الفصل الأول
النبوَّة
النبوَّة أو الوحي هي المعرفة اليقينية التي يُوحي الله بها إلى البشَر عن شيءٍ ما،
والنبي هو مُفسِّر ما يُوحي الله به لأمثاله من الناس الذين لا يَقدِرون على الحصول على
معرفةٍ يقينية به، ولا يَملكون إلَّا إدراكه بالإيمان وحدَه، ويُسمِّي العبرانيون النبي
«نبيًّا»
١⋆ أي
خطيبًا أو مفسرًا، ويُستعمَل في الكتاب بمعنى مُفسِّر الله كما هو واضح في الإصحاح ٧
الآية ١ من سفر الخروج. يقول الله لموسى: «انظر قد جعلتك إلهًا لفرعون وهارون أخوك يكون
نَبيَّك.» وكأنه يقول: لَمَّا كان هارون بتفسيره كلام موسى لفرعون يقوم بدور النبي،
تكون أنت (يا موسى) كإلهِ فرعون أي من يقوم بدور الله.
وسنتناوَلُ موضوع الأنبياء في الفصل القادم، ولنبدأ هنا بفحص النبوَّة: يَنتج من
التعريف الذي قدَّمناه من قبل أن النبوَّة تتطابق تمامًا مع المعرفة الفطرية؛ لأنَّ ما
تعرفه بالنُّور الفطري يعتمد على معرفة الله وحدَها وعلى أوامره الأزلية.
٢ ولَمَّا كانت هذه المعرفة مُشتركة بين الناس لأنها تعتمد على مبادئ
يَعتنقها الجميع، فإنها لا تُمثل أيةَ أهميةٍ للعامِّي الذي يُولَع بالنوادر والعجائب،
ويَحتقِر كلَّ هبةٍ فطرية ويعتقد أنه يَستبعِدها حين يتحدَّث عن المعرفة النبوية، ومع
ذلك فإن للمعرفة الفطرية الحقَّ نفسه الذي يكون لأية معرفةٍ أُخرى في أن تُسمَّى معرفة
إلهية؛ لأنها أثَرٌ من آثار الطبيعة الإلهية، بقدْر ما نُشارك فيها، وأثَرٌ أيضًا من
آثار الأوامر الإلهية. هذه المعرفة الطبيعية لا تختلِف عن تلك التي يتَّفِق الجميع على
تسميتها بالمعرفة الإلهية إلَّا في نقطةٍ واحدة هي أنَّ هذه المعرفة الإلهية تتعدَّى
حدود المعرفة الفطرية، ولا يُمكن تفسيرُها بقوانين الطبيعة الإنسانية من حيث هي كذلك،
ولكن المعرفة الفطرية لا تقلُّ مُطلقًا عن المعرفة النبوية من حيث يَقينها الذي تتميَّز
به،
٣ ومن حيث مصدرها الذي تصدُر عنه (وهو الله) إلَّا إذا شِئنا أن نَظنَّ أو
بالأحرى أن نحلُم (ونتخيَّل) أنَّ للأنبياء بدنًا إنسانيًّا، وليست لهم رُوح إنسانية،
٤ بحيث تَختلف إحساساتهم ومشاعرهم في طبيعتها عن إحساساتنا ومشاعرنا.
ومع أن المعرفة الفطرية معرفة إلهية بمعنى الكلمة، فإنَّنا لا يُمكن أن نُسمِّي من
يقومون بنشرها أنبياء، إذ يستطيع كلُّ فردٍ أن يُدرِك تعاليم المعرفة الفِطرية ويفهمها
باليقين نفسه، دون الاعتماد على الإيمان وحده.
٥⋆
لذلك، لمَّا كان ذِهنُنا قادرًا على تكوين بعض
الأفكار التي تُوضِّح طبيعة الأشياء والتي تُوجِّهنا في الحياة العملية، لا لشيءٍ إلَّا
لأنه ينطوي موضوعيًّا على طبيعة الله ويُشارك فيها، فمن حَقِّنا أن نُسلِّم بأنَّ السبب
الأول لكلِّ وحيٍ يرجِع إلى طبيعة الذهن الإنساني منظورًا إليه على أنه قادِرٌ على
المعرفة الفطرية. وكما قلنا من قبل، فإن كلَّ ما نعرفه بوضوحٍ وتَميُّز تُمليه علينا
فكرة الله وطبيعته لا بالأقوال، ولكن بوسيلةٍ أرفع من ذلك بكثير، مُتَّفِقة تمامًا مع
طبيعة ذِهنِنا، ومَن ذاق اليقين العقلي الكامل
٦ يعرف تمامًا ماذا أقصد. ولكن لَمَّا كان موضوعي الأساسي هو الحديث عن
الكتاب المُقدَّس وحده، فلن أُفيض في شرْح النور الفطري بل سأنتقِل إلى الحديث بمزيدٍ
من الإسهاب والوسائل الأخرى التي يَتبِّعها الله في الكشف للناس عَمَّا يتجاوَزُ حدود
المعرفة الفِطرية، وربما لا يتجاوزها (إذ ليس هناك ما يَمنَع من أن يَتَّبِع الله
طرُقًا مُختلفة لتبليغ الناس بما يَعرفونه من قبلُ بالنور الفطري).
ومهما يكن من شيء، فإننا يجِب أن نستخلص هذه الأسباب والوسائل من الكتاب المُقدَّس
وحده، فكيف يُمكننا الحديث عمَّا يتعدَّى حدود ذِهنِنا دون الرجوع إلى ما نقَلَه
الأنبياء لنا شفاهًا أو كتابة؟ ولمَّا كان ظهور الأنبياء في أيامنا هذه قد انقطع — على
ما أعلم — فلنكتفِ بفحص الكتُب المُقدَّسة التي ترَكها الأنبياء السابقون دُون أن
نتقوَّل شيئًا يتعلَّق بهذا الموضوع أو ننسِبَ إلى الأنبياء شيًئًا لم يقولوه هم أنفسهم
بوضوحٍ تام. ومع ذلك، يجِب أن نُنوِّه هنا بأنَّ اليهود لم يذكُروا مُطلقًا العِلَل
المُتوسِّطة، أي العِلَل الجُزئية بل أهملوها تمامًا مُفوِّضين كلَّ شيءٍ إلى الله
بدافعٍ من وَرَعِهم الدِّيني أو كما نقول عادةً بدافعٍ من تَديُّنهم الشديد،
٧ فمثلًا إذا حقَّقوا ربحًا من بعض الأعمال يقولون: إن الله قد أعطاهم المال،
وإذا رغبوا في شيءٍ ما يقولون: إنَّ الله هيَّأ قلوبَهم على نحوٍ ما، وإذا خطر ببالِهم
شيء يقولون: إن الله قد تحدَّث إليهم بهذا؛ لذلك، يجِب ألَّا نعتقِد عندما نقرأ في
الكتاب عبارة قال الله إنَّ هناك نبوَّةً أو معرفة تعلو على الطبيعة إلَّا عندما يؤكد
الكتاب ذلك بصريح العبارة، أو عندما تؤكد ظروف الرواية أنَّ نبوَّةً أو وحيًا قد حدَث
بالفعل.
وعندما نفحص الكتب المُقدَّسة نجد أنَّ الله قد أوحى للأنبياء بالكلام أو بالمظاهر
الحِسِّية أو بالطريقتَين معًا، وفي بعض الأحيان يكون الكلام والمظهر الحِسِّي حادثًا
بالفعل، لم يَتخيَّله النبيُّ لحظة سماعه أو رؤيته، وأحيانًا أخرى يكون مُجرَّد خيالات،
بحيث تكون مُخيَّلة النبي مُهيَّأة، حتى وهو في اليقظة، على نحوٍ يجعله يتخيَّل أنه
يسمع صوتًا أو يرى شيئًا بوضوح.
مثال ذلك أن الله قد أوحى لموسى الشرائع التي سنَّها للعبرانيين بصوتٍ حقيقي،
ويُخبرنا سِفر الخروج بذلك (٢٥: ٢٢): «فأجتمع بك هناك، وأخاطبك من فَوق الغشاء من بين
الكروبيين.»
٨ فهذا يدل على أنَّ الله استخدم صوتًا حقيقيًّا، بدليل أنَّ موسى كلَّما
أراد أن يتحدَّث الله إليه وجدَه مُجيبًا لرغبته. ولكن، باستثناء هذا الصوت الذي أبلغ
الشريعة، لم يسمَع أيُّ نبيٍّ كان — كما سأُبيِّن فيما بعد — أيَّ صوتٍ حقيقي
آخر.
وربما كنتُ أجِد نفسي مَيَّالًا إلى اعتبار صوت الله الذي يُنادي به صموئيل في الكتاب
حقيقيًّا لأنَّنا نقرأ في صموئيل
٩ (الأول، ٣: الآية الأخيرة): «وعاد الربُّ يتراءى في شيلو لأنَّ الربَّ
تجلَّى لصموئيل في شيلو بكلمة الرَّب.» والواقع أن النصَّ يبدو كما لو كان يُشير إلى
أنَّ حضور الله هو ظهوره بكلمة أو بسماع صموئيل لله وهو يتكلم. ومع ذلك، لمَّا كان من
الضروري ضرورةً مُطلقة أن نُفرِّق بين نبوَّة موسى ونبوَّة غيره من الأنبياء، فإننا
مُضطرُّون إلى أن نؤكد أنَّ الصَّوتَ الذي سَمِعه صموئيل كان من صُنع الخيال، فضلًا عن
أنَّ الصوت كانت له نبرة صوت عالي
١٠ الذي كان صموئيل يَسمَعُه عادةً، ومن ثَمَّ كان يسهُل عليه تخيُّله. ولمَّا
ناداه الله ثلاث مرَّاتٍ ظنَّ أنه سَمِع عالي. على أية حال كان الصوت الذي سَمِعَه أبيملك
١١ من صنع الخيال لأنَّنا نقرأ (التكوين، ٢٠: ٦): «فقال الله له في الحلم …
إلخ.» فهو إذن لم يكن يَقِظًا بل نائمًا (أي في حالةٍ يَميل فيها الخيال بطبيعتِهِ إلى
خلْق أشياء لا وجود لها) عندما استطاع أن يتخيَّل إرادة الله.
بل إنَّ بعض اليهود يَرَون أنَّ الله لم ينطق بألفاظ الوصايا العشر حرفيًّا، ويعتقدون
أن الإسرائيليين سَمِعوا مُجرَّد ضوضاء عالية لا تتميَّز فيها الكلمات، وخلال هذه
الضوضاء أدرَكوا بالفكر الخالِص الوصايا العشر. ولقد كنتُ أنا شخصيًّا أَميل إلى هذا
الرأي بعدَ أن لحظتُ أن نصَّ الوصايا العشر يختلف في سِفر الخروج عنه في سفر التثنية،
فبدا لي بناء على ذلك (نظرًا إلى أن الله لم يتكلَّم إلَّا مرَّةً واحدة) أنَّ الوصايا
العشر لا تنقِل إلينا كلمات الله بعَينها، بل تُعبِّر عن معناها فحسب، ومع ذلك إذا لم
نشأ تحريف الكتاب يَجِب أن نُسلِّم، على أية حال، بأن الإسرائيليين قد سمِعوا صوتًا
حقيقيًّا، فنحن نقرأ صراحة (التثنية، ٥: ٤): «وجهًا لوجه تكلَّم إليكم الرب.» أي كما
تَنتقِل الأفكار من شخصٍ لآخر بِتوسُّط بدَنِهما،
١٢ فَلِكي نكون أكثرَ اتفاقًا مع الكتاب نقول: إنَّ الله قد خلق صوتًا
حقيقيًّا ليُوحي من خلاله بالوصايا العشر، أما سبَبُ اختلاف الكلمات وطريقة العرْض من
سِفرٍ لآخَر فذلك مذكور في الفصل الثامن. ومع ذلك، فإنَّ الحلَّ الذي أقترِحُه لا يحلُّ
جميع جوانب المُشكلة، لأنَّهُ من غير المعقول أنَّ صوتًا مَخلوقًا يعتمِد على الله كأي
مخلوقٍ آخَر يُمكنه أن يُعبِّر باسمه ويُبيِّن ماهية الله ووجوده بالوقائع أو بالكلام
ويَقول بضمير المتكلم: أنا ياهو رَبُّكم. والحقيقة أنه لو نطَقَ إنسانٌ بفَهمِه وقال
لقد فهِمتُ؛ فلن يَظنَّ أحدٌ أن الفهم قد فَهِم، بل إنَّ الذي فَهِم هو ذِهن الإنسان
الذي يتكلم. ولمَّا كان الفَهم جُزءًا من طبيعة الإنسان، وكان الإنسان الذي تتوجَّه
إليه هذه الكلمات يُدرِك طبيعة الذهن فإنه يَفهَمُ قياسًا على نفسه فِكر من يَستمِع
إليه. ولكن، لمَّا كان العبرانِيُّون لا يَعلمون من الله، حتى ذلك الحِين إلَّا اسمه،
ويُريدون الحديث إليه حتى يتأكَّدوا من وجوده، فإني لا أعلَمُ كيف يَتمُّ تحقيق
مَطلبِهم بصوتٍ مخلوق يقول: أنا الله (إذ لا تختلف علاقة هذا الصوت بالله عن علاقة
المخلوقات الأخرى به، وهو «أي الصوت» لا يَكون جُزءًا من طبيعته). وإني أتساءل حقًّا:
لنفرِضَ أنَّ الله قد حرَّك شفَتَي موسى — ولماذا أقول موسى؟
لنفرِض أنه حرَّك شفتَي حيوانٍ ما على نحوٍ يَجعلها
تُعبِّر عن الكلمات: «أنا الله» وتنطِقُ بها، فهل يكونون قد عرَفوا الله بهذه الطريقة؟
وفضلًا عن ذلك، يبدو أنَّ الكتاب ينصُّ صراحةً على أنَّ الله قد تحدَّث بنفسه (بعد أن
نزل من السماء لهذا الغرَض على جبل سيناء، وأنَّ اليهود لم يَقتصِروا على سماعه، بل رآه
كِبارُهم أيضًا، انظر الخروج: ٢٤).
١٣ هذا بالإضافة إلى أنَّ الشريعة التي أُوحِيَ بها إلى موسى، هذه الشريعة
التي لا تَقَع تحت الحِس، والتي وُضِعت كتشريعٍ وطني دون إضافةٍ أو حذف، لم تنُصَّ على
الاعتقاد بأن الله بلا جِسمٍ أو هيئة أو صُورةٍ تتخيَّلها، بل تُوحي فقط بالاعتقاد في
وجود إلهٍ جديرٍ بالثَّقة وتجِب عبادته وحده. وإذا كانت تَنهانا عن أن نتخيَّل أيَّةَ
صورة له أو نتصوَّره على أية هيئة، فما ذاك إلَّا لِكَيلا نَحيد عن عبادته. والواقع
أنَّ اليهود لم يَرَوا صورة الله؛ لذلك لم يستطيعوا تَمَثُّله في أيَّةِ صورة، إذ لو
كانوا قد فعلوا ذلك لاختاروا بالضرورة مخلوقًا مألوفًا لدَيهم بدل الله. وعلى ذلك، فلو
كانوا قد عبدوا الله من خلال هذه الصورة لَمَا عبدوه، بل لعبدوا المخلوق الذي تُمَثِّله
الصورة ولقدَّموا له الشعائر وفروض التكريم، ولكن الكتاب يُشير صراحةً إلى صورةٍ مرئية
لله، فلقد رآه موسى عندما سَمِع الله يُخاطبه، ولكنَّهُ لم يستطع إلَّا أن يراه من
ظهرِه، ولا شكَّ في أنَّ هذا الأمر ينطوي على سِرٍّ سنتحدَّث عنه طويلًا فيما بعد. أما
الآن، فسوف أواصِل تحليل فقرات الكتاب التي تُشير إلى الطُّرُق التي كشَفَ بها الله عن
أوامره.
يُشير سِفر أخبار الأيام الأول (الإصحاح ٢١) إلى حدوث الوحي عن طريق الصُّوَر
الحِسِّية وحدَها حيث يكشِف الله عن غضبه على داود فيُريه ملاكًا قابضًا سيفًا بيده،
١٤ وقد حدث ذلك أيضًا لبلعام،
١٥ صحيح أن ابن ميمون
١٦ وآخرين يَرَون أنَّ هذه القصة ليست إلَّا مُجرَّد حلم (وكذلك كل القصص التي
تروي ظهور ملك، مثل قِصَّة مانويه
١٧ وقصة إبراهيم عندما رأى في منامه أنه يذبح ابنه
١٨ … إلخ). وينكرون أن يكون أي إنسان قد استطاع رؤية ملك بعينَين مفتوحَتَين،
ولكن هذا الرأي مُجرَّد ثرثرة، لقد كان هَمُّهم تأويل الكتاب ليستخلصوا منه تُرَّهات
أرسطو وتخيُّلاتهم الخاصة، وهي في رأيي أكثر المُحاولات مَدعاةً للسخرية. وفي مُقابل
ذلك، فإنَّ الله أوحى ليوسُف نصرَه المُؤزَّر مُستقبلًا، لا عن طريق صور حقيقية، بل
بِصُورٍ من مُخيَّلة النبي نفسه،
١٩ وأوحي ليُوشَع بالكلام وبالصور أنه سيُحارب مع الإسرائيليين، وأراه ملاكًا
شاهرًا سيفًا على رأس الجيش، ونطق الملاك ببعض الكلمات ليؤكد ليُوشَع هذا الخبر.
٢٠ وقد عَلِم أشعيا (كما سنعرِض لذلك في الفصل السادس) من خلال بعض الصُّور
الحِسِّية أنَّ عناية الله قد تخلَّت عن الشعب، فخُيِّلَ إليه أنه رأى الله في
قُدسِيَّتِه مُستويًا على عرشٍ عالٍ للغاية، ورأى الإسرائيليِّين مُلطَّخِين بوحلِ
خطاياهم وغارِقين في رَوَث البهائم؛ أي أنهم بعيدون عن الله بُعدًا شديدًا.
٢١ حينئذٍ فَهِم الحالة المُشينة التي كان الشعب مُتردِّيًا فيها، وأُوحِيَت
إليه المصائب المُستقبلة بكلامٍ ظنَّ أنَّ الله قد نطق به، ويُمكنني أنْ أُضيف أمثلةً
أخرى كثيرةً مُشابهة من الكُتُب المُقدَّسة، ولكنها معروفة للجميع.
وهناك نَصٌّ من سفر العدد (١٢: ٦–٩) يؤكد صراحة ما قُلته. يقول النص: «إن يكن فيكم
نَبيٌّ للربِّ فبالرُّؤيا أتعرَّف له (أي بمظاهر حِسِّية ورموز يُمكن حَلُّها في حِين
كانت رؤية موسى دون رموز) في حُلمٍ أُخاطِبه (أي إنه لن يَسمع الكلام بصوتٍ حقيقي) وأما
عبدي موسى فليس هكذا … فمًا إلى فَمٍ أُخاطبه وعيانًا لا بألغازٍ وشبهَ الرَّبِّ يُعاين.»
٢٢ أي أنَّهُ يتحدَّث إليَّ مُعتبرًا إيَّايَ رفيقًا دُون أيَّةِ رَهبة، كما
يتَّضح ذلك من سِفر الخروج (٣٣: ١١).
٢٣ نحن على يقينٍ إذن أنَّ أيَّ نبي، باستثناء موسى، لم يسمع صوتًا حقيقيًّا،
وهذا ما يؤكده أيضًا سِفر التَّثنية (٣٤: ١٠) بمزيدٍ من الوضوح حيث يقول: «ولم يَقُم
من
بَعدُ نبيٌّ في إسرائيل كموسى الذي عرَف الرَّبَّ وجهًا لوجه.» والمقصود من ذلك أنه
سمِع صوتَ الله فقط؛ لأنَّ موسى ذاته لم يَرَ وجهَ الله مُطلقًا (الخروج، ٣٣).
٢٤
ولا أجِدُ في الكتاب المُقدَّس أنَّ الله يتَّصِل بالبشر بطُرُق أخرى سوى هذَين
الطريقين. فلا ينبغي إذن أن نختلِق أمثال هذه الطُّرُق (كما أثبَتْنا الآن) أو أن
نتصوَّر طرقًا أخرى. صحيح أنَّنا نعلم حقًّا أنَّ في قُدرة الله أن يتَّصِل بالبَشر
مُباشرةً دون اللجوء إلى وسائل مادية من أيِّ نوع، فهو يُوحي بماهيته إلى رُوحنا. ومع
ذلك، فلِكَي يُدرِك الإنسان بالرُّوح وحدَه أشياء ليست مُتضمَّنة في الأُسُس الأولى
لمعرفتنا ولا يُمكن استنباطها منها، يَجِب أن تكون رُوحُه بالضرورة أعلى من الرُّوح
الإنساني وتفوقُه في الكمال. ولا أعتقد أنَّ شخصًا ما استطاع أن يصِل دُون الآخرين إلى
هذا الكمال، إلَّا بالمسيح
٢٥ الذي أوحى الله إليه أوامره، التي تؤدِّي إلى خلاص البشر، وأوحى بها
مُباشرةً دون توسُّط بالكلام أو بالرؤية، بحيث كشف الله عن نفسه للحواريين من خلال رُوح
المسيح، كما كشف الله عن نفسه من قبلُ بصوتٍ خارجي. يُمكننا إذن تَسمية صوت المسيح صوت
الله كالصَّوت الذي سمِعَه موسى من قبل، وبهذا المعنى نستطيع أن نقول أيضًا بأنَّ حِكمة
الله، هي حِكمة تفُوق الحِكمة الإنسانية، قد تجسَّدت في المسيح، وأنَّ المسيح أصبح
طريقًا للخَلَاص.
ويجِب عليَّ هنا أن أُنبِّه القارئ إلى أنَّني لن أتحدَّث مُطلقًا عن نظرة بعض
الكنائس إلى المسيح، لا لأنِّي أُنكر ما تُثبته، بل لأنِّي لا أفهمها، وأعترف بذلك عن
صدق، فلقد وضعتُ كُلَّ تصوُّراتي السابقة طبقًا للكتاب نفسه، ولم أقرأ في أيِّ جُزء منه
أنَّ الله قد ظهَرَ للمسيح أو خاطبه، بل قرأتُ أنَّ الله كشَفَ عن نفسه للحواريين
بواسطة المسيح وأنَّ المسيح هو طريق الخَلاص، وأن الشريعة القديمة قد بُلِّغت عن طريق
ملاك دون أن يُبلِّغها الله نفسه مُباشرةً … إلخ. فإذا كان موسى قد خاطب الله وجهًا
لوجهٍ كما يُخاطب الإنسان إنسانًا مِثله (أي عن طريق جسديهما) فقد اتَّصَل المسيح بالله
مُباشرةً اتِّصال الرُّوح بالرُّوح.
والنتيجة التي نَصِل إليها من ذلك هي أنه، باستثناء المسيح، لم يَتلقَّ أيُّ شخصٍ
وَحيًا من الله دون الالتجاء إلى الخيال؛ أي إلى كلامٍ أو إلى صور، ويَنتُج عن ذلك أنَّ
النبوَّة لا تتطلَّب ذِهنًا كاملًا بل خيالًا خصبًا، كما سأُبيِّن ذلك بمزيدٍ من الوضوح
في الفصل القادم. والآن، لنبحث ماذا يَعني الكتاب المُقدَّس بِرُوح الله التي تَهبط على
الأنبياء. ولكي أقوم بهذا البحث سأبْحَثُ أولًا عن معنى الكلمة العبرية «رواه» التي
تُترجَم عادةً بلفظ روح.
٢٦
تدلُّ كلمة «رواه» في معناها الأصلي، على الريح كما هو معروف، ولكنها تُستعمَل أيضًا،
في كثير من الأحيان، بمعانٍ أُخرى مُشتقَّة من المعنى الأول، فتعني مثلًا:
- (١)
نِسمة، كما نجِد في المزمور ١٣٥ (الآية ١٧): «وليس في أفواههم
نسمة.»
- (٢)
نفخ أو تنفُّس كما نجِد في صموئيل (الأول، ٣٠: ١٢): «وعادت إليه روحه.»
أي إنه بدأ في التنفُّس، وتدلُّ الكلمة أيضًا على:
- (٣)
الشجاعة أو القوة، كما نجِد في يشوع (٢: ١١): «ولم يبقَ في أحدٍ رُوح.»
وكذلك في حزقيال (٢: ٢): «ودخل في الرُّوح (أي قوة) وأقامَني على
قدَمي.»
- (٤)
ومن هذا المعنى أتى معنًى آخَر وهو الصِّفة أو القُدرة كما نجِد في أيوب
(٣٢: ٨): «لكن في البشر روحًا.» وبعبارةٍ أخرى لا ينبغي أن نبحَثَ عن
المعرفة عند الشيوخ فقط لأنها تعتمِد على صفة كلِّ فردٍ وقُدرتِهِ الخاصة،
وكذلك في سفر العدد (٢٦: ١٨): «فإنه رجل فيه رُوح.» وكذلك تعني
الكلمة:
- (٥)
رأي كما نجِد في سِفر العدد (١٤:
٢٤): «فبما أنه كان له رُوح آخَر.» أي رأيٌ آخَر أو فكرة أخرى، وكذلك في
الأمثال (١: ٢٣): «فإني أُفيض عليكم من رُوحي.» أي فكري. وفي هذه الحالة
تُستعمَل الكلمة أيضًا لتفيد معنى الإرادة أي المشيئة أو الرغبة أو الدافع،
كما نجد في حزقيال (١: ١٢): «إلى حيث يُوجِّه الرُّوح السَّير كانت تسير.»
وكذلك في أشعيا (٣٠: ١): «ويَبتُّون عهدًا ليس من روحي.»
٢٧ وكذلك (٢٩: ١٠): «فإنَّ الله قد سكب عليكم رُوح (أي رغبة)
سُبات.» وفي القضاة (٨: ٣): «حينئذٍ رقَّتْ رُوحهم.» أي هَياجُهم. وكذلك في
الأمثال (١٦: ٣٢): «والذي يَسود على رُوحه (أي على انفعاله) أفضل مِمَّن
يأخذ المدن.» كذلك (٢٥: ٢٨): «الإنسان لا يضبط رُوحه.» وفي أشعيا (٣٣: ١١):
«ورُوحكم نار تأكلكم.» وتُستخدَم الكلمة نفسها «رواه» بمعنى النفس
للتَّعبير عن جميع انفعالات النفس، بل مواهب الإنسان. فمثلًا «الروح
العالية» تُفيد الغرور، «والرُّوح الهابطة» تفيد التواضع، «والرُّوح
الشريرة» تفيد الكراهية والسَّوداوية، «والروح الطيبة» تُفيد الطيبة، وهناك
أيضًا «رُوح الغيرة» أو شَهوة (رغبة) الجماع. وفي اللغة العبرية التي يشيع
فيها استعمال المصدر كصفةٍ تَعني رُوح الحكمة أو رُوح الفِطنة أو رُوح
الشجاعة الحكيم أو الفطن أو القوي «أو الحكمة أو الفطنة أو القوة»
٢٨ وتعني رُوح اللطف … إلخ. وتعني الكلمة أيضًا:
- (٦)
الفكر نفسه أو رُوح الإنسان (أو نفسه) كما نجد في الجامعة (٣: ١٩):
«ولكليهما روح واحد (أو نفس واحدة).» أو (١٢: ٧): «وتعود الرُّوح إلى
الله.»
- (٧)
وأخيرًا تعني الرُّوح جهات العالم (بسبب الرياح التي تهبُّ منها) أو
جوانب شيءٍ ما يطلُّ على هذه الجهات من العالم، كما نجد في (حزقيال، ٣٧: ٩؛
٤٢: ١٦–١٩).
٢٩
ونُلاحظ أيضًا أنَّ كلَّ شيء يتعلَّق بالله يُسمَّى إلهيًّا
لأنه:
- (١)
يتعلَّق بطبيعته ويُعتبَر كأنه جزء من الله كما نقول: قدرة الله، عَينا
الله.
- (٢)
يكون في قدرة الله أو يَخضع لفعل الله، وبهذا المعنى تُسمَّى السموات في
الكُتُب المُقدَّسة سموات الله؛ لأنَّها مَطيَّة الله ومقرُّه، وسُمِّيت
آشور سَوط الله ونبوخذ نصر
٣٠ خادم الله … إلخ.
- (٣)
يُوهَب لله مثلًا: معبد الله، قُربان الله، خُبز الله.
- (٤)
ينقله الأنبياء دون أن يتكشَّف للنُّور الفطري، فمثلًا يُطلَق على شريعة
موسى شريعة الله.
- (٥)
يُعبِّر عن أعلى الدرجات مِثال «جبال الله» أي الجبال الشاهِقة، سُبات
الله أي سُبات عميق للغاية، وبهذا المعنى يُفسِّر عاموس (٤: ١١) عندما
يتحدَّث الله عن نفسه ويقول: «فقلبتُكم كما قَلَب الله سدوم وعمورة.»
٣١ أي تذكَّروا هذا التدمير الذي لا يُنسى، ولا يُمكن قَبول أيِّ
تفسيرٍ آخَر ما دام الله يتحدَّث بنفسه، وكذلك سُمِّي العِلم الفطري لدى
سليمان عِلم الله؛ أي علمًا إلهيًّا أعلى من العلم الشائع، وكذلك نقرأ في
المزامير «أرزات الله» بمعنى الأرزات الضخمة للغاية، ونقرأ في صموئيل
(الأول، ١١: ٧) للتعبير عن الرعب الشديد: «فوقع رُعب الربِّ على الشعب.»
وبهذا المعنى تَعوَّد اليهود أن يَنسِبوا إلى الله ما كان يتعدَّى فهْمَهم
ويجهلون أسبابه الطبيعية في ذلك العصر، فالعاصفة «غضب الله»، والرعد
والصاعقة سهام الله. ويعتقد أنَّ الله يحبِس الرياح في كهوفٍ يُسمُّونها
غرفة كنز الله، ويختلفون في هذا الصَّدَد عن الوثنِيِّين؛ لأنهم يجعلون
الله وليس أيول
٣٢ مُسيِّر الرياح، وللسبب نفسه سُمِّيت المُعجزات أفعال الله أي
أفعالًا تُثير الدهشة، ذلك أنَّ كلَّ الأشياء الطبيعية أفعال الله، وهي لا
تحدُث أو تُؤثِّر إلَّا بقدرة الله وحدَها. وهذا ما أراد كاتب المزامير أن
يُعبِّر عنه عندما سَمَّى مُعجِزات مصر قُدرات الله؛ لأنَّ هذه المُعجِزات
فَتَحت للعبرانيين، وهُم على شفا خطرٍ داهم، طريقًا للخلاص لم يَكونوا
يأمُلون فيه، فأثارت إعجابهم الشديد. فإذا قِيل عن أعمال الطبيعة الخارقة
للعادة إنها أعمال الله وإذا قِيل عن الأشجار الطويلة التي تزيد في طولها
عن المُعتاد أنها أشجار الله، فليس هناك ما يدعو للدهشة عندما يُسمَّى
الرجال الطُّوال الأقوياء في سِفر التكوين أبناء الله، حتى ولو كانوا
قُطَّاع طُرُق وفَسَقة كفارًا. وقد كان من عادة القُدَماء بوجهٍ عامٍّ أن
يَنسِبوا إلى الله كلَّ ما يتفوَّق فيه إنسانٌ على الآخرين، لا فرقَ في ذلك
بين يهود ووثنِيِّين. فقد قال فرعون، مثلًا، بعد سَماع تفسير رُؤياه: كان
فِكر الآلهة في يوسف. وقال نبوخذ نصر لدانيال إنَّ الآلهة المُقدَّسة قد
وهبَتْهُ فِكرها، بل إنَّ هذه الطريقة في التعبير شائعة حتى عند
اللاتينِيِّين، فعِندَهم أنَّ الشيء المصنوع بمهارةٍ فائقة صاغَتْهُ يَدٌ
إلهية. فإذا أردْنا ترجمة هذا التعبير إلى العبرية فيجِب أن نقول: صاغتْهُ
يدُ الله كما يعرِفُ علماء اللغة العبرية.
وهكذا يسهُل علينا تفسير كل نصوص الكتاب التي يَرِد فيها ذِكر رُوح الله، فعبارة
رُوح
الله أو يهوه لا تعني، في بعض النصوص إلَّا ريحًا قويَّةً جافَّة عاتِية كما نجِد في
أشعيا (٤٠: ٨): «لأن رُوح الربِّ هبَّ فيه.» أي رِيح مُدمِّرة، وكذلك في سفر التكوين
(١: ٢): «ورِيح الله (أي رِيح قويَّة للغاية) يرفُّ على وجْهِ المياه.» وكذلك تعني كلمة
«رُوح» شجاعة فائقة، فالكتاب المُقدَّس يَصِف شجاعة جدعون،
٣٣ وشجاعة شمشمون
٣٤ «بروح الله» أي شجاعة تفوق كلَّ امتحان. كذلك تُوصَف كلُّ صِفةٍ أو قوَّة
تفُوق المُعتاد بأنها «رُوح الله أو صِفة الله». فمثلًا في سِفر الخروج (٣١: ٣):
«وملأته (بصلائيل)
٣٥ من روح الله.» أي بعقلٍ ومَهارة فوق المُعتاد، كما يُبيِّن ذلك الكتاب
نفسه. وكذلك في أشعيا (١١: ٢): «ويستقرُّ عليه رُوح الربِّ.» وهذا يعني كما سيشرَحُه
النبيُّ ذاته — بعد ذلك بقليلٍ — بِلُغة التصوير المألوفة في الكتاب، فضيلة الحكمة
والفطنة والشجاعة … إلخ. كما وَصَف حُزن شاءول
٣٦ بأنه «رُوح الله الخبيثة» أي حزن شديد. والواقع أن عبيد شاءول الذين
سَمَّوا حُزنه حزن الله قد نصحوه باستدعاء موسيقى بِجواره ليُروِّح عن نفسه بالغناء على
الناي، وهذا يَدلُّ على أنهم كانوا يَعنُون بحزن الله حُزنًا طبيعيًّا. ويُطلَق تعبير
روح الله أيضًا على نفس الإنسان كما نجد في أيوب (٣: ٢٧): «رُوح الله في أنفي.» إشارة
إلى نصٍّ في سِفري التكوين يقول: إن الله قد نفَخَ بنفس الحياة في أنف الإنسان. وكذلك
يقول حزقيال مُتنبِّئًا للأموات (٣٧: ١٤): «واجعل رُوحي فيكم فتحيون.» أي سأُعطيكم
حياةً جديدة. وفي المعنى نفسه يقول أيوب (٣٤: ١٤): «إنه لو أراد (أي لو أراد الله)
لاستضمَّ إليه رُوحه ونِسمته (أي النفس التي أعطانا).» كذلك فإنَّ نصَّ سِفر التكوين
(٦: ٣): «لا تحلُّ رُوحي مع الإنسان (أو تميِّز) أبدًا لأنه جسَدٌ.» يجب تفسيره على
النحو الآتي: من الآن سيسلُك الإنسان وفقًا لمُقتضَيات الجسد لا تبعًا للذهن الذي
وهبتُه إياه ليُميِّز بين الخير والشر. ونقرأ أيضًا في المزمور (٥١: ١٢-١٣): «قلبًا
طاهرًا اخلُقْ فيَّ يا الله ورُوحًا مُستقيمًا جدِّد في داخلي (أي رغبة معتدلة) ولا
تطرَحْني من أمام وجهك ولا تنزِع مِنِّي رُوحك القدُّوس.» إذ كان العبرانيون يعتقدون
أنَّ جميع الخطايا تأتي حقيقة من البدن، على حِين أنَّ النفس تأمُر بالخَير فحسْب؛
لذلك، يطلب كاتب المزمور من الله أن يُخلِّصه من شهوة الجسد، ويكتفي بالدُّعاء حتى
يحفَظ الله القدوس له نفسه التي وهبَها إياه. ولَمَّا كانت عادة الكتاب إعطاء الله صورة
الإنسان، وذلك لضَعْف مستوى التفكير عند العامَّة، كما اعتاد أن ينسِب له نفسًا
وحساسيةً وانفعالات، بل وينسب إليه بدنًا ونفسًا، فإن عبارة روح الله (في الكتب
المقدسة) تدلُّ دائمًا على النفس، أي على القلب والانفعال أو القوة أو النفس من فم
الله. وهكذا يتساءل أشعيا (٤٠: ١٣): «ومَن أرشد روح الرب؟» (أي نفسه) ومعناها: من سوى
الله يدفع نفس الله لأنْ ترغَبَ شيئًا؟ وكذلك الحال في (٦٣: ١٠): «لكنهم تمرَّدوا
وحزَّنوا رُوحَه القُدُّوس.» وقد ترتَّبَ على ذلك استعمال عبارة رُوح الله للدلالة على
شريعة موسى؛ لأنَّ هذه الشريعة تُعبِّر عن فِكر الله. فمثلًا، نقرأ في أشعيا (الإصحاح
نفسه: ١١): «أين الذي جعلَ في داخِلِه رُوحه القدُّوس.» أي شريعة موسى، كما يفهم بوضوح
من السياق، كذلك نقرأ في نحميا (٩: ٢٠): «وآتيتَهُم رُوحك الصالح (أي نفسك)
ليُعلِّمهم.» فهنا يُذكِّرهم نحميا بعصر الشريعة، ويُشير إلى نصٍّ من سِفر التثنية (٤:
٦) يقول فيه موسى: «لأنها (أي الشريعة) حِكمتُكم وفهمكم … إلخ.» كذلك نجِدُ في المزمور
(١٤٣: ١٠): «إن روحك صالح فهو يَهديني في أرض الاستقامة.» أي إن فكرك الذي أوحيتَ به
إلينا سيقودنا إلى الطريق المستقيم. وفضلًا عن ذلك تَعني رُوح الله، كما قُلنا من قبل،
النفس، وهو ما يَنسِبُه الكتاب لله. ومع أن هذا لا يَليق به، كما يَنسِب إليه أيضًا
النفس والحساسية والبدَن (انظر: المزمور، ٣٣: ٦)،
٣٧ ويعني اللفظ أيضًا قُدرة الله أو صِفته كما هو الحال في أيوب (٣٣: ٤):
«رُوح الله هو الذي صنَعَني.» أي قُدرته وصفته، أو إن شِئنا قُلنا أوامره، لأنَّ كاتب
المزمور يقول أيضًا بأسلوبه الشعري: «بكلمةِ الربِّ رُفِعت السموات وبرُوح (أي بنفَسٍ
من فَمِه) فيه كلُّ جنودها (أي مَشيئته التي تنطق بها في نفَسٍ واحد).» وبالمِثل نجِد
في المزمور (١٣٩: ٧): «أين أذهب من رُوحك، وأين أفرُّ من وجهك.» وهذا يعني حسب
الإيضاحات التي نجِدُها بعد ذلك عند كاتب المزمور نفسه، أين يُمكِنني الهرَب بعيدًا عن
قُدرتك وحضورك. وأخيرًا يستعمل رُوح الله في الكتاب المقدس للتعبير عن مشاعر الله، أي
اللطف والرحمة، فمثلًا في ميخا (٢: ٧) هل قصر رُوح الرب؟ (أي رحمته) أهذه أعماله؟
(المشئومة) وكذلك في زكريا (٤: ٦): «لا بالجيش ولا بالقوة ولكن برُوحي (أي برحمتي)
وحدَها.» وأعتقد أنَّ الآية ١٢ من الإصحاح ٧ عند نفس النبي تفيد بالمعنى نفسه: «وجعلوا
قلوبهم كالسامور لئلَّا يسمعوا الشريعة والكلام الذي أرسله الله بروحه (أي رحمته) على
ألسنة الأنبياء الأولين.» وكذلك يقول حجاي (٢: ٥)
٣٨ تظلُّ رُوحي (أي نعمتي) بينكم، لا تخافوا. أما في نص أشعيا (٤٨: ١٦):
«والآن أرسلني هو ورُوحه.» فإن لفظ الرُّوح يفيد هنا إمَّا معنى لُطف الله ورحمته، وإما
فِكر الله الذي أوحى به في الشريعة لأنَّ النبي يقول: إنِّي من الأول (أي أول مرة أتيتُ
فيها إليكم لأُخبركم بغضب الله وحكمه ضِدَّكم) لم أتكلم في خفية، أنا من قبل أن يحدُث
الأمر كنتُ هناك (وقد أثبت ذلك أيضًا في الإصحاح ٧): «ولكن الآن رسول السعادة أرسلتْني
رحمة الله إليكم لأتغنَّى باستقراركم.» ويُمكِننا أيضًا كما قلتُ من قبْل فَهم الرُّوح
على أنه الفكر الذي أوحى به الله في الشريعة، بمعنى أنَّ الرسول أتى ليُحذِّر
العبرانيين طبقًا لأوامر الشريعة التي أعلنها سفر الأحبار (١٩: ١٧)
٣٩ ويكون بذلك قد حذَّرَهم في الظروف نفسها وبالطريقة نفسها التي حذَّرَهم بها
موسى. وفي النهاية تنبَّأ لهم أيضًا بالاستقرار كما فعل موسى، ولكني شخصيًّا أفضل
التفسير الأول.
والآن، فلنرجِع إلى موضوعنا الأول بعد أن اتَّضَح من هذه الأمثلة مَعاني هذه
العبارات: «كان رُوح الله في النبي، أنزل الله رُوحه في البشر، البشر مليء برُوح الله
أو بالرُّوح القدس … إلخ.» فهذه العبارات لا تعني سوى أنه كانت للأنبياء فضيلة خاصَّة
فوق المعتاد،
٤٠⋆ وأنهم
كانوا يُثابرون على التقوى دوامًا، وكانوا بالإضافة إلى ذلك قادرين على إدراك فكر الله
أو حِكَمِه. وقد بيَّنَّا أنَّ (كلمة) رُوح في العبرية قد تعني الذهن أو حكم الذهن؛
ولهذا السبب استحقَّت الشريعة نفسها، بمقدار تعبيرها عن الفكر الإلهي، أن تُسمَّى رُوح
الله وفكره. وبالمِثل يُمكن تسمية خيال الأنبياء، بقدْر ما كان يكشِف عن الأوامر
الإلهية، فِكر الله ورُوحه، ويمكننا القول بأنَّ الأنبياء كان لدَيهم فِكر الله. صحيح
أنَّ فِكر الله وأحكامه الأبدية مَسطورة في أذهاننا، بحيث يُدرِك كلٌّ مِنَّا فِكر الله
(مُستعملين لغة الكتاب) ومع ذلك فإنَّ المعرفة الفطرية، نظرًا إلى كونِها مُعطاةً لكلِّ
البشر، لم يكن لها، كما قُلنا من قبل، قِيمة كبيرة وخاصَّةً عند العبرانيين الذين كانوا
يدَّعون أنهم فوق سائر البشر، وبالتالي اعتادوا احتقار العِلم المُشترك بين الناس.
وأخيرًا كان يُقال: إنَّ الأنبياء لدَيهم رُوح الله لأن العامَّة تجهل عِلَل المعرفة
النبوية وتدهش لها؛ ولهذا السبب اعتادت إرجاعها إلى الله، كما تُرجِع له كلَّ شيءٍ
مُعجِز، وسمَّتْها معرفة الله.
نستطيع أن نُؤكِّد الآن دُون تردُّدٍ أنَّ الأنبياء لم يتلقَّوا وحيًا إلهيًّا إلَّا
بالاستعانة بالخيال، أي بوساطة كلماتٍ أو صُورٍ تكون حقيقيةً مرَّةً وخياليةً مرَّةً
أخرى. ونظرًا لأنَّنا لم نجِد في الكتاب أيَّةَ وسيلةٍ أخرى غير هذه المعرفة النبوية،
فليس من حقِّنا — كما بَيَّنَّا من قبل — أن نختلِق وسائل أخرى. أما فيما يتعلَّق
بقوانين الطبيعة التي صدَرَ هذا الوحيُ طبقًا لها فإني أعترِف بأنِّي لا أعلمها، إنَّني
أستطيعُ أن أقول، كما يقول الآخرون، بأنَّ الوحي قد حدَث بقُدرة الله، ولكني أعتقد
بأنَّ مِثل هذا القول لا يَعني شيئًا؛ لأنه يعني إيضاح صيغة شيءٍ فردي بلفظٍ مُتعالٍ.
٤١ إنَّ كلَّ شيء يصدُر بالفعل عن الله، بل إنه لمَّا كانت قُدرة الطبيعة هي
ذاتها قُدرة الله
٤٢ فمن المؤكد أنَّنا بقدْر ما نجهل العِلَل الطبيعية، لن نكون قد فهِمْنا
قُدرة الله، فلا يُعقل إذن أن نلتجئ إلى قدرة الله عندما نجهل العِلَّة الطبيعية لشيءٍ
ما، أي عندما نجهل قدرة الله نفسها، أما عِلَّة المعرفة النبوية فلَسْنا في حاجة إلى
معرفتها، فطبقًا للمُلاحظة التي أبدَيناها من قبل يقتصِر بحثُنا هنا فقط على تعاليم
الكتاب لنستخلِص منها نتائجنا، كما نفعل مع المُعطيات الطبيعية، دُون أن نبحث في عِلَل
هذه التعاليم.
٤٣
ولمَّا كان الأنبياء قد أدركوا الوحيَ الإلهي بالاستعانة بالخيال، فلا شكَّ أنَّ
كثيرًا من تعاليمهم قد تعدَّتْ حدود الذهن؛ لأننا بالكلمات والصور نستطيع أن نُكوِّن
أفكارًا تزيد عن تلك التي نُكوِّنها بالمبادئ والمفاهيم الذِّهنية التي تقوم عليها
معرفتنا الطبيعية.
وبناءً على ذلك، يَتبيَّن لنا السبب الذي جعل الأنبياء يُدركون تعاليمهم ويَعرضِونها
دائمًا بلُغةِ الأمثال أو الألغاز، وجعلهم يُعبِّرون عن الحقائق الرُّوحية بطريقةٍ
جسمية، فهذه الأساليب هي التي تتَّفِق تمامًا مع طبيعة الخيال. لن نندهِش عندما
يَستعمِل الكِتاب أو الأنبياء للتعبير عن الرُّوح، أي عن فكر الله، لُغةً مَعيبة غامِضة
كتلك التي نجدها في سفر العدد (١٧: ١١)،
٤٤ وفي سفر الملوك (الأول، ٢٢: ٢١)،
٤٥ فلقد رأى ميخا الله مُستويًا على العرش، ورآه دانيال عجوزًا مُتلفِّحًا
بالبياض، ورآه حزقيال نارًا، ورأى تلامذة المسيح الرُّوح القدُس هابطة في صورة حمامة،
ورآها الحواريُّون في صورة ألسنةٍ من النيران، وأخيرًا فقد رأى بولس نُورًا ساطعًا في
لحظة تحوُّله إلى العقيدة. هذه الرؤَى تتَّفِق جميعًا مع تصوُّرات العامة لله وللأرواح.
وأخيرًا، فلمَّا كان الخيال مُبهمًا ومُتقلِّبًا، لم تَبقَ النبوَّةُ دائمًا ماثلةً
أمام الأنبياء، ولم تتكرَّر باستمرار، بل كانت نادرة للغاية، أي إنها لم تُعطَ إلَّا
لعددٍ قليلٍ من الناس، بل لا تحدُث عند هذا العدد القليل إلَّا نادرًا. ولمَّا كان
الأمر كذلك فإنَّنا نتساءل: على أي أساسٍ أقام الأنبياء يَقينهم في تلك الموضوعات التي
يُدركونها بالخيال دُون ضمانٍ من مبادئ الفكر المُؤكَّدة؟ مهما يكُن من شيءٍ فإن كلَّ
ما نقترِحُه في هذا الموضوع يجِب أن يكون بدَوره صاردًا عن الكِتاب لأننا — كما قُلنا
من قبل — لا نعلم عن النبوَّة علمًا صحيحًا، أي إنَّنا لا نستطيع تفسيرها بالعِلَل
الأولى، وسأُبيِّن في الفصل القادم في حديثي عن الأنبياء ماذا يقول الكتاب عن اليقين
الذي يعتمدون عليه.