الفصل السادس
المُعجزات
مِثلما يُسمَّى العِلم الذي يتعدَّى حدود فهم الإنسان إلهيًّا، اعتاد الناس تسمية
العمل الذي يجهل العامَّة سبَبَه عملًا إلهيًّا، أي عمل الله، فالعامة يَظنُّون أنَّ
قُدرة الله وعنايته تظهران بأوضح صُورة مُمكنة إذا حدث في الطبيعة — على ما يبدو — شيء
خارق للعادة، مُناقِض لِما اعتاد العامة أن يتصوروه، وخاصةً إذا كان هذا الحادث بالنسبة
لهم فرصة كسْبٍ أو مغنم، وهم يعتقدون أن أوضح بُرهان على وجود الله هو الخروج الظاهر
على نظام الطبيعة؛ لذلك يبدو في نظرِهم من يُفسِّر الأشياء والمُعجزات بالعِلَل
الطبيعية — أو من يبذُل جهده من أجل معرفتها بوضوح — يبدو كأنه قد ألغى الله، أو على
الأقلِّ قد أسقَطَ العناية الإلهية. وبعبارة أخرى، يظنُّ العامَّة أن الله لا يفعل في
الطبيعة ما دامت تسير على نظامها المُعتاد، وبالعكس تبطُل فاعلية الطبيعة وعِلَلها
الطبيعية عندما يفعل الله؛ وعلى ذلك فهم يتخيَّلون قُدرتَين مُتميِّزَتَين كلًّا من
الأخرى من حيث العدد: قُدرة الله وقدرة الأشياء الطبيعية. وإن كانت هذه الأخيرة مع ذلك
تخضع على نحوٍ ما لتحكُّم الله أو مخلوقة بوساطته (كما يفضل أكثر الناس الاعتقاد الآن).
أما المقصود بهذه القدرة أو تلك، والمقصود بالله فلا يعرفون شيئًا سوى أنهم يتخيَّلون
قُدرة الله كقُدرة الملك المُعظَّم، وقُدرة الطبيعة كقوَّةٍ غاشمة. يُسمِّي العامَّة
إذن حوادث الطبيعة الخارقة للعادة مُعجزات أو أعمال الله، وهم يُفضِّلون أن يجهلوا
العِلَل الطبيعية للأشياء، ولا يَودُّون إلَّا الحديث عما يَجهلونه تمام الجهل،
وبالتالي عمَّا يُعجَبون به أشدَّ الإعجاب، وذلك إما بدافع الخشوع وإما رغبةً في
الاحتجاج على من يعكفون على علوم الطبيعة؛ وهذا يَرجِع إلى أنه ليس هناك في نظرهم ما
يدعو إلى عبادة الله وإرجاع كلِّ شيءٍ إلى قُدرته
وإرادته، إلَّا بقَدْر إلغائنا للعِلَل الطبيعية وتَصوُّرنا لأشياء تعلو على نظام
الطبيعة. ولا تبدو لهم قدرة الله أحقَّ ما تكون بالإعجاب إلَّا إذا تصوَّروا قُدرة
الطبيعة وكأنَّها مقهورة على يدِ الله. ويبدو أن أصل هذا الرأي يرجع إلى اليهود
القدماء، فقد قصَّ هؤلاء اليهود مُعجزاتهم، وحاوَلوا أن يُبيِّنوا بذلك أيضًا أنَّ
الطبيعة كلَّها مُسيَّرة لمَصلحتِهم وحدَهم بأمر من الإله الذي يعبدونه، وذلك حتى
يُقنِعوا المُعاصرين لهم، من غير اليهود، الذين كانوا يعبدون آلهةً منظورة كالشمس
والنور والأرض والماء والهواء … إلخ، وحتى يُبيِّنوا لهم ضَعف هذه الآلهة وتقلُّبها،
أي
تَغيُّرها وخضوعها لإلهٍ غير منظور. وقد سُرَّ الناس بذلك إلى حدِّ أنهم ما زالوا حتى
اليوم يصطنعون مُعجزات بخيالهم حتى يعتقد الآخرون أنَّ الله قد فضَّلهم على الآخرين،
وأنهم هم العِلَّة الغائية التي لأجلِها خلق الله الأشياء جميعًا وما زال يُسيِّرها.
فما أكثر ادِّعاءات الجهل الإنساني، وما أبعدَه عن كلِّ فكرةٍ صحيحةٍ عن الله والطبيعة،
عندما يخلِط بين أوامر الله وأوامر البشر، ويتخيَّل الطبيعة محدودة إلى درجة أنَّهُ
يتوهَّم أن الإنسان هو الجزء الرئيس فيها! حسبُنا عن أفكار العامَّة وأحكامهم
المُشتقَّة عن الطبيعة والمُعجِزات. ومع ذلك، فلكي أسير في هذه المسألة بالترتيب،
سأُبيِّن النقاط الآتية:
- (١)
لا يحدُث شيء يُناقِض الطبيعة، فالطبيعة تحتفِظ بنظامٍ أزلي لا يتغيَّر
وسأُبيِّن في الوقت نفسه ماذا ينبغي أن يعني لفظ «معجزة».
- (٢)
لا نستطيع أن نعرف بالمُعجزات ماهية الله أو وجوده، ومن ثَمَّ لا نستطيع
أن نعرف العناية الإلهية، على حِين أنَّنا نستطيع أن نعرفها كلها بطريقةٍ
أفضلَ بكثيرٍ عن طريق قانون الطبيعة الثابت الذي لا يتغيَّر.
- (٣)
سأُبيِّن أيضًا اعتمادًا على بعض الأمثلة المُستمدَّة من الكتاب أنَّ
الكتاب نفسه لا يَعني بأمر الله وبمشيئته، ومِن ثَمَّ بالعناية الإلهية،
إلَّا نظام الطبيعة ذاته، بوصفه نتيجةً ضرورية للقوانين الأزلية.
- (٤)
سأتناول أخيرًا الطريقة التي ينبغي بها تفسير مُعجزات الكتاب وما يجِب
مُلاحظته أساسًا على الرِّوايات الخاصَّة بالمُعجزات.
هذه هي الموضوعات الأساسية التي تدخل في هذا الفصل، وهي موضوعات أعتقد أنها في غاية
الأهمية بالنسبة لهدَف هذا الكتاب كله.
فيما يتعلَّق بالموضوع الأول نستطيع بسهولةٍ أن نتبيَّن حقيقتَه عن طريق المبدأ الذي
أثبتناه في الفصل الرابع عن القانون الإلهي، وهو أنَّ كلَّ ما يشاؤه الله أو يُحدِّده
يتضمَّن ضرورة وحقيقة أزليَّتَين. والواقع أنَّنا قد استنتَجْنا من عدم تَميُّز ذهن
الله عن إرادته، أنه لا فرق بين قولنا إنَّ الله يُريد شيئًا ما، وقولنا إنه يتصوَّر
شيئًا ما؛ فإن الضرورة نفسها التي تجعل الله وفقًا لطبيعته وكماله يتصوَّر شيئًا على
ما
هو عليه، تجعله أيضًا يُريده على ما هو عليه. وإذن فلمَّا كان أيُّ شيء لا يكون
حقيقيًّا، بالضرورة، إلَّا بأمر الله، يترتَّب على ذلك بوضوحٍ تامٍّ أن القوانين
العامَّة للطبيعة ليست إلَّا مُجرَّد أوامر إلهية تَصدُر عن ضرورة الطبيعة الإلهية
وكمالها. وإذن، فلو حدَث شيء في الطبيعة يُناقِض قوانينها العامة، كان هذا الشيء
مُناقضًا أيضًا لأمر الله وعقله وطبيعته،
١ وإلَّا فإنَّ المرء لو سَلَّم بأنَّ الله يفعل ما يُناقِض قوانين الطبيعة،
لاضطرَّ إلى أن يُسلِّم بأنه يفعل ما يُناقِض طبيعته الخاصة، وهذا مُمتنِع كلَّ
الامتناع، ويُمكننا أن نُبرهن أيضًا على ذلك بسهولة، بقولنا: إنَّ قدرة الطبيعة هي
نفسها قدرة الله وصِفَتُه المميزة، وأنَّ قُدرة الله هي ذاتها ماهيته، ولكنِّي أفضل
ألَّا أتعرَّض لهذا الموضوع الآن؛ إذ لا يحدُث شيء في الطبيعة
٢⋆
مُناقِض لقوانينها العامَّة، أو حتى لا يتَّفق مع هذه القوانين أو لا يصدر عنها بوصفه
نتيجة لها. إنَّ كلَّ ما يحدُث يحدُث حقيقة بإرادة الله وبأمره الأزلي، أي إنه لا يحدُث
شيء، كما بَيَّنَّا من قبل، إلَّا وفقًا لقوانين وقواعد تتضمَّن ضرورةً أزلية. فالطبيعة
إذن تسير دائمًا وفقًا لقوانين قواعد تنطوي على ضرورةٍ وحقيقة أزليَّتَين، وإن لم نكن
نعرفها كلها، وبالتالي فهي تتبَعُ نظامًا ثابتًا لا يتغيَّر. وليس هناك سببٌ معقول يدعو
لأن نَنْسِب إلى الطبيعة قوَّةً وقُدرة محدودة، أو أن نعتقِد بأنَّ قوانينها لا تنطبِقُ
إلَّا على أشياء مُعيَّنة فقط، لا على كلِّ الأشياء، ذلك أنه لمَّا كانت قوَّة الطبيعة
وقُدرتها هي قوَّة الله وقُدرته، وكانت قوانين الطبيعة وقواعدها هي أوامر الله ذاتها،
فمن الواجب أن نعتقد بلا تَردُّد بأنَّ قُدرة الطبيعة لا نهائية، وأن قوانينها من
الاتِّساع بحيث تسري على كلِّ ما يتصوَّره العقل الإلهي، أما لو تصوَّرنا غير ذلك، لكان
في ذلك اعترافٌ مِنَّا بأن الله قد خلق طبيعةً عاجزة وسنَّ قوانين وقواعد عقيمة إلى
حدٍّ يَضطرُّ معه دائمًا إلى مُساعدتها لكي تَظلَّ باقية، وتظلَّ الأشياء تسير حسْب
رغبته. وإني لأرى أنَّ اعتقادًا كهذا مُناقض للعقل تمامًا. ويترتَّب على هذه المبادئ
القائلة بأنَّ لا شيء يحدُث في الطبيعة إلَّا واتَّبَع قوانينها، وأنَّ هذه القوانين
تَسري على كلِّ ما يتصوَّره العقل الإلهي، وأن للطبيعة نظامًا ثابتًا لا يتغيَّر؛
٣ يترتَّب على هذه المبادئ بوضوحٍ تامٍّ أنَّ لفظ المُعجِزة لا يُمكن أن
يُفهَم إلَّا في صِلته بآراء الناس، ويعني مُجرَّد عملٍ لا نستطيع أن نُبيِّن عِلَّته
قياسًا على شيءٍ آخَرَ معروف، أو هو على الأقل عمل لا يمكن لراوي المُعجزة أن يُفسِّره.
وأستطيع أن أقول حقيقة: إنَّ المُعجِزة حادثة لا نستطيع أن نُبيِّن عِلَّتَها اعتمادًا
على مبادئ الأشياء الطبيعية كما نُدرِكها بالنُّور الفطري. ومع ذلك لَمَّا كانت
المُعجزات قد أُجريَت على مستوى فَهم العامَّة الذين يجهلون مبادئ الأشياء الطبيعية
جهلًا تامًّا، فمِن المؤكد أنَّ القدماء قد أدخلوا في باب المُعجزات كلَّ ما لم
يستطيعوا تفسيره بالوسيلة التي اعتاد العامة الالتجاء إليها لتفسير الأشياء الطبيعية،
أي بالالتجاء إلى الذاكرة لتذكُر حالةً مُشابهة يتصوَّرنها عادةً دون دهشة؛ إذ يظنُّ
العامَّة أنهم يعرفون جيدًا ما يَرَونه دون أن تَعتريهم الدهشة. وإذن فلم يكن لدى
القدماء وعند البشر جميعًا، على وجه التقريب، حتى العصر الحاضر، أية قاعدة أخرى يمكن
تطبيقها على المعجزات؛ ومن ثَمَّ لا نَشكُّ في أن الكتُب المُقدَّسة قد رَوت كثيرًا من
الوقائع التي يُقال عنها مُعجزات، ويُمكن دون عناءٍ تعيين عِلَّتِها بالمبادئ المعروفة
للأشياء الطبيعية، وهذا ما أشَرْنا إليه من قبل في الفصل الثاني عندما تحدَّثنا عن
توقُّف حركة الشمس في زمن يشوع ونكوصها في زمن أحآز.
٤ ولكنَّنا سنُطيل الحديث في هذا الموضوع بعد قليل؛ نظرًا إلى أنَّنا قد
وعدْنا بالحديث في هذا الفصل عن تفسير المُعجزات.
والآن حان الوقت لكي ننتقِل إلى القضية الثانية، وهي أنه لا يُمكن معرفة ماهية الله
أو وجوده أو عنايته
٥ عن طريق المُعجزات، بل إننا، على العكس من ذلك، نستطيع أن نُدرك ذلك كله
بطريقة أوضح عن طريق نظام الطبيعة الثابت الذي لا يتغيَّر. وللبرهنة على ذلك سأتَّبِع
الطريقة الآتية: لمَّا كان وجود الله غير معروف بذاته،
٦⋆ فمن
الواجب استنتاجه من أفكار تبلغ من الرُّسوخ والثبات حدًّا لا يُمكن معه وجود أو تصوُّر
قوَّةٍ قادرة على تغييرها. وعلى أقل تقدير يجب، منذ اللحظة التي نستنتِج فيها وجود الله
من هذه الأفكار، أن تظهر لنا على هذا النَّحو من الثبات والرسوخ، لو أردْنا ألا يتطرَّق
أيُّ شكٍّ إلى استنتاجنا. أما لو استطَعْنا أن نتصوَّر أن قوَّةً ما، أيًّا كانت، قد
غيَّرَت هذه الأفكار، فإنَّنا نَشكُّ عندئذٍ في صِحَّتِها، وبالتالي نشكُّ في
استنتاجنا؛ أي في وجود الله، ولن نكون على يقين من أي شيء. من ناحية أخرى، فإنَّنا
نعلَم أنَّ الشيء لا يتَّفِق مع الطبيعة أو يُناقِضها إلَّا بقدْر ما نعلم أنه يتَّفِق
مع هذه الأفكار الأساسية أو يُناقِضها، وبالتالي فلو استطعنا أن نتصوَّر شيئًا يحدُث
في
الطبيعة (أيًّا كان هذا الشيء) بقوَّةٍ تُناقِض الطبيعة، فإنَّ هذا الشيء يكون مُناقضًا
لهذه الأفكار الأولية، ويجِب رفضه باعتباره مُمتنِعًا وإلَّا وجَب علينا الشكُّ في هذه
الأفكار الأولى (كما بَيَّنَّا الآن)، ومن ثَمَّ في الله وفي كل ما أدركناه بأيَّةِ
وسيلةٍ كانت. وإذن فالمُعجزات — إذا عرَّفناها بأنها أعمال مُناقضة لنظام الطبيعة
— يستحيل أن تكون وسيلةً لإثبات وجود الله، بل إنَّها
على العكس من ذلك تجعلنا نشكُّ في وجوده، على حين أنَّنا نستطيع أن نكون على يقينٍ منه
دون مُعجزات، أي عندما نعلم أنَّ كُلَّ شيءٍ في الطبيعة يتبع نظامًا ثابتًا لا يتغير.
ومع ذلك، لنفترِض أنَّ المُعجزة هي ما لا يُمكن تفسيره بالعِلَل الطبيعية، ولكن هذا
التعريف يُمكن أن يفيد معنيَين: أن يكون لهذا الشيء عِلَل طبيعية، وإنْ كان يَستحيل على
الذهن الإنساني البحث عنها، أو ألَّا تكون له عِلَّة سوى الله، أعني إرادة الله. ولكن
لَمَّا كان كلُّ ما يحدُث بالعِلَل الطبيعية يحدُث أيضًا بإرادة الله وقُدرَتِه وحدها،
تَحتَّمَ علينا أن نَخلُص من ذلك إلى القول بأن المُعجِزة، سواء أكانت لها عِلَل طبيعية
أم لم تكن، عمل يَتجاوَز حدود الفَهم الإنساني، على أنَّهُ لا يُمكننا معرفة أيِّ شيءٍ
عن طريق مِثل هذا العمل، وبِوجهٍ عام عن طريق أي شيء يَتجاوز حدود فَهْمنا. والحقُّ
أنَّ كلَّ ما نعرفه بوضوحٍ وتَميُّزٍ يجِب أن نعرفه إمَّا بذاته وإما بشيءٍ آخَر يُعرَف
بذاته بوضوح وتميز؛ لذلك لا نستطيع، عن طريق المعجزة، أي عن طريق عمَلٍ يتجاوز حدود
فَهْمنا، معرفة ماهية الله أو وجوده أو أي شيءٍ آخَر يتعلَّق بالله وبالطبيعة. وعلى
العكس من ذلك، فعندما نعلم أنَّ الله قد حدَّد كلَّ شيءٍ ونظَّمه، وأن العمليات التي
تتمُّ في الطبيعة هي نتائج لماهية الله، «وأنَّ قوانين الطبيعة أوامر أزلية وإرادات
إلهية» فعندئذٍ حتمًا يجِب أن نستنتِج أنه كُلَّما ازدادت مَعرفتنا بالأشياء الطبيعية
وازداد تَصوُّرنا وضوحًا لكيفية اعتمادها على العِلَّة الأولى، وكيفية حدوثها طبقًا
لقوانين الطبيعة الأزلية، ازدَدْنا معرفةً بالله وبإرادته؛ وعلى ذلك، فبالنسبة إلى
ذِهنِنا تكون الأعمال التي نعرفها بوضوحٍ وتَميُّز أجدَرَ كثيرًا من الأعمال التي
نَجهلُها كلَّ الجهل، بأن تُسمَّى أعمالًا إلهية، وبأن تُرَدَّ إلى إرادة الله، على
الرغم من أنَّ هذه الأخيرة تُثير الخيال وتخلبُ ألباب الناس، ما دامت أعمال الطبيعة
التي نعرفها بوضوح وتَميُّز هي وحدَها التي تُعطينا عن الله معرفة أكمل وتكشف لنا عن
إرادته وأوامره بوضوحٍ تام؛ وعلى ذلك، فإنَّ أولئك الذين يلجئون إلى إرادة الله إذا ما
جهلوا شيئًا
٧ — وهي طريقة مُزرية للاعتراف بجهلهم — يكشفون عن تفاهة عقولهم وهم راضون.
وفضلًا عن ذلك، فحتى لو كنَّا نستطيع أن نستنتِج من المُعجزات شيئًا فإنَّنا لا نستطيع
على الإطلاق أن نستنتِج منها وجود الله لأنَّ المُعجزة عمل محدود، لا يدلُّ إلَّا على
قوةٍ محدودة، فمن المؤكد إذن أننا لا نستطيع أن نَستنتِج من مِثل هذا المعلول وجود
عِلَّة لا حدود لقوَّتِها، بل على أكثر تقدير، لأنه يَنتُج عن اجتماع كثيرٍ من العِلَل
عملٌ أقلُّ قوة بالفعل من قُوَّة هذه العِلَل مُجتمعة، ولكنه يفوق بكثيرٍ قوَّة كلِّ
عِلَّةٍ منها على حدة. على أنه لمَّا كانت قوانين الطبيعة (كما بيَّنَّا من قبل) تَسري
على عددٍ لا نهاية له من الموضوعات، ولَمَّا كُنَّا نتصوَّرها على نحوٍ من الأزلية،
كانت الطبيعة تسير طبقًا لهذه القوانين في نظامٍ ثابتٍ لا يتغيَّر، فإنَّ هذه القوانين
نفسها تكشف، في حدودها الخاصة، عن لا نهائية الله وعن أزلِيَّتِه وثَباته. ننتهي من ذلك
إذن إلى أنَّنا لا نستطيع بالمُعجزات أن نعرِف الله ووجوده وعنايته، وأنَّنا نستطيع
استِنباطها على نحوٍ أفضلَ بكثيرٍ من نظام الطبيعة الثابت الذي لا يتغيَّر. وإني
لأتحدَّث في استنتاجي هذا عن المُعجزة، حيث إنَّ المقصود بها مُجرَّد عملٍ يتجاوَزُ
حدود الفهم الإنساني أو نَعتقِد أنه يتجاوزه، أمَّا عندما نفترِض أنها تخرق نظام
الطبيعة أو تقضي عليه أو تُناقِض قوانينها، فإنها بهذا المعنى لن تقتصر (كما بيَّنَّا
من قبلُ) على أن تكون عاجزةً عن إعطاء أية معرفة عن الله، بل على العكس ستمحو المعرفة
الفطرية التي لدَينا، وتجعَلُنا نشكُّ في الله وفي كلِّ شيء. وأنا لا أعترِف هنا بأيِّ
فرق بين عمل مُناقض للطبيعة وعمل خارق للطبيعة (أي كما يدَّعي البعض: عمل لا يُناقِض
الطبيعة ومع ذلك لا يُمكن أن يَنتُج عنها أو يُؤدَّى بوساطتها). وذلك لأنَّ المعجزة
لمَّا كانت تحدُث خارج الطبيعة، بل فيها حتى مع كونها توصف بأنها فوق الطبيعة فحسب،
فإنها تخرق أيضًا بالضرورة نظام الطبيعة الذي نتصوَّره، فيما عدا ذلك، ثابتًا لا
يتغيَّر بفضل أوامر الله. وعلى ذلك، فإذا حدَث شيء في الطبيعة لا يتبع قوانينها الخاصة،
فإنَّ ذلك يُناقض النظام الضروري الذي وضعه الله في الطبيعة إلى الأبد من خلال قوانين
الطبيعة الشاملة، فهو إذن يُناقِض الطبيعة وقوانينها، وبالتالي فإنَّ التصديق بالمُعجزة
يجعلنا نشكُّ في كلِّ شيء ويؤدِّي بنا إلى الإلحاد. أظنُّ أني بذلك قد أثبتُّ ما
اعتزمتُ عرضه في النقطة الثانية بحجج مَتينة. ومن ذلك نستطيع أن نَستنتِج مرة أخرى أنَّ
أيَّةَ مُعجزة تُناقِض الطبيعة أو تتجاوز الطبيعة هي امتناع مَحْض، وبالتالي لا نستطيع
تفسير المُعجزة في الكُتب المُقدَّسة إلَّا بوصفها عملًا للطبيعة يتجاوز الفهم الإنساني
أو نعتقد أنه كذلك، كما قُلنا من قبل.
وقبل أن أنتَقِل إلى النُّقطة الثالثة يبدو لي أنَّهُ من المُفيد أن أؤيِّدَ بنصوص
الكتاب هذا الرأي الذي أدافع عنه، وهو أنَّنا لا نستطيع معرفة الله بالمُعجزة. ومع أنَّ
الكتاب لا يذكر هذا الرأي صراحة في أيٍّ من نصوصه، فإنَّ من الممكن استنتاجه من وصيَّةِ
موسى (التثنية، ١٣: ٢–٥)، عندما يحكُم بالإعدام على مُتنبئٍ بالرغم مِمَّا يُجريه من
مُعجزات، فيقول: «ولو تمَّت الآية أو المُعجِزة التي كلَّمَك عنها … إلخ، فلا تَسمَع
كلام هذا المُتنبِّئ … إلخ، فإن الربَّ إلهكم مُمتحِنكم … إلخ، وذلك المُتنبِّئ …
يقتل.» ومن ذلك يظهر بوضوحٍ أنَّ مُدَّعي النبوة يَستطيعون بدَورهم إجراء مُعجزاتٍ
وأنَّ الناس — إن لم تعصمهم معرفة الله الصحيحة وحُبُّ الله — يُمكنهم عن طريق
المُعجزات أن يعبدوا آلهةً باطلة بالسهولة نفسها التي يعبدون بها الإله الحق. ويضيف
موسى قائلًا (١٣: ٣): «فإن الربَّ إلهكم مُمتَحِنكم ليعلَمَ هل أنتم تُحبُّون الربَّ
إلهكم من كل قلوبكم ونفوسكم.» ومن ناحية أخرى لم يستطع الإسرائيليون، بالرغم من كلِّ
مُعجزاتهم، أن يكوِّنوا عن الله فكرة صحيحة، كما تشهَدُ بذلك التجربة، فعندما اعتقدوا
أنَّ موسى قد رحَلَ طلَبوا من هارون آلهةً مَرئية، وكانت فكرة الله التي كوَّنوها عن
طريق كلِّ هذه المُعجزات الكثيرة تتمثَّل (ويا للعار) في عِجل! وقد شكَّ أسآف
٨ في عناية الله بالرغم من المُعجزات العديدة التي سمِع بها وكان يحيد عن
الطريق المُستقيم، لولا أنَّهُ عرف أخيرًا السعادة الرُّوحية الحقَّة (انظر المزمور ٧٣).
٩ بل إنَّ سُليمان ذاته قد شك، في وقتٍ كان
فيه اليهود في رخاء عظيم، في أن يكون كلُّ شيءٍ وليدَ الصُّدفة (انظر الجامعة، ٣:
١٩–٢١، ٩: ٢-٣ … إلخ).
١٠ وأخيرًا، فبالنسبة إلى جميع الأنبياء تقريبًا، كانت معرفة الطريقة التي
يُمكن بها التوفيق بين نظام الطبيعة والحوادث الإنسانية وبين فِكرتهم عن الله، تُمثِّل
مشكلة عويصة حقًّا. أما الفلاسفة الذين يُحاولون معرفة الأشياء، لا بالمُعجزات بل
بأفكارٍ واضحة، فقد كانوا دائمًا يَجِدون هذه المسألة واضحة للغاية، وأنا أعني بذلك
أولئك الفلاسفة الذين يجعلون النعيم الحقيقي في الفضيلة وحدَها وفي اطمئنان النفس،
والذين لا يُحاولون إخضاع الطبيعة لأنفسهم بل يسعون، على عكس ذلك، إلى طاعتها، خاصَّةً
وأنهم على يقينٍ من أنَّ الله لا يرعى الجِنسَ البشريَّ وحده بل يرعى الطبيعة كلَّها.
وهكذا ثَبَتَ من الكتاب نفسِهِ أنَّ المُعجزات لا تُعطي معرفةً صحيحة عن الله، ولا
تدلُّ بوضوحٍ كافٍ على العناية الإلهية. والحقيقة أنَّنا كثيرًا ما نجِد في الكتاب أن
الله قد أجرى بعض الخوارق حتى يكشف عن نفسه للبشر كما هو الحال في سِفر الخروج (١٠: ٢)،
١١ حيث نجدِ أنه خدع المصريين وأعطى آياتٍ عن نفسه حتى يعلم الإسرائيليُّون
أنه الله، ولكنَّ ذلك لا يعني أنَّ المُعجزات تُعطي حقيقة مثل هذه المعلومات، بل يعني
أنه كان من السهل على اليهود — وفقًا لِما كانت عليه آراؤهم في ذلك الحين — أن
يَقتنِعوا بوساطة المُعجزات. ولقد بينا بوضوحٍ في الفصل الثاني أن الحُجَج التي تعتمد
على النبوة، أو التي تعتمد على الوحي — وكلاهما واحد — لا تبدأ من أفكارٍ شاملة
مُشتركة، بل تبدأ من مُجرَّد اتِّفاقٍ بَين مُعتقداتٍ قد تكون مُمتنِعة أو مِن أفكار
مَن أُرسِل الوحي إليهم، وبعبارة أخرى من تريد الرُّوح القُدُس إقناعهم. وقد أعطينا
أمثلةً كثيرة على ذلك بل وأيَّدْناه بشهادة بولس الذي كان يُونانيًّا مع اليونان
ويهوديًّا مع اليهود. ولكن إذا كانت هذه المُعجزات قد استطاعت أن تُقنع المصريين
واليهود نظرًا لاتفاقهم في المُعتقدات فإنَّها لا تستطيع مع ذلك أن تُعطي عن الله فكرةً
صحيحة ومعرفة حقيقية، وكلُّ ما يُمكنها أن تفعله هو أن تجعل الناس يُسلِّمون بوجود إله
أعظمَ قُدرةً من أي شيء آخر معروف، يرعى العبرانيين الذين لاقوا عندئذٍ في أعمالهم
نجاحًا يفوق ما كانوا يأمُلون، أكثر مِمَّا يرعى بقيَّةَ الناس. ولم يكن في استطاعةِ
المُعجزات أن تُعرِّف الناس بأن الله يرعى الجميع على قدَم المساواة، فهذا ما يَستطيعه
الفيلسوف وحدَه. ومن هنا، فإن اليهود — وكذلك كل مَن ترجِع فكرتهم عن العناية الإلهية
إلى التفاوت في الأرزاق واللَّامُساوة التي تُلاحَظ في الأوضاع الإنسانية — قد اقتنعوا
بأنَّ الله أكثرَ حُبًّا لليهود من الآخرين، مع أنَّهم لا يَفوقون الآخرين في الكمال
الإنساني، كما أوضَحْنا من قبلُ في الفصل الثالث.
والآن أنتقل إلى النقطة الثالثة، وأُبيِّن معتمدًا على الكتاب أنَّ أوامر الله
ووصاياه ليست في الواقع إلَّا نظام الطبيعة، وبعبارة أخرى فعندما يقول الكتاب: إن هذا
الشيء أو ذاك حدَث بالفعل طبقًا لقوانين الطبيعة ونظامها، لا بأنَّ الطبيعة قد توقَّفَت
عن الفعل بعض الوقت أو أنها خرجت على نظامها، كما يعتقد العامة، إلَّا أنَّ الكتاب لا
يُخبِرنا مُباشرةً بما يخرج عن صُلب العقيدة، لأنَّ هدفه (كما بَيَّنَّا في حديثنا عن
القانون الإلهي) ليس تعريفَنا بالأشياء من خلال عِلَلِها الطبيعية أو إعطاءنا علمًا
نظريًّا. ونتيجة لذلك، يجِب أن نَصِل إلى ما نُريد البرهنةَ عليه عن طريق الاستنتاج،
مُعتمِدين في ذلك على روايات مُعيَّنة في الكتاب، كانت بالصُّدفة أطول من غيرها وأكثر
تفصيلًا. وإذن فسأذكر بعضًا منها. يُورِد سِفر صموئيل الأول (٩: ١٥-١٦)
١٢ رواية الوحي الذي أعطى الله صموئيل والذي أرسل له فيه شاءول، ومع ذلك لم
يُرسِل الله شاءول لصموئيل كما اعتاد الناس إرسال واحد منهم للآخر؛ إذ لم تكن رسالة
الله هذه إلَّا نظام الطبيعة؛ فقد كان شاءول يبحَثُ عن بعض البغال التي فقدَها (هذه هي
رواية الإصحاح المذكور) وفكَّر بالفعل في الرجوع إلى البيت بِدُونها عندما نصَحَه
خادِمُه بأن يذهب إلى النبيِّ ليُخبِره بمكانها. ولا تُشير الرواية مُطلقًا إلى أنَّ
الله قد أمر شاءول بالذهاب إلى صموئيل لأيِّ سببٍ آخَر سوى هذا السبب المُتَّفِق مع
نظام الطبيعة. ويُذكَر في المزمور ١٠٥، الآية ٢٤،
١٣ أنَّ الله غيَّر مشاعر المصريين وجعلهم يَكرهون الإسرائيليين، على أنَّ
التغيير كان طبيعيًّا إلى أبعدِ حَدٍّ كما يدلُّ على ذلك الإصحاح الأول من سفر الخروج،
الذي يتحدَّث عن السبب الخطير الذي من أجله استعبَدَ المصريون الإسرائيليين،
١٤ وفي الإصحاح التاسع، الآية ١٣ من سفر التكوين
١٥ يُخبِر الله نوحًا بأنه سيظهَر قوس قزَح في السحاب، على أنَّ فعل الله هذا
ليس إلَّا تعبيرًا عن سقوط أشعة الشمس وانعكاسها الذي يحدُث للأشعة نفسها عندما تسقُط
على قطرات الماء. وقد أطلق المزمور ١٤٧، الآية ١٨
١٦ الفعل الطبيعي لريحٍ ساخنة تُسيل الصقيع والثلج اسم كلمة الله، وفي الآية ١٥
١٧ سُمِّيت الريح الباردة كلام الله وكلمته. وسُمِّيت النار والرِّيح في
المزمور ١٠٤، الآية ٤
١٨ باسم رسل الله وخدمه. وبالمِثل نجد في الكتاب نصوصًا أخرى كثيرة من هذا
النوع تدلُّ بوضوحٍ تامٍّ على أنَّ أمر الله ووصيَّتَه وكلامه وكلمته ما هي إلا فعل
الطبيعة ذاتها ونظامها. لا شكَّ إذن في أنَّ كلَّ ما يَرويه الكتاب قد حدث بالفعل، ومع
ذلك، فقد نُسِبت هذه الحوادث إلى الله، لأنَّ الكتاب — كما بَيَّنَّا من قبل — لا يَرمي
إلى التعريف بالأشياء عن طريق عِلَلِها الطبيعية، بل إنَّ كُلَّ ما يَرمي إليه هو أن
يَحكي أشياء يُمكنها أن تَحتلَّ في الخيال مكانة خاصَّة، وبأسلوب كفيل بإثارة أكبر قدْر
من الإعجاب، وبالتالي يبثُّ الخشوع في نفوس العامَّة. وعلى ذلك فإذا وجَدْنا أنَّ
الكُتُب المُقدسة قد روت بعض الحوادث التي نجهَل عِلَلها وكأنَّها قد وقعَتْ خارج نظام
الطبيعة، بل وعلى نحوٍ مُناقضٍ له، فلا ينبغي أن نتوقف عندها بل نعتقد أنَّ كلَّ ما
حدَث بالفعل قد حدَثَ بطريقةٍ طبيعية. ومِمَّا يؤيِّد رأينا هذا أيضًا وجود مُلابساتٍ
عديدة في المُعجزات تكشِف عن ضرورة العِلَل الطبيعية، حتى ولو كانت هذه المُلابَسات
حُذِفت أحيانًا، وخاصَّةً عندما يستعمل الراوي أُسلوبًا شعريًّا، فقد ذرَّ موسى
الرَّماد في الهواء ليُعدي المصريين (انظر: الخروج، ٩: ١٠)،
١٩ كذلك غزا الجراد مصر بأمرٍ طبيعي من الله، أعني بريحٍ شرقية هبَّت طيلة
يومٍ كامل وليلة، ثُمَّ طُرد الجراد بريحٍ غريبة عاتية (انظر: الخروج، ١٠: ١٤، ١٩).
٢٠ وقد انشقَّ البحر بأمر الله حتى يَمُرَّ اليهود منه (الخروج، ١٤: ٢١)
٢١ وهبت الأوروس
٢٢ بشدَّة ليلة كاملة. كذلك كان لا بُدَّ، لكي يُعيد أليشاع
٢٣ الحياة إلى الطفل الذي ظنَّ الجميع أنه قد مات، أن يستلقي بجواره بعض الوقت
حتى يبعَثَ فيه الدفء وفتح الطفل عينيه (انظر: الملوك الثاني، ٤: ٣٤-٣٥)،
٢٤ وكذلك يروي إنجيل يوحنا (الإصحاح ٩)
٢٥ بعض المُلابسات التي استخدمها المسيح
لشفاء الأعمى، كما نجِد في الكتاب نصوصًا أخرى كثيرة تكفي لبيان أنَّ المُعجزات تتطلَّب
شيئًا آخر إلى جانب الأمر المُطلَق — كما يُسمُّونه —
الله. فيجب إذن أن نعتقِد أنه بالرغم من مُلابسات الحوادث وعِلَلها الطبيعية لا تُروى
دائمًا أو لا تُروى كلها، فإنها كانت دائمًا موجودة، ويتَّضِح هذا في سفر الخروج (١٤:
٢٧)،
٢٦ حيث رُوي فقط أن البحر قد أطاح موسى بحركةٍ يسيرة منه دون أي ذِكر للرِّيح،
مع أن نشيد الإنشاد (١٥: ١٠)
٢٧ يُذكَر أنَّ هذا قد حدَث بالفعل لأنَّ الله قد نفَخَ ريحه (أي ريحًا صرصرًا
عاتية)؛ ذلك لأنَّ حذف هذا الظرف التفصيلي يجعل المُعجزة تبدو أعظم، ولكن قد يُصِرُّ
أحد قائلًا: إنَّنا يمكن أن نجد في الكُتب المقدسة حوادث عديدة يبدو أنه لا يُمكن على
أي نحوٍ تفسيرها بعِلَلٍ طبيعية كالقول مَثَلًا إنَّ خطايا البشر وصلواتهم يُمكن أن
تكون عِلة المطر والخصب للأرض، أو إنَّ الإيمان يُمكن أن يَشفي العمى، وما شابَهَ ذلك
من الحوادث التي رَوتها الكتُب المُقدَّسة. وأعتقد أنَّني أجبتُ عن هذا الاعتراض من
قبل، وبيَّنتُ أنَّ الكتاب لا يُعرِّفنا الأشياء بِعِلَلها القريبة بل يَرويها بترتيبٍ
وأسلوبٍ مِن شأنهما أنْ يُثيرا في الناس، وفي العامَّة بوجهٍ خاص، أعظمَ قدْرٍ مُمكن
من
الخشوع؛ لذلك يتحدَّث الكتاب عن الله وعن الأشياء بأسلوبٍ غير دقيق، لأنَّه — فيما أقول
— لا يُريد إقناع العقل، بل يُريد إثارة الخيال وشحْذ قُدرته على التصوير. فلو روى
الكاتِب سقوط دولة ما على طريقة المُؤرِّخين السياسيين، لَمَا حرَّك ساكنًا عند
العامَّة، على حِين أنَّ الأثر يعظُم عندما يصِف ما حدَثَ بأسلوبٍ شاعري، وينسِبُه إلى
الله كما تعوَّد أن يفعل، وإذن فعندما يَروي الكتاب أن الأرض جدباء بسبب خطايا البشر،
أو أنَّ العميان أبصروا بالإيمان، فلا ينبغي أن تُؤثِّر فينا هذه الروايات أكثرَ مِمَّا
تؤثر فينا رواية أنَّ الله قد غضب وحزن وندم على ما فعله أو على ما وعَدَ به بسبب خطايا
البشر، أو أنَّ الله تذكَّر وعده عندما رأى آية، وكثيرًا من الروايات الأخرى التي هي
في
الحقيقة إبداع شعري أو تعبير عن آراء الراوي وأحكامه المُسبَقَة. نستنتج إذن على نحوٍ
قاطع أن كلَّ ما يَرويه الكتاب على أنه حدَث بالفعل، قد حدث بالضرورة طبقًا لقوانين
الطبيعة، شأنُهُ شأن كلِّ ما يحدُث، وإذا وجدْنا حادثةً ما نستطيع أن نُوقِنَ بأنها
تُناقِض قوانين الطبيعة أو بأنها لم تصدُر عنها فيجِب أن نعتقد أنها إضافة إلى الكتب
المُقدَّسة أقحَمَها العابثون بالمُقدَّسات؛ ذلك لأنَّ كلَّ ما يُناقِض الطبيعة يُناقِض
العقل، وكل ما يُناقِض العقل مُمتنِع ومِن ثَمَّ وجَبَ رفضُه.
لم يبقَ إذن إلَّا أن نُبدي بعض الملاحظات على تفسير المُعجزات، أو بالأحرى أن نجمع
ما اعتزمنا إثباته في النُّقطة الرابعة في هذا الموضوع، وأن نُوضِّحه بمثَلٍ أو
بِمَثلين بعد أن تحدَّثنا من قبل عن أهمِّ ما فيه، وسأفعل ذلك خشية أن تُثير مُعجزة
أسيءَ تفسيرُها الشكَّ في أن يكون بعض ما في الكتاب مُناقضًا للنور الفطري، فنادرًا ما
يروي الناس شيئًا كما حدَثَ بسهولة، دون إقحام رأيهم الخاص فيه، ولتُضِف إلى ذلك أنهم
إذا أرادوا شيئًا جديدًا أو سمعوا به، فإنَّ أذهانهم — ما لم يحترسوا كل الاحتراس من
آرائهم وأحكامهم المُسبقة — تنشغل بهذه الآراء المُسبقة إلى حدِّ أنهم يُدركون شيئًا
مُخالفًا كلَّ الاختلاف لما رأوه أو لِمَا تعلَّموه من الآخرين، ولا سيما إذا كان الأمر
مُتعلقًا بشيء يتجاوز فهم الراوي أو السامع، وبوجهٍ أخصَّ إذا كانت لهذا أو ذاك مصلحة
في أن يحدُث الشيء على نحوٍ مُعيَّن؛ ونتيجة لذلك يروي الناس في أخبارهم وفي قصصهم
آراءهم الخاصة أكثر مِمَّا يَروُون الحوادث التي وقعت بالفعل، فتُروى الحادثة الواحدة،
على يدِ شخصَين مُختلفي الآراء، بطريقتَين مُختلفتَين كلَّ الاختلاف، حتى ليبدو أنهما
يتحدَّثان عن واقِعَتَين مُختلفتَين. وأخيرًا فمن السهل للوصول للغاية، في كثيرٍ من
الأحيان، إرجاع الروايات إلى مصادرها في أفكار الراوي أو المُؤرِّخ. وأستطيع هنا أن
أُعطي أمثلةً كثيرة من الرواةِ والفلاسفة الذين كتبوا التاريخ الطبيعي، تأكيدًا لما
أقول، ولكنِّي أرى أننا لسْنا في حاجةٍ إلى ذلك، وسأكتفي بمَثَلٍ واحدٍ من الكتاب،
ويستطيع القارئ أن يحكم بنفسه على الباقين. كان العبرانيُّون في زمن يشوع (وقد أبدينا
هذه الملاحظة قبل ذلك) يعتقدون أن الشمس تتحرك حركةً تُسمَّى يومية، في حِين تَظلُّ
الأرض ثابتة، ثُمَّ كيَّفوا طبقًا لهذه الفكرة المُسبقة المعجزة لله التي حدَثَت في
أثناء معركتهم ضِدَّ الملوك الخمسة، فلم يَروُوا فقط أنَّ النهار قد طال أكثر من
المعتاد، بل رَوَوا أيضًا أنَّ الشمس والقمر قد توقَّفا، أي إنَّ حركتهما قد انقطعت،
وكانت القصَّة، معروضةً على هذا النحو نافِعةً للغاية
في ذلك الوقت لإقناع غير اليهود عبَدَةُ الشمس
وللبَرْهنة لهم بالتجربة ذاتها على أنَّ الشمس خاضعة لقوة إلهية أُخرى تستطيع بفِعلٍ
يَسيرٍ أن تُغيِّر مسارها الطبيعي، وهكذا فإنهم، بدافع العقيدة ومن الرأي المُسبَق في
آنٍ واحد، قد تصوَّروا الأمر ورَوَوه على نحوٍ مُخالف كلَّ الاختلاف لِمَا كان من
المُمكن أن يقع بالفعل. وعلى ذلك، فإذا أردْنا تفسير مُعجزات الكتاب، وإذا شئنا أن نعرف
من رواياته كيف حدَثَت الأمور بالفعل، فمن الضروري أن نعرِف آراء الرواة الأُوَل،
وأوَّل من دَوَّنوا الرواية، ثم نُميِّز بين هذه الأفكار وبين التصوُّر الحِسِّي الذي
كان يُمكن أن يتكوَّن لدى الواقعة موضوع الرواية، وإلَّا فإنَّنا سنخلِط بين المُعجزة
نفسها كما حدثت بالفعل وبين أفكار رُواتها وأحكامهم. كذلك يجِب علينا أن نعرف أفكار
الراوي، لا لكي نتجنَّب هذا الخلْط فحسب، بل لكي لا نخلِط أيضًا بين الأشياء التي حدثت
بالفعل وبين الأشياء الخيالية التي لم تكن إلَّا رُؤَى نبوية، فقد نُقِلت أشياء كثيرة
في الكتاب على أنها وقعتْ بالفعل، وظنَّها الناس كذلك، ولكنها لم تكن إلَّا رُؤًى
وأمورًا خيالية، مثل نزول الله (وهو الموجود الأعظم) من السماء (انظر: الخروج، ١٩: ١٨؛
التثنية، ٥: ٢٣–٢٦)،
٢٨ وتصاعُدِ الدُّخان من جبل سيناء؛ لأنَّ الله قد نزل مُحاطًا بالنار، وصعود
إلياس إلى السماء في عربةٍ مِن نارٍ وعلى خُيولٍ من نار، وكلها بلا شكٍّ لا تعدو أن
تكون رؤَى تتناسب مع آراء أولئك الذين قصُّوا علينا رُؤاهم كما تَصوَّرُوها، أعني كأنها
وقائع. والحقيقة أنَّ كُلَّ من لدَيهم معرفة تفُوق بقليلٍ معارف العامَّة يَعلمون أنَّ
الله ليس له يمين أو يسار، وأنه لا يتحرَّك ولا يسكن، ولا يُوجَد في مكان، بل هو لا
مُتَناهٍ على نحوٍ مُطلق، يحتوي في ذاته على جميع الكمالات. أقول: إنَّ العلم بذلك
يتوافَرُ لدى من يحكمون على الأشياء بإدراكات الذهن الخالص لا تَبَعًا للانطباع الذي
تُعطيه الحواس الخارجية للخيال، كما يفعل العامَّة
عندما يصطنعون إلهًا مُجسَّمًا، يتمتَّعُ بسُلطة ملكية ويرتكز عرشُهُ على قُبَّةِ
السماء فوق النجوم، التي لا يَعتقِد الجاهل أنها على بُعدٍ شاسِعٍ من الأرض ويرتبِط
بهذه الأفكار وما شابَهَها (كما قُلنا من قبل) عددٌ كبير من الوقائع التي يَرويها
الكتاب والتي لا ينبغي على الفيلسوف التسليم بها وكأنَّها حدثَتْ بالفعل. وأخيرًا فلكي
تُعرَف الحوادث المُعجزة كما وقعَتْ بالفعل علينا أن نتعرَّف على الأساليب الخطابية
والصور البلاغية التي يَستعملها العبرانيون، فإن لم نَنْتبه إليها فسنرى في الكتاب
كثيرًا من المُعجزات المُختلفة التي لم يُفكِّر من قاموا بتدوينها في روايتها أبدًا،
ومن ثَمَّ نجهَل تمامًا الوقائع والمُعجِزات كما حدثت بالفعل، بل نجهل أيضًا فكر
مُؤلِّفي الكُتُب المُقدَّسة. فمثلًا يتحدَّث زكريا (١٤:
٧) عن حربٍ مُستقبلة فيقول: «ويكون يوم وهو معلوم عند
الرَّبِّ ليس نهارًا ولا ليلًا، بل يكون وقت المساء نورًا.» فيبدو أنه بهذه الكلمات
تنبَّأ بمُعجزة كبيرة، ومع ذلك فهي لا تعني أكثر من أنَّ نهاية الحرب التي يعرفها الله
وحدَه ستظلُّ مجهولةً طوال النهار، وفي المساء سيتمُّ النصر، فقد تعود الأنبياء بِمِثل
هذه العبارات أن يتنبَّئوا بانتصارات الأُمَّة وهزائمها؛ وعلى هذا النحو نرى أشعيا وهو
يصِف في الإصحاح ١٣ هدْم بابل: «إن كواكب السماء ونجومها لا تبعَث نورها، والشمس تُظلِم
في خروجها، والقمر لا يُضيء بنُورِه.» ولا أظنُّ أنَّ هُناك من يَعتقِد بأنَّ ذلك قد
حدث بالفعل عندما هدمت إمبراطورية بابل، وكذلك ما يُضيفه بعد ذلك: «فإني سأزعزع السماء
وأزلزل الأرض عن مقرها.» وكذلك يقول أشعيا (٤٨، الآية قبل الأخيرة) ليُخبِر اليهود
بأنهم سيرجعون من بابل سالمين إلى أورشليم، وبأنهم لن يُقاسُوا من الظمأ في الطريق «فلم
يعطشوا حين سَيرهم في القفار بل فجَّر لهم المياه من الصخر، شقَّ الصخر ففاضَتِ
المياه.» فكلُّ ما يَقصِده بكلماته هذه هو أن اليهود سيجدون في الصحراء كما حدَث
بالفعل، ينابيع تروي ظمأهم. وعندما عادوا إلى بيت المَقدِس بعد موافقة قورش
٢٩ لم تحدُث مِثل هذه المُعجزات بالفعل. وفي الكُتب المُقدَّسة أمثلة عديدة من
هذا النوع. وما هي في الحقيقة إلَّا أساليب في التعبير شائعة بين العبرانيِّين، ولسْنا
في حاجةٍ إلى سردِها كلها، يكفي أن أذكُر فقط أنَّ هذه الطرق في التعبير، التي اعتادها
العبرانيُّون، ليست مُجرَّد مُحسِّنات بديعية، بل هي
أساسًا علامات تدلُّ على الخشوع؛ لذلك نجِد في هذه الكتُب استعمال بارك الله بمعنى لعن
(انظر: الملوك الأول، ٢١: ١٠، أيوب، ٢: ٩)
٣٠ وللسبب نفسه أرجعوا كلَّ شيء إلى الله، وبالتالي يبدو أن الكتاب لا يروي
إلَّا مُعجزات مع أنه لا يتحدَّث إلا عن أشياء طبيعية بمعنى الكلمة. وقد قدَّمنا من
قبلُ الأمثلة على ذلك، وإذن فعندما يقول الكتاب: إن الله قد طبع قلب فرعون على القسوة،
يجِب أن نعتقِد أنَّ ذلك لا يعني إلَّا أن فرعون قد عصى. وعندما يُقال: إن الله قد فتح
نوافذ السماء، فذلك يعني أن المطر قد سقَطَ بغزارة وهكذا.
٣١ فإذا راعَينا هذه الخاصِّيَّة بدقَّة، وتنبَّهنا إلى أنَّ كثيرًا من
الروايات مُختصَرة للغاية، ولا تُعطي إلَّا تفصيلاتٍ قليلة، وقد تكون مَبتورة، فإنَّنا
لا نكاد نجِد في الكتاب شيئًا يُمكن البرهنة على أنه مُناقض للنُّور الفطري. ويُصبِح
كثيرٌ من النصوص التي بدَتْ غامضة مفهومة بعد شيءٍ من التفكير، وبذلك يَسهُل
تفسيرها.
أظنُّني الآن قد بيَّنتُ بقدرٍ كافٍ من الوضوح ما قصدت إليه، ومع ذلك فقبل أن أنتهي
من هذا الفصل أودُّ أن أُبدي ملاحظة أخرى، لقد اتَّبَعتُ فيما يتعلق بالمُعجزات منهجًا
مُخالفًا كلَّ الاختلاف للمنهج الذي اتَّبَعتُه في حديثي عن النبوة؛ إذ لم أثبت شيئًا
من النبوَّة إلَّا ما استنبَطتُه من المبادئ المُوحى بها في الكُتُب المقدَّسة، على حين
أني اعتمدتُ أساسًا في هذا الفصل على المبادئ التي يُمليها النُّور الطبيعي. وقد فعلت
ذلك عمدًا لأن النبوَّة، في ذاتها، تتعدَّى حدود الفهم الإنساني، وهي موضوع اللاهوت
الخالِص؛ لذلك لم أكن أستطيع أن أُثبتَ أو أعلم شيئًا بشأنها إلَّا من مُعطيات الوحي
الأساسية، وبالتالي اضطررتُ إلى أن أفحَصَ النبوَّة أولًا كمؤرخ،
٣٢ وأن أستخلِص من دراستي بعض النظريات التي تُمكِّنني — بالقدر المُستطاع —
من معرفة طبيعتها وخصائصها. وعلى العكس من ذلك، فلمَّا كان موضوع بحثنا في المُعجزات
وهو: هل نستطيع التسليم بحدوث شيءٍ ما في الطبيعة يُناقِض قوانينها أو يَستحيل استنباطه
منها — بحثًا فلسفيًّا محضًا — فإني لم أكن في حاجةٍ إلى شيء كهذا، بل لقد وجدتُ أن من
الأصوبِ بحثَ هذه المسألة بالأسس المعروفة بالنور الفطري،
٣٣ وبأفضل ما نعرفه منها بقدر الإمكان، أقول: ظننتُ أنه من الأصوب؛ لأني كنتُ
أستطيع بحثها بسهولة بعقائد ومُعطيات مُستمدَّة من الكتاب وحده، وسأعرِضها هنا بإيجازٍ
حتى يراها الجميع. يؤكد الكتاب في بعض النصوص عن الطبيعة بوجهٍ عام، أنها تسير طبقًا
لنظامٍ ثابتٍ لا يتغير، كما نرى مثلًا في المزمور ١٤٨: ٦،
٣٤ وفي إرميا (٣١: ٣٥-٣٦).
٣٥ ويذهب الفيلسوف بدوره في «الجامعة» (١: ١٠)
٣٦ بوضوح تام إلى أنه لا جديد يحدُث في الطبيعة، ويشرح في الآيات ١١، ١٢،
٣٧ هذه العبارة بأن يُضيف أن شيئًا يبدو جديدًا يحدُث بالفعل في بعض الأحيان،
ولكن هذه الجديَّة ليست حقيقية، فقد حدثَتِ الحالة نفسها في قُرونَ ماضية لا نتذكَّرها
الآن؛ إذ لم تَعُد لدينا، كما يقول، أيَّةُ ذكريات من العصور الماضية، ولن يحتفظ الخلَف
بأيَّةِ ذكرى مِمَّن يعيشون في زماننا هذا. ويقول بعد ذلك (٣: ١١)،
٣٨ إن الله قد نظَّم كُلَّ شيء بإتقانٍ في الزمن القديم. ويقول في الآية ١٤
٣٩ إنه يعلم أن كلَّ ما يفعل الله يظلُّ إلى الأبد، دون أن يُضاف إليه أو
يُنقَص منه شيء. كل ذلك يدلُّ بوضوحٍ تامٍّ على أن الطبيعة تَسير وفقًا لنظامٍ ثابتٍ
لا
يتغيَّر، وعلى أنَّ الله ظلَّ كما هو في جميع العصور التي نعرفها والتي لا نعرفها، وأن
قوانين الطبيعة كاملة وخصبة إلى حدٍّ لا يُمكن معه إضافة شيءٍ إليها أو إنقاصُ شيءٍ
منها. وأخيرًا فالمُعجِزات لا تبدو شيئًا جديدًا إلَّا لجهل الناس بأنَّ الكتاب
يُعلِّمنا ذلك صراحة، ولكنه لا يقول في أيٍّ مِن نصوصه إنَّ شيئًا ما يحدُث في الطبيعة
مُناقِضًا قوانينها أو يَستحيل استنباطُه منها، فلا ينبغي إذن أن تدخُل في الكتاب هذه
الخُرافة. ولنُضِف إلى ذلك، أنَّ المُعجزات تتطلَّب كما بَيَّنَّا من قبلُ عللًا
ومُلابساتٍ وليست نتيجةً لتلك القوى الملكية التي يَنسِبُها العامَّة زورًا وبهتانًا
إلى الله، بل هي نتيجة لقُدرة الله وأمره، أي (كما بَيَّنَّا بوساطة الكتاب نفسه) عن
قوانين الطبيعة ونظامها. ولنقل أخيرًا: إن أساطين الكَذِب يَستطيعون هم أنفسهم إجراء
مُعجزات، ودَليلُنا على ذلك الإصحاح ١٣
٤٠ من التثنية، والإصحاح ٢٤ من متى.
٤١ يَتبيَّن من ذلك بأعظم قدْرٍ من الوضوح أنَّ المُعجزات كانت ظواهر طبيعية،
بالتالي يَجِب تفسيرها بحيث لا تبدو جديدة (مُستعيرين عبارة سُليمان) أو مُناقِضة
للطبيعة، بل يجِب أن نُفسِّرها مُبيِّنين، بقدر ما نستطيع، اتِّفاقها التامَّ مع سائر
الأشياء الطبيعية. وقد قدَّمت بعض القواعد التي استخلصتُها من الكتاب حتى يستطيع كلُّ
فردٍ أن ينظُر إلى المُعجزة على هذا النحو دونما حرج. ومع ذلك، فعندما أقول: إنَّ هذه
هي تعاليم الكتاب فإني لا أقصِد أنَّ الكتاب يُعطي هذه التعاليم بحسبانها ضرورية
للخَلَاص، بل إنَّ كلَّ ما أقصده هو أنَّ الأنبياء كانت لديهم الطريقة نفسها التي
لَدَينا في النظر إلى الأمور، وإذن فِلكلِّ فردٍ الحرية في أن يَحكم طبقًا لِمَا يراه
أفضل وسيلةٍ تؤدي إلى أن يَمتلئَ قلبه بالعقيدة وبعبادة الله، وهذا ما كان يعتقِدُه
يوسف؛ لأنه يقول في آخِر الكتاب الثاني من «أخبار الأقدمين»: «لا يَجِب على أحدٍ لهذا
السبب أن يرفُض الاعتقاد بأنَّ الأمر يتعلَّق بواقعةٍ مُعجِزة، وبأنَّ أناسًا من
القدماء، لم يعرفوا الرذيلة، قد انشقَّ لهم عبر البحر طريق للنَّجاة، سواء أكان ذلك
بإرادة الله أم كان تلقائيًّا، على حين رأى جنود الإسكندر، ملك مقدونيا،
بحر بمافيليا يتراجَع أمامهم، وأصبَحَ لهم طريقًا
بعد أن ضلُّوا كلَّ طريقٍ وذلك عندما أراد الله أن يَقضي على قوَّة الفُرس. هذا ما
يَتَّفِق عليه تمامًا جميع رُواة أخبار الإسكندر، فلِكلِّ فردٍ الحريَّة في أن يعتقد
ما يشاء.»
٤٢ تلك هي أقوال يوسف وهذا هو حُكمه على الإيمان بالمُعجزات.