استنتاج بعض النظريات السياسية من دولة العبرانيين وتاريخها
-
(١)
لم تنشأ الفِرَق الدينية إلَّا في عصرٍ مُتأخِّر عندما أصبح للأحبار في الدولة الثانية سُلطة إصدار القرارات وتصريف شئون الدولة. ولكي يحتفظوا بهذه السلطة على الدَّوَام اغتصبوا لأنفسهم حق النقيب، وأرادوا أخيرًا تنصيب أنفسهم ملوكًا. ويسهُل معرفة السبب في ذلك؛ ففي الدولة الأولى كان من المُستحيل إصدار أي قرار باسم الحبر؛ لأنَّ الحبر لم يكن له حقُّ إصدار القرارات، بل كان حقُّه يقتصِر على إعطاء الردود الإلهية بناءً على طلب النقباء أو المجالس، وبالتالي لم يكن من المُمكن أن يتطلَّع الأحبار إلى اتِّخاذ قراراتٍ جديدة، بل كان جهدهم مُنصبًّا على تنظيم القرارات الموروثة وحمايتها، وكانت المُحافظة على القوانين من الفساد أفضلَ وسيلةٍ يملكونها للدفاع عن حُرِّيَّاتهم ضد النقباء. وعلى العكس من ذلك فإنهم، بمجرَّد تدخُّلهم في شئون الدولة، وممارستهم حق الرئيس بالإضافة إلى الحبروية، طمِحَ كلٌّ منهم في أن يشتهر اسمه في ميدان الدين وفي الميادين الأخرى، بحيث ينظم كل شيءٍ بسلطة الحبر، ويُصدِر كلَّ يوم قراراتٍ جديدة خاصةً بالشعائر والإيمان وبموضوعات أخرى، ويدعي أنها لا تَقِلُّ في قدسيتها وفي إلزامها عن قوانين موسى. ومنذ ذلك الحين بدأ الدين في التدهوُر حتى أصبح مُجرَّد خُرافة مشئومة، على حين فسد المعنى الحقيقي للقوانين وتفسيراتها الصحيحة. وفضلًا عن ذلك، ففي العصور الأولى بعد إعادة بناءً الدولة، بينما كان الأحبار يُحاولون شقَّ طريق للوصول إلى السلطة، أخذوا يوافقون على جميع أفعال عامَّة الشعب، تَودُّدًا إليها، ووافقوا على أبعد هذه الأفعال عن الدين، ووفَّقوا بين الكتاب وأسوأ العادات. ويشهد «ملاخي» على ذلك شهادةً صريحة، فبعد أن لام كهَنَة زمانه الذين سمَّاهم المفسدين باسم الله، واصل هجومه عليهم قائلًا: «لأن شفتَي الكاهن تَحفَظان العلم ومن فيه يَطلُبون الشريعة إذ هو ملاك ربِّ الجنود، أمَّا أنتم فعدلتُم عن الطريق وشكَّكتُم كثيرين في الشريعة ونقضْتُم عهد لاوي، قال رب الجنود» (ملاخي، ٢: ٧-٨). واستمرَّ في توجيه الاتهامات إليهم، قائلًا: إنهم يُفسِّرون القوانين كما يشاءون وكما يهوى البشر لا كما يُريد الله. ومِمَّا لا شكَّ فيه أن الأحبار لم يكونوا على قدرٍ من الفطنة يُمكنهم من تغطية سلوكهم بالنسبة إلى من هُم أكثر منهم ذكاءً. ومن هنا فقد تجرَّأ هؤلاء الأخيرون على القول بأنَّ القوانين المكتوبة هي وحدَها المُلزمة، أمَّا القراءات التي يُلحِقها الفريسيون، بسبب غفلتهم، بتراث القدماء٥ (يرى يوسف في تاريخ اليهود القديم أن مُعظم الفريسيين كانوا ينتسِبون إلى العامَّة)، فإنها لا تستحق التنفيذ. ومهما يكن من شيء، فلا يمكن إنكار أن التملُّق الشديد للأحبار، وفساد الدين والقوانين بعد أن تضخَّمت نصوصه بطريقةٍ مُذهلة، قد أدَّى إلى إثارة المُنازَعات المُتكررة والخصومات المستمرَّة، ودخل الناس في هذا الجدل بتعصُّبٍ شديد، مُستندِين في هذا الجانب وذاك إلى رجال القانون،٦ وصار من المُستحيل إرجاعهم إلى حدِّ الاعتدال، وأصبح الشقاق بين الفرق أمرًا حتميًّا.
-
(٢)
يجب أن نلحظ أيضًا أن الأنبياء — وهم مُجرَّد رعايا عاديين — دفعوا الناس إلى التطرُّف أكثر ممَّا دفعوهم إلى الصلاح نتيجة للحريَّة التي استباحوها لأنفسهم في التعرُّض للناس وفي سبِّهم ولومهم، على حين أن الملوك استطاعوا، باستخدام سُلطتهم العادية، أن يحمِلوهم على التسليم لهم دون مقاومة تُذكَر، بل إن الأنبياء كثيرًا ما كانوا يُثيرون سُخط الملوك، حتى الأتقياء منهم، بسبب السلطة التي كان مُعترَفًا بها لهم في الحُكم على حُسن الأفعال وقُبحِها، وفي لَوم الملوك أنفسهم عندما يتعارض سلوكهم العام أو الخاص مع ما قرَّره الأنبياء، ويروي الكتاب أن الملك آسا٧ حكم طبقًا للشريعة الإلهية ولكنه وضع النبي حناني٨ في الطاحونة (انظر الأخبار الثاني، ١٦)٩ لأنه تجرَّأ على لومه علانيةً لومًا شديدًا للاتفاق الذي عقده مع ملك الأرمن. وهناك أمثلةٌ أخرى على أنَّ مثل هذه الحرية أضرَّت بالدِّين أكثر مِمَّا أفادته. ولا حاجة بنا إلى الحديث عن الحروب الأهلية التي نشِبت بسبب الحقوق المُفرطة التي كان الأنبياء يُطالبون بها.
-
(٣)
ومما هو جدير بالملاحظة أيضًا أنه طوال فترة حُكم الشعب لم تنشب إلَّا حربٌ أهلية واحدة وانتهت دون أحقاد، وأشفق المُنتصِرون على خصومهم المهزومين إلى حدِّ أنهم ساعدوهم بكل الوسائل على استِرداد كرامتهم وقوَّتِهم الأولى، ولكن عندما استبدل الشعب — الذي لم يكن مُهيَّئًا للخضوع للسلطة الملكية — نظامًا ملكيًّا بالنظام الأول، توالَتِ الحروب الأهلية دون توقُّف ووقعت معارك رهيبة لم يحدُث مِثلها حتى ذلك الحين، فقد قتل مُحاربو يهوذا خمسمائة ألف إسرائيلي في معركة واحدة (وهو أمر لا يكاد يكون من الممكن تصديقه)، وفي معركة أخرى أباد مُحاربو إسرائيل بدورهم عددًا كبيرًا من سكان يهوذا (لا يَذكُر الكتاب العدد المضبوط) وأسَرُوا الملك، وهدَمُوا جُزءًا كبيرًا من حائط أورشليم، وسَلَبُوا المعبد كله (تعبيرًا عن غضبهم الذي لم يكن له حدود). وقد رجعوا بغنيمة عظيمة من إخوتهم بعد أن ارتَوَوا من دمائهم وأخذوا معهم رهائن، وتركوا الملك في مملكته الخَرِبة تقريبًا. وعندما وضعوا أسلحتهم، كان ذلك راجعًا إلى ضَعف يهوذا لا إلى ولائهم لها. وبعد ذلك ببضع سنوات بعد أن استعاد شعب يهوذا قوَّته، قامت معركة جديدة خرج بعدَها الإسرائيليون مُنتصرين، وفي هذه المرة قَتلوا مائة وعشرين ألف رجلٍ من يهوذا، وأسَرُوا مائتي ألف امرأة وطفل، وحصلوا مرَّة أخرى على غنيمة كبيرة. وبعد هذه المعركة وغيرها مما يُذكَر في تاريخهم الطويل، أُنهِكت قواهم، وانتهى بهم الأمر إلى أن وَقَعوا فريسة لأعدائهم. ثانيًا، لو أردْنا أن نحسب الفترات التي استطاع فيها السكان أن ينعموا بسلام دائم لوَجَدْنا هذا الاختلاف البيِّن نفسه، فقبل تنصيب الملوك، كان يحدُث في كثيرٍ من الأحيان أن تمضي أربعون سنة، ومرَّة ثمانون سنة (وهو أمر يدعو إلى الدهشة) في سلام دائم دون أن تنشب حرب أهلية أو خارجية، ولكن ما إنِ استولى الملوك على السلطة تغيَّر الوضع إذ لم تعُد الحربُ تُشنُّ من أجل إقرار السلام والدفاع عن الحرية، بل من أجل العظمة. وباستثناء سليمان (الذي كانت فضيلته، وهي الحكمة، تظهر وقتَ السِّلم أكثر مِمَّا تظهر وقت الحرب) اشترك الجميع في حروب، وكان طريق الوصول إلى العرش بالنسبة إلى مُعظمهم — ممن تملَّكتْهم شهوة الحكم — مفروشًا بالدماء. وأخيرًا ففي أثناء حُكم الشعب لم تفسد القوانين، وكانت تُطبَّق بحذافيرها، وكان يندُر قبل عصر الملوك أن يُحذِّر الأنبياء الشعب، وما كاد يتمُّ انتخاب الملك الأول حتى ظهر عدد كبير من الأنبياء رأوا أن من واجبِهم التدخُّل من أجل التحذير. فقد أنقذ عوبديا١٠ من المذبحة مائةً بعد أن خبَّأهم حتى لا يُلاقوا حتفَهم مع الآخرين. كذلك نجد أنَّ الأنبياء الكذَبَة لم يخدعوا الشعب إلَّا بعد أن تُرِكت مقاليد الدولة للملوك، والذين كان كثيرٌ من الأنبياء الكذَبَة يتملَّقونهم. وأخيرًا فإن الشعب، الذي اعتاد أن يتنقَّل بين روح التعالي وروح التواضع، حسب الظروف، كان يستطيع أن يُقوِّم نفسه بسهولة عندما تَحلُّ به المصائب، فيتوجَّه إلى الله ويعيد للقوانين حُرمتها، بحيث لا يتعرَّض لأي خطر. أمَّا الملوك، الذين اعتادوا الكِبر والغرور، فلم يكن في استطاعتهم أن يُطأطئوا رءوسهم دون إذلالٍ لأنفسهم؛ ولذلك تمسَّكوا برذائلهم حتى حلَّ الخراب الكامل بالمدينة.
- (١)
من الخطورة على الدِّين وعلى الدولة على السَّواء إعطاء من يقومون بشئون الدِّين الحقَّ في إصدار القرارات، أيًّا كانت، أو التدخُّل في شئون الدولة، وعلى العكس يكون الاستقرار أعظم إذا اقتصروا على الإجابة على الأسئلة المُقدَّمة إليهم، والتزموا في أثناء ذلك، في تعاليمهم وفي أدائهم لشعائر العبادة، بالتراث القديم الأكثر يقينًا والأوسع قَبولًا بين الناس.
- (٢)
من الخطورة أن نجعل القانون الإلهي مُعتمدًا على المذاهب التي تقوم على النَّظَر البحت، وأن نضَعَ القوانين على أساسٍ من الآراء التي هي على الأقلِّ موضوع خلافٍ دائمٍ بين الناس، فلا تخلو مُمارسة السُّلطة من أشدِّ ألوان العُنف في دولة يُنظَر فيها إلى الآراء التي هي حقٌّ للفرد لا يمكن انتزاعه منه، كما يُنظَر إلى الجرائم. في مِثل هذه الدولة تحكُم انفعالات الشعب الهوجاء عادةً؛ فقد حَكَم بيلاطس على المسيح بالصلب، وهو يعلَم أنه بريء مُسايرة منه لغضب الفريسيين، بعد ذلك شرع الفريسيُّون في إثارة الخلافات الدِّينية واتِّهام الصدوقيِّين بالفسوق حتى يسلُبوا أكثر المواطنين ثراءً ما يملِكون. وكذلك نرى في كلِّ عصرٍ المُنافقين وقد تملَّكَهم جنون مُشابِه — يُظهِرونه بمظهَر التحمُّس الشديد للحقِّ الإلهي — يَطعنون رجالًا يتَّسِمون بكلِّ سِمات الشَّرَف ومظاهر الفضيلة، ويَمقُتُهم عامَّة الشعب لهذا السبب ذاته، فيَحتِقرون آراءهم كأنها آراء شنيعة، يُثيرون ضِدَّهم غضب العامة الشديد. وليس من السهل القضاء على هذه الوقاحة التي لا حدَّ لها، لأنها تتستَّر وراء الدين، وخاصةً في بلدٍ يكون أصحاب السُّلطة العُليا فيه مسئولين عن ظهور فرقةٍ تدعو لعقيدةٍ لا تخضع لسُلطتِهم؛ إذ إنهم في هذه الحالة لا يُعدَّون مُفسِّرين للقانون الإلهي، بل أنصارًا لفرقةٍ دينية يكون دُعاتها وحدَهم مُفسِّري القانون الإلهي، وبالتالي تكفُّ العامة عن احترام سُلطة رجال القضاء بالنسبة إلى الأفعال التي يُوحي بها التعصُّب الديني، على حين يزداد احترامهم لسُلطة الفقهاء إلى حدِّ الاعتقاد بأن على الملوك أنفسهم أن يخضعوا لتفسيرهم. وتجنُّبًا لهذه الشرور لن تُوجَد وسيلة أفضل من النظر إلى التقوى والعبادة التي يفرِضها الدين على أنها تنحصِر في الأعمال وحدها؛ أي في مُمارَسة العدل والإحسان وترك كلِّ ما سوى ذلك لحُكم الفرد الحُر. وسنسهب في هذا الموضوع فيما بعد.
- (٣)
من الضروري الاعتراف للسلطة العُليا بالحقِّ في تقرير ما هو شرعي وما هو غير شرعي، وذلك تحقيقًا لمصلحة الدين والدولة على السواء؛ ذلك لأنَّ هذا الحق — حق تقرير الأفعال — عندما منح من قبل لأنبياء الله، أدَّى إلى إلحاق ضررٍ كبيرٍ بالدين والدولة على السواء. ومن ثَمَّ كان من الواجب، أو بالأحرى، ألَّا يُعطى من لا يعرفون التنبُّؤ بالمُستقبَل أو إجراء المُعجزات، وسنُعالج هذا الموضوع بالتفصيل في الفصل التالي كله.
- (٤)
وأخيرًا فإنَّ شعبًا لم يتعوَّد أن يعيش في ظلِّ حُكمٍ ملكي، وكانت له من قبل قوانين قائمة، يسوء حاله لو نُصِّب عليه ملك؛ فمن ناحيةٍ لا يستطيع الشعب أن يتحمَّل سُلطة قوية كهذه، ومن ناحيةٍ أخرى لا تسمح السُّلطة الملكية مُطلقًا بوجود تشريعٍ آخر (يُعبِّر عن حقوق الشعب) وضعَتْهُ سُلطة أقلُّ منها شأنًا، وبالتالي لن يأخُذ الملك على عاتقه حمايته، خاصَّةً وأن النُّظم لم تنُصَّ على وجود ملك، بل نصَّت فقط على الشعب وعلى الجمعية السياسية صاحبة السُّلطة العُليا. وهكذا فإنَّ الملك، إذا احترم قوانين الشعب القديمة، كان بالنسبة إلى شعبه أقرب إلى العبد منه إلى السيد، ومن هنا فإن الملك سيحاول، بمجرَّد تنصيبه، وضع قوانين جديدة وتغيير التشريع القائم في الدولة لمصلحته الخاصة، ووضع الشعب في مواقف يكون فيها النيل من مهابة الملك أصعبَ بالنسبة إليه من إضفائها عليه.
هذه الأمثلة تؤكد نظريتي القائلة: إنَّ على كلِّ دولةٍ أن تحتفظ بنظام الحكم الذي يسود فيها، وإنَّ تغييره يؤدي إلى تعريضها للانهيار التام. هذه هي المُلاحَظات التي رأيتُ أنَّ مِن واجبي إبداءها في هذا الموضوع.
(القضاة، ٢١: ١٨): «أما نحن فليس لنا أن نُزوِّجهم من بناتِنا لأنَّ بني إسرائيل حلفوا وقالوا ملعون من يعطي زوجة لبنيامين.»
(صموئيل الأول، ١٤: ٢٤): «وتضايق رجال إسرائيل في ذلك اليوم لأن شاءول حلف الشعب وقال ملعون الرجل الذي يذوق طعامًا إلى المساء حتى أنتقِم من أعدائي فلم يذق الشعب كلهم طعامًا.»
يُبيِّن سبينوزا هنا خطورة ارتباط السلطات العامة في الدولة بإحدى الطوائف الدينية ويقصِد حِلف العائلة الحاكمة أورانج مع الكنيسة الكالفنية، كما يرفُض سبينوزا تحالُف أعداء العائلة الحاكِمة مع إحدى الطوائف الدينية المُتحرِّرة. ولا يُعلي سبينوزا في النهاية إلَّا من شأن شهيد الإيمان الحُر أي شهيد حُريَّة الفكر.