الفصل الثاني
الأنبياء
انتهَينا من الفصل السابق — كما أشرْنا من قبل — إلى تَمتُّع الأنبياء بقُدرة أعظم
على الخيال الحي، لا بفِكر أكمل،
١ وفي روايات الكتاب المُقدَّس البراهين الكافية على ذلك، فمن المُسلَّم به
مثلًا أن سُليمان لم تكن لدَيه هبة النبوَّة، مع أنه فاق سائر البشر في حِكمته، وكذلك
لم يكُن الرجال ذوو العقل الراجح، من أمثال هيمان ودرداع وكلكول
٢ أنبياء، في حين أنَّ رجالًا جُهَّالًا غرباء عن العلم، وكذلك بعض النساء
الساذجات مثل هاجر
٣ خادمة إبراهيم، كانت لديهم هبة النبوَّة، وهذا ما يَتَّفِق مع التجربة
والعقل، فكُلَّما زاد الخيال قلَّ الاستعداد لمعرفة الأشياء بالذِّهن الخاص، وعلى العكس
من ذلك نَجِد أن مَن يَتفوَّقون في الذهن ويحرِصون على تنميته تكون قُدرتُهم على
التَّخيُّل أكثر اعتدالًا وأقلَّ انطلاقًا، وكأنها حبيسة حتى لا تختلِط بالذهن؛ وعلى
ذلك، فإن في البحث عن الحِكمة ومعرفة الأشياء الطبيعية والرُّوحية في أسفار الأنبياء
ابتعادًا عن جادَّة الصواب؛ لذلك استقرَّ عزمي على تقديم عرضٍ مُسهِبٍ لهذا الموضوع
تبعًا لمُقتضيات العصر وما تَطلُبُه الفلسفة ويُحتِّمه موضوعي، دون أن أُلقي بالًا إلى
صيحات الخُرافة التي تَمقُتُ أولًا وقبل كلِّ شيء مَن يُمجِّدون العِلم الصحيح والحياة
الحقَّة. لقد وصَلت الأمور للأسَفِ إلى حدِّ أنَّ أولئك الذين يعترفون صراحةً بأنهم
خلوٌ من أيِّ فكرةٍ عن الله، وبأنهم لا يَعرفونه إلَّا عن طريق المخلوقات (التي يجهلون
عِلَلها) لا تحمَرُّ وجوهُهم خجلًا عندما يَتَّهِمون الفلاسفة بالإلحاد.
ولكي أسير في بحثي بترتيبٍ مُنظم سأبيِّن أولًا اختلاف الأنبياء فيما بينهم لا في
الخيال والمزاج الجِسمي الخاص بكلٍّ منهم فحسب، بل أيضًا في الآراء التي تشبَّعوا بها،
بعد ذلك سأشرح بإسهابٍ ما يترتَّب على ذلك من أنَّ النبوَّةَ لا تُعطي الأنبياء علمًا
أكثر. ولكن ينبغي قبلَ ذلك أن أتحدَّث عن اليقين الخاص بالأنبياء لأنه يتعلَّق بموضوع
هذا الفصل كما يُساعد على بيان ما نُريد البرهنة عليه.
إن مُجرَّد الخيال لا يتضمَّن بطبيعته اليقين، على نحو ما تتضمَّنه كل فكرةٍ واضحة
ومُتميزة، بل إن من الضروري، للحصول على اليقين، أن نُضيف إلى الخيال شيئًا ما هو
الاستدلال. ويترتَّب على ذلك أن النبوَّة لا تتضمَّن بذاتها اليقين، ما دامت تعتمد، كما
بَيَّنا، على الخيال وحدَه، وإذن فالأنبياء لم يَكونوا على يقينٍ من الوحي الذي
وهَبَهُم الله إيَّاه عن طريق الوحي نفسه، بل اعتمادًا على آيةٍ (أي علامةٍ) ما.
ويتَّضِح ذلك عند إبراهيم (التكوين، ١٥: ٨)
٤ عندما طلَب آيةً بعد سَماعِهِ وعدَ الله، فقد كان مُؤمنًا بالله ولم يَطلُب
آيةً تُثبت اعتقاده، بل لِيعلَمَ أنَّ الله أعطاه هذا الوعد، كما يَتَّضِح ذلك بصورةٍ
أوضح فيما يقوله جدعون
٥ لله: «اجعل لي آية (حتى أعلَم) على أنك أنت الذي كلَّمني.» (القضاة، ٦:
١٧)، ويقول الله لموسى أيضًا: «ليكن هذا لك آيةً على
أني أرسلتُك.» وقد طلَب حزقيا
٦ من أشعيا
٧ آيةً تتنبَّأ بعودة صحَّتِه له، وهو يعلَم منذ مُدَّة طويلة أنَّ أشعيا
نَبي. فهذا يدلُّ على أنَّ الأنبياء كان لهم دائمًا آياتٌ تجعل لهم يَقينًا بالأشياء
التي يَتخيَّلونها بهبَةِ النبوة؛ لذلك نَبَّه موسى اليهود (انظر: التثنية، ١٨ الآية
الأخيرة)
٨ بأنَّ عليهم أن يَطلُبوا آيةً من النبي، أي مصير شيءٍ سيَحدُث في
المُستقبل. فالنُّبوَّة إذن، من هذا الوجه أقلُّ من المعرفة الطبيعية التي لا تحتاج إلى
آيةٍ ما، بل تتضمَّن بطبيعتها اليقين. والواقع أنَّ هذا اليقين النَّبوي لم يكُن يقينًا
رياضيًّا، بل كان يَقينًا خُلقيًّا فحسب،
٩ وهذا ما يؤيده الكتاب نفسه في التثنية (الإصحاح ١٣)
١٠ عندما يضع موسى هذا المبدأ وهو أنه إذا أراد نَبيٌّ ما أن يدعو إلى آلهةٍ
جديدة، فيجِب الحُكم عليه بالقتل حتى ولو أيَّدَ عقيدته بالآياتِ والمُعجزات، ذلك أنَّ
الله، كما يُضيف موسى، هو نفسه الذي يقوم بالآيات وبالمُعجزات ليمتحِنَ الشعب. وقد
حذَّر المسيح تلامِذَته على النحوِ نفسه كما ذكر متَّى (٢٤: ٢٤)،
١١ ويقول حزقيال بعبارة أوضح (١٤: ٩) إنَّ الله يخدَع البشر في بعض الأحيان
بوحيٍ كاذبٍ فيقول: «وإذا أغوى النبيُّ (نبيٌ كاذب) وتكلَّم بكلامٍ فأكون أنا الربُّ
قد
أغويتُ ذلك النبي.» ويُعطينا ميخا الشهادة نفسها (انظر: الملوك الأول، ٢١: ٢٢)
١٢ بصدد أنبياء أخآب.
١٣
وبالرغم مِمَّا قد يُثيره ذلك من شكٍّ قوي في النبوَّة وفي الوحي، فإنهما يَنطويان
على درجةٍ كبيرة من اليقين، كما قُلنا من قبل، لأنَّ الله لا يخدَع الأتقياء والأصفياء
مُطلقًا طبقًا للمَثَل القديم (انظر: صموئيل الأول، ٢٤: ١٤)،
١٤ وكما نرى في قصة أبيجائيل
١٥ وخطابه من استِعمال الله للأتقياء وسائلَ لتحقيق تقواه واستِعماله للفَجَرة
وسائل يَصبُّ عليها جام غضبه. وقد ثبَتَ هذا أيضًا بوضوحٍ تامٍّ بما حدَث لميخا كما
ذكرْنا الآن. فعندما شاء الله بالفعل أن يخدَع أخآب بأنبياء لم يَستخدِم لذلك إلَّا
أنبياء كذبة وأوحى للرجل التَّقيِّ بحقيقة الأمر، دون أن يَمنَعَهُ من التنبُّؤ
بالحقيقة. ومع ذلك فإن يَقينَ النبي، كما قلتُ، يقين خُلقي فحسب، لأنَّهُ لا يُمكن
لأيِّ فردٍ أن يُبرِّرَ نفسه أمام الله وأن يَدَّعي أنه وسيلةٌ لتحقيق تقواه، فهذا ما
يُؤيِّده الكتاب، بل هو أمرٌ واضِح بذاته. فقد أغوى غضب الله داود، الذي شَهِد له
الكتاب بالتقوى مئات المرات، على أن يُحصي الشعب.
١٦ إن اليقين النبوي كُلَّه يقوم على هذه الأُسُس الثلاثة:
ولكنه، نظرًا إلى أنَّ يقين الأنبياء، الذي يتولَّد عن آياتٍ مُعينة، لم يكن يقينًا
رياضيًّا، (أي إنه يترتَّب بالضرورة على إدراك الشيء المُحسِّ أو المرئي) بل كان يقينًا
خُلقيًّا فحسب، (ونظرًا إلى أنَّ الآيات، من جهةٍ أخرى، لم يكن مقصودًا منها سوى إقناع
الأنبياء)،
٢٠ فقد كانت هذه الآيات تتفاوَتُ تبعًا لآراء الأنبياء وقدراتهم، بحيث لا
يُمكن للآية التي تُعطي اليقين لهذا النبيِّ أن تُقنع آخَرَ مُشبَّعًا بآراءٍ مُختلفة؛
لذلك، اختلفت الآيات باختلاف الأنبياء، وكذلك اختلف الوحي — كما قُلنا من قبل — عند
كلِّ نَبيٍّ طبقًا لمِزاجه وخَياله، ووفقًا للآراء التي اعتنَقَها من قبل. وتحدُث فروق
المِزاج على النحو الآتي: إذا كان النبيُّ ذا مِزاجٍ مَرِحٍ تُوحى إليه الحوادث التي
تُعطي الناس الفرَحَ مِثل الانتصارات والسلام، وبالفعل نَجِد أنَّ من لهم مِثل هذا
المِزاج قد اعتادوا أن يتخيَّلوا أمورًا كهذه. وعلى العكس من ذلك، إذا كان النبيُّ ذا
مزاجٍ حزينٍ تُوحى إليه الشرور، كالحرب والعذاب. وإذا كان النبيُّ رحيمًا ألوفًا غضوبًا
قاسيًا … إلخ، كان قادرًا على تَلقِّي هذا الوحي أو ذاك. كذلك فإن فروق الخيال تكون على
النحو الآتي: إذا كان النبيُّ مُرهفًا فإنه يُدرِك فِكر الله ويُعبِّر عنه بأسلوبٍ
مُرهَفٍ أيضًا، وإذا كان مُهوَّشًا أدرَكَهُ مُهوَّشًا. ومِثلُ هذا يَصدُق على الوحي
الذي يَتمثَّل بالصورة المجازية: فإذا كان النبيُّ من أهل الريف كانت صورة الوحي
مُتضمِّنة للأبقار والجاموس، وإذا كان جُنديًّا تكون صورة قُوَّاد وجيش، وأخيرًا، إذا
كان رجُل بلاط، تَمثَّل له عرش ملك وما شابه ذلك. وأخيرًا، فهناك أيضًا فروق ترجِع إلى
اختلاف آراء الأنبياء، فقد أُوحي بولادة المسيح للمجوس الذين يعتقدون بخُرافات التنجيم
(انظر: متى، الإصحاح ٢)،
٢١ حِين رأوا نجمًا يتألَّق في الشرق، كما أوحي لعرَّافات نبوخذ نصر في أمعاء
الضحايا (انظر: حزقيال، ٢١: ٢٦)
٢٢ بهدْم بيتِ المقدِس الذي عرَفه الملك نفسه أيضًا بالتكهُّنات وباتِّجاه
الأسهُم التي قذَفَها عاليًا في الهواء. وقد تكشَّف الله للأنبياء الذين يعتقدون بأنَّ
أفعال الناس تَتمُّ باختيارٍ حُرٍّ وبِقُدرة ذاتية، كما لو كان غير عابئ، ويجهل أفعال
البشَرِ المُستقبلة. وسنُبرهِن على كلِّ هذه النقاط واحدةً واحدةً من خلال الكتاب
المُقدَّس.
فالبُرهان على النقطة الأولى يتَّضِح في مثل أليشاع (انظر: الملوك الثاني، ٣: ١٥)
٢٣ وعندما طلب آلة موسيقية ليتنبَّأ ليُورام،
٢٤ ولم يستطِع أن يُدرِك فِكر الله قبل أن يَطرَب بموسيقى هذه الآلة، حينئذٍ
فقط تنبَّأ ليُورام ولرفاقه بتنبُّوءاتٍ سعيدة لم يتنبَّأ بها من قبل؛ لأنه كان غاضبًا
على الملك، ذلك أنَّ المرء عندما يكون غاضبًا على أحدٍ فإنه يستطيع أن يتخيَّل عنه
شرورًا، لا خيرات. وعلى ذلك، فعندما يَدَّعي البعض أنَّ الله لا يكشف عن نفسه لمن
يَنتابُه الغضب والحُزن، فإنهم يَحلُمون؛ لأن الله أوحى لموسى وهو غاضِبٌ على فرعون
المذبحة الرهيبة للأطفال حديثي الولادة (انظر: الخروج، ١١: ٨)،
٢٥ وذلك دُون استخدام أيَّةِ أداة. كذلك كشف الله عن نفسه لقابيل
٢٦ وهو غاضب، وأوحى إلى حزقيال، وهو في حالة نفاد الصبر من الغضب، لشقاء
اليهود وعصيانهم (انظر: حزقيال، ٣: ١٤)،
٢٧ وحين كان إرميا غارقًا في أحزانه، وأصبح
فريسةً للسَّأَم الشديد من الحياة، تنبَّأ بالمصائب التي ستحلُّ على اليهود، حتى إنَّ
يوشيا
٢٨ لم يرغب في سؤاله بل توجَّه إلى امرأةٍ من هذا الزمان رآها أكثرَ
استعدادًا، بفضل طبيعتها الأُنثويَّة، على كشف رحمة الله له (انظر أخبار الأيام الثاني،
الإصحاح ٣٤)،
٢٩ ولم يتنبأ ميخا لأخآب بأيِّ خَير مُطلقًا مع أنَّ كثيرًا من الأنبياء
الصادقين قد تنبَّأوا به (كما سنرى في سفر الملوك، الإصحاح ٢٠)،
٣٠ بل تنبَّأ له طيلة حياته بالشرور (انظر الملوك الأول، ٢٢: ٨، وبصورةٍ أوضح
في أخبار الأيام، ١٨: ٧).
٣١ كان الأنبياء إذن قادرين، كلٌّ حسب
تكوينه الجسمي، على قَبول هذا الوحي أو ذاك. كذلك اختلَفَ أسلوب كلِّ نبيٍّ عن الآخر
حسب قُدرته البلاغية، فلم تُكتَب نبوَّات حزقيال وعاموس بأسلوب رشيق كنُبوَّات أشعيا
ونحوم، بل كُتبَت بأسلوب أكثر خشونة. وإذا أراد أحد علماء اللغة العبرية دراسة أوجه
الاختلاف هذه بشيءٍ من التفصيل فعليه أن يُقارن بين بعض الإصحاحات في أسفار الأنبياء
المُتعلِّقة بالموضوع نفسه، وسَيَجِد اختلافًا كبيرًا في الأسلوب. لِيُقارن مثلًا
الإصحاح الأول من أشعيا رجل البلاط (١١–٢٠) مع الإصحاح الخامس من عاموس الريفي (٢١–٢٤)،
٣٢ وليُقارن بعد ذلك الترتيب الذي اتبعه إرميا والطُّرق التي نهَجَها لكتابة
نُبوَّته ضِدَّ أدوم (الإصحاح ٤٩) مع ترتيب وطرق عوبديا،
٣٣ وليُقارن أشعيا (٤٠: ١٩-٢٠، ٤٤: ٨ وما بعدها) مع هوشع (٨: ٦، ١٣: ٢)
٣٤ وهكذا الحال مع الباقين. وسيُبيِّن الفحص الدقيق بسهولةٍ أنَّ الله في
خطابِهِ لم يكن له أسلوبٌ يتميَّز به، بل كان الأسلوب يتوقَّف على بلاغته وإيجازه
وقُوَّته وخشونته وإطنابه وغموضه على ثقافة الأنبياء وقُدراتهم.
وتختَلِف تَمثُّلات الأنبياء وتَهيُّؤاتهم الغامضة فيما بينها مع أنَّ لها الدلالة
نفسها، فقد تَمثَّل أشعيا عظمةَ الله وهو يهجُر المعبَدَ على غَير ما تَمثَّله حزقيال.
على أنَّ الأحبار يُريدون التوحيد بين هذَين التَّمثُّلين، مع فرقٍ يسير هو أنَّ حزقيال
قد دُهِشَ لجلافتِهِ دهشةً فائقة؛ ولذلك رَوى كُلَّ مُلابسات رُؤيته. على أنه إذا لم
يكن لدى الأحبار رواية مُؤكَّدة في هذا الموضوع، وهذا ما لا أعتقِده، فإنَّ أقوالهم هذه
لا بُدَّ أن تكون اختلافًا منهم؛ لأنَّ أشعيا رأى مجموعة من السرافين بأجنحةٍ سِتَّة
في
حين رأى حزقيال وُحوشًا بأجنحة أربعة.
٣٥ ورأى أشعيا الله مُتلحِفًا جالسًا على عرش ملكي، ورآه حزقيال نارًا، ولا
شكَّ أن كليهما قد تَمثَّله كما اعتاد أن يتخيَّله. وكذلك تختلف التَّمثُّلات فيما
بينها، لا في طبيعتها فحسب، بل أيضًا في وضوحها، فقد كانت تمثُّلات زكريا غامضة إلى
حدٍّ أنه لم يستطع هو ذاته أن يفهمها دون شرْح، كما يحكي في روايته. أما تمثُّلات
دانيال فإن النبيَّ نفسه لم يستطع فهمها حتى بعد شرحها، ولم يحدُث ذلك لصعوبة الشيء
المُوحى به (إذ إنَّ ذلك الوحي لم يكُن إلَّا أمرًا من الأمور الإنسانية التي لا تتجاوز
حدود القُدرة البشرية إلَّا من حيث إخبارها بالمُستقبل)، بل لأنَّ خيال دانيال لم يكُن
يتمتَّع بالقوة النبوية نفسها في يَقظتِهِ وفي نومه. ويَتَّضح ذلك من فَزَعِه منذُ
بداية الوَحي حتَّى أوشكَ أن يفقِدَ الأمل في قُدراته، فتمثَّل الأشياء في غموضٍ شديدٍ
لضَعف خَياله ونقْص قُواه، ولم يستطع أن يكوِّن عنها فكرة واضحة حتى بعد شرحها له.
ويَجِب أن نذكُر هنا أن الكلمات التي سمعها دانيال كانت من صُنع الخيال فقط (كما
بَيَّنا من قبل)، فلا عجَبَ إذن وهو في لحظةِ اضطرابه هذه أن يتخيَّل هذه الكلمات
بغموضٍ واضطرابٍ بلغا من الشِّدَّة حدًّا لم يستطِع معه أن يكوِّن عنها فكرةً واضحة.
أما من يقولون: إن الله لم يشأ أن يُقدِّم إلى دانيال وحيًا واضحًا بهذا الأمر، فإنهم
فيما يبدو لم يَقرءوا كلمات الملاك الذي يقول صراحةً (انظر ١٠: ١٤): «ثم أتيتُ لأُبيِّن
لك ما يحدُث لشعبك في الأيام الأخيرة». وهكذا ظلَّت هذه الأشياء غامضة لأنَّ أحدًا في
ذلك الوقت لم تكُن له من قُوَّة الخيال ما يسمح بأن تتكشَّف له هذه الأشياء بوضوح.
وأخيرًا، فإن الأنبياء الذين أُوحيَ إليهم أن الله قد رفع إيليا، أرادوا إقناع أليشاع
بأن إيليا قد نُقِل إلى مكانٍ آخَر يُمكنهم العثور عليه فيه، وهذا يدلُّ بوضوحٍ على
أنهم لم يَفهموا جيدًا وَحي الله. ولا نحتاج هنا إلى الإسهاب في ذلك، والحقُّ أنه، لو
كان هناك شيءٌ واضح في الكتاب، لكان ذلك دليلًا على أنَّ الله قد أعطى مِن نعمة النبوة
هذا النبيَّ أكثرَ مِمَّا أعطاه ذاك، ولكني سَأُثبِتُ على العكس من ذلك تمامًا، وبمزيدٍ
من العناية والإسهاب، أن النبوَّات أو التَّمثُّلات كانت تختلف باختلاف آراء الأنبياء،
وكذلك سأُثبِتُ أن آراء الأنبياء فيما بينهم كانت تختلِف، بل وتتعارَض، وكذلك الحالُ
في
أحكامهم المُسبَقة (ويحدُث ذلك في الأمور النظرية فحسب، أمَّا بالنسبة إلى الأمانة
وحُسن الأخلاق فلا بُدَّ من الحُكم على الأمر بطريقة أخرى). وإنَّني لأُصِرُّ على ما
أقول لاعتقادي بالأهمية البالغة لهذا الموضوع. وسأنتهي من ذلك، إلى أن النبوَّةَ لم
تجعل الأنبياء أكثرَ علمًا، بل تركتْهُم على آرائهم التي كوَّنوها سلفًا، ومِن ثَمَّ
نكون في حِلٍّ من تصديقهم فيما يتعلَّق بالأمور النظرية الخالصة.
لقد تسرَّع الجميع بصورةٍ تدعو إلى الدهشة في الاقتناع بأنَّ الأنبياء قد عرَفوا
كلَّ
ما يستطيع الذِّهن الإنساني أن يُحيط به، ومع أن بعض نصوص الكتاب تُخبرنا بوضوحٍ تامٍّ
بأن بعض الأنبياء قد جهلوا بعض الأشياء، فإنَّ الناس يُفضِّلون أن يُصرِّحوا بأنهم لا
يفهمون هذه النصوص، على أن يُسلِّموا بأن الأنبياء قد جهِلوا شيئًا ما، أو هم يتعسَّفون
في تأويل نصِّ الكتاب لكي يَخرُجوا منه بما لم يَقُله النصُّ صراحةً. ولا شكَّ أن
استباحة مثل هذه الحرية تَعني القضاء على الكِتاب المُقدَّس قضاءً مُبرمًا. فلن ينجح
أحدٌ في البرهنة على شيءٍ بالكتاب إذا ما سمح لنفسه بوضع النصوص الواضحة في عداد
الأشياء الغامِضة التي تَستعصي على الفَهم أو بتفسيرها حسب هواه. فمثلًا، ليس في الكتاب
ما هو أوضَحُ من هذه الواقعة: اعتقد يشوع، وربما اعتقَدَ معه أيضًا كاتِب قصَّتِه
بدَوَران الشمس حول الأرض، وبثَباتِ الأرض، وبتوقُّف الشمس بعض الوقت. ومع ذلك فنظرًا
إلى أنَّ كثيرًا من الناس لا يُريدون التسليم بوقوع أيِّ تَغيُّر في السموات والأرض،
فإنهم يُفسِّرون النصَّ بحيث يبدو وكأنه لم يُشِر مُطلقًا إلى مِثل هذا المعنى. وهناك
آخرون، وهم الذين تعوَّدوا على التفلسُف بطريقةٍ أصح، يعلمون أنَّ الأرض تتحرَّك، وأن
الشمس ثابتة، وهؤلاء يبذلون جهودًا يائسةً من أجل استخلاص هذه الحقيقة من الكتاب
بالرَّغم من وضوح معانيه. والحقُّ إنِّي لَمُعجَب بهم!
٣٦ وأتساءل: هل نحن مُلزَمون بأن نعتقِد بأنَّ يشوع الجندي كان ضليعًا في عِلم
الفك؟ هل نحن مُلزَمون بأن نعتقِد باستحالة كشْف التنبُّؤات له أو ببقاء ضوء الشمس في
الأُفُق أكثر من المُعتاد دون أن يعلم يشوع عِلَّة هذه الظاهرة؟ في رأيي أنَّ كِلا
التفسيرَين ساذج، والأفضل أن أقول صراحةً إنَّ يشوع قد جَهِل علَّةَ بقاء الضوء، وإنه
اعتقد مع جمهور الحاضرين بِدَوَران الشمس حول الأرض، وبأنها توقَّفَتْ في هذا اليوم بعض
الوقت، ولم يلحَظْ أنَّ كمية الثلج الضخمة التي كانت عندئذٍ مُعلَّقة بالهواء (انظر:
يشوع، ١٠: ١١)،
٣٧ أو أية عِلَّةٍ أُخرى مُشابهة، لا نَودُّ أن نبحث عنها، قد تكون هي السبب
في حدوث انعكاسٍ غير عاديٍّ للضوء. وكذلك كُشِف لأشعيا تَراجُع الظلِّ على مستوى
فَهْمِه بتراجُع الشمس لأنَّه كان يعتقد أيضًا بأن الشَّمس تتحرَّك، وبأن الأرض ثابتة،
ولم يخطُر على باله حتى في المنام فِكرة الطيف.
٣٨ ونستطيع أن نُسلِّم بذلك دون أدنى تخوُّف، إذا كان من المُمكن أن تظهر هذه
الآية بالفعل، وأن يتنبَّأ بها أشعيا للملك، على الرغم من جهل النبي بعِلَّتِها. ويجِب
أيضًا أن نقول الشيءَ نفسه بشأن تشييد هيكل سيلمان، هذا إذا كان الله قد أوحى له به.
وبعبارة أخرى، لقد أُوحيَت كلُّ المقاييس إلى سُليمان بوسائل على مُستوى فَهْمِه وطبقًا
لآرائه؛ ذلك لأنه، نظرًا إلى أننا غير مُلزَمين بالاعتقاد بأنَّ سليمان كان رياضيًّا،
فمن حقِّنا أن نؤكِّد أنه كان يجهَلُ نِسبة مُحيط الدائرة إلى قُطرها، وكان يظنُّ مع
جمهرة العُمَّال أنها نسبة ٣ إلى ١، فإذا قيل إنَّنا لم نفهم نصَّ سِفر الملوك (٧: ٢٣)
٣٩ فإني لا أعلم، في الحق، ماذا يُمكننا أن نفهم من الكتاب؛ ذلك لأنَّ ما ورَد
في هذا الموضع كان مُجرَّد وصفٍ للبناء، وعلى نحوٍ تاريخي مَحْض. أمَّا إذا اعتقَدَ
أحدٌ أنه يستطيع افتراضَ قصْدٍ آخر للكِتاب لم يُصرَّح به لسبب نجهله، فإنَّ هذا أمرٌ
لا يترتَّب عليه أقلُّ من أن نقلِبَ الكتاب بأسره رأسًا على عقب؛ إذ يَحقُّ لكلِّ فردٍ
أن يفعل هذا الشيء نفسه مع نصوص الكتاب كُلها، ويتَّخِذ الكتاب المُقدَّس عندئذٍ ستارًا
يُبيح للمرء أن يؤكد، ويضع موضع التنفيذ كلَّ ما يستطيع خُبث الإنسان أن يَبتدِعَه من
بُطلان وشر،
٤٠ ومن ناحية أخرى، فإنَّ ما نُسلِّم به الآن لا يتضمَّن أي كفر؛ ذلك لأنَّ
سليمان وأشعيا ويشوع ليسوا أنبياء فحسب، بل بَشَر أيضًا، يَصدُق عليهم ما يَصدُق على
البشر. فقد أوحي إلى نوح، بطريقةٍ على مستوى فَهْمه، بأنَّ الله سيُهلِك الجنس البشري.
الواقع أنَّ نوحًا كان يَعتقِد أنَّ العالم كله، باستثناء فلسطين، لم يكُن مسكونًا، ولم
يجهل الأنبياء مِثل هذه الأشياء فحسْب، بل جَهِلوا أيضًا أشياء أخرى كثيرةً أكثر أهمية،
ولا يَنقُص جهلهم هذا من تقواهم شيئًا لأنهم لم يقولوا شيئًا خاصًّا يتعلَّق بصفات
الله، بل كانت آراؤهم عنه هي بِعَينها الآراء المُتداولة، وكان الوحي الذي هبط عليهم
مُتناسبًا مع آرائهم كما سأُبيِّن بعدَ قليلٍ بنصوصٍ كثيرة من الكتاب. وهكذا نرى بوضوحٍ
أنَّ ما نالَهُ الأنبياء من ثناءٍ وتقدير عظيمَين لا يرجِع إلى مزايا رُوحية عالية بل
إلى تقواهم ورسوخ إيمانهم.
٤١
وقد كان آدم — وهو أول من كشف له الله عن نفسه — يجهل أنَّ الله حاضِر في كلِّ مكانٍ
وأنه بكلِّ شيءٍ عليم، فقد أخفى نفسه بالفعل عن الله، وحاول في حضوره الاعتذار عن
خطيئته وكأنَّهُ أمام إنسانٍ مِثله. وإذن فقد كان كشْف الله له عن نفسه بطريقةٍ على
مُستوى فَهمِه، أعني كموجودٍ لا يُوجَد في كلِّ مكانٍ في الوقت نفسه، ويجهل خطيئة آدم
والمكان الذي يُوجَد فيه. لقد سَمِع آدم بالفعل أو ظنَّ أنه سَمِع الله سائرًا في
الحديقة، وظنَّ أنَّ الله ناداه وسأله عن مكانه، وأن الله، بعد أن لحظَ اضطرابه، سأله
إنْ كان قد أكلَ الفاكهة من الشجرة المُحرَّمة، فآدم لم يعلم من صفات الله إلَّا أنه
خالق كلِّ شيء،
٤٢ كذلك كشَفَ الله عن نفسه على مُستوى فهم قابيل كموجودٍ يجهَلُ أمور البشر،
ولم يكن قابيل في حاجةٍ إلى معرفةٍ أسمى بالله كيما يَتوب عن خطيئته. وقد كشف الله عن
نفسه للابان
٤٣ على أنَّهُ إله إبراهيم، لاعتقاد لابان بأن لكلِّ أمَّةٍ إلهًا خاصًّا
(انظر: التكوين، ٣١: ٢٩)
٤٤ وقد كان إبراهيم بدَوره يجهَل أن الله
موجود في كلِّ مكانٍ وأنه عليم بكلِّ شيء، فعندما سَمِع الحُكم الذي صدَرَ ضِدَّ سُكان
سدوم
٤٥ توسَّل إلى الله ألَّا يُنفذ حُكمه حتى يتأكَّد من أن جميعهم يَستحقُّون
هذا العذاب، وهكذا قال: (انظر: التكوين، ١٨: ٢٤) (رُبما) إنْ وُجِد خمسون بارًّا في
المدينة. ولم يكشف الله له عن نفسه بطريقةٍ أخرى، إذ إنَّهُ تحدَّث من خلال خيال
إبراهيم على النحو الآتي: «أنزل وأرى هل فعلوا طبقَ صُراخها البالِغ إليَّ وإلَّا
فاعلم.» (التكوين، ١٨: ٢١). أما الشهادة الإلهية لإبراهيم (انظر: التكوين، ١٨: ١٩)،
٤٦ فلا تدلُّ إلَّا على طاعتِهِ وتربيته أهل
بيتِهِ على العدْل والخير، ولا تدلُّ على أنَّ لدَيهِ عن الله أفكارًا سامية. كذلك لم
يُدرِك مُوسى بما فيه الكفاية أنَّ الله عالِمٌ بكلِّ شيءٍ وأنَّ مشيئتَهُ وحدَها هي
المُوجِّهة لأفعال البَشَر كلِّها، فعندما قال له الله (انظر: الخروج، ٣٥: ١٨):
٤٧ إن الإسرائيليين سيُطيعونه شكَّ في الأمر وأجاب قائلًا (انظر الخروج،
٤: ١): «إنهم لا يُصدِّقونَني ولا يَسمعون لقولي.» وهكذا كشَف الله له عن نفسه كأنَّهُ
لا يكتَرِث بشيءٍ ويُمهِل أفعالَ البشر المُستقبلة. والواقع أنَّ الله أعطاه آيتَين
قائلًا (الخروج، ٤: ٨): «فيكونُ إذا لم يَصدِّقُوك
ولم يَسْمعوا لصوتِ الآية الأولى، أنَّهم يُصدِّقون صوتَ الآيةِ الأخيرة، وإنْ لم
يُصدِّقوا هاتَين الآيتين ولم يسمعوا لقولك فخُذ من ماء النهر … إلخ.» ومن المؤكد أننا
إذا أردنا أن نفسر عبارات موسى دون فكرة مُسبقة لا يَتَّضِح لنا تمامًا أنه يتصوَّر
الله موجودًا على الدَّوام في الماضي والحاضر والمستقبل؛ ولذلك يُسمِّيه يهوه، وهي
كلِمَة تدلُّ في العبرية على أصول الزمان الثلاثة هذه.
٤٨ ولم يذكُر موسى شيئًا عن طبيعة الله سوى أنه رحيم لطيف … إلخ،
وغيور جدًّا، كما يَتَّضِح في نصوصٍ عديدة من
الأسفار الخمسة. ثانيًا لقد اعتقد وأعلنَ أنَّ هذا الموجود مُختلِف عن سائر المَوجودات
إلى حدِّ أنه لا يُمكن التعبير عنه بأيَّةِ صورة أو شيءٍ حسِّي بعيدٍ عن الأبصار؛ لضعف
الإنسان لا لتناقُضٍ تنطوي عليه مثل هذه الرؤيا. أما فيما يتعلَّق بالقُدرة فإنه
تَصوَّر الله فردًا واحدًا، ويُسلِّم موسى بوجود موجودات تحلُّ محلَّ الله (ويحدُث ذلك
بلا شكٍّ بأمرٍ من الله وبتفويضٍ منه) أي بموجودات أعطاها الله السُّلطة والحقَّ
والقدرة لإرشاد الأُمَم ولحِمايتها والمُحافظة عليها. ولكنه نادى بأنَّ هذا الموجود
الذي وجب على اليهود عبادَتُه هوَ الإله المُهيمِن الأعلى. وبعبارةٍ أُخرى، (أي بتعبيرٍ
عبري) فهو إله الآلهة؛ لذلك يقول في نشيد الخروج (١٥: ١١): «من مثلك في الآلهة يا رب.»
ويقول يترو
٤٩ (١٨: ١١): «الآن علمت أن الرب عظيم فوق جميع الآلهة.» أي أنَّني يجِب أن
أُسَلِّم مع موسى بأن يَهوه أكبر الآلهة جميعًا، وله قُدرة لا نظير لها، ومع ذلك، فهل
اعتقد موسى أنَّ الله خلق هذه الموجودات التي تقوم مكانه؟
٥٠ يحقُّ لنا أن نَشُكَّ في ذلك لأنه — على ما نعلم — لم يَقُل شيئًا يتعلَّق
بخلقِها ونشأتها. ثالثًا، نادى موسى بأنَّ هذا الموجود قد أخرج هذا العالم المرئي من
العَماء وأقام فيه النظام (انظر: التكوين، ١: ٢)
٥١ ووضع في الطبيعة بذور الأشياء وبذلك يكون له على الأشياء جميعًا حقٌّ
مُطلَق وسيطرة كاملة. وباستعماله لهذا الحقِّ ولهذه القُدرة اصطفى الأُمَّة العبرانية
(انظر: التثنية، ١٠: ١٤-١٥، ٣٢: ٨-٩)
٥٢ وترك الأمم الأخرى وسائر أقطار الأرض في رعاية الآلهة الأخرى التي حلَّ
محلَّها، ومن هنا سُمِّي بإله إسرائيل وإله أورشليم (انظر: أخبار الأيام الثاني ٣٢: ١٩)
٥٣ بينما سُمِّيت سائر الآلهة آلهةَ الأُمم الأخرى؛ ولهذا السبب ذاته اعتقد
اليهود أن هذا الإقليم الذي اختاره الله يحتاج إلى عبادة خاصَّة مُختلفة عن عبادة
الأقطار الأخرى، بل إنه لا يُمكنه تَحمُّل عبادة الآلهة الأخرى، الخاصَّة ببقية
الأقاليم. وكان الاعتقاد السائد هو أنَّ الأُسُود ستُمزِّق الشعوب التي قادَها ملك آشور
في أراضي العبرانيين؛ لأنها تجهل عبادة آلهة هذه الأرض (انظر: الملوك الثاني، ١٧:
٢٥-٢٦، وما بعدهما)؛
٥٤ ولذلك، طلب يعقوب من أبنائه عندما أراد الرجوع إلى وطنه، كما يرى أبو عزرا،
٥٥ أن يستعدُّوا لعبادةٍ جديدة وأن يتركوا الآلهة الأجنبية أي آلهة الأرض التي
كانوا عليها آنذاك (انظر: التكوين، ٣٥: ٢-٣)،
٥٦ وكذلك عندما أراد داود أن يُبيِّن لشاءول،
٥٧ أنَّ هذا الملك أجبَرَه على أن يعيش خارج وطنه هربًا من اضطهاده له قال:
إنه استبعد من مِيراث الله، وإنه أُرسِل لخدمة آلهة أخرى (انظر صموئيل الأول، ٢: ١٩).
٥٨ وأخيرًا، اعتقد موسى أنَّ هذا الموجود،
أي الله، يقطُن السموات (انظر التثنية، ٣٣: ٢٧)،
٥٩ وكانت هذه الفكرة مُنتشرة على أوسع نطاقٍ
بين غير اليهود.
٦٠ فإذا ما تأمَّلنا الوحي الذي هبَطَ على موسى نَجِد أنه قد تكيَّف حسب
آرائه. وما كان يعتقِد حقيقةً أنَّ طبيعة الله تخضَعُ لهذه الشروط التي تَحدَّثنا عنها،
أعني الرحمة واللطف … إلخ. فقد كشف الله له عن نفسه طبقًا لهذا الاعتقاد، وبهذه
الصِّفات (انظر: الخروج، ٣٤: ٦-٧)،
٦١ ويَروي النصُّ كيف ظهر الله لموسى، وكذلك الوصايا العشر (٢٠: ٤-٥)،
٦٢ ويُروى أيضًا في الإصحاح ٣٣، الآية ١٨،
٦٣ إن موسى طلَب من الله أن يُريه نفسه، ولكن لما كان موسى — كما قُلنا — لم
يكوِّن في مُخيِّلته أية صورة لله، ولمَّا كان الله — كما أثبتنا من قبل — لم يكشف عن
نفسه للأنبياء إلَّا حسْب استعداد خَيالهم؛ لذلك لم يظهَر الله لموسى في أية صورة.
وأقول: إنَّ الأمر كان على هذا النحوِ لأنَّ خيال موسى كان يمنع من حدوثه على أيِّ نحوٍ
آخر.
٦٤ ولكن هناك أنبياء آخرين شهدوا بأنهم قد رأوا الله حقيقة، مثل أشعيا وحزقيال
ودانيال … إلخ؛ لذلك ردَّ الله على موسى قائلًا: «لن تستطيع أن ترى وجهي.» ولمَّا كان
موسى يعتقد بإمكان رؤية الله، أي إنَّه لم يَرَ أي تناقُض بين طبيعة الله وإمكان رؤيته،
وإلَّا لَمَا طلَب رؤيته، فقد أضاف الله قائلًا: «لأنَّهُ لا يمكن لأحدٍ أن يراني
ويظلَّ حيًّا.» وبذلك أعطى الله سببًا مُتَّفقًا مع رأي موسى، فلم يقُل: إن هناك
تناقُضًا — كما هو موجود بالفعل — بين الطبيعة
الإلهية وإمكان الرؤية، بل قال: لا يُمكن للإنسان أن يرى الله بسبب ضَعف الإنسان. كذلك
قال الله لموسى لكي يُوحي إليه بأن الإسرائيليين بعبادتهم العِجل أصبَحوا مِثل باقي
الأمم (٣٣: ٢-٣)،
٦٥ إنه سيرسل ملاكًا، أي موجودًا يرعى الإسرائيليين بدلًا من الموجود الأعظم؛
لأنَّ الله لا يريد أن يكون بينهم بعد الموت؛ وعلى هذا النحو لم يعُد هناك ما يدعو موسى
إلى الاعتقاد بأن الله أحبَّ اليهود أكثر مما أحبَّ الأمم الأخرى التي تركَها الله
أيضًا في رعاية موجودات أخرى، أي في رعاية ملائكة. وهذا ما تؤكده الآية ١٦ من الإصحاح.
٦٦ وأخيرًا، فلمَّا كان موسى يعتقد أنَّ الله يقطُن السموات، فإنَّ الله قد
تكشَّف له هابطًا من السماء على الجبل، وفي مُقابل ذلك صعد موسى إلى أعلى الجبل
ليتحدَّث مع الله، وهو ما لم يكن في حاجةٍ إلى أن يفعله لو استطاع أن يتصوَّر الله
موجودًا بالسهولة في كلِّ مكان.
ومع أن الله كشف عن نفسه لموسى فإن
الإسرائيليين لم يعلموا عنه شيئًا يُذكر. وقد ظهر ذلك بوضوحٍ عندما عظَّموا العِجل
وعبدوه بعد بضعة أيام، مُعتقدين أنَّ العِجل هو هذه الآلهة التي أخرجتهم من مصر. إنَّ
من الواجب قطعًا ألَّا نعتقِد أن أناسًا غارقين في خُرافات المصريين، أعني أناسًا
أجلافًا أنهكهم شقاء العبودية، قد عرَفوا الله معرفةً صحيحة، أو أنَّ موسى قد علمهم
شيئًا أكثر من قواعد السلوك في الحياة، ولم يُعلمهم ذلك كفيلسوف، بحيث يستطيعون أن
يَحيَوا سُعداء بفضل تمتُّعهم بالحرية الكاملة، بل علَّمَهم ذلك كمشروع بحيث تدفعهم
طاعة أوامر الشريعة إلى مِثل هذه الحياة. وهكذا، فإنَّ قاعدة السلوك التي تؤدِّي إلى
الحياة السعيدة، أي إلى الحياة الحقَّة، وإلى حبِّ الله وعبادته؛ كانت بالنسبة إليهم
عبودية لا حُريَّة حقيقية، أي نعمة وفضلًا إلهيًّا. لقد أمرهم موسى بحبِّ الله وبتطبيق
شريعته ليتعرَّفوا على النِّعم التي وهبهم الله إيَّاها من قبل (أي الحريَّة من بعد
عبوديَّتِهم في مصر … إلخ)، كما هدَّدهم بأشدِّ العقاب إذا عصَوا هذه الأوامر ووعدَهم
بأحسن الجزاء إذا هُم أطاعوها. وهكذا علَّم موسى العبرانيِّين كما يُعلِّم الآباء
الأطفال الذين لا عقلَ لهم على الإطلاق؛ ولذلك، فإنَّ من المؤكد أنهم جهِلوا تمامًا
سُموَّ الفضيلة والسعادة الحقة.
٦٧ وقد ظن يونس
٦٨ أنه قد تنصَّل من حضور الله، وهذا يدلُّ — فيما يبدو — على أنه اعتقد أيضًا
أنَّ الله قد نقل رعاية المناطق الأخرى خارج يهودا إلى قوى أخرى تحلُّ محلَّه. ولا نرى
في العهد القديم من تحدَّث عن الله بطريقةٍ عقلية إلَّا سُليمان الذي استطاع بالنُّور
الفطري أن يتفوَّق على عصره كله؛ ولذلك رأى نفسه أسمى من الشريعة (لأن الشريعة وُضِعت
للذين لا يتمتَّعون بالعقل وبتعاليم النُّور الفطري) ولم يعبأ بكلِّ القوانين الخاصَّة
بالملك، والتي تتكوَّن من ثلاث مجموعاتٍ رئيسة، إلَّا في حالاتٍ قليلة (انظر: التثنية،
١٧: ١٦-١٧)
٦٩ بل خرقَها علنًا، وإن كان مُخطئًا في ذلك، ولم يكن سلوكه سلوك فيلسوف جدير
بهذا الاسم لسَعيه وراء اللذَّات، وقد نادى بأنَّ كلَّ الخيرات التي تَجلُبها الثروة
هي
أمور زائلة عند الفانين (انظر: الجامعة) وأن الذهن أعظم ما لدى البشر، وأنَّ ضياع العقل
أشدُّ عذابٍ يُمكن أن يُصيبَهم (انظر: الأمثال، ١٦: ٢٢).
٧٠ ولكن لنعُد الآن إلى الأنبياء لنتحدَّث
طبقًا للخُطة التي وضعناها عن اختلافهم في الآراء. لقد بدَتْ أفكار حزقيال للأحبار
الذين نقلوا لنا كُتب الأنبياء (أو ما بقي منها) مُناقضة لأفكار موسى (انظر الرواية في
رسالة السبت، الإصحاح ٢١، ورقة ٣٣، ص٢)
٧١ إلى حدِّ أنهم كانوا على استعدادٍ لأن يُقرِّروا استبعاد سِفر حزقيال من
بين الكتب المُقنَّنة، وكادوا يَستبعدونه تمامًا لولا أنه أتى شخص يدعى حنينيا
٧٢ في شرحه وأتمَّ ذلك بعد عناءٍ وجُهد كبير (كما تروي رسالة السبت) ولكن كيف
فسره؟ هذا ما لا يعرفه أحد على وجه التحديد، فهل كتَب شرحًا ثم ضاع، أم أنه غيَّر كلمات
حزقيال وصحَّح خُطَبه كما تراءى له (ولم تكن تنقُصُه الشجاعة لذلك)؟ مهما يكن من شيء
فإن الإصحاح ١٨ لا يبدو مُتفقًا مع الآية ٧ من الإصحاح ٢٤ من سفر الخروج، ولا مع الآية
١٨ من الإصحاح ٣٢ من إرميا … إلخ.
٧٣ لقد اعتقد صموئيل أنَّ الله لا يتراجَع أبدًا عمَّا يُقرِّره بعد أن
يُقرِّره بالفعل (انظر صموئيل الأول، ١٥: ٢٩)؛
٧٤ لذلك قال لشاءول بعد أن تاب من خطيئته، وأراد أن يعبُد الله ويطلُب منه
النعمة، إنَّ الله لا يُغيِّر حُكمًا أصدَرَه ضدَّه. أما إرميا فقد أُوحِيَ إليه عكس
ذلك تمامًا (انظر ١٨: ٨–١٠)
٧٥ فقد يتراجَع الله عن حُكمه، سواء أكان هذا الحكم حسنًا أم سيئًا بالنسبة
لأمَّةٍ ما، إذا ما تغيَّر الناس بعد الحُكم إلى أحسَن أو إلى أسوأ. وكان يوئيل
٧٦ يعتقِد أنَّ الله يتوب عن الشر فقط (٢: ١٣).
٧٧ وأخيرًا، يظهر بوضوحٍ تام من الإصحاح ٤ من سفر التكوين، الآية ٧
٧٨ أنَّ باستطاعة الإنسان ألَّا يَستسلِم لغواية الخطيئة، وأن يسلك سلوكًا
حسنًا. وقد قيل ذلك لقابيل الذي استسلم لها مع ذلك، وهذا ما نقرؤه في الكتاب نفسه وفي
تاريخ يوسف،
٧٩ وتظهر هذه الفكرة نفسها بأعظمِ قدْرٍ مِن الوضوح في الإصحاح المذكور آنفًا
في إرميا، إذ يقول: إنَّ الله يرجِع عن حُكمه الذي أصدره ضدَّ البشر أو في صالحهم إذا
ما أراد البشر تغيير سلوكهم وطريقتهم في الحياة. وعلى العكس، دعا بولس صراحةً إلى
الاعتقاد بأن البشر لا قُدرة لهم على مقاومة غواية الجسد إلَّا برسالةٍ فريدة بفضلٍ من
الله. انظر رسالته إلى أهل رومية، الإصحاح ٩ ابتداءً من الآية ١٠
وما بعدها، ولاحظ أنه في الإصحاح ٣، الآية ٥، وفي
الإصحاح ٦، الآية ١٩،
٨٠ حيث يَنسِب إلى الله صفة العدل، يَستغفِر لأنه تحدَّث كما يتحدَّث البشر
نظرًا لضعف الجسد.
هذا يكفي لإثبات ما أردْنا البرهنة عليه وهو أنَّ الوحي الذي أرسله الله كان يتغيَّر
وفقًا لفهم الأنبياء وآرائهم،
٨١ وأن الأنبياء كان يُمكن أن يَجهلوا، بل وجَهِلوا بالفعل، تلك الموضوعات
النظرية الخالِصة التي لا تتعلَّق بالإحسان وبالحياة العملية. وأخيرًا إنَّ آراء
الأنبياء كانت مُتعارِضة فيما بينها؛ لذلك، فلا جدوى على الإطلاق من أن نلتمس لدَيهم
معرفة بالأشياء الطبيعية والرُّوحية. والنتيجة التي ننتهي إليها إذن، هي أننا لَسْنا
مُلزَمين بالإيمان بالأنبياء إلَّا فيما يتعلَّق بغاية الوحي وجوهره، أما فيما عدا ذلك
فيستطيع كلُّ فردٍ أن يُؤمِن بما يشاء بحُريَّة تامَّة. مِثال ذلك أنَّ وحي قابيل لا
يُعلِّمنا سوى أنَّ الله قد حذَّرَه وطلب منه أن يعيش حياة أفضل، وهذا وحدَه هو هدَف
الوحي وجوهره، وليس تعليم حُرية الإرادة أو أية نظريَّةٍ فلسفية. ومع أنَّ حُرية
الإرادة مُتضمَّنة بوضوحٍ تامٍّ في هذا التبكيت وفي طريقة التصريح به، فإنه يَجوز لنا
أن نُصدِر حُكمًا مُخالفًا لأنَّ هذه الكلمات وهذه الطريقة في التعبير قد تكيَّفَت
حسْبَ فَهم قابيل وحدَه.
٨٢ وكذلك لا يُعلِّمنا وحيُ ميخا إلَّا أنَّ الله أوحى إليه بالنهاية الحقيقية
لمعركة أخآب ضدَّ آرام، ومن ثم، كان هذا وحدَه هو ما يَجِب أن نُؤمن به. ولا تُهِمُّنا
مُطلقًا أية زيادة على ذلك فيما يتعلَّق بِرُوح الله الحقيقية أو الباطلة أو جَيش
السماء الذي يُعسكِر على جانِبي الله، وكذلك باقي مُلابسات الوحي؛ وعلى ذلك، فليحكُم
كلُّ إنسانٍ على هذه الأمور بما يَتَّفِق مع عقله. وفيما يتعلَّق بالحُجَج التي يُبرهن
بها الله لأيوب على أنَّ كلَّ شيءٍ واقِعٌ تحت قُدرته — لو
كان هذا الوحي قد بلغ إلى أيُّوب حقيقةً وكان كاتِبه
قد أراد أن يَروي قِصَّة دون أن يُعبِّر عن أفكاره بالصور
٨٣ (كما يعتقد البعض) — ينبغي أن نقول ما يأتي: إنَّ هذه الحجج قد وُضِعت على
مُستوى فَهم أَيُّوب لإقناعه هو وليست حُجَجًا عامَّة لإقناع جميع الناس. ونقول الشيء
نفسه عن الأسباب التي لجأ إليها المسيح لإقناع الفريسيِّين بعِصيانهم وبِجهلِهم، ولدعوة
تلاميذه للحياة الحقَّة، فقد كيَّف أسبابه طبقًا لآراء كلِّ فردٍ ومبادئه. فعندما يقول
مثلًا للفريسيين (انظر: متى، ٢٢: ٢٦): «فإن كان الشيطان يُخرِج الشيطان فقد انقسم على
نفسه، فكيف تثبت مملكته؟» لم يكن يُريد إلَّا إقناعهم بمبادئهم الخاصَّة، ولم يكن
هدَفُه هو أن يُعرِّفهم أنَّ هناك شياطين ومملكة للشياطين. كذلك عندما يَقول لتلامِذَته
(متى، ١٨: ١٠): «واحذروا أن تحتَقِروا أحدَ هؤلاء الصِّغار فإنِّي أقول لكم إنَّ
ملائكتهم في السموات … إلخ.» كان كلُّ ما أراد أن يقوله هو أنه لا ينبغي أن يكونوا
مغرورين أو أن يَحتقروا أحدًا، ولم يكن هدفه هو أن يُعلِّمهم شيئًا مِمَّا يتضمَّنه
أسلوبه الذي اتَّبَعه ليُحسِن إقناع تلامذته. وهذا بعَينه هو ما ينبغي أن يُقال بشأن
أساليب الحواريين والآيات التي استعملوها، وهو موضوع لا نَجِد فائدة هنا من إطالة
الحديث فيه؛ ذلك لأنَّني سأحِيد عن الإيجاز الذي أُحاول أن ألتَزِم به إذا كان عليَّ
أن
أُحصي جميع نصوص الكتاب التي كُتِبَت لإنسانٍ واحدٍ؛ أي التي تكيَّفت حسب فَهم شخصٍ
مُعيَّن وبالتالي لا يُمكنني تقديمها على أنَّها تعاليم إلهية
٨٤ دون أن يكون في ذلك خسارة كبيرة للفلسفة. يكفي إذن عرضي لبعض النقاط
القليلة ذات الأهمية العامة، ويُمكن للقارئ الفاحِص أن يختبر بقية النصوص بنفسه. ومع
ذلك، فعلى الرغم من أنَّ هذه المُلاحظات التي ذكرناها من قبل في موضوع الأنبياء
والنبوَّة هي وحدها التي تؤدي مُباشرةً إلى الغاية
التي أرمي إليها، وهي التمييز بين الفلسفة واللاهوت، فإني، نظرًا إلى انسياقي إلى
الحديث عن هذا الموضوع بِوجهٍ عام، أرى من المُفيد أن أبحث أيضًا فيما إذا كانت هِبَةُ
النبوَّة خاصَّة بالعبرانيين وحدَهم أو أنها عامَّة لكلِّ الأُمم، ثُمَّ أبحَثُ بعد ذلك
فيما يَجِب أن نعتقده بشأن رسالة العبرانيين، وهذا هو موضوع الفصل القادم.