القصة في شعر جميل بُثينة
وقد اخترنا شعر جميل بُثينة لنبدأ به هذا البحث.
وجميل هو جميل بُثينة. انتسبتْ إليه فتناقلتِ الأجيال اسمها؛ لأن شعر جميل دمغ الأجيال بعُذوبته ورِقَّته. أمَّا اسم جميل فهو جميل بن عبد الله بن مُعمَّر، من بني عُذرة، من قبيلة قُضاعة. وبُثينة أيضًا من عُذرة، فليس عجيبًا إذًا أنْ يشبَّ بينهما الحب. وليس من المعروف متى وُلد جميل، إلا أنه عاش في عهد معاوية بن أبي سفيان، من ٤٠ إلى ٦٠ هجرية. أمَّا مَوت جميل فكان في عام اثنين وثمانين هجرية، ومن عجبٍ أن يَعِي التاريخ عام مَوته ولا يَعي عام مولده. لا علينا …
ويروي التاريخ أيضًا أنَّ جميلًا كان وسيمًا قَسيمًا، طويل القامة عريض المَنكِبين مُتأنِّق الملبس، أمَّا بُثينة فيقول عنها العقد «وصفَها جميل بعَين المُحب، ووَصفَها غيرُه كما يراها كلُّ من رآها، فخلُص لنا من جُملة هذه الصِّفات أنها كانت أدْماءَ طوالة، كما قال عمر بن أبي ربيعة، وأنها تَفرُع النساء طولًا.» أمَّا جميل فيقول في وصفِها «حسناء بدَوية لم يُثقِلها ترَف الحاضر، ولم يُعرِقْها شظَفُ العيش، فهي رقيقة مُعتدلة الخَلْق سامِقة الخُلُق، مُستحبَّة الملامح لمن يراها، مفتونًا بها أو غير مفتون.» وقيل إن بُثينة حين علِمتْ بحبِّ جميلٍ لها وتَشبيبه بها حلفَتْ بالله لا يأتيها على خَلاءٍ إلَّا خرجتْ إليه لا تتوارى عنه. وهكذا وضعتْ بُثينةُ — في هذه الفترة السحيقة البُعد في أغوار التاريخ — مبادئ حُرية الحب وحُرية اللقاء.
وأحسَبُ أننا لو تتبَّعْنا أخبار العاشقين من خلال التاريخ لَطالَ بنا الحديث وما خلُصنا إلى الشِّعر الذي نُريد أن نستشفَّ القصة من خلاله.
بنا الآن إلى شعر جميل الذي قال عنه كُثيِّر: «هل وطَّأَ لنا النَّسيبَ إلَّا جميل؟» اسمَعْه معي يقول:
لقد روى لكَ في هذَين البيتَين قصة اللقاء والحُبِّ بينهما، وكيف نشأ هذا الحبُّ أول ما نشأ على سبابٍ بينهما، وشأن الكاتب القصصي الذي لا يريد أن يُعنى بالتفاصيل ألمَحَ إليك أنه قال قولًا فجاءتْ بمثلِه. وأنهي القصة بالحِكمةِ التي كان يُنهي بها القصَّاصُون قصَصَهم في الأزمان الخالية: لكل كلامٍ يا بُثين جواب. ولك أنت أن تتخيَّل القصة وتنسُجَها ما طاب لك التخيُّل والنَّسج؛ فإن أجمل أنواع الفنِّ هو ذلك الذي يترُكُ لك أن تُشارك فيما يخلُقُه الفنان، وتتخيَّل معه وتعيش دُنيا فتَحَ لك أبوابها وترك لك حُرية الحياة فيها.
وانظر إلى قوله:
لو أنَّني أردتُ أن أقصَّ عليك هذه القصة لقلتُ لك: في ذات ليلة جفاني النوم، والناس جميعًا نيام، ورحتُ أفكر و…
أمَّا هو فصرَخ فجأة: ألَا أيُّها النوام، ويْحَكُم هبُّوا … إنه فجأة اكتشف الأمر الخطير وراحَ يُوقِظ الناس ويسألهم: هل يقتلُ الحبُّ الرجل؟ وأجابوه: نعم، ويسلُّ عِظامه ويترُكُه حَيران ليس له لُبٌّ ولا عقل …
وكأنَّما استراح إلى هذا الرأي وعَلِم أن لا بأسَ به؛ إذن عليه أن ينتظِر المَوت ما دام يحبُّ بهذا العُنف، فهو ربما يجعل الرَّكبَ يجري راكضًا إلى بُثينة، ولولا بُثينة ما جرى الركب. بُثينة التي لا عَيب فيها إذا وقعتْ عليها العَين، ولا خلْط في أنسابها إذا هي انتسبت. إذا رأتْها عينٌ بين نساءٍ غيرها كانت النظرة الأولى من نصيبها، وما تلبَثُ العين أن تعود إليها، فليس بين النساء من تستحقُّ النظرة إلا هي. تبدو بجمالِها فتلقَفُ العين حين تمرُّ العين مرورًا سريعًا. وتقتنِصُ النظر إذا أرادتِ العين أن تُنعِمَ النظر، وإذا لبسَتْ ملابس البيتِ لا يُنقِصُ جمالَها تركُها للزينة، وإن تجمَّلتْ فهي المَثَلُ الأعلى للأناقة. قصَّةٌ وَصفيَّة من خِيرة القصص الوصفية؛ وصف نفسه ومَشاعِره ووصفَ الركبَ في طريقه إليها، ووصف جمالها وحسَبها، ووصفَ العين ناظرةً إليها، ووَصفَها في بيتِها بلا زينة، ثم وَصفَها وهي في كامل زينتِها. ويظلُّ حبُّ جميل يَمتطي الأجيال حتى أدرَكَنا في عصر الذَّرَّةِ والصعود إلى القمر. وهذا التقدُّم العلمي الذي يُذهِل العلماء والذي ما كان ليخطر على بال جميل ولا مُعاصريه. أليس هذا دليلًا على أنَّ العالَم مهما يتقدَّم في عِلمه يظلُّ مُحتاجًا إلى الحبِّ والفنِّ والجمال؟
وقد سألَني مرةً سائل: ما دَور الأدب في حياة العِلم هذه التي تُطالِع العالم؟ فلم أزِدْ على أن قلت: لو لم يكُن له دَور ما بقي. وهل أدَلُّ على بقائه وثُبوتِهِ في البقاء من أنَّنا لا نزالُ نتحدَّثُ عن جميل وبُثينة؟
استمِعْ مَعي إلى هذه القصَّةِ المُكتمِلةِ من شعر جميل:
ما أظنُّني في حاجةٍ إلى أن أتتبَّع سير القصة فهي كاملة. إنه رجل راح يتتبَّع آثار حبيبتِهِ حتى عثر عليها، فراح يتخفَّى عن العُيون حتى بلغَ البيت ودخَلَه دخولًا رفيقًا مُتخفِّيًا. فإذا حبيبتُهُ تَثُور به أنِ اقتَحَمَ عليها المنزل، فهي تُلقي الأيمانَ أنها فاضِحَتُه إذا لم يخرُج. فإذا هو يخشى أن تُنفِّذ وَعِيدها، فيوشُك أن يخرُج خوفَ يَمينها، ولكنه في نظرةِ الوَداع الأخيرة يرى طيفَ ابتسامةٍ على فمِها، فأيمانُها إذًا غَير مُحرِجة، وهي لن تفضَحَه، وإنما هي تمدُّ بيدِها تتلمَّسُ رأسه ويتمُّ اللقاء. إنها قصَّةٌ تحمِل العوامل النفسية لكلِّ حركةٍ فيها. كاملة لا ينقُصُها شيء.
ثم استمِعْ معي إلى هذه القصة الطويلة التي يَدُور فيها الحوار بين الحَبيبَين أجملَ ما يكون الحوار، حتى إذا أحسَّ أنها تُوشِك أن تَقسُوَ عليه، راح يروي ذكرياتِه، كأنما لا يُريد إلَّا إزجاء الحديث إزجاءً على حين أنه في الواقع يَستمنِحُ الحبيبَ العطفَ والرِّضا:
•••
•••
أرأيتَ هذا الحوار وهذا النُّصح وهذه الذكريات، قصة كاملة من قِصص الحبِّ تمتزِج فيها العاطفة المَشبوبة بالعقل والحِكمة، وحين يَثُور القلبُ على كلِّ حكمةٍ ويلجأ الشاعر إلى حُبِّهِ وحدَه تُحاول أن تَصُدَّه، فيحكي لنا أنه قال: أصَرْم ذلك؟ أقطيعةٌ تُريدينها أم الدلال؟ فإن يكنْ دَلالًا — وكم أرجو أن يكون — فما أملَحَهُ منك وما ألطفه! لقد والله ذكرتُ الأيام الماضية، ذكرتُ يومَ النحر ويومَ وردْنا الحِجر وبِتْنا بالجنينة. إنه يُريد أن يُطمئن نفسه أنه الدَّلال وليستِ القطيعة. إنَّ كلَّ ذي قلبٍ أحبَّ يُدرك هذه القصة ويُدرِك العوامل النفسية التي تقِفُ وراء كل كلمة فيها.
ولو تركْنا النفس على سجيَّتها لظلَلْنا مع جميلٍ لا نَترُكه، ولكن هناك شُعراء آخرين أغنَوا الشعر العربي بقِصَصهم، ولا بُدَّ لنا أن نُلاقيهم، فإلى شاعر جديد.