الفصل الحادي عشر
مبحث فيما إذا كان الحواريون قد كتبوا رسائلهم بوصفهم حواريِّين وأنبياء
مبحث فيما إذا كان الحواريون قد كتبوا رسائلهم بوصفهم حواريِّين وأنبياء أم بوصفهم مُعلمين، ثُم في دَور الحواريِّين.
***
لا يستطيع أحد أن يقرأ العهد الجديد دون أن يقتنِع بأن الحواريين
كانوا أنبياء،١ ولكن الأنبياء لم يكونوا يتحدَّثون دائمًا عن وحي، بل على العكس من ذلك كان
هذا نادرًا للغاية، كما بيَّنَّا في آخر الفصل الأول، وبالتالي نستطيع أن نتساءل إن كان
الحواريون قد كتبوا رسائلهم بوصفهم أنبياء بناءً على وحيٍ وتفويضٍ خاص،
مثل موسى وإرميا وغيرهم، أو بوصفهم أفرادًا
عادِيِّين ومُعلِّمين، خاصَّةً أن بولس في الرسالة الأولى إلى أهل
كورنثة (١٤: ٦)٢ يُميِّز بين نوعَين من التبشير؛ تبشير يعتمد على وحي، وتبشير يعتمد على
معرفة. فيُمكنا إذن أن نتساءل إن كان الحواريُّون في «الرسائل» يتحدَّثون بوصفهم أنبياء
أو يُعلِّمون بوصفِهم فُقهاء. والآن فإذا فحَصْنا أسلوب «الرسائل» وجدْنا أنه يختلف
تمامًا عن أسلوب النبوة، فالأنبياء كانوا يؤكدون دائمًا أنهم يتحدَّثون بتفويضٍ من
الله: «هذا هو كلام الرب، يقول ربُّ الجيوش، بأمر الرب … إلخ.» وليس ذلك في الأحاديث
التي يُلقونها علنًا فقط، بل أيضًا في الرسائل التي تتضمَّن وحيًا، كما هو واضح في
رسالة إيليا إلى يورام٣⋆ (انظر:
سفر الأخبار الثاني، ٢١: ١٢) التي تبدأ أيضًا بهذه الكلمات: «هذا هو كلام الرب.» أما
في
رسائل الحواريين فلا نجِد شيئًا كهذا، بل على العكس يتحدَّث بولس في الرسالة الأولى إلى
أهل كورنثة (٧: ٤٠)٤ وفقًا لتفكيره الخاص. بل إنَّنا نجد في فقراتٍ كثيرة طرقًا في الكلام تنمُّ
عن نفسٍ مُزعزعة مُضطربة مثل: (رسالة إلى أهل رومية، ٣: ٢٨) «لأننا نحسب»٥⋆ وكذلك
(٨: ١٨): «وإني أحسب» وفقرات كثيرة أخرى مشابهة، وكذلك نجد طرقًا للكلام بعيدة كلَّ
البُعد عن السُّلطة النَّبوية، مِثل: «وأنا إنما أقول الحقَّ ذلك على سبيل الإباحة٦ لا على سبيل الأمر» (انظر الرسالة الأولى إلى أهل كورنثة، ٧: ٦). «فليس
فيها عندي وصية من الربِّ لكني أفيدكم فيها مشهورة بما أنَّ الربَّ رحمني أن أكون
أمينًا» (انظر الرسالة نفسها، ٧: ٢٥). وفقرات كثيرة أخرى مشابهة. ويلاحظ أنه عندما يقول
في الإصحاح السالف الذكر إنَّ لدَيه تفويضًا أو أوامر من الله، أو على العكس ليس لديه
ذلك، فإنه لا يعني أمرًا أو تفويضًا أوحى به الله إليه، بل يعني فقط التعاليم التي
أعطاها المسيح لتلاميذه على الجبل. ومن ناحية أخرى، فإذا فحصنا الطريقة التي نقل بها
الحواريون عقيدة الإنجيل، نجد أنها تختلف اختلافًا كبيرًا عن طريقة الأنبياء،
فالحواريون يستعملون الاستدلال في كل الأحيان، حتى ليَبدو أنهم لا يتنبَّأون بل
يُجادلون. وعلى العكس، لا تحتوي النبوَّات إلَّا على عقائد وأوامر، لأنَّ الله نفسه هو
الذي يتحدَّث؛ أعني الله الذي لا يستدل، بل يأمُر بما له من سُلطة مُطلقة تقضي بها
طبيعته، وهذا يرجِع أيضًا إلى أنَّ سُلطة النبيِّ لا تتلاءم مع الاستدلال، فمن يُريد
إثبات العقائد التي يعتنقها بالاستدلال، يخضعها بذلك لحكم كل فرد، ويبدو أنَّ هذا هو
ما
يفعله بولس، وذلك على وجه التحديد أنه يستدل، فهو في الرسالة الأولى إلى أهل كورنثة
(١٠: ١٥) يقول: «أقول كما يقول الحُكماء فاحكُموا أنتم فيما أقول.» وأخيرًا، فقد كان
الرسل — كما بيَّنَّا في الفصل الأول — يُبلغوننا في الأمور الموحى بها، لا بالأمور
التي لا يمكن إدراكها بالنور الطبيعي، أي بالاستدلال. ومع أننا نستطيع أن نجد في
الأسفار الخمسة — على ما يبدو — بعض الأمور التي يُستدلُّ عليها، إلَّا أننا لو دقَّقنا
النظر لوجَدْنا أنه من المُستحيل أن نعُدَّ هذه الاستدلالات حججًا قاطعة. فعندما يقول
موسى مثلًا للإسرائيليين (التثنية، ٣١: ٢٧): «… فإنكم وأنا في الحياة معكم اليوم قد
تمرَّدْتُم على الرب فكيف بعد موتي.» لا ينبغي أن نفهم هذه العبارة وكأنَّ موسى أراد
أن
يُقنع الإسرائيليين عن طريق الاستدلال بأنهم بعد موته سيبتَعِدون بالضرورة عن عبادة
الله الحقيقية؛ فالواقع أن الحجَّة تُصبح في هذه الحالة باطلة، وهو ما يُمكن البرهنة
عليه بالكتاب نفسه، فقد ظلَّ الإسرائيليون مُتَّبِعين الطريق المستقيم في حياة يشوع
و«القدماء» وبعد ذلك في ظلِّ حُكم صموئيل وداود وسليمان … إلخ. فعبارة موسى إذن تأكيد
خُلُقي ألقاها كخطيبٍ وتنبَّأ فيها بتدهوُر الشعب في المُستقبل بأسلوبٍ فيه من الحيوية
ما يُعادل حيوية الصورة التي تمثلت لذهنه في هذا الموضوع. والسبب الذي يَمنَعُني من
التسليم بأن موسى قد تحدَّث باسمه حتى يجعل نبوءته أكثر قَبولًا لدى الشعب، لا بوصفه
نبيًّا تلقَّى وحيًا، وهو ما يذكر في الآية ٢١ من الإصحاح نفسه٧ من أن الله أوحى إلى موسى بألفاظٍ أخرى بهذه الهزيمة المُستقبلة. ولا شكَّ
أنه لم يكن في حاجة إلى التأكُّد من حقيقة نبوءته ومن الأمر الإلهي باستدلالات
ظنِّيَّة، بل كان عليه حتمًا أن يتمثَّله حيًّا بالخيال، كما بيَّنَّا في الفصل الأول.
وكان خير ما يُمكنه فعله لهذا الغرض هو أن يتخيَّل في المُستقبل عصيان الشعب الذي
طالَما عانى في الحاضر. وبهذه الطريقة يجِب أن نفهم جميع حجَج موسى في الأسفار الخمسة؛
فهي ليست براهين التجأ فيها إلى العقل، بل طُرُق في الحديث عبَّر بها عن أوامر الله على
نحوٍ أكثر فاعلية، وتخيَّلها بها على نحوٍ أكثر حيوية. ومع ذلك، لا أُريد أن أُنكر
كليةً قدرة الأنبياء على المُحاجَّة، ابتداءً من الوحي، ولكنِّي أؤكد فقط أنهم كلَّما
أحكموا حُجَجَهم اقتربتْ معرفتهم بأمور الوحي من المعرفة الطبيعية، خاصَّةً ونحن
نُسلِّم بأن الأنبياء كانت لديهم معرفة فوق الطبيعة فيما يتعلَّق بالعقائد الخالصة
والأوامر والأحكام التي يُبشِّرون بها؛ لذلك لم يقُم موسى، وهو أعظم الأنبياء، بأي
استدلالٍ حقيقي.
وعلى العكس من ذلك، أعتقد أنَّ بولس لم يكتُب الاستنتاجات الطويلة والحُجَج الموجودة
في «الرسالة إلى أهل رومية» بفضل وحيٍ يعلو على الطبيعة. وهكذا، فإن طُرُق حديث
الحواريين وأسلوبهم في المناقشة — كما هو واضح في الرسائل — يدلُّ بوضوحٍ تام على أن
هذه الكتابات لم تصدُر عن وحيٍ وبتفويضٍ إلهي، بل هي مجرَّد أحكام شخصية وطبيعية
لمؤلفيها، ولا تتضمَّن إلا نصائح أخوية مُقترنة بتعبيرات مُجاملة مُهذبة (وهذا مناقض
تمامًا للطريقة التي يعبِّر بها النبي عن سُلطته) كما هي الحال في ذلك الاعتذار الذي
يُقدِّمه بولس (رسالة إلى أهل رومية، ١٥: ١٥): «لقد اجترأت قليلًا فيما قلتُ لكم أيها
الأخوة.» ونستطيع أن ننتهي إلى الاستنتاج نفسه إذا عرَفْنا أنَّنا لا نجِد في أي موضعٍ
ما يدلُّ على أن الحواريين قد تلقَّوا أمرًا بالكتابة، بل تلقَّوا فقط أمرًا بالتبشير
في كلِّ مكانٍ يذهبون إليه، وبتأييد أقوالهم بالآيات؛ إذ كان حضورهم ضروريًّا، وكذلك
ما
يقومون به من آياتٍ لهداية الناس إلى الدين ولتثبيتهم عليه، كما يُصرِّح بذلك بولس نفسه
في «الرسالة إلى أهل رومية» (١: ١١): «لأني أتشوَّق أن أراكم لأفيدكم شيئًا من المواهب
الرُّوحية لتأييدكم.» ومع ذلك، قد يعترِض مُعترض
بأنَّ بإمكاننا أن نستنتج بالطريقة نفسها أن تبشير الحواريين نفسه ليست له صفة
النبوَّة، فعندما كانوا يَرحلون للتبشير هنا وهناك، لم يقوموا بذلك بتفويضٍ خاص، كما
كانت الحال عند الأنبياء، فنحنُ نقرأ في العهد القديم أن يونس ذهب إلى نينوى للتبشير،
ونقرأ في الوقت نفسه أنه بُعِث إليهم صراحة، وأُوحِيَ إليه بما كان عليه أن يُبشِّر به.
كذلك يُروى لنا بالتفصيل عن موسى أنه رحل إلى مصر بوصفه رسولًا لله، كما يُروى لنا ما
كان يتعيَّن عليه أن يقوله للإسرائيليين والملك فرعون، وما هي الآيات التي يُمكنه بها
إقناعهم. كذلك تلقَّى أشعيا وإرميا وحزقيال أمرًا صريحًا بالتبشير للإسرائيليين.
وأخيرًا، لم يُبشِّر الأنبياء بشيءٍ إلَّا بما تلقَّوه من الله كما يشهد بذلك الكتاب،
وذلك بخلاف الحواريين الذين كانوا يذهبون هنا وهناك للتبشير، دون أن نرى في العهد
القديم أنهم قد تلقَّوا شيئًا مُشابهًا أو على الأقل لا نرى ذلك إلَّا نادرًا للغاية.
بل إنَّنا نجد على العكس؛ إذ تُشير بعض النصوص صراحةً إلى أنهم اختاروا بأنفسهم وبمَحْض
إرادتهم الأماكن التي بشَّروا فيها كما هو واضح في المُناقشة التي وصلَتْ إلى النزاع
بين بولس وبرنابا (انظر: أعمال الرسل، ١٥: ٣٧، ٣٨ … إلخ).٨ ونرى أيضًا أنهم قد حاولوا الذهاب إلى مكان وأخفقوا في ذلك، كما يشهد بذلك
بولس نفسه (رسالة إلى أهل رومية، ١: ١٣): «… كثيرًا ما قصدتُ أن آتيكم فمُنعت إلى
الآن.» وفي الإصحاح ١٥ الآية ٢٢: «وكذلك مُنعت مرارًا كثيرة من القدوم إليكم.» وفي
الإصحاح الأخير من الرسالة الأولى إلى أهل كورنثة، الآية ١٢: «أما بولس الأخ فأخبركم
أني سألتُه كثيرًا أن يأتيكم مع الإخوة فلم يُرِد أن يأتي الآن البتَّة لكنه سيأتي إذا
تيَسَّر له الوقت … إلخ.» من هذه اللغة، ومن المناقشة التي دارت بين الحواريين، ومن عدم
وجود نصوص تشهد بأنهم كانوا يرحلون للتبشير بتفويضٍ من الله، كما كان يفعل الأنبياء؛
من
هذا كله نستنتِج أن الحواريين قد قاموا بالتبشير بوصفهم مُعلِّمين لا بوصفهم أنبياء.
ومع ذلك، فإن حلَّ المشكلة ميسور لو فحَصْنا الرسالة المختلفة التي اضطلع بها كلٌّ من
الحواريين وأنبياء العهد القديم، فهؤلاء الأخيرون لم يَدْعُوا للتبشير وللتنبُّؤ كلَّ
الأمم، بل بعض الأُمَم بعينها؛ لذلك كان لا بُدَّ لكلِّ نبيٍّ من تفويضٍ صريح خاص به.
وعلى العكس دعا الحواريون للتبشير للجميع على السواء، ولهداية الناس جميعًا إلى الدين
(الجديد). وحيثما توَلَّوا كانوا يُنفِّذون تفويض المسيح، ولم يكونوا في حاجةٍ إلى أن
تُوحى لهم موضوعات التبشير قبل أن يرحلوا وهم تلامذة المسيح الذين قال لهم المُعلِّم:
«فإذا أسلَمُوكم فلا تهتَمُّوا كيف أو بماذا تتكلَّمون فإنكم ستُعطَون في تلك الساعة
ما
تتكلَّمون به» (انظر: متى، ١٠: ١٩-٢٠). نستطيع أن نستنتِج أن الحواريِّين عرفوا بوحيٍ
خاصٍّ ما بشَّروا به جهرًا وأيَّدوه في الوقت نفسه بالآيات (انظر ما بَيَّنَّاه في
الفصل الثاني). أمَّا ما اكتَفَوا بالدعوة إليه، دون تأييده بآيات، ودون كتابةٍ أو جهر
به، فقد كتَبُوه أو قالوه لأنهم كانوا يعرفونه٩ (معرفة طبيعية)، انظر في هذا الموضوع الرسالة الأولى إلى أهل كورنثة (١٤: ٦).١٠ ولا داعي هنا إلى التوقُّف عند الملاحظة القائلة: إن كلَّ الرسائل تبدأ
بذِكر الحواري من حيث هو حواري، فقد أعطي الحواريُّون المقدرة على التنبُّؤ، وكذلك
السلطة المطلوبة بالتبشير، كما سأُبيِّن ذلك الآن. وبهذا المعنى نقول: إنهم كتبوا
رسائلهم بوصفهم حواريين؛ ولهذا السبب ذاته ذَكَر كلٌّ منهم في أول رسالته صِفته كحواري.
ومن الجائز أنهم أرادوا أن يجتذِبوا ذهن القارئ ويستَرْعُوا انتباهه بطريقة أيسر،
فأرادوا أن يُشهدوا على أنهم هؤلاء الذين يعرفهم جميع المؤمنين بتبشيرهم، وهم الذين
أثبتوا بشواهد واضحة أنهم يُبشرون بالدين الصحيح وبطريق الخلاص. والواقع أنَّ كلَّ ما
قالوه في رسائلهم عن الرسالة التي يضطلع بها الحواريون، أو عن الرُّوح القدس الإلهية
التي كانت فيهم، يرتبط — فيما أعلم — بتبشيرهم، باستثناء الفقرات التي استُخدِم فيها
التعبير: «روح الله» أو «الروح القدس» بمعنى الفكر الصائب المستقيم المُستوحى من الله
…
إلخ (وقد شرحنا ذلك في الفصل الأول). يقول بولس مثلًا في الرسالة الأولى إلى أهل كورنثة
(٧: ٤٠): «غير أنها تكون أكثر غبطةً إن بقِيَت على ما
هي عليه بحسب مشورتي وأظنُّ أني أنا أيضًا في رُوح الله.» فهو يقصد في هذا النص برُوح
الله فِكره الخاص، كما يفيد السياق، فهو يريد أن يقول: إني أحكم على الأرملة التي لا
تريد أن تتزوَّج من جديدٍ بأنها سعيدة طبقًا لرأيي الخاص، أنا الذي قررتُ أن أعيش عزبًا
وأعتقد أني سعيد بذلك. وهناك نصوص أخرى كثيرة تُفيد المعنى نفسه لا داعي لذِكرها. ولكن
لَمَّا كان علينا أن نُسلِّم بأن رسائل الحواريين قد كُتِبت بوحي من النور
الطبيعي وحده، فعلينا الآن أن نرى كيف استطاع
الحوارِيُّون بالمعرفة الطبيعية وحدَها أن يُبشِّروا بما لا يدخُل في نطاقها. على
أنَّنا إذا أخذنا في اعتبارنا النظرية التي عرضناها في الفصل السابق من هذه الرسالة (عن
تفسير الكتاب) اختفَتْ كلُّ الصعوبات، فمع أن مضمون التوراة يتعدى دائمًا حدود فَهمنا
إلَّا أنَّنا نستطيع أن نعمل على توضيحه ونحن مُطمئنُّون، بشرط ألَّا نُسلِّم بمبادئ
سوى تلك التي نستخلصها من الكتاب نفسه، وبالطريقة نفسها كان الحواريون يستطيعون أن
يستخلصوا نتائج عديدة مِمَّا رأوه وسمعوه وعرفوه بالوحي، وأن يُبلِّغوه للناس إذا شاءوا.١١ وفضلًا عن ذلك، فمع أنَّ الدين كما بشَّر به الحواريون — أي مُجرَّد رواية
سيرة المسيح — لا ينتمي إلى مجال العقل، فإنَّ كلًّا منهم قادر بالنور الفطري على إدراك
جوهر الدين الذي يتألَّف أساسًا، كما تتألَّف عقيدة المسيح كلها،١٢⋆ من
تعاليم خُلقية. وأخيرًا، لم يكن الحواريون في حاجة إلى نورٍ يعلو على الطبيعة
ليُكيِّفوا الدين — بعد أن أثبَتُوا صِدقه من قبلُ بالآيات — حسب فهم الناس حتى يسهُل
على كلِّ نفسٍ قبوله، كما لم يكونوا في حاجةٍ إليه لتبكيت الناس. وقد كان هذا وذاك هما
غاية الرسائل؛ أعني أنها كانت تَرمي إلى دعوة الناس وتحذيرهم بالطريقة التي يراها كلُّ
حواري أصلَح ليُثبِّتهم على الدين. ويجِب أن نتذكَّر هنا ما قُلناه من قبل، من أنَّ
الحواريين لم تكن لديهم فحسب القدرة على التبشير بسِيرة المسيح بوصفهم أنبياء أي
بتأييدها بالآيات، بل كانت لديهم أيضًا السُّلطة المطلوبة للدعوة والتحذير بالطريقة
التي يراها كلُّ حواري أصلَح له.١٣ ويُشير بولس إلى هذين الهدَفين في الرسالة الثانية إلى طيموتاوس (١: ١١)
«الذي لأجله نُصِّبتُ أنا كارزًا ورسولًا ومُعلمًا للأمم، نُصِّبتُ أنا كارزًا ورسولًا،
الحق أقول لا أكذب مُعلِّمًا للأمم في الإيمان الحق.» ولاحظ جيدًا: «الحق أقول». إنه
بهذه الكلمات يُطالب بكِلا الصِّفَتَين؛ صفة الحواري، وصفة المُعلم. وهو يتحدَّث عن
السلطة التي تسمح له بتبكيت الجميع في الرسالة إلى فيلمون قائلًا (الآية ٨): «ولذلك وإن
كان لي بالمسيح يسوع أن آمُرك بالواجب بجرأة كثيرة …» وفي هذه الفقرة يجِب أن نلحَظ أنه
لو كان بولس قد تلقَّى من الله بوصفه نبيًّا، لَما أمكَنَه تغيير أوامر الله إلى
توسُّلات. فيجِب إذن أن نُسلِّم ضرورةً بأنه يتحدَّث عن الحُرِّية التي كانت لدَيه في
التبكيت بوصفه مُعلمًا لا بوصفه نبيًّا.
على أنه لا يتَّضِح على نحوٍ قاطع مِمَّا سبق أن الحواريين أمكنهم أن يختاروا في
تعليمهم ما رأوا أنه أفضل الطرق، بل يتَّضِح فقط أن رسالتهم كانت تُعطيهم صفة المعلمين
في الوقت نفسه الذي كانت تُعطيهم فيه صفة الأنبياء. ونستطيع هنا بالفعل أن نلتجئ إلى
العقل الذي يُقرِّر حتمًا أنه من له سُلطة التعليم تكون له أيضًا سُلطة اختيار الطريق
الذي يُفضِّله، ولكن من الأفضل إثبات ذلك بالكتاب وحده؛ إذ تقول النصوص صراحة: إن كل
حواري قد اختار لنفسه طريقًا شخصيًّا. يقول لنا بولس في الرسالة إلى أهل رومية (١٥: ٢)
«واعتنيتُ ألَّا أُبشِّر بالإنجيل في موضع دُعِي فيه اسم المسيح لئلا أبني على أساسِ
غَيري.» فمِن المؤكد أنَّهُ لو كان جميع الحواريِّين قد اتَّبَع الطريق نفسه في الدعوة،
وأقاموا جميعًا دِين المسيح على الأساس نفسه، لَما استطاع بولس على أيِّ نحوٍ أن يصِف
الأساس الذي يرتكز عليه حواري آخَر بأنه «أساس غيره»، لأنَّ جميع الحواريين يكون لهم
عندئذٍ الأساس نفسه.١٤ ولكن لَمَّا كان بولس قد وصفه بأنه «أساس غيره»، فيجب أن نستنتج بالضرورة
أنَّ كلَّ حواري كان يُقيم الدين على أساسٍ مُختلف، وأن الحواريين، عندما كانوا يؤدُّون
رسالتهم بوصفهم مُعلمين، كان في موقف المُعلمين الآخرين نفسه الذين يتَّبِع كلٌّ منهم
منهجًا خاصًّا به، والذين يُفضلون تعليم من ظلُّوا في جهلٍ تام، ولم يبدءوا في تلقِّي
اللُّغات والعلوم من أي شخصٍ آخر، حتى الرياضة التي لا يشكُّ في صِحَّتِها أحد. ومن
ناحية أخرى، فإذا قرأنا الرسائل بإمعانٍ وجدْنا أنَّ الحواريين، بالرغم من اتِّفاقِهم
على الدين نفسه، كانوا يَختلفون اختلافًا ملحوظًا على الأسس التي يقوم عليها.١٥ فلكي يُثبِّت بولس الناس في الدين
ويُبيِّن لهم أن الخلاص لا يتمُّ إلَّا بالفضل الإلهي، علَّمَهم أنه لا يَحقُّ لأحدٍ
أن
يتفاخر بأفعاله، بل بإيمانه فقط، وإنَّ الأعمال لا تُنقِذ أحدًا (انظر الرسالة إلى أهل
رومية، ٣: ٢٧-٢٨)،١٦ وأستخلِص من ذلك عقيدة القدرية كلها. أمَّا يعقوب فإنه على العكس من ذلك
يدعو في رسالته إلى أنَّ خلاص الإنسان يتم بأعماله لا بإيمانه فقط١٧ (انظر: رسالة يعقوب، ٢: ٢٤)،١٨ ويجعل عقيدة الدين كلها تنحصِر في هذه المبادئ القليلة وحدَها، تاركًا كل
مناقشات بولس جانبًا. وأخيرًا، لا شكَّ في أن هذا الاختلاف في الأسُس التي يُقيم عليها
الحواريون الذي كان سببًا لكثيرٍ من المُنازعات والانقسامات التي ما زالت تُعاني منها
الكنيسة منذ زمن الحواريين؛ لا شكَّ أنها ستظلُّ تُعاني منها إلى الأبد، حتى يأتي اليوم
الذي ينفصِل فيه الدين أخيرًا عن التأمُّلات الفلسفية ويقتصِر على عددٍ صغير جدًّا من
العقائد الشديدة اليُسر التي دعا إليها المسيح نفسه. أما الحواريون فلم يستطيعوا ذلك
لأنَّ الناس كانوا يجهلون الإنجيل؛ وعلى ذلك فلكي لا يُصدَم الناس بشدَّة بهذه العقيدة
الجديدة، كيَّفَها الحواريون بقدْر استطاعتهم مع رُوح عصرهم (انظر الرسالة الأولى إلى
أهل كورنثة، ٩: ١٩، ٢٠ … إلخ)،١٩ وأقاموها على أكثر الأُسُس شيوعًا وأوسعها قبولًا في ذلك العصر؛ لذلك لم
يتفلسف أي حواري بقدر ما تفلسَفَ بولس الذي دعا للتبشير بين الأمم.
أما الآخرون الذين كانوا يُبشرون اليهود، المعروفين
باحتقارهم للفلسفة، فقد تكيَّفوا حسب رُوح اليهود (انظر في هذا الموضوع في الرسالة إلى
أهل غلاطية، ٢: ٢ … إلخ)٢٠ وعلَّموا الدين مُجرَّدًا، خلوًا من أيَّةِ تأمُّلات فلسفية. ولكم يَسعَدُ
عصرنا لو أمكننا أن نرى الدِّين وقد حُرِّر فيه بدَوره من كلِّ خُرافة.
١
في الظاهر يُبيِّن سبينوزا الفرق بين الحواري والنبي، وهو أنَّ الحواري
يستدلُّ وبالتالي فهو قريبٌ من البشر، ولكن النبيَّ يعرض عقائد بلا مُناقشة كما
يُبين أن المسيحية أكثر إنسانية وحيوية من اليهودية، ولكن في الحقيقة يُثبِت
سبينوزا أنَّ الحواري يتحدَّث باسمه ويُعبِّر عن آرائه الذاتية ومن ثَمَّ فهو
مُعرَّض للخطأ، كما يُثبِت أنَّ المسيحية لا تُعطي في الحقيقة إلَّا تعاليم
خُلقية وكل ما سوى ذلك مُعرَّض للخطأ، والحواري كالنبيِّ من جهة أنَّ ما يقوله
كلٌّ منهما عن الله ذاتيٌّ ظني، فالتعاليم الخلقية هي وحدها اليقينية.
٢
(كورنثة «١»، ١٤: ٦): «فالآن أيها الإخوة إذا قدمت إليكم وأنا ناطق بألسنةٍ
فماذا أنفعكم ما لم أُكلِّمكم إما بوحيٍ أو بعلم أو بنبوَّة أو بتعليم.»
٣
⋆
انظر
الهامش ٢٤، من الفصل الثاني.
٤
(كورنثة «١»، ٧: ٤٠): «غير أنها تكون أكثر غبطةً إن بقِيَت على ما هي عليه
بحسب مشورتي.»
٥
⋆
يُترجِم
المُفسِّرون كلمة Logisomai في هذه الفقرة بلفظ
أستنتج Je conclus ويقولون: إن بولس استعملها
بمعنى sunlogismai مع أن
Logismai باليونانية لها المعنى نفسه الذي
للفظ خشب hashab في العبرية أي ظنَّ أو حسِب
أو رأى compter, penser, estimar، ويتفق هذا
المعنى تمامًا مع النص السرياني، ففي الترجمة السريانية (لو كانت ترجمة حقًّا
لأنَّ ذلك مشكوك فيه نظرًا لأنَّنا لا نعلم المترجم أو تاريخ ظهور الترجمة،
ونظرًا لأنَّ اللغة الأصلية للحواريين كانت اللغة السريانية) يبدو النص كالآتي
متراعنان هوشيل Metraghenan hochiel ويصيب
ترمليوس Tremellius في ترجمته بعبارة نرى
إذن Nous jugeons donc إذ تعني كلمة
رعيون Reghion التي اشتقَّ منها الفعل
«الذي رأى» لأن رعيونو Reghiono بالعبرية
رجف Raghava تدلُّ على الإرادة. تعني إذن
مُتراعنان نريد أو نرى.
٦
يذكر المُترجمون عادةً أن النصوص التي اعتمد عليها سبينوزا في تعليقه السابق،
وفي هذه الآية نصوص مُحرَّفة ولكن ذلك لا يضير سبينوزا شيئًا فإنَّ الأمثلة على
ما يودُّ البرهنة عليه لن تعوزه، وهي أن كلام الحواريين ليس من الله بل من عند
أنفسهم.
٧
(التثنية، ٣١: ٢١): «فإذا أصابتْهم شرور كثيرة وشدائد يقوم هذا النشيد أمامهم
شاهدًا عليهم.»
٨
(أعمال الرسل، ١٥: ٣٧-٣٨): ٣٧: «فارتأى برنابا أن يأخذا معهما يوحنا
المُسمَّى مُرقص.» ٣٨: «لكن بولس كان يستحسِن ألَّا يُؤخَذ معهما من كان
فارقهما من بمفيليه ولم يذهب معهما للعمل.»
٩
يقصِد سبينوزا هنا تفرِقة بولس بين العلم (المعرفة) والوحي.
١٠
(كورنثة «١»، ١٤: ٦): «فالآن أيها الإخوة إذا قدمت إليكم وأنا ناطِق بألسنة
فماذا أنفَعُكم ما لم أُكلِّمكم إما بوحيٍ أو بعِلم أو بنبوَّة أو
بتعليم.»
١١
استطاع الحواريُّون بحديثهم عن المسيح وحياته التأثير على قلوب الناس
مُعتمدين في ذلك على التجربة وحدَها مثل الأنبياء لا على العقل …
١٢
⋆
أي
الوصايا التي دعا إليها المسيح على الجبل التي ذكرَها القديس متَّى في الإصحاح
الخامس وما بعده.
١٣
لا يقصد سبينوزا هنا مدْح الحواريين، بل يقصِد أن حديثهم من عند أنفسهم لا من
عند الله …
١٤
يرجع اختلاف الحواريين فيما بينهم إلى أن كلًّا منهم يُبشِّر بالطريقةِ التي
تحلو له.
١٥
يتَّفق الحواريون على أنَّ الدين هو مُمارسة العدْل والإحسان (مع أن بولس
يُعطي الأولوية للعقائد)، ولكنهم يختلفون على العقائد لذلك يرى سبينوزا أنَّ
الدِّين شيء والعقائد شيءٌ آخر، فالدين هو العدل والإحسان والتقوى الباطنية،
والعقائد هي الإيمان الشامل الذي يُعطيه
سبينوزا أُسُسه في الفصل الرابع عشر (وهو الإيمان الفلسفي) فالأعمال (العدل
والإحسان) هي التي تُبرِّر الإيمان، والأعمال ليست هي الشعائر أو الطقوس أو
أفعال الخير بدافِعٍ من الرغبة أو الرَّهبة، بل تلك التي تتمُّ برِضا النفس
الذي يُعطي السلام والطمأنينة والذي ينشأ عن الحُبِّ ولا يُهمُّ موضوع الإيمان
(أي العقائد) في شيء. فقد يكون الإنسان مُؤمنًا صادقًا وعقائد إيمانه باطِلة
وقد يكون للإنسان عقائد صحيحة وإيمانه كاذِب (الفصل الرابع عشر).
١٦
(رومية، ٣: ٢٧-٢٨): ٢٧: «فأين المُفاخرة؟ إنها قد أُلغيت، وبأي ناموس؟
أبناموس الأعمال؟ لا بل بِناموس الإيمان.» ٢٨: «لأنَّا نحسب أنَّ الإنسان إنما
يتبرَّر بالإيمان بدون أعمال الناموس.»
١٧
يستنتِج سبينوزا في النهاية أنَّ الأناجيل والعهد القديم معًا مجموعة من
المُتناقِضات لا يُمكن أن تُعطي عقيدةً مُتجانِسة، وأن سُلطة تعاليم الكتاب
ترجِع إلى خيال النبيِّ أو إلى اعتقاد الحواري الشخصي.
١٨
(يعقوب، ٢: ٢٤): «ترون إذن أن الإنسان بالأعمال يُبرَّر لا بالإيمان
وحده.»
١٩
(كورنثة «١»، ٩: ١٩-٢٠): ١٩: «لأني إذ كنتُ حرًّا من الجميع عبَّدتُ نفسي
للجميع لأربح الأكثرين.» ٢٠: «فصرتُ لليهود كيهودي لأربح اليهود.»
٢٠
(غلاطية، ٢: ٢): «وكان صعودي عن وحي وعرضتُ عليهم الإنجيل الذي كرز به بين
الأمم وعرضتُهُ على ذوي الاعتبار على انفرادٍ لئلا أسعى أو أكون قد سعيتُ
باطلًا.»