محمد أحمد والثورة
أما محمد أحمد المهدي فهو ابن نجارٍ تعلَّم العلوم الدينية بالخرطوم، واتبع الطريقة السمانية، وسكن مع إخوته النجارين في جزيرة أبا حيث كثر تلامذته وأتباعه، وفي سنة ٨١ جهر بدعوى المهدية، وحَثَّ أصحابه على القيام معه لنصرة الدين والجهاد في سبيل الله كما يفعل ذلك الكثيرون، ولما وصل خبره إلى رءوف باشا حكمدار السودان أرسل إليه يسأله عن منشوراته وادعائه فأجابه أنه المهدي المنتظر، فأوفد إليه محمد بك أبا السعود أحد معاونيه فدخل عليه في غاره وسأله عن دعواه. فأجابه: أنا المهدي أنا ولي الأمر.
فعاد أبو السعود إلى رءوف باشا وقَصَّ عليه حكاية محمد أحمد، فأرسل معه بلوكين للقبض عليه، وكان محمد أحمد قد جمع أتباعه فلما نزل الجنود إلى البرِّ فَتَكَ بهم رجاله؛ لأن الجنود لم يكونوا على حذر، وخاف المهدي العاقبة ففر مع من معه إلى جبل قدير، وارتأى محمد سعيد باشا مدير كردوفان مطاردة محمد أحمد، ولكن رءوف باشا منعه وأرسله إلى جزيرة أبا ليحقق عن قتل الجند، ولما استقر محمد أحمد بجبل قدير استأذن مديرُ فاشودة راشد بك بأن يزحف عليه فمنعه رءوف باشا، ولكنه ذهب بأربعمائة جندي، وقبل وصوله إلى مقر المهدي جمع هذا ثمانية آلاف هجم بهم على راشد بك فقتله وأسر جماعته وفتك بالباقين؛ فعزلت الحكومة رءوف باشا ووَلَّتْ عبد القادر باشا، وقبل وصول عبد القادر باشا جهز جيكلر وكيل الحاكم قوة بقيادة يوسف باشا السلامي قابلها محمد أحمد بجيش عدده ١٥ ألفًا، فانتصر على يوسف باشا وقتله (٢٩ مايو ١٨٨٢) ولما ذاع خبر انتصاره هابه الناس، وأخذوا بالهجرة إليه، وامتدت الثورة إلى سنار ومديرها حسين باشا شكري، ثم من هناك إلى جهة النيل الأزرق.
وفي ١١ مايو ١٨٨٢ وصل عبد القادر باشا إلى الخرطوم فأخذ بتحصينها، وتجنيد العساكر، وأتى بست أورط من السودان الشرقي، وأخمد فتنة سنار، وعزل الموظفين الذين خانوا، ثم سار هو ذاته بجيش نكل بزعماء الثورة في سنار واحدًا فواحدًا، وكاد يخمد الثورة في جميع الأنحاء عندما تلقى الأمر من القاهرة بعزله، كأنما الإنكليز ما كانوا يريدون إخماد الثورة بل زيادة اتِّقَادِهَا، فعينوا علاء الدين باشا خلفًا له زاعمين أن عبد القادر باشا يريد الاستقلال بالسودان، ومن المعلوم أن الإنكليز عندما دخلوا القاهرة كان أول عمل عملوه أنهم حلوا الجيش في ٢٠ ديسمبر ١٨٨٢، ثم جمعوا ستة آلاف رجل، وعيَّنوا السر أفلن وود سرادارًا، وعينوا الضباط الإنكليز قوّادًا، وأرسلوا إلى السودان عشرة آلاف من فلول جيش عرابي بقيادة هكس باشا.
وصل علاء الدين باشا إلى الخرطوم في ٢٠ فبراير ١٨٨٣ وسلطته محصورة بالإدارة الملكية، ووَلَّوْا سليمان باشا نيازي العسكرية، وهكس باشا رئيسًا لأركان الحرب.
ولما وصل عبد القادر باشا إلى مصر ألحَّ على الحكومة بأن تدع الجيش يحافظ على النيل الأبيض حتى لا تمتد الثورة إلى سنار، وأن تدع محمد أحمد وشأنه في كردوفان فهو يسقط من تلقاء نفسه فلم يسمعوا نصيحته، وجهز هكس باشا حملة كبيرة على كردوفان مؤلَّفة من ٧٠٠٠ من المشاة و٥٠٠ من الفرسان النظاميين و٥٠٠ من الفرسان المتطوعين وألفين من الأتباع و٥٠٠ جمل و٣٠٠ بغل و١٠ آلاف حمار وخمسة آلاف جواد و١٠ مدافع جبلية و٤ كروب و٦ نوردنفلت. سار هذا الجيش وضَلَّ الطريق، وفي ٤ نوفمبر أخذ الدراويش يطوِّقون معسكر هيكس الذي دخل واديًا كثير الغابات والأشواك طلبًا للماء؛ لأن العطش بَرَّحَ بالجنود، فحمل عليهم رجال محمد أحمد من كل جانب فقتلوا الجيش، ولم يسلَمْ منه سوى ضابطين و٣٠٠ جندي أُخِذُوا أسرى.
وحينئذٍ أرسل الكولونل ستيوارت تقريرًا إلى حكومته بأن الوقت قد حان لإخلاء السودان، وألحوا على الخديوي توفيق باشا في ذلك فلم يوافقهم على هذا الطلب، وكانت حجة السير أفلن بارنغ أن في ميزانية السودان عجزًا قدره ٢٦٠ ألف جنيه، والخزانة المصرية لا تستطيع تحمل مثل هذا المبلغ في كل عام، والحكومة الإنكليزية لا ترضى بأن تقدم جنديًّا واحدًا لتأييد سلطة مصر على السودان، وألَحَّت على وزارة شريف باشا بإخلاء السودان، فأبى شريف باشا قَبول طلبهم وقال كلمته المشهورة «إذا نحن تركنا السودان فهو لا يتركنا»، ولكنهم أكرهوه على الاستعفاء عملًا بالقاعدة التي سنَّها اللورد غرنفل وهي: «إما أن يخضع الموظف المصري، أو يستقيل»، ولما استعفت وزارة شريف باشا خلفتها وزارة نوبار باشا التي قررت في الحال إخلاء السودان (٨ يناير ١٨٨٤).
تطلب حكومة جلالة ملكة إنكلترا أن نترك السودان، فليس من حقنا أن نسلم بتركه؛ لأن هذه البلاد التي هي ملك الباب العالي قد سُلمت لنا لنحافظ عليها.
وتقول حكومة جلالة الملكة إنه يجب على مصر اتباع مشورتها دون مناقشة، وفي ذلك مخالفة للأمر العالي الصادر في ٢٣ أغسطس ١٨٧٩ وفيه أن سمو الخديوي يحكم مع وزرائه وبواسطتهم.
فنحن نستعفي لأنَّا نُمنع من الحكم حسب أحكام الدستور.