها سوى مصلحة الأجنبي وفائدة أصحاب رءوس الأموال والشركات من الإنجليز.
بما أنه يؤخذ من مذكرة وزير الأشغال العمومية أن إتمام خزان جبل الأولياء والقيام بأعمال الري المتممة له في مصر يقتضيان إنفاق مبلغ اثني عشر مليونًا من الجنيهات المصرية.
وبما أن الحكومة المصرية لا يسعها تلقاء حالتها المالية الحاضرة القيام بمثل هذه النفقة الكبيرة بغير عقد قرض، وهو أمر لا يمكن التفكير فيه في الوقت الحاضر.
وبما أن حكومة السودان أخذت على عاتقها الإنفاق على أعمال خزان مكوار وترعة الجزيرة، وأنها لأجل تنفيذ هذه الأعمال حصلت على مبلغ ٤٩٠٠٠٠٠ جنيه من قرض سنة ١٩١٩ وقدره ستة ملايين جنيه.
وبما أنه سواء فيما يتعلق بخزان جبل الأولياء أو فيما يتعلق بخزان مكوار وترعة الجزيرة لا يسع مجلس الوزراء أن يتخذ قرارًا نهائيًّا بشأن هذه الأعمال إلا بعد الوقوف على ما تُسفر عنه المفاوضات بين مصر وبريطانيا العظمى.
- (١)
قرر المجلس إيقاف الأعمال التي شرع فيها بجبل الأولياء، مع اتخاذ ما يلزم لصيانة ما عمل إلى الآن.
- (٢) يرى المجلس إيقاف الأعمال بخزان مكوار (سنار) وبترعة الجزيرة، غير أنه إذا رأت حكومة السودان مع ذلك الاستمرار في هذه الأعمال تحت مسئوليتها فإنه يجب أن يكون معلومًا:
- أولًا: إن الأعمال المذكورة لا يجوز أن يكون المقصود منها ري مساحة تزيد على ٣٠٠٠٠٠ فدان طبقًا للعهد الذي قطع بهذا الشأن.
- ثانيًا: إن الحكومة المصرية تحتفظ بحريتها في إبداء قرارها بشأن هذه الأعمال، وسيتوقف هذا القرار على نتيجة المفاوضات السالفة الذكر.
على أثر قرار مجلس الوزراء الصادر بتاريخ ٢٥ مايو ١٩٢١ أرسل حضرة صاحب المعالي حاكم السودان العام إلى حضرة صاحب المعالي وزير الأشغال العمومية الرسالة البرقية الآتية:
«إننا ننوي مواصلة العمل في خزان سنار إلى شهر يوليو، وذلك للمحافظة على ما عمل الآن، كما أننا ننوي استئناف العمل في الخريف القادم إذا سمحت بذلك الظروف.»
ويرى مجلس الوزراء أنه بما أن وزارة الأشغال العمومية المصرية هي المباشِرة لأعمال ري الحكومة السودانية من عهد استرجاع السودان فقيامها بتنفيذ العمل في خزان سنار «مكوار» إلى شهر يولية سنة ١٩٢١ لا يترتب عليه توجيه أية مسئولية إلى تلك الوزارة، كما أنه ليس في القيام بذلك التنفيذ رجوع أو تعديل في التحفُّظ الصريح الذي قرره المجلس بقراره الصادر في ٢٥ مايو سنة ١٩٢١.
قد طلبت الوزارة من تفتيش ري السودان تقريرًا وافيًا عن الدرجة التي وصل إليها العمل الآن، وعند وصوله ينظر في الأمر.