الفصل التاسع
أبحاث أخرى حوْل الأسفار نفسها، هل عزرا هو آخِر مَن
صاغها؟
أبحاث أخرى حوْل الأسفار نفسها، هل عزرا هو آخِر مَن صاغها؟ وهل التعليقات
الهامِشيَّة الموجودة في المخطوطات العِبرية قراءات مُختلفة؟
***
يتبيَّن بوضوحٍ من النصوص نفسها التي اقتبَسْناها تأييدًا لوجهة
نظرِنا في الفصل السابق، أنَّ البحث الذي قُمنا به في هذا الفصل عن مُؤلِّفها الحقيقي
يُعينُنا إلى أبعدِ حدٍّ في فَهم هذه الأسفار؛ إذ إنَّ هذه النصوص تبدو للجميع، بدون
هذا البحث، غامِضة للغاية. ومع ذلك تُوجَد في هذه الأسفار موضوعات أخرى تستحقُّ
المُلاحظة، ويؤدي شيوع الخُرافة إلى الحيلولة دُون تنبُّهِ العامَّة إليها. والمسألة
الأساسِيَّة هي أنَّ عزرا (الذي أعُدُّه المُؤلِّفَ الحقيقي، طالَما لم يُبرهِنْ لي
أحدٌ على مؤلِّفٍ آخَر بِبُرهانٍ أكثر يقينًا) لم يكن آخِر مَن صاغَ الرواياتِ
المُتضمَّنة في هذه الأسفار، وأنَّهُ لم يفعل أكثر من أنَّهُ جمَعَ رواياتٍ موجودة عند
كُتَّابٍ مُتعدِّدين، وفي بعض الأحيان كان يقتصِر على نَسْخها، ونقلِها على هذا النحو
إلى الخلَف دون فحْصِها أو ترتيبها. ولا أستطيع أن أُخمِّن الأسباب التي منعتْهُ من
إتمام عمله هذا بحيث يُولِيهِ كُلَّ عِنايَتِهِ (إلَّا إذا كان مَوتًا مُبكرًا). ولكن،
على الرغم من فقدان مُؤلفات المؤرِّخين القُدماء، فإنَّ العدد القليل جدًّا من
الشَّذَرات المُتبقِّية لدَينا يُثبِت هذه الحقيقة بوضوحٍ تام، فقِصَّةُ حزقيا ابتداءً
من الآية ١٧، الإصحاح ١٨ من سِفر الملوك الثاني، نُسخةٌ من رواية أشعيا كما نُقِلَت في
أخبار ملوك يهوذا. ففي كتاب أشعيا المُتضمَّن في أخبار ملوك يهوذا (انظر: أخبار الأيام
الثاني، الإصحاح ٣٢، الآية قبل الأخيرة)،
١ نقرأ هذه القصة بأكملها بالألفاظ نفسها المُستخدَمة في سفر الملوك، فيما
عدا بعض الاستثناءات النادرة للغاية،
٢⋆ وهذه
الاستثناءات لا يُمكن أن نَستنتِج منها سوى وجود قراءاتٍ مُختلفة لرواية أشعيا تجمع
بعضها مع البعض، إلَّا إذا كُنَّا نُفضِّل أن نحلُم بوجود أسرار في هذا الموضوع. ومن
ناحية أخرى، نجِد أن الإصحاح الأخير من سِفر الملوك هذا مُتضمَّن في الإصحاح الأخير من
إرميا، الآيات ٣٩، ٤٠،
٣ وكذلك نجِد الإصحاح ٧ من سِفر صموئيل الثاني مُكرَّرًا في سِفر الأخبار
الأول (الإصحاح ١٧)،
٤ ومع ذلك، فإن الألفاظ تختلِف في فقراتٍ مُتعدِّدة بطريقةٍ تدعو للدهشة
٥⋆ إلى
حدٍّ يتعيَّن معه الاعتراف بأنَّ هذَين الإصحاحَين مأخُوذان من صِيغتَين مُختلفتَين
لقصَّة ناثان.
٦ وأخيرًا نجِد أنَّ شجرة نسَب ملوك أدوميا كما وردَتْ في «التكوين» الإصحاح ٣٦
٧⋆
ابتداءً من الآية ٣١ موجودة في الألفاظ نفسها في سِفر الأخبار الأول (الإصحاح الأول)
٨ وإن كان من المؤكد أنَّ مُؤلِّف هذا السِّفر الأخير أخَذَ روايَتَه من
مُؤرِّخين آخَرين، لا من الأسفار الاثنَي عشر التي نَسبناها إلى عزرا. فلا شكَّ إذن
أنَّنا لو كُنَّا لا نزال نملك كتابات المُؤرِّخين لتحقَّقْنا من ذلك الأمر بسهولة،
ولكن لمَّا كانت هذه الكتابات مَفقودة فلا يبقى أمامنا إلَّا أن نفحَصَ الرِّوايات
نفسَها من حيث ترتيبها وتَسلسُلِها وطريقة تكرارها مع بعض التغييرات، ثُمَّ اختلافها
في
حسابِ السِّنين، وهذا ما يَسمَحُ لنا بالحُكم على بقِيَّة الأمور.
فلنفْحَص إذن هذه الروايات، أو على الأقلِّ
الرئيسة منها، ولنبدأ بهذه القِصَّة التي تدور حول يهوذا وثامار،
٩ والتي يبدؤها الراوي في التكوين (الإصحاح ٣٨)، وهكذا: «وكان في ذلك الوقت
أنَّ يَهوذا انفرَدَ عن إخوته.» وواضحٌ أنَّ الوقت المذكور هنا يتعلَّقُ بوقتٍ آخر
تحدَّث عنه قبل ذلك، وليس هو على وجهِ التَّحديد الوقت الذي تحدَّث عنه سِفر التكوين
قبل ذلك مُباشرةً، فالواقع أنه منذ نزول يوسف مصر لأول مرة، حتى ذهاب البطريق يعقوب مع
جميع أفراد عائلته إلى هذا البلد نفسه، لا نستطيع أن نَعُدَّ أكثر من اثنتَين وعشرين
سنة؛ فقد كان عُمر يوسف سبعةَ عشر عامًا عندما باعَهُ إخوته، وكان عمرُه ثلاثين عامًا
عندما أخرَجَه فرعون من السِّجن، فإذا أضَفْنا إلى هذه السِّنين الثلاث عشرةَ سبْعَ
سِنين من الرَّخاء وسنَتَين من المجاعة يكون المجموع اثنتَين وعِشرين سنة. ومع ذلك لا
يمكن أن يتصوَّر أحد حدوث كلِّ هذه الأشياء في مِثل هذا الوقت القصير؛ أعني أن يُصبِح
يهوذا أبًا لثلاثة أطفال على التَّوالي من المرأة الوحيدة التي تزوَّجَها، وأن يتزوَّج
أكبرَ هؤلاء الثلاثة ثامار عند بلوغِهِ سِنَّ الزَّواج، وأن تتزوَّج ثامار من جديدٍ بعد
مَوت الابن الثاني، وبعد موته هو الآخر، أي بعد هاتَين الزِّيجتَين وهاتين المَيْتَتين،
يُعاشِر يهوذا زوجة أبنائه ثامار دون أن يعرِف من تكون، ثُمَّ يُولَدُ له طفلان توءمان
يُصبِح أحدهما أبًا في هذا الوقت القصير ذاته. ولَمَّا كان مِن المُستحيل وقوع هذه
الحوادث كلها في الوقت القصير الذي يُشير إليه «التكوين» وجَبَ إرجاعها إلى وقتٍ آخَرَ
سبق أن تحدَّث عنه سِفرٌ آخر. ومِن ثَمَّ فلا بُدَّ أنَّ عزرا نقَلَ هذه القِصَّة
بسهولةٍ وأدخلها في النَّصِّ دون فحص. ولا يقتَصِر الحال على هذا الإصحاح فقط، بل إنَّ
هذا ينطبِقُ على كلِّ قصَّةِ يوسف ويعقوب، التي ينبغي الاعترافُ بأنها استُخلِصَت
ونُقِلت من عددٍ من المؤرخين بدليل وجود اختلافاتٍ بين أجزائها المُتعدِّدة؛ ففي
الإصحاح ٤٧ يُروى في «التكوين» أنَّ يعقوب عندما أتى به يُوسف ليُحَيِّيَ فرعون لأول
مرَّة كان عُمره يومئذٍ مائةً وثلاثين عامًا.
١٠ فإذا طرَحْنا اثنين وعشرين عامًا قضاها حُزنًا على فقدانه يوسف، وسبعة عشر
عامًا عمر يوسف وقتَ بيعه، وسبعةَ أعوامٍ خدَم فيها يعقوب راحيل،
١١ نجِد أنَّهُ كان مُتقدِّمًا جدًّا في السن، أي كان عمره أربعةً وثمانين
عامًا، عندما تزوَّج ليئة.
١٢ وفي مُقابل ذلك، كان عُمر دينة
١٣ تقريبًا سبعة أعوام
١٤⋆ عندما
اغتصبها شكيم وكان عُمر شمعون
١٥ اثني عشر عامًا وعمر لاوي
١٦ أحد عشر عامًا تقريبًا عندما خرَّبوا هذه المدينة التي يتحدَّث عنها
«التكوين» عن آخرها، وقتلوا كلَّ سُكَّانها بالسيف. ولَسْنا في حاجةٍ هُنا إلى أن نبحث
كلَّ مُحتويات الأسفار الخمسة، والخلْط في الأزمنة والتَّكرار المُستمر للقصص نفسها مع
بعض التغييرات الخطيرة أحيانًا، لكي نُسلِّم بسهولة بأنَّنا أمام مجموعة من النصوص
المُكدَّسة بحيث يُمكن بعد ذلك فحصُها وترتيبها بطريقة أيْسَر. ولا ينطبِقُ هذا فقط على
الأسفار الخمسة، بل يَنطبق أيضًا على سائر الرِّوايات المُتضمَّنة في الأسفار السبعة
الأخرى حتى هدْم المدينة، وهي الروايات التي جُمِعت بالطريقة نفسها. ومَن مِنَّا لا يرى
أنَّنا في الإصحاح ٢ من سِفر القُضاة ابتداءً من الآية ٦ نجد أنفُسنا إزاء مُؤرِّخ جديد
١٧ (وهو الذي كتب أيضًا تاريخ يشوع القديم) نُقِلت كلماتُه بحذافيرها فحسب؟
والواقع أنه بعد أن رَوى المؤرخ الأول في الإصحاح الأخير من «يشوع» مَوت يشوع ودَفْنه،
وعَدَ في سِفر القضاة الأول أن يَروي الحوادث التي وقعَتْ بعد هذا الموت.
١٨ فلو أراد أن يُواصِل الخطَّ الرئيس في قصَّته، فكيف كان يُمكنه أن يربِط ما
قاله قبل ذلك مُباشرةً، بالرواية التي بدأها عن يشوع نفسه؟
١٩⋆ وكذلك
اقتُبِست الإصحاحات ١٧، ١٨ … إلخ في سفر صموئيل من راوٍ آخَر غير الذي أُخِذت عنه
روايته في الإصحاحات السابقة، وهذا الراوي الآخر يُقدِّم لتردُّد داود لأول مرَّة على
بلاط شاءول تفسيرًا مُختلفًا كلَّ الاختلاف عن تفسير الإصحاح ١٦، فهو لا يعتقِد أنَّ
شاءول قد استدعى داود اتِّباعًا لنصيحة وُزرائه (كما ذكر في الإصحاح ١٧) بل يعتقِد أنَّ
أبا داود أرسَلَه صُدفةً إلى المعسكر عند إخوته، ثُم عرَفَه شاءول بانتصاره على
الفلسطيني جلياث، وبعد ذلك بَقِيَ في بلاط هذا الملك. وأعتقِد أنَّ هذا الشيء نفسَهُ
قد
حدَثَ في الإصحاح ٢٦ من هذا السفر نفسه؛ إذ يَروي المُؤرِّخ — فيما يبدو — القصَّة
نفسها الموجودة في الإصحاح ٢٤، مُستمدًّا إيَّاها من روايةٍ أخرى،
٢٠ ومع هذا فلنترُك هذا الموضوع، لننتقِل إلى حساب السنين، يذكُر الإصحاح ٦ من
سفر الملوك الأول
٢١ أنَّ سُليمان بنى المعبد بعد الخروج من مصر بأربعمائة وثمانين عامًا، مع
أنَّنا طبقًا للروايات نفسها نجِدُ عددًا من السِّنين أكبر بكثير.
والواقع أن:
- (١)
موسى حكم الشعب في الصحراء ٤٠ عامًا.
- (٢)
يروي يُوسف وبعض المؤرِّخين أن حُكم يشوع الذي عاش مائة وعشرة أعوام لم
يزِدْ عن ٢٦ عامًا.
- (٣)
أخضع كوشان رشعتائيم
٢٢ الشعب ٨ أعوام.
- (٤)
كان عتنئيل بن قاناز
٢٣ قاضيًا
٢٤⋆
٤٠ عامًا.
- (٥)
حكم عجلون
٢٥ ملك مؤاب الشعب ١٨ عامًا.
- (٦)
كان أهود وشمجر
٢٦ قضاة ٣٠ عامًا.
- (٧)
أخضع يابين
٢٧ ملك كنعان الشعب من جديد ٢٠ عامًا.
- (٨)
عاش الشعب بعد ذلك في سلام ٤٠ عامًا.
- (٩)
خضع بذلك للمدينيِّين
٢٨ ٧ أعوام.
- (١٠)
ثم عاش حرًّا تحت إمرة جدعون
٢٩ ٤٠ عامًا.
- (١١)
وتحت حكم أبيملك
٣٠ ٣ أعوام.
- (١٢)
وكان تولع بن فوأة
٣١ قاضيًا ٢٣ عامًا.
- (١٣)
- (١٤)
خضع الشعب من جديد للفلسطينيين وبني عمون
٣٣ ١٨ عامًا.
- (١٥)
كان يفتاح
٣٤ قاضيًا ٦ أعوام.
- (١٦)
أبيصان
٣٥ من بيت لحم ٧ أعوام.
- (١٧)
أيلون الزابولوني
٣٦ ١٠ أعوام.
- (١٨)
عبدون الفرعتوني
٣٧ ٨ أعوام.
- (١٩)
خضع الشعب من جديد للفلسطينيين ٤٠ عامًا.
- (٢٠)
كان شمشون
٣٨ قاضيًا
٣٩⋆
٢٠ عامًا.
- (٢١)
- (٢٢)
خضع الشعب من جديد للفلسطينيين قبل أن يُحرِّره صموئيل ٢٠ عامًا.
- (٢٣)
حكم داود ٤٠ عامًا.
- (٢٤)
وسليمان قبل بناء المعبد ٤ أعوام.
- (٢٥)
فيكون مجموع الأعوام التي انقضت ٥٨٠ عامًا.
كما يجِب إضافة السنوات التي ازدهرت فيها الدولة العبرية بعد موت يشوع حتى هزمَها
كوشان رشعتائيم، وأعتقد أنها سنوات كثيرة. والواقع أنَّني لا يُمكنني الاعتقاد بأنه بعد
مَوت يشوع مباشرةً مات كلُّ من رأى هذه الخوارق في لحظةٍ واحدة أو بأنَّ خلفاءهم تركوا
الشرائع فجأةً ومرة واحدة، وسقطوا من أعلى قِمم الفضيلة إلى أشد درجات العجز وأشنع
أنواع الإهمال، كما لا يُمكنني الاعتقاد بأنَّ كوشان رشعتائيم لم يكن عليه إلَّا أن
يظهر لكي يُخضِعهم. إنَّ كلَّ مرحلة من مراحل هذا الانحلال تتطلَّب جيلًا بشريًّا
تقريبًا، بحيث يُلخِّص الكتاب المقدس ولا شكَّ في الإصحاح ٢، الآيات ٧، ٩
٤١ من سفر القضاة تاريخ أعوام عديدة لا يروي لنا عنها شيئًا. كما يجِب إضافة
الأعوام التي كان صموئيل فيها قاضيًا والتي لم يُعطِ الكتاب عددها، وكذلك يجِب إضافة
الأعوام التي حكم فيها شاءول والتي لم أذكُرها في الحساب السابق لأنَّنا لا نستطيع أن
نعرف مِن قصته عدد السنين التي حكم فيها معرفة كافية؛ إذ يُقال لنا في الإصحاح ١٣،
الآية ١ من سفر صموئيل الأول أنه حكم عامَين، ولكن هذا النص منقوص، ونستطيع أن نستنتِج
من القصة نفسها عددًا أكبر من السنين. ولا شكَّ أنَّ من له معرفة أولية بالعبرية يستطيع
أن يستوثِق من أنَّ هذا النصَّ منقوص، فهو يبدأ هكذا: «وكان شاءول ابن سنةٍ في مُلكه،
وملك سنتين على إسرائيل.» وإني لأتساءل الآن: مَن هنا لا يرى أنَّ هذا النص قد حذف عمر
شاءول عندما استولى على السلطة الملكية؟ إنَّ قصة شاءول نفسها لتدفعُنا إلى التسليم
بعددٍ أكبر من السنين. وأعتقد أنه ليس هناك من يشكُّ في ذلك، ففي الإصحاح ٢٧، الآية ٧
من السفر نفسه
٤٢ نجد أنَّ داود مكث سنةً وأربعة أشهُر عند الفلسطينيين هربًا من شاءول.
وطبقًا لهذا الحساب كان من الضروري أن تقَع باقي الحوادث في مدة ثمانية أشهر، وهذا ما
لا يُصدِّقه أحد فيما أعتقد. ويُصحِّح يوسف (المؤرخ) هذا النص في آخر الكتاب الثالث من
التاريخ القديم، فيجعله: «وحكم شاءول أيام صموئيل ثمانية عشر عامًا وبعد موته سنتَين
أُخريين.» وعلى أية حال، فإنَّ كل هذه القصة الواردة في الإصحاح ١٣ لا تتَّفِق بتاتًا
مع ما يسبقها؛ إذ يروى لنا عند نهاية الإصحاح ٧ أن العبرانيِّين هزَموا الفلسطينيين
هزيمةً بلغت من الشدَّة حدًّا لم يعودوا منه يجرءون على عبور حدود إسرائيل طوال حياة
صموئيل. وفي الإصحاح ١٣ غزا الفلسطينيُّون العبرانيين (أيام صموئيل) وجلبوا لهم من
البؤس الشديد والفقر المُدقِع ما جعلهم يظلُّون دون أسلحةٍ ودون أية وسيلة تصنعها.
٤٣ وإنها لمُحاولة مُضنية حقًّا أن يُوفِّق الإنسان بين جميع هذه القصص
الموجودة في سفر صموئيل الأول بحيث تبدو وكأنَّ مُؤرخًا واحدًا هو الذي كتبَها
ورتَّبها. ولكني أعود الآن إلى موضوعي الأول، فأقول: إنه يجِب إذن أن نُضيف إلى الحساب
المذكور من قبل سنوات حكم شاءول. وأخيرًا، فإني لم أُضِف سنوات وقوع العبرانيين في
الفوضى، لأنَّ الكتاب نفسه لم يُحدِّدها بوضوح، أعني أنَّني لا أعلم كم من الوقت
استغرقَتِ الحوادث التي وقعتْ منذ الإصحاح ١٧ حتى آخر سفر القضاة.
٤٤ من هذا كله نستنتج بوضوحٍ تامٍّ أننا لا نستطيع أن نُقيم حسابًا زمنيًّا
مضبوطًا للسنوات مُعتمدين في ذلك على الروايات نفسها، وأن دراستها لا تؤدي بنا إلى
التسليم بصحة واحدةٍ منها، بل إلى وضع افتراضات مُختلفة، فيجِب إذن أن نُسلِّم بأنَّ
هذه الروايات مجموعة من القصص مُستمَدَّة من مُؤلِّفين عديدين، ثُم جُمعت قبل ترتيبها
وفحصِها، كذلك يبدو أنَّ هناك تَعارُضًا لا يقلُّ عن ذلك، فيما يتعلَّق بحساب السنين،
بين أسفار أخبار ملوك يهوذا وأسفار أخبار ملوك إسرائيل؛ ففي أخبار ملوك إسرائيل يُذكَر
أن يورام بن أحآب بدأ حُكمه في السنة الثانية من حكم يورام بن يوشافاط (انظر الملوك
الثاني، ١: ١٧)
٤٥ على حين يذكر في أخبار ملوك يهوذا أن يورام بن يوشافاط بدأ حكمه في السنة
الخامسة من حكم يورام بن أحآب (انظر: ٨، ١٦ من السفر نفسه)،
٤٦ وإذا أردنا مقارنة روايات سفر أخبار الأيام مع روايات سفر الملوك وجدنا
كثيرًا من حالات التعارُض المُماثلة، التي لا تحتاج هنا إلى ذكرها، أو ذكر شروح
المؤلفين الذين حاوَلوا التوفيق بين هذه الروايات، كالأحبار الذين يهذون كلية، أو من
قرأت من الشُّرَّاح الذين يحلمون ويختلقون شروحًا وينتهون إلى إفساد اللغة نفسها،
فعندما يُذكَر مثلًا في سفر أخبار الأيام الثاني: «كان عُمُر أحزيا اثنتَين وأربعين سنة
عندما حكم.» يتصور بعض الشُّرَّاح أن هذه السنين تبدأ من حكم «عمري» لا من ميلاد أحزيا،
٤٧ ولو استطاع أحد أن يُثبت أنَّ هذا هو قصد مؤلف سِفر أخبار الأيام لما
تردَّدتُ في القول إنه لا يعرف كيف يتحدَّث، وبالطريقة نفسها يختلِقون شروحًا كثيرة
تضطرُّني إلى القول — لو كانت هذه الشروح صحيحة — بأنَّ قُدماء العبرانيِّين قد جهِلوا
تمامًا لُغتهم، ولم تكن لديهم أية فكرة عن ترتيب الرواية، كما تضطرُّني إلى أن أعترِف
بأنه لم يكن هناك أي منهجٍ أو قاعدة لتفسير الكتاب، بل كان بإمكانهم اختلاق أيِّ شيء
حسب هواهم.
فإذا ظنَّ أحد مع ذلك أني أتحدَّث هنا بطريقةٍ عامة جدًّا، دون أساس كافٍ، فإني أرجو
أن يُكلِّف نفسه العناء ويدلَّنا على ترتيب يقيني لهذه الروايات، يستطيع المؤرخون
اتِّباعَه في كتابتهم للأخبار دون الوقوع في خطأ جسيم. وعلى المرء في أثناء مُحاولته
تفسير الروايات والتوفيق بينها، أن يُراعي العبارات والأساليب وطُرُق الوصل في الكلام،
ويشرحها بحيث نستطيع، طبقًا لهذا الشرح، أن نُقلِّدها في كتابتنا.
٤٨⋆ ولسوف
أنحني مُقدَّمًا في خشوعٍ لمن يستطيع القيام بهذه المهمة، وإنِّي لعلى استعدادٍ لأن
أُشبِّهه بأبولو نفسه.
٤٩ على أن أعترف بأني لم أستطِع أن أجِد من يقوم بهذه المُحاولة بالرغم من طول
بحثي عنه، كما أُضيف أيضًا أني لا أكتُب هنا شيئًا إلَّا بعد تأمُّلٍ طويل. ومع أني
مُشبَّع منذ طفولتي
٥٠ بالآراء الشائعة عن الكتاب المُقدَّس، فقد كان من المُستحيل عليَّ ألا
أنتهي إلى ما انتهيتُ إليه.
٥١ وعلى أية حال، فليس هناك ما يدعونا إلى أن نُعطِّل القارئ هنا مدة طويلة
وأن نعرض عليه، في صورة تحدٍّ، أن يقوم بمُحاولة ميئوسٍ منها. وكلُّ ما في الأمر أنه
كان عليَّ أن أُبيِّن ما ستكون عليه هذه المُحاولة حتى أعبر عن فكري تعبيرًا أكثر
وضوحًا. والآن أنتقل إلى الملاحظات الأخرى التي أُبديها عن مصير هذه الأسفار.
وبعد أن بيَّنَّا مصدر هذه الأسفار، يجب أن نذكُر أنَّ الخلَف لم يحفظ هذه الأسفار
بعنايةٍ بحيث لا تتسرَّب إليها أية أخطاء، فقد لحظ قدماء النُّسَّاخ كثيرًا من القراءات
٥٢ المشكوك فيها، بالإضافة إلى بعض النصوص المَبتورة، دون أن يكونوا مع ذلك قد
تنبَّهوا إليها كلها. أمَّا مسألة ما إذا كان لهذه الأخطاء من الأهمية ما يستحقُّ وقفةً
طويلة من القارئ، فأنا أعتقد في الواقع أنها قليلة الأهمية، على الأقلِّ بالنسبة إلى
مَن يقرءون الكتُب المقدَّسة بعقليةٍ مُتحرِّرة. وأستطيع أن أؤكد عن يقينٍ أني لم أجِد
أيَّ خطأ أو أي اختلافٍ في القراءات، وخاصَّةً في النصوص الخاصَّة بالتعاليم الخلقية،
بحيث يجعلها غامضةً أو مشكوكًا فيها. ومع ذلك لا يُسلِّم مُعظم المُفسرين بوقوع أي
تحريفٍ في النص، حتى في الأجزاء الأخرى، ويُقرِّرون أن الله، بعناية فريدة، قد حفِظ
التوراة كلها من أي ضياع. أمَّا اختلاف القراءات فهو في نظرِهم علامةٌ على أسرارٍ في
غاية العُمق، ويتناقَشون بشأن النجوم الثماني والعشرين الموجودة وسط إحدى الفقرات بل
تبدو لهم أشكال الحروف ذاتها وكأنَّها تحتوي على أسرارٍ كبيرة. ولستُ أدري إن كان ذلك
ناجمًا عن اختلاف العقل وعن نوعٍ من تقوى العجائز المُخرِّفين، أم أنهم قالوا ذلك
بدافِع الغرور والخُبث حتى نعتقِد أنهم وحدَهم الأُمناء على أسرار الله؟ ولكنِّي أعلَم
فقط أني لم أجد مُطلقًا أيَّ شيءٍ عليه سَيماء السرِّ في كُتُبهم، ولم أجِد فيها إلَّا
أعمالًا صبيانية. ولقد قرأتُ أيضًا بعض القباليِّين وعرفتُ تُرَّهاتهم،
٥٣ ولم تنقطع أبدًا دهشتي من خبَلِهم. وإني لأعتقِد أنه ما مِن أحدٍ سيشكُّ في
وقوع بعض الأخطاء في الأسفار — كما قُلنا من قبل — إذا كان لدَيه أقلُّ قدرٍ من الحكم
السليم، وقرأ النصَّ الخاصَّ بشاءول (الذي ذكرْناه من قبلُ من سِفر صموئيل الأول، ١٣:
١)
٥٤ وكذلك الآية ٢، الإصحاح ٦ من صموئيل الثاني: «ونهض داود وانطلَقَ بجميع
الشعب الذين معه من بعليم يهوذا ليصعدوا من هناك تابوت الله.» إذ لا يمكن أن يغيب عن
ذهن أحدٍ أنَّ المكان الذي ذهب إليه ليُحضِر التابوت، وهو كارياتياريم،
٥٥⋆ لم
يُذكَر. كما لا نستطيع أن نُنكِر أنَّ الآية ٣٧ من الإصحاح ١٣ في سفر صموئيل الثاني قد
غُيِّرت وبُتِرت، يقول النص: «وأما أبشالوم فهرَبَ والتجأ إلى تلماي بن عمهود ملك جشور
وناح داود على ابنه كل الأيام، وهرب أبشالوم وذهب إلى جشور ولبث هناك ثلاث سنين.» وأنا
أعلم أنِّي ذكرتُ من قبل نصوصًا أخرى مُشابهة لا تحضُرني الآن.
أما فيما يتعلَّق بالتعليقات الهامشية التي نجدها هنا وهناك في الكتب العبرية، فلا
يُمكن أن يتردَّد المرء في الاعتقاد بأنها قراءات مَشكوك فيها، إذا عرفت أنَّ مُعظمها
يرجِع إلى التشابُه الكبير بين الحروف العبرية خاصَّةً بين «الكاف والباء»، وبين «الياء
والواو»، وبين «الدال والراء» … إلخ. فمثلًا نجد «وقتما تسمع» وفي الهامش بعد تغيير
حروف «عندما تسمع» وفي الإصحاح الثاني في سفر القضاة الآية ٢٢، يقول النص: «وعندما أتى
آباؤهم وإخوتهم لدينا بكثرة.» (أي دائمًا) … في حين نجد في الهامش بعد تغيير حرف
«ليعارضوا» بدل «بكثرة» وكذلك يرجع عدد كبير من القراءات المشكوك فيها إلى استعمال
الحروف التي نُسمِّيها حروف الوقف، والتي لا تُنطَق في أغلب الأحيان، ويخلِط المرء
بينها إذا تجاورَت. فمثلًا في سِفر الأحبار نجد (٢٥: ٣٠)
٥٦⋆ نصًّا
يقول: «فقد ثبت البيت الذي في المدينة التي لا سور لها.» وفي الهامش «ذات السور …
إلخ.»
ومع أنَّ هذه الملاحظات واضحة بنفسها، فإني أرى أنَّ من الأفضل الردَّ على حُجج بعض
الفريسيين الذين يَميلون إلى البرهنة على أنَّ هذه التعليقات الهامشية قد أضافها إما
مُؤلفو الكُتب المقدسة أنفسهم، أو أنها كُتبت بتوجيهٍ منهم، ليُعبروا عن أسرارٍ غامضة.
وأول هذه الحجج، وهي حُجةٌ لا أهتمُّ بها كثيرًا، مُستقاة من العادة المُتَّبَعة في
قراءة التوراة. يقولون: لو كانت هذه التعليقات قد وُضعت في الهامش بسبب اختلاف القراءات
التي لم يستطِع الخلَف أن يختار بينها فلِمَ جرَتِ العادة على الاحتفاظ دائمًا بالمعنى
الهامشي؟ ولِمَ ذُكر في الهامش هذا المعنى الذي أريد الاحتفاظ به؟ لقد كان الواجب، على
العكس من ذلك، كتابة النصِّ نفسه كما يُراد له أن يُقرأ، بدلًا من أن يُذكَر في الهامش
المعنى والقراءة المُحقَّقان أكثر من غيرهما. والحجَّة الثانية التي تبدو على شيءٍ من
الجديَّة، مُستقاة من طبيعة الأشياء نفسها. يقولون: هناك أخطاء في النَّسخ تقَع في
المخطوطات صُدفة لا عمدًا. ولمَّا كانت الأخطاء عفوية وجَب أن تختلِف فيما بينها. على
أنَّنا نجِد في الأسفار الخمسة أنَّ الكلمة العبرية التي تعني عذراء قد كُتبت دائمًا
دون حرف الهاء إلَّا في نصٍّ واحد، ممَّا يُخالف قواعد اللغة، على حين كُتبت في الهامش
كتابةً صحيحة طبقًا للقاعدة العامَّة، فهل يُمكن أن يكون هنا الخطأ قد صدر عن الناسخ؟
أي قدَرٍ هذا الذي أجبَر قلَم الكاتب على التسرُّع بالطريقة نفسها في كل مرة يُقابل
فيها هذه الكلمة؟ لقد كان من المُمكن بعد ذلك بسهولة إضافة الحرف الناقِص دون حرَج
وتصحيح هذا الخطأ مُراعاة للقواعد. وبما أنَّ هذه القراءات لم تحدُث صدفة، وبما أنه لم
يتمَّ تصحيح هذه الأخطاء الظاهرة، فلا بدَّ من الاعتراف بأنَّ هذه الكلمات كتبَها
المؤلفون الأُوَل عمدًا كما هي موجودة في المخطوطات، ليدلُّوا بها على شيء، على أنَّنا
نستطيع أن نردَّ بسهولةٍ على ذلك. تعتمد الحجَّة الأولى على العادة المُتَّبعة بين
الفريسيين، ولن أتوقَّف عندها، فأنا لا أدري إلى أي مدًى ذهبَت الخرافة، وربما نشأت هذه
العادة من أنهم كانوا يعتقدون أن الصِّياغتَين صحيحتان أو مقبولتان، وبالتالي أرادوا
أن
تكون الأولى مكتوبة والثانية مقروءة حتى لا تضيع هذه ولا تلك. والواقع أنهم كانوا يخشون
البتَّ في أمرٍ خطير كهذا، ويخافون من أخذ النصِّ الباطل على أنه الصحيح، ومن هنا فإنهم
لم يشاءوا تفضيلَ أحد النصَّين على الآخر، وهو ما كان يتعيَّن عليهم القيام به لو أنهم
اشترطوا أن تكون الكتابة والقراءة بالطريقة نفسها، لا سيما أنَّ النُّسَخ المُستعمَلة
في الشعائر كانت خالية من التعليقات الهامشية، أو ربما أتتْ هذه العادة من أنهم أرادوا
أن تُقرأ بعض الكلمات المكتوبة، مع كونها صحيحة من حيث النسخ، عن طريق كتابتها، بطريقة
مُختلفة أي طبقًا للصياغة المكتوبة في الهامش. وهكذا نشأت العادة الشائعة التي تقضي
بقراءة التوراة طبقًا للتعليقات الهامشية. أما الدوافع التي جعلت النُّسَّاخ يكتبون في
الهامش بعض الكلمات التي يُقصد منها صراحة أن تُقرأ فإني أبيِّنُها كما يلي: ليست كل
التعليقات الهامشية قراءاتٍ مشكوكًا فيها، بل إن منها أيضًا ما يُصحِّح أساليب الكلام
التي لم تعُدْ تُستعمَل، أعني الكلمات التي عفا عليها الزمان، وتلك التي لم تعُد
الأخلاق الحسنة تسمح باستعمالها، فقد اعتاد المؤلفون القدماء — الذين لم يكونوا يعرفون
الرذيلة مُطلقًا — تسمية الأشياء بأسمائها الحقيقية، دون اللَّفِّ والدوران المُستعمَل
في القصور، وبعد ذلك ساد التَّرَف وعمَّتِ الرذيلة بدأ الناس ينظُرون إلى الأشياء التي
عبَّر عنها القدماء دون بذاءة، على أنها بذيئة، ولم تكن هناك حاجة من أجل ذلك إلى تغيير
الكتاب نفسه، ومع ذلك فقد جرَتِ العادة في القراءة العامة، مُراعاةً لضَعف نفوس
العامَّة، على تسمية النكاح والاستِمناء بألفاظٍ غير مُلائمة، وهي الألفاظ نفسها
الموجودة في الهامش. وأخيرًا، فمهما كان السبب الذي من أجله جرَت العادة على قراءة
الكتُب وتفسيرها حسب التعليقات الهامشية، فإنه على الأقلِّ ليس كَون التفسير الصحيح هو
بالضرورة ذلك الذي يسير وفقًا لهذه التعليقات. وبالإضافة إلى أن الأحبار أنفسهم في
التلمود يبتعدون في كثيرٍ من الأحيان عن النصِّ الماسوريتي،
٥٧ وكان لديهم نصوص أخرى يَرونها أفضل، كما سأُبَيِّن بعد قليل، فإنه يُوجَد
في الهامش بعض التغييرات تبدو أقلَّ اتِّفاقًا مع الاستعمال اللُّغوي الجاري من النصِّ
نفسه، فمثلًا يقول نصٌّ في سفر صموئيل الثاني (١٤: ٢٢): «إذا فعل الملك ما قال عبده.»
وهو تركيب لغوي سليم تمامًا ومُتَّفق مع تركيب الآية ١٥ من الإصحاح نفسه، هذا على حين
نجد في الهامش: «عبدك» وهو ما لا يتَّفِق مع الفعل الذي وُضع في صيغة ضمير الغائب.
وبالمِثل يقول نصٌّ في الآية الأخيرة من الإصحاح ١٦ من السفر نفسه: «حسب (أي يُستشار)
كلام الرب.» وفي الهامش كلمة أحد كفاعلٍ للفعل، وهي إضافة لا مُبرر لها؛ إذ إنَّ العُرف
الشائع في اللغة جرى على استعمال الأفعال اللاشخصية في ضمير الغائب المُفرد المبني
للمعلوم، كما يعلَم عُلماء اللغة جيدًا. وهكذا توجد تعليقات كثيرة لا يُمكن على أي نحوٍ
تفضيلها على صيغة النص. أما حجَّة الفريسيين الثانية فيسهُل الردُّ عليها بعد الذي
عرضناه، فقد قُلنا: إنَّ النسَّاخ قد نبَّهوا إلى الكلمات التي لم تعُد تُستعمَل
بالإضافة إلى القراءات المشكوك فيها، ولا شكَّ أن كثيرًا من الكلمات في اللغة العبرية،
كما في اللغات الأخرى، لم تعُد مُستعمَلة وأصبحت قديمة، وقد وُجِدت كلمات كهذه في
التوراة نبَّه إليها كلها النسَّاخ المُتأخِّرون حتى تكون القراءة العامَّة وفقًا لعادة
عصرِهم. فإذا كانت كلمة «نعر» قد دُوِّنت في كلِّ مكان، فذلك لأنها كانت من قبل مُشتركة
بين الجِنسين (المذكر والمؤنث) وكان لها معنى الكلمة اللاتينية نفسها، وكذلك كانت عاصمة
العبرانيين تُسمَّى قديمًا «أورشليم لا أورشلايم»، كذلك فإنه فيما يتعلَّق بالضمير هو،
هي، فقد جرَت العادة على استبدال حرف الياء بحرف الواو (وهو تغيير شائع في العبرية)
للدلالة على المؤنَّث، على حين لم يَعْتَدِ الناس في العهود الأقدم، تمييز المؤنث من
المذكر في هذا الضمير إلَّا بحروف العِلَّة. وأخيرًا، فقد كانت الصِّيَغ الشاذَّة
للأفعال تتغيَّر بدَورها من عصرٍ إلى عصر، وكان القدماء، تَوخِّيًا منهم للتأنُّق
المُميِّز لعصرهم، يستعملون الحروف الزائدة: هاء، ألف، ميم، نون، تاء، ياء، واو.
وأستطيع أن أُعطي أمثلةً كثيرة كهذه، ولكنِّي لا أودُّ أن أُضيع وقتَ القارئ بموضوعاتٍ
ثقيلة. فإذا سألني سائل: من أين لي عِلم ذلك؟ أجبتُه قائلًا بأنِّي كثيرًا ما لحظتُ ذلك
عند أقدم المؤلفين، أي في التوراة في حين لم يشأ المُحدثون اتِّباع هذه العادة، وهذا
هو
السبب الوحيد الذي تُوجَد من أجله في اللُّغات الأخرى، حتى اللغات المَيِّتة، كلماتٌ
لم
تعُدْ مُستعمَلة.
ولكن قد يُصرُّ أحد على أن يقول: ما دمتُ أُسلِّم بأن مُعظم التعليقات الهامشية
قراءات مشكوك فيها، فلِمَ لا يُوجَد أكثر من قراءتَين للنصِّ الواحد؟ لِمَ لا تُوجَد
أحيانًا ثلاث قراءات أو أكثر؟ كذلك قد يُعترَض عليَّ بأنَّ النصَّ في بعض الأحيان
يُخالف بوضوح قواعد اللغة في حين تكون القراءة الموجودة في الهامش صحيحة، بحيث لا يمكن
أبدًا الاعتقاد بأنَّ الناسخين قد توقَّفوا وتردَّدوا بين القراءتين، وهذا اعتراض يسهل
الردُّ عليه، فردًّا على الحُجَّة الأولى أقول: إن بعض القراءات قد حُذفت واستُبقِيَ
البعض الآخر، دون أن تُخبرنا مخطوطاتنا بكل ذلك، ففي التلمود نجِد صيغًا أهملها
الماسوريُّون، وقد بلَغَ الفرق بين النصَّين في فقراتٍ كثيرة حدًّا من الوضوح جعل
المُصحِّح لتوراة بومبرج،
٥٨ الذي كان مُغرِقًا في الخُرافات، يُضطرُّ إلى أن يعترف في مُقدمته بأنه لا
يعرف كيف يوفِّق بينها، فيقول: «إنَّ الإجابة الوحيدة التي يمكن إعطاؤها هنا هي التي
أجبْنا بها من قبلُ وهي أنَّ من عادة التلمود مُناقَضة الماسوريِّين.» وإذن فلا أساسَ
للتسليم بعدَم وجود أكثر من صياغَتَين للفقرة الواحدة، ومع ذلك، فإنِّي أُسلِّم
مُقتنِعًا — وهذا هو رأيي الخاص — بأنه لم يُوجَد أبدًا أكثر من صياغتَين للنص الواحد؛
وذلك لسببين: