الفصل الرابع
القانون الإلهي
يُطلَق لفظ القانون مأخوذًا بمعناه المُطلَق، على كلِّ حالة يخضع فيها الأفراد
منظورًا إليهم كلٍّ على حِدة؛ سواء أكان الأمر مُتعلقًا بمجموع الموجودات أو ببعض
الموجودات المُنتمية إلى النوع نفسه — لقاعدة سلوك واحدة مُحدَّدة. ويتوقَّف القانون
إما على ضرورة طبيعية وإما على قرار إنساني، فالقانون يكون مُعتمِدًا على ضرورة طبيعية
عندما يصدُر بالضرورة من طبيعة الشيء ذاتها أو من تعريفه، ويكون مُعتمِدًا على القرار
الإنساني — ويُسمَّى عندئذٍ بالأحرى قاعدة تشريعية — عندما يفرِضُه البشر على أنفسهم
وعلى الآخرين ليجعلوا الحياة أكثر أمنًا وأكثر يُسرًا، أو لأسبابٍ أخرى. فالقول مثلًا
بأن جميع الأجسام عندما تصطدِم بأجسامٍ أخرى أصغَرَ منها تفقِدُ من حركتها بمِقدار ما
تُعطي، هو قانون شامل لجميع الأجسام، يصدُر بضرورةٍ طبيعية، وبالمِثل فإن القول بأنَّ
الإنسان عندما يتذكَّر شيئًا يتذكَّر معه على الفَور شيئًا مُشابهًا، أو شيئًا أدرَكَه
في الوقت نفسه الذي أدرَكَ فيه الشيء الأول، هو بدَوره قانون يَنتُج ضرورةً من الطبيعة
الإنسانية. وعلى العكس من ذلك، فإنَّ الناس عندما يَترُكون أو يُرغَمون على ترْك شيءٍ
من الحقِّ
١ الذي وهبتْهُم الطبيعة إياه، ويُجبَرون على اتِّباع قاعدةٍ مُعيَّنة في
الحياة، فإنَّ ذلك يتوقَّف على قرارٍ إنساني، ومع أني أعترِف بلا أدني تحفُّظٍ بأنَّ
جميع الأشياء مُحدَّدة بقوانين شاملة في الطبيعة، بحيث تُوجَد وتُفعَّل بطريقةٍ
مُحدَّدة للغاية،
٢ فإني أعتقِد أنَّ مثل هذه القوانين تعتمِد على قرارٍ يتَّخِذه
البشر:
على أن لفظ القانون لا يُطلَق على الأشياء الطبيعية إلَّا مجازًا، ونحن عادةً لا
نقصد
بالقانون إلَّا أمرًا من الأوامر، يستطيع الناس تنفيذه أو إهماله، على أن يكون مفهومًا
أنه يحصُر قُدرة الإنسان في حدودٍ مُعينة، تستطيع هذه القُدرة مع ذلك أن تتعدَّاها،
ولكنه لا يأمُر بشيء يفوق قُواها. علينا إذن — فيما يبدو — أن نُعرِّف القانون تعريفًا
أخصَّ بأنه قاعدة للحياة يفرِضُها الإنسان على نفسه أو على الآخرين من أجل غاية. على
أنه لمَّا كانت غاية القوانين الحقيقية لا تَتَّضِح إلَّا لعددٍ قليل، ولَمَّا كان
مُعظم الناس تقريبًا لا يَقدِرون على إدراكها مع أنَّ حياتهم تسير بدَورها وفقًا للعقل،
فقد وضع المُشرِّعون بحكمةٍ غايةً مختلفة تمامًا عن الغاية التي تنشأ ضرورة عن طبيعة
القوانين، فهم يُبشِّرون المُدافعين عن القانون بما يُفضِّله العامَّة على كلِّ ما
عداه، ويُنذِرون من يُمزقِّونه بما يَرهَبُه العامة أكثر من غيره. وعلى هذا النحو،
حاولوا السيطرة على العامَّة بقدْرِ الإمكان، كما يُسيطر الإنسان على الحصان باللجام.
ومن هنا ينشأ ذلك التصوُّر الشائع للقانون على أنه قاعدة للحياة فرَضَها بعض الناس على
البعض الآخر، حتى إنَّنا لنقول في لُغَتِنا الشائعة عمَّن يُطيعون القوانين إنهم
يَعيشون تحت سُلطان القانون ويَبدون عبيدًا له. وإنه لَمِن الصحيح حقًّا أنَّ من يُعطي
كلَّ ذي حقٍّ حقَّهُ خوفًا من المَشنقة يفعل ذلك بأمر الآخرين، ويُضطرُّ إليه خوفًا
مِمَّا قد يلحَق به من ضرر، فلا يُمكن أن نعتبره عادلًا، أما من يُعطي كلَّ ذي حقٍّ
حقَّهُ لأنه يَعلم السَّبَب الحقيقيَّ لوضع القوانين وضرورتها فإنه يفعل باتِّفاقٍ
تامٍّ مع نفسه وبِمَحْض مشيئته لا بمشيئة الآخرين؛ ولذلك كان من حقِّه أن نُسمِّيه
عادلًا. وأعتقد أنَّ هذا ما أراد بولس أن يدعو له عندما قال: إنَّ من يعيشون تحت سُلطة
القانون لا يُمكن تبريرهم بالقانون:
٤ لأنَّ العدالة، كما تعرف عادةً، هي إرادة ثابتة ودائمة لإعطاء كلِّ ذي حقٍّ
حقه. ويقول سُليمان في المعنى نفسه (الأمثال، ٢١: ١٥):
٥ وقت الحساب يفرَح العادل ويرتعِد
الظالمون. وإذن فلمَّا كان القانون قاعد للحياة يفرضها الناس على أنفسهم أو على الآخرين
لتحقيق غايةٍ ما، فيجدُر بنا الآن أن نُقسِّم القانون إلى قانون إنساني وقانون إلهي،
وأعني بالقانون الإنساني قاعدة للحياة مهمَّتُها الوحيدة هي المحافظة على سلامة الحياة
والدولة، أما القانون الإلهي فأعني به قاعدة لا تهدُف إلَّا للخير الأقصى، أي إلى
المعرفة الحقَّة وإلى حُبِّ الله. ويرجع السبب في تَسميتي هذا القانون إلهيًّا إلى
طبيعة الخير الأقصى، الذي سأعرض له ها هنا في كلماتٍ مُوجزة وبقدْر ما أستطيع من
وضوح.
لمَّا كان الذهن أفضل ما في وجودنا، فلا شكَّ أنَّنا إذا أردْنا حقيقة البحث عمَّا
هو
نافع، فعَلينا أولًا وقبل كلِّ شيء أن نحاول الارتقاء بذهننا بقدر الإمكان؛ لأن خيرَنا
الأقصى يتحقَّق في هذا الارتقاء. وفضلًا عن ذلك، فإن معرفتنا كلها، وكذلك اليقين — الذي
يقضي بالفعل على كلِّ شك — يتوقَّف على معرفة الله وحدها؛ لأنَّ الشيء لا يُمكن أن
يُوجَد أو يُتَصوَّر بدون الله
٦ ولأنَّ في إمكاننا أن نشكَّ في كلِّ شيء طالما ليست لَدَينا عن الله فكرة
واضحة ومتميزة،
٧ ويَنتُج عن ذلك، أن خيرَنا الأقصى وكمالنا يعتمدان على معرفة الله وحدها …
إلخ. فضلًا عن ذلك، فلمَّا كان يستحيل وجود شيء أو تصوُّره بدون الله، فمِن المؤكد أن
كل موجودات الطبيعة تحتوي على فكرة الله وتُعبِّر عنها حسْبَ درجتها في الماهية
والكمال. ومن ذلك يتَّضِح أنه كلما ازدادت معرفتنا بالأشياء في الطبيعة
٨ كانت المعرفة التي نحصل عليها بالله أعظم وأكمل. وبعبارة أخرى «لأن معرفة
المعلول عن طريق العِلة ليست إلا معرفةً لخاصِيَّة مُعيَّنة للعلة.» فكلَّما عرفْنا
أشياء أكثر في الطبيعة كانت معرفتنا لماهية الله وهو (عِلة الأشياء جميعها) أكمل. وهكذا
لا تعتمد كل معرفتنا — أي خيرنا الأقصى — على معرفة الله فسحب، بل تنحصر فيها كليةً.
وهذا ينشأ أيضًا من أن كمال الإنسان يكون بنسبة طبيعة وكمال الشيء الذي يُحبُّه فوق
كلِّ شيء آخر، والعكس صحيح أيضًا؛ وعلى ذلك، فإن من يُفضِّل المعرفة العقلية لله أي
للموجود المُطلق الكمال على كلِّ شيء، ومن تزيد نشوته بها يكون بالضرورة هو الأكمل،
ويُشارك في السعادة القصوى، ففي هذا إذن، أعني في معرفة الله وحبه، يكون خيرُنا الأقصى
وسعادتنا. ويترتَّب على ذلك أن الوسائل التي تؤدي بنا إلى هذه الغاية من جميع الأفعال
الإنسانية، أعني الله نفسه من حيث وجوده فينا كفكرة، يُمكن أن تُسمَّى أوامر الله، لأن
الله نفسه هو، على نحوٍ ما، مصدرُها بقدر ما يُوجَد في أنفسنا. ومن هنا، فإن لنا كل
الحق في أن نُسمِّي قاعدة الحياة التي تستهدف هذه الغاية قانونًا إلهيًّا. والآن، فما
هذه الوسائل، وما قاعدة الحياة التي تفرضها هذه الغاية؟ وكيف يُمكننا أن نُوجِّه نحو
هذه الغاية المبادئ التي تقوم عليها أفضل نُظُم الحكم، وأن تُنظَّم علاقات الناس فيما
بينهم طبقًا لها؟ إن عِلم الأخلاق الشامل هو الذي يُجيب عن هذه الأسئلة، أمَّا هنا فلن
أستمرَّ في الحديث إلَّا عن القانون الإلهي على وجه العموم.
لمَّا كان حبُّ الله هو سعادة الإنسان القصوى ونعيمه والغاية الأخيرة لجميع الأفعال
الإنسانية وهدفها،
٩ فإن ذلك الذي يجعل هَمَّه حبَّ الله لا خوفًا من عذابه، ولا طمعًا في شيء
آخر كاللَّذات او الشهوة بل لمجرَّد كونه يعرف الله، أي لأنه يعلم أنَّ الخير الأقصى
في
معرفة الله وحبه. ذلك وحده هو الذي يتبع القانون الإلهي.
١٠ وإذن، فالقانون الإلهي يتلخَّص كله في قضية واحدة: هي حبُّ الله باعتباره
خيرًا أقصى، وذلك، كما قُلنا، لا خوفًا من عذابٍ أو عقابٍ أو طمعًا في شيءٍ آخَر نرغَب
في الاستمتاع به. وإذن فالدرس الذي تُعلِّمنا إياه فكرة الله هو أنَّ الله خيرنا
الأقصى، وبعبارة أخرى فإنَّ معرفة الله وحُبَّه هي الغاية القصوى التي ينبغي أن تتَّجِه
إليها جميع أفعالنا. على أن الإنسان الغارق في لذَّات الجسد لا يستطيع أن يعلَم هذه
الحقيقة، بل وتبدو له عبثًا لأنه ليس لدَيه معرفة كافية بالله، ولأنه لا يَجِد في هذا
الخير الأقصى شيئًا يستطيع أن يلمسه أو يأكله أو يؤثر في جسده الذي يبحث عن أعظم قدْرٍ
من لذَّاته، ما دام هذا الخير الأقصى ينحصر في التأمُّل والتفكير الخالص. أما من
يعترفون بأن أنفَسَ ما لديهم هو الذهن وصفاء الرُّوح فإنهم يَرون هذه الحقيقة راسِخة
أشدَّ الرسوخ. وهكذا، بَيَّنَّا ما هو القانون الإلهي وما هي القوانين التي تُعَدُّ
إنسانية: فهي تلك التي تَرمي إلى غاية أخرى، ما لم يكن الوحي قد حدَّدها، لأنَّ
الالتجاء إلى الوحي هو أيضًا طريقة لإرجاع الأشياء إلى الله (وقد أشرْنا إلى ذلك من
قبل)، وبهذا المعنى، يُمكننا أن نُسمِّي شريعة موسى قانونًا إلهيًّا
١١ لأنَّنا نعتقد أنها قد أُقيمت على أساسٍ من النور النبوي، مع أن هذه
الشريعة لم تكن شاملة، وكانت مُهيَّأة بحيث تُلائم التكوين الخاص لشعبٍ بعينِه، وتهدُف
إلى المحافظة عليه. فإذا نظرنا الآن إلى طبيعة القانون الإلهي فإنَّنا نلحظ:
- (١)
إنه شامل، أي إنه يَعمُّ الناس جميعًا، لأنَّنا قد استنبطناه من الطبيعة
الإنسانية منظورًا إليها في طابعها الكُلي الشامل.
- (٢)
وإنه لا يتطلَّب أن نُصدِّق بروايات تاريخية، أيًّا كان مضمونها، ذلك
لأنَّهُ لمَّا كان هذا القانون الإلهي الطبيعي يُعرَف عن طريق تأمُّل
الطبيعة البشرية وحدَها، فمن المؤكد أنَّنا نستطيع أن نراه في آدم أو في أي
إنسانٍ آخر، في إنسانٍ يعيش بين الناس أو في إنسانٍ يعيش مُنعزلًا، ولا
يستطيع تصديقَنا بالروايات التاريخية — حتى ولو كانت تنطوي على يقين — أن
يُعطينا معرفة الله، وبالتالي لا يستطيع أن يُعطينا حبَّ الله؛ إذ ينشأ
حُبُّ الله من معرفته، ومعرفة الله يجِب أن تنشأ من أفكارٍ مُشتركة، يقينية
معروفة بذاتها. فمن المُحال إذن، أن يكون تَصديقُنا بالروايات التاريخية
شرطًا لا نستطيع بدونه أن نَصِل إلى الخير الأقصى. ومع ذلك، فإذا كان
الإيمان بالروايات التاريخية لا يستطيع أن يُعطينا معرفة الله وحُبِّه،
فإنَّنا لا نُنكِر أن قراءتها مُفيدة للغاية
١٢ في الحياة الاجتماعية، فَكُلما دقَّقنا في مُلاحظة أخلاق الناس
وظروفهم، التي لا يُمكن معرفتها على نحوٍ أفضل إلَّا بِمُلاحظة أفعالهم،
وكلَّما عرفناها على نحوٍ أفضل، ازدَدْنا اكتسابًا للحِكمة التي تُتيح لنا
أن نعيش بينهم، وعرفْنا على نحوٍ أفضل كيفَ نُكيِّف أفعالنا وحياتنا حسْب
طبيعتِهم بمِقدار ما يَقتضيه العقل.
- (٣)
إن هذا القانون الإلهي الطبيعي لا يقتضي إقامة الشعائر والطقوس، أي تلك
الأفعال التي لا تعني شيئًا في ذاتها، ولا تُعتبَر خيرةً إلَّا من حيث
دخولها في نظام، أو التي ترمز
١٣ لخيرٍ ضروري للخلاص، أو إن شئنا قُلنا: إنَّ هذا القانون
الإلهي الطبيعي لا يتطلَّب أفعالًا يتعدَّى تبريرُها حُدود الفَهْم
الإنساني. والواقع أنَّ النور الفطري لا يتطلَّب شيئًا لا يبلغه هذا النور
نفسه، وكل ما يحتاج إليه هو ما يُمكنه أن يُعرِّفنا إيَّاه بوضوح تامٍّ
بوصفه خيرًا، أي بوصفه وسيلةً نحصُل بها على سعادتنا. على أنَّ الأشياء
التي لا تُصبِح خَيِّرةً إلَّا بالأوامر والنُّظم، أو لا تُصبح خَيِّرة
إلَّا لأنها ترمُز لخيرها، هذه الأشياء لا تستطيع أن تُضيف كمالًا إلى
أذهاننا؛ فهي ليست إلَّا مُجرَّد ظلال، ولا يُمكننا أن نَعُدَّها بين
الأفعال التي تتولَّد عن الذهن والتي هي بمثابة ثمار نفس صافية، وهذا أمر
لا حاجة لنا إلى الإطالة في بيانه.
- (٤)
وأخيرًا، فإنَّ أعظم جزاءٍ يُعطيه القانون الإلهي هو معرفة هذا القانون
نفسه، أي معرفة الله وحُبِّه باعتبارنا موجودات حرَّة حقًّا، تتمتَّع بنفسٍ
صافية وثابتة، على حين أنَّ العقاب إنما يكون في حِرماننا من هذه الخيرات
ووقوعنا في عبودية الجسد، أي تكون أنفسنا مُتغيِّرة مُتقلِّبة.
وبعد هذه الملحوظات نستطيع أن نبحث المسائل الآتية:
- (١)
هل نستطيع بالنور الفطري تصوُّر الله كمُشرِّعٍ أو كأميرٍ يسنُّ القوانين
للبشر؟
- (٢)
ماذا يقول الكتاب المُقدَّس بشأن هذا النور وهذا القانون الطبيعي؟
- (٣)
ما هي الغاية التي استُهدِفت فيما مضى من فرْض الشعائر الدينية؟
- (٤)
وأخيرًا، ما الفائدة من معرفة الروايات المُقدَّسة والتصديق بها؟
وسأُعالج الموضوعَين الأوَّلَين في هذا الفصل والموضوعَين التالِيَين في
الفصل القادم.
إنَّ ما يَجِب علينا التسليم به فيما يتعلَّق بالموضوع الأول يُمكن استنباطه بسهولةٍ
من طبيعة الإرادة الإلهية، التي لا تتميَّز عن الذهن الإلهي بالنسبة إلى عقلنا نحن، أي
أنَّ إرادة الله وذهنه هما في الحقيقة شيء واحد،
١٤ لا يتميَّزان إلا بالنسبة إلى الأفكار التي نُكوِّنها عن الذهن الإلهي.
فمثلًا إذا كُنَّا نضع في اعتبارنا فقط أن طبيعة المُثلث مُتضمنة منذ الأزل في طبيعة
الله بوَصفها حقيقة أبدية، فحينئذٍ نقول: إنَّ الله لديه فكرة عن المُثلث أو أنه
يتصوَّر بذهنه طبيعة المُثلث، فإذا وضعْنا في اعتبارنا بعد ذلك أنَّ طبيعة المثلث
مُتضمنة في طبيعة الله بضرورة هذه الطبيعة فحسب، لا بضرورة ماهية المُثلث وطبيعته، بل
إنَّ ضرورة ماهية المُثلث وخصائصه، بقدْر ما تتصوَّر بوصفها حقائق أبدية، تتوقَّف على
ضرورة الطبيعة الإلهية والذهن الإلهي فحسْب، لا على طبيعة المثلث. حينئذٍ نُطلِق على
ما
سَمَّيناه من قبل ذهن الله اسم إرادة الله أو أمره؛ وعلى ذلك، فلا فرق على الإطلاق،
بالنسبة إلى الله، بين قولنا: إن الله أراد وأمَرَ منذ الأزل بأن يكون مجموع زوايا
المُثلَّث قائمتَين، وقولنا بأنَّ الله تَصوَّر هذه الحقيقة بذهنه. ويترتَّب على ذلك
أن
ما يُثبِته الله أو يَنفيه يحتوي دائمًا على ضرورة؛ أي على حقيقة أزلية. فإذا كان الله
قد قال لآدم مثلًا: لا أريد أن تأكُل من شجرة عِلم الخير والشر، فإنَّ من التناقُض أن
يكون آدم قد استطاع أن يأكُل منها، وبالتالي يستحيل أن يكون آدم قد أكَلَ منها؛ إذ يجِب
أن يكون هذا الأمر الإلهي مُتضمِّنًا حقيقةً وضرورةً أزلية. ومع ذلك فما دام الكتاب
يذكُر أنَّ الله حرَّمَها على آدم وأن آدم قد أكل منها مع ذلك، فيجِب أن نقول ضرورةً
بأنَّ الله قد كشف لآدم عن الشَّرِّ الذي سينتُج بالضرورة عن أكله، ولكنه لم يكشِف له
عن حتميَّة نتيجة هذا الشر؛ ولهذا لم يُدرِك آدم هذا الوحي كحقيقةٍ أبدية ضرورية بل
كقانونٍ أي كقاعدة تنصُّ على أن نفعًا أو ضررًا ما سينتُج عن فعلٍ ما إرضاءً لرغبة
حاكمٍ وتنفيذًا لأمره المُطلَق، لا بضرورةٍ مُتضمَّنة في طبيعة الفعل نفسه. وهكذا، أصبح
هذا الوحي قانونًا لآدم فقط،
١٥ ونتيجة لنقصٍ في معرفته، واتَّخَذ الله بالنسبة إليه صفة المُشرِّع
والحاكم؛ ولهذا السبب نفسه، ونتيجةً لنقصٍ في معرفة العبرانيين، أصبحت الوصايا العشْر
قانونًا لهم وحدَهم نظرًا إلى أنهم لم يَعرفوا وجود الله كحقيقةٍ أزلية، فقد كان لزامًا
عليهم أن يُدركوا، كقانون،
١٦ ما أُوحيَ إليهم في الوصايا العشر، وأعني به أن الله موجود تجِبُ له
العبادة وحده. ولو كان الله قد تحدَّث إليهم مُباشرةً دون وسائط حِسِّية أيًّا كانت،
لما أدركوا ذلك كقانونٍ بل كحقيقةٍ أزلية، وما نقوله الآن عن آدم والإسرائيليين ينطبق
أيضًا على جميع الأنبياء الذين شرعوا قوانين باسم الله، فهم لم يُدركوا أوامر الله
إدراكًا كافيًا كما نُدرِك الحقائق الأبدية. فمثلًا يجِب أن نذكُر عن موسى أيضًا أنه
أدرك بالوحي أو استنتَجَ من مبادئ أُوحِيَت إليه أفضل طريقةٍ يستطيع بها شعبُ إسرائيل
أن يتوحَّد في بُقعةٍ من بقاع الأرض وأن يُكوِّن مُجتمعًا جديدًا، أي أنْ يُنشئ دولة.
وعلى هذا النحو نفسه أدرك أفضلَ طريقةٍ يُمكن بها إجبار هذا الشعب على الطاعة، ولكنه
لم
يُدرك أن هذه الطريقة هي أفضل الطُّرق كما لم يُوحَ إليه بذلك، ولم يعلم أن الغاية التي
يَرمي الإسرائيليون إلى تحقيقها سوف تتحقَّق حتمًا بطاعة كلِّ الشعب المُجتمِع في مثل
هذه المنطقة. وإذن فهو لم يُدرِك هذه الأمور كلها كحقائق أزلية، بل كأوامر ونُظُم
مفروضة، وشرَعَها كقوانين أرادها الله. ومن هنا جاء تَصوُّرهم لله بوصفه قائدًا
ومُشرِّعًا وملكًا،
١٧ مع أن هذه الصِّفات كلها تنتمي إلى الطبيعة الإنسانية وحدها، ويجِب
استبعادها تمامًا عن طبيعة الله. على أنَّني أعود فأؤكِّد أنَّ هذا لا ينبغي أن يُقال
إلَّا عن الأنبياء الذين شرَّعوا قوانين باسم الله، لا عن المسيح، فمع أن المسيح — فيما
يبدو — قد شرَّع أيضًا قوانين باسم الله، إلَّا أنه على العكس من ذلك أدرك الأشياء
بوصفها حقيقة، وعرَفَها معرفةً كافية؛ ذلك لأنَّ المسيح لم يكن نبيًّا،
١٨ بل كان ناطقًا بلسان الله؛ فقد أوحى الله بوساطة رُوح المسيح (كما بيَّنَّا
ذلك في الفصل الأول) بعض الحقائق للجنس البشري، كما أوحى من قبل بوساطة الملائكة، أي
بوساطة صوتٍ مخلوق وبوساطة رُؤَى … إلخ. ولذلك، فإن القول بأن الله قد كيَّفَ وحيَهُ
وفقًا لآراء المسيح لا يَقلُّ مُخالفةً للعقل عن افتراض أنَّ الله قد كيَّفَ وحيَهُ من
قبل حسب آراء الملائكة؛ أي حسب صوتٍ مخلوق ورؤًى حتى يُبلِّغ الرسل الحقائق المراد
كشفُها، وهو افتراض في غاية التناقض، لا سيما أنَّ المسيح لم يُرسَل لتعليم اليهود فقط
بل أُرسِل للجنس البشري قاطبة، بحيث لا يكفي أن تتكيَّفَ رُوحه حسب مُعتقدات اليهود
وحدَهم بل يجِب أن تتكيَّف حسب المُعتقدات المشتركة بين الجنس البشري كله، وحسب
التعاليم الشاملة أي المُتعلِّقة بالتصورات العامة والأفكار الصحيحة. فمن المؤكد أنَّ
الله كشَفَ عن نفسه للمسيح أو لرُوح المسيح مُباشرةً دون توسُّط كلماتٍ أو صُور، كما
هو
الحال في وحي الأنبياء، ومن ذلك نَستنتِج ضرورةَ أنَّ المسيح قد أدرَكَ بالفعل حقائق
الوحي، أي إنه عرَفها عقلًا، لأنَّ الشيء يُقال عنه إنه يُعرَف عقلًا عندما يُدرَك
بالفكر الخالص دون كلماتٍ أو صُور؛ وعلى ذلك فقد أدرك المسيح حقائق الوحي حقيقةً وعرفها
معرفة كافية. وعلى ذلك، فإذا كان قد فرَضها وكأنها قوانين، فإنه ما فعل ذلك إلا لجهل
الشعب وعناده، وهو في ذلك قد قام بما يقوم به الله، فتكيَّف طبقًا لرُوح الشعب. ومع
أنَّ المسيح كان أكثر وضوحًا إلى حدٍّ ما من الأنبياء السابقين، إلَّا أنه بَشَّر
بحقائق الوحي بالطريقة الغامضة نفسها، وفي كثيرٍ من الأحيان كان يَستعمِل الأمثلة، ولا
سيما في حديثه مع مَن لم يُعطَوا به معرفة ملكوت السموات (انظر: متَّى، ١٣: ١٠ … إلخ).
١٩ وليس هناك أدنى شكٍّ في أنه قد بَشَّر من أُعطوا معرفة أسرار السموات بهذه
الحقائق نفسها باعتبارها حقائق أزلية، لا مجموعة من القوانين، وبذلك حرَّرَهم من عبودية
القانون، وإن كان مع ذلك قد ثَبَّتَه وجعله راسخًا في أعماق القلوب إلى الأبد. وهذا ما
أشار إليه بولس — فيما يبدو — في بعض النصوص من رسالته إلى أهل رومية (٧: ٦؛ ٣: ٢٨)،
٢٠ ومع ذلك، فإنه هو أيضًا لم يشأ أن يتحدَّث بصراحة
٢١ بل كان يتحدَّث كما يتحدَّث الناس عادةً، كما يقول في الإصحاح ٣، الآية ٥،
وفي الإصحاح ٦، الآية ١٩ من الرسالة نفسها،
٢٢ وهذا ما نَلحظُه بوضوحٍ عندما نجِده يُسمِّي الله بالعادل. ولا شكَّ أيضًا
أنه نظرًا إلى ضَعف الجسد وصفَ الله وصفًا خياليًّا بالرحمة والفضل والغضب … إلخ،
وكيَّف كلماته حسب فهم العامة، أي أهل الجسد (كما يقول في الرسالة الأولى إلى أهالي
كورنثة، ٣: ١-٢)،
٢٣ والواقع أنه في الإصحاح ٩، الآية ١٨ من رسالته إلى أهالي رومية
٢٤ أعطى منزلة الحقيقة المُطلقة لدعوته القائلة بأن غضب الله ورحمته لا
يَتوقَّفان على أفعال البشر، بل على اختيار الله وحده، أي على إرادته، نظرًا إلى أنَّهُ
لا يُمكن لأحد أن يُبرِّر نفسه بالأعمال التي يقوم بها تنفيذًا للشريعة، بل بالإيمان
وحدَه (انظر رسالته إلى أهالي رومية، ٣: ٢٨)
٢٥ الذي يعني به ولا شكَّ صفاء النفس التام. وأخيرًا، لأنَّ أحدًا لن يكون
سعيدًا إن لم تكُن رُوح المسيح فيه (انظر: رسالته إلى أهالي رومية، ٨: ٩)،
٢٦ بحيث يرى بوساطتها قوانين الله كحقائق أزلية. ننتهي من ذلك إلى أنَّنا لا
يمكن أن نَصِف الله بأنه مُشرِّع أو حاكم، ولا يُمكن تسميتُهُ عادلًا أو رحيمًا … إلخ،
إلَّا على طريقة فَهم العاميِّ ولنقْصٍ في معرفتنا. والواقع أن الله يفعل كلَّ شيءٍ
ويُسيِّره بالضرورة الناتجة عن طبيعته وكماله وحدَها، وتكون أوامره ومشيئته حقائق أزلية
تنطوي دائمًا على ضرورة، وهذا هو ما أردتُ شرحَهُ وبَيانَهُ أولًا.
فلننتقِل الآن إلى النقطة الثانية، ولنتصفَّح الكتاب المُقدَّس لنرى ماذا يقول عن
النُّور الفطري وعن القانون الإلهي. إن أوَّلَ نصٍّ نُصادِفُه هو قصة الإنسان الأول حيث
يُروى أنَّ الله أمر بألَّا يأكل الثمرة من شجرة معرفة الخَير والشر. ويبدو أنَّ هذا
النصَّ يَعني أنَّ الله أمَرَ آدم بأنْ يفعل الخير وأن يسعى إليه من حيث هو خير، لا
لأنَّهُ ضِدَّ الشَّر، أي أن يبحث عن الخير حبًّا في الخير، لا خوفًا من الشر. وقد
بَيَّنَّا من قبلُ أن من يفعل الخير عن معرفةٍ حقيقية للخير وحُبٍّ له فإنه يفعله
بِحُريَّةٍ وبعزيمة راسخة. وعلى العكس من ذلك، فإن من يفعل الخير خوفًا من الشَّرِّ
يفعله مُجبَرًا على فِعلِه بالشَّرِّ الذي يخشاه ويُصبح عبدًا له ويعيش تحت إمرة
الآخرين؛ وعلى ذلك، فإنَّ هذه الوصية الفريدة التي أعطاها الله آدم تشتمل على كلِّ
القانون الإلهي الطبيعي، وتتَّفِق تمامًا مع تعاليم النور الفطري، ولن يكون من الصَّعب
تفسير هذه القِصَّة كلها أو هذا المَثَل الخاص بالإنسان الأول اعتمادًا على هذا المبدأ.
ومع ذلك، فإني أُفضِّل استبعاد هذا التفسير، لأني من جهةٍ لستُ على يقينٍ تامٍّ من أنَّ
تفسيري يتَّفِق مع فكر الراوي، ولأن مُعظم الناس، من جهةٍ أخرى، لا يُسلِّمون بأن هذه
القصة هي مُجرَّد مثل،
٢٧ بل يُسلِّمون بلا تحفُّظٍ بأنها مُجرَّد رواية؛ لذلك أُفضِّل أن أذكر هنا
نصوصًا أخرى من الكتاب تأخُذها أولًا من هذا المؤلِّف الذي يتحدَّث بفضل النُّور
الفطري، والذي استطاع عن طريق هذا النُّور أن يتفوَّق على جميع حُكماء عصره والذي
تَبعَثُ حِكَمُهُ في الشعب من الإجلال الديني بقدْر ما تَبعَثُه فيه حِكَم الأنبياء.
وأنا أعني بذلك سُليمان الذي لا تَكشِف أسفاره المُقدَّسة عن هِبةِ النُّبوَّة
والوَرَع، بل عن الفِطنة والحِكمة، ففي سِفر الأمثال يُسمِّي سليمان الذهن الإنساني
نافورة الحياة الحقَّة،
٢٨⋆ ويجعل
الشقاء في ضياع العقل، ويقول (١٦: ٢٢): «العقل ينبوع الحياة لصحابه وتأديب السُّفهاء
السفه.» ولا ننسى أن كلمة حياة، على إطلاقها، تعني في العبرية الحياة الحقَّة، كما
يتَّضِح في التثنية (٣٠: ١٩)
٢٩ وعلى ذلك، فإن سُليمان يجعل ثمرة الذِّهن في الحياة الحقَّة وحدَها، كما
يجعل العذاب في الحِرمان منه، وهذا يتَّفِق كلَّ الاتفاق مع ما ذكرناه من قبل في النقطة
الرابعة بشأن القانون الإلهي الطبيعي. كذلك يدعو هذا الحكيم صراحةً إلى أنَّ منبَعَ
الحياة هذا — أي الذهن وحده — هو الذي يضع قوانين للحُكَماء كما ذكرنا من قبل، لأنه
يقول (١٣: ١٤): «شريعة الحكيم ينبوع الحياة.»
٣٠⋆ أي
إنها الذهن، كما يتَّضِح من النصِّ المذكور من قبل. كذلك يدعو صراحةً في الإصحاح ٣: ١٣،
إلى أنَّ الذهن يهَبُ الإنسان السعادة والهناء والاطمئنان الحقيقي للنفس، فيقول: «طوبى
للإنسان الذي وَجَد الحكمة وللرجُل الذي نال الفطنة.» وسبب ذلك (كما نرى بعد ذلك في
الآيات ١٦-١٧) أنَّ: «طول الأيام في يَمينها، وفي يَسارها الغنى والمجد طُرقها (تلك
التي يُخبرنا بها العلم) طرُقها طُرق نعمة، وجميع مسالكها سلام.» وإذن فالحُكماء وحدهم
— حسب قول سليمان — يعيشون في سلام وبنفسٍ مُطمئنة ولا يعيشون كالفاسقين ذوي النفوس
المُتقلِّبة فريسةً للانفعالات المُتضارِبة، ومن ثَمَّ (كما يقول أشعيا، ٥٧: ٢٠)
٣١ لا يكون لهم سلام ولا اطمئنان. وأخيرًا يجِب أن نذكر، خاصَّة في أمثال
سليمان هذه، ما يُوجَد في الإصحاح الثاني، وهو ما يتَّفق تمامًا مع وجهة نظرنا. تبدأ
الآية الثالثة هكذا: «إن ناديتَ الفِطنة وأطلقْتَ إلى الفَهم صوتك … فحينئذٍ تفطن
لمَخافة الرَّب، وتُدرِك معرفة الله (أو الحُب لأن كلمة ياداه
٣٢⋆ تفيد
المَعنَيَين)، وأنَّ الربَّ يُؤتي الحِكمة ومِن فِيهِ العِلم والفطنة.» وبهذه الكلمات
يُبيِّن بوضوحٍ تامٍّ أولًا أنَّ الحكمة أو الذهن هو وحده الذي يُعلِّمنا خشية الله
بطريقةٍ حكيمة، أي أن نتوجَّه إليه بعبادة دِينية بالمعنى الصحيح، ويُعلِّمنا ثانيًا
أنَّ الله هو منبع الحِكمة والعِلم وأنَّ الله هو واهبهما. وهذا بعينه هو ما أثبتناه
من
قبل من أنَّ ذِهننا وعِلمنا يعتمدان عل فكرة الله أو معرفتنا به، ويَصدران عنهما،
ويكتملان بهما. ويستمرُّ سليمان في شرحه في الآية ٩ فيُنادي صراحةً بأنَّ هذا العِلم
يحتوي على الأخلاق الحقَّة والسياسة الحقَّة، اللتين تَصدُران عنه: «حينئذٍ تفطن للعدلِ
والحقِّ والاستقامة وكلِّ منهجٍ صالح.» وهو لا يكتفي بهذا، بل يُواصِل كلامه قائلًا:
«إذا دخَلَتِ الحِكمة في قلبك، ولذَّت نفسك العلم، يُحافِظ عليك التدبير، وترعاك
الفطنة.» كل هذا يتَّفق اتفاقًا تامًّا مع العلم الطبيعي الذي يُعلِّم الأخلاق والفضيلة
الحقَّة عندما نكتسِب معرفة الأشياء ونتذوَّق فضيلة العلم؛ وعلى ذلك فإنَّ سعادة من
يُنمِّي ذِهنه الطبيعي، وكذلك هدوء نفسه، لا يتوقَّفان — فيما يقول سليمان
٣٣ — على قوَّة الحظ (أي على عون الله الخارجي) بل يتوقَّفان أساسًا على
قُدرته الداخلية (أي على عون الله الداخلي) لأنه يستطيع أن يَحفَظ حياته على أفضل نحوٍ
إذا كان يقِظًا نشطًا وعلى قدرٍ كبير من الدراية. وأخيرًا يجِب ألَّا ننسى هذا النصَّ
الذي كتَبَه القدِّيس بولس في الإصحاح الأول، الآية ٢٠ من الرسالة إلى أهالي رومية حيث
يقول حسب نُسخة تريمليوس السريانية:
٣٤ «لأنَّ غير منظوراته قد أبصرت منذ خلق العالم إذ أدركت بالميرءات، وكذلك
قُدرته الأزلية وألوهيته حتى أنهم لا مَعذرة لهم.» وعلى هذا النحوِ يُبيِّن بقدْرٍ
لا بأس به من الوضوح قُدرة الله وألوهيته الأزلية اللَّتَين تسمحان لنا بأن نعرِف
ونستنبط أي الأشياء ينبغي أن نبحَث عنها وأيُّها ينبغي أنْ نترُكها. وينتهي من ذلك إلى
أن الجميع لا عُذر لهم وأنه لا يُمكنهم الاعتذار بالجهل. وما كان الأمر ليُصبِح على هذا
النحوِ لو كان يتحدَّث عن النور الذي يفوق الطبيعة، وعن الآلام التي عاناها المسيح
بجسده وعن البعث … إلخ. ومن هنا، فقد أضاف بعد ذلك في الآية٢٤: «فلذلك أسلمهم الله في
شهوات قلوبهم إلى النجاسة … إلخ.» حتى نهاية الإصحاح، وهكذا يتحدَّث عن رذائل الجهل
ووصفها بعذاب الجهل، وهذا ما يتَّفِق تمامًا مع مَثَل سُليمان (١٦: ٢٢) المذكور من قبل
«وتأديب السُّفهاء السَّفَه.» فلا عجب إذن، إذا قال بولس: من يفعل الشَّرَّ لا عُذر له؛
ذلك لأنَّ كُلًّا يحصُد ما زَرَع، والشَّرُّ يُولِّد الشَّرَّ ضرورة إن لم يَتمَّ
تقويمه، والخير يُولِّدُ الخير إن صاحَبَهُ ثَباتُ النفس. وهكذا يُقِرُّ الكتاب إقرارًا
تامًّا بالنُّور الفطري والقانون الإلهي الطبيعي، وبذلك أكون قد انتهيتُ من مُعالجة
المسائل التي اعتزمتُ بحثَها في هذا الفصل.