القصة في شعر أحمد شوقي
إنَّ صِلتي بأحمد شوقي أمير الشعراء صِلة وثيقة وَطيدة، فقد كان أبي يُحبُّهُ ويُحِبُّ
شِعره، وأحسَب أن شِعر «شوقي» هذا أول شِعر سمِعتُهُ في حياتي، وقد جذَبَني مُنذ سمِعتُه،
وتعلَّقتُ به في إعجابٍ وإكبار وتحمُّس. وإنني من الكثيرين الذين يَعتبِرون شوقي هو أعظم
الشعراء الذين أنجبتهم العربية منذ عُرف الشِّعر؛ فقد استطاع أن يجمع ضخامة المُتنبي،
وصِياغة البحتري، وأناقة الشريف الرضي، وصناعة أبي تمام، كل ذلك في شِعر يتَّسِم بملامِحه
هو وبملامح جِيله وبلاده، ثُمَّ هو الذي أنشأ المسرحية الشعرية في الأدب العربي، وإن
كان
عزيز أباظة قد طوَّرَ المسرحية بعده وجعلها فنًّا أشمَّ باذخًا، فلشوقي دائمًا فضلُ
السَّبقِ والريادة، كما كان عزيز باشا يقول دائمًا.
وقد بدأتُ قراءةَ شوقي وحِفظ شِعره منذ لا أذكُر متى، ولكنني على أيةِ حالٍ أذكُر
أنني
قرأتُ مجنون ليلى ثلاثَ عشرةَ مرَّةً مُتعاقِبة وأنا أنتظِر نتيجة الشهادة الابتدائية
في
عام ١٩٣٩م، وكان عُمري إذ ذاك اثنَتَي عشرة سنة.
ولو شئتُ أن أتكلَّم عن القصة عند شوقي، لكتبتُ فيه وحدَه مجموعة تستطيع أن تصِل إلى
عشرين فصلًا، إن لم تكن أكثر؛ فالقصة التاريخية عنده لا نهاية لها، واللفتات التاريخية
أيضًا لا يُمكن أن يُحيطُها بحث.
فحين يقول مثلًا: والعِلمُ بَدريٌّ أَحَلَّ
لأهلِهِ ما يَفعلون.
مُشيرًا بذلك إلى أنَّ النبي بَشَّر أهل بدرٍ بأن الله غفَرَ لهم ذُنوبهم، وحين
يقول:
السبقُ من عاداتِكم
أترى القيامة تَسبِقون
مُشيرًا إلى سَبقِ قدماء المصريين على زمانهم.
تُحسُّ مدى اتِّصاله بالتاريخ وتعلُّقِه به.
ولقد كنتُ وأنا أتنقَّلُ بين قصائد شوقي حائرًا في أيَّها أختارُ لك وأيَّها أدَع.
فكَّرتُ في «مصاير الأيام» وأنا أكاد أحفَظُها، وهي تُمثِّل الرواية الشعرية في أروع
صُورِها. وفكَّرتُ أن أقتبِسَ لك من «كِبار الحوادث في وادي النيل» وهي تُمثِّل القصة
التاريخية الكاملة، وفكَّرتُ وفكَّرت، وانتهيتُ أن أترُك القلم يَجري، وهو سيُقدِّم لك
دُون
عناءٍ روائعَ خالدات.
اقرأ معي هذه القصة الكاملة:
وأغنَّ أكحلَ من مها بِكفيَّةٍ
علِقتْ مَحاجِرهُ دَمي وعلقتُهُ
لبنانُ دارَتُهُ وفيه كناسُهُ
بين القنا الخُطَّار خُطَّ نحيتُهُ
السلسبيلُ من الجداول وَردُهُ
والآسُ من خُضرِ الخمائل قُوتُهُ
إن قلتُ تمثالُ الجَمال مُنصبًّا
قال الجَمال بِراحَتي مَثَّلتُهُ
دخلَ الكنيسة فارتقبتُ فلمْ يُطِلْ
فأتيتُ دُون طريقِهِ فزحِمْتُهُ
فازوَرَّ غضبانًا وأعرَضَ نافرًا
حالٌ مِن الغِيد المِلاحِ عَرفتُهُ
فصرفتُ تلعابي إلى أترابِهِ
وزعمتُهنَّ لُبانَتي فأغَرْتُهُ
فمشى إليَّ وليسَ أوَّلَ جُؤذَرٍ
وقعتْ عليهِ حبائلي فقَنَصْتُهُ
قد جاء من سِحر الجُفون فصادَني
وأتيتُ من سِحر البيان فصِدتُهُ
قصة كاملة فيها الرومانسية في أنضَر صُورها وأزهاها، وفيها وصْف بطلةِ القصة في لفظٍ
موفَّق، ذلك الوصف الذي يقدَح لدى القارئ شرارةَ التشويق تَهمُّ بأن تقول له: كفى، ثم
بعد،
ثم تتأنَّى، نُريد أن نسمَع مِن الوصف مَزيدًا. وانظُر معي كيف كتب قصة مُؤتمر الصُّلح
بين
الأحزاب في مصر، فكتبَ قصَّةَ كفاح مِصر وبرلمانها:
بُشرى إلى الوادي تهزُّ نَباتَهُ
هو والربيع مَناكِبُ الأرواحِ
تسري مُلمحةَ الحُجولِ على الرُّبَى
وتَسيل غُرَّتُها لكلِّ بطاحِ
الْتأمَتِ الأحزابُ بعدَ تصدُّعٍ
وتعالتِ الأقلام بعد تَلاحي
سحبتْ على الأحقادِ أذيالَ الهوى
ومشى على الأوتارِ والأقداحِ
تَرمي بِطرفِك في المجامع لا ترى
غَير التَّعانُقِ واشتِباك الراحِ
شتَّى فضائل في الرجال كأنها
شتَّى سِلاحٍ من قَنا وصِفاحِ
فإذا هي اجتمعتْ لملك جبهة
كانت حُصون مناعةٍ ونطاحِ
الله ألَّف للبِلاد صدورَها
من كلِّ داهيةٍ وكلِّ صراحِ
وُزَراءُ مَملكةٍ دَعائمُ دولةٍ
أعلامُ مُؤتمرٍ أسُودُ صباحِ
يَبنونَ بالدستورِ حائطَ مُلكِهم
لا بالصِّفاح ولا على الأرماحِ
وجواهِر التِّيجان ما لم تُتَّخَذْ
من مَعدِنِ الدستور غَير صِحاحِ
احتلَّ حصنَ الحقِّ غَيرُ جُنودِه
وتكالبتْ أيدٍ على المفتاح
ضجَّتْ على أبطالها ثكناتُهُ
واستوحشَتْ لكُماتِها النُّزَّاح
هُجِرتْ أرائكُه وعُطِّل عُودُهُ
وخَلا مِن الغادِينَ والرُّوَّاحِ
وعلاه نَسجُ العنكبوتِ فزادَهُ
كالغارِ مِن شرفٍ وسمْتِ صلاح
أرأيتَ كيف روى مِحنة الدستور والبرلمان في مصر؟ ثم أرأيتَ هذه الإشارة في البيت الأخير،
وكيف روى لك بها قصة الغار والعنكبوت في هِجرة النبي عليه الصلاة والسلام؟ ورأيت، ورأيت،
وما أعظمَ أن نرى لشوقي وما أروعَ ما بَهرَنا شِعره العبقري وفنه الخالد. كنتُ أنوي أن
أُخصِّص هذا الفصل لشِعر الأطفال عند شَوقي، الذي أراد به أن ينقُل فن لافونتين الفرنسي
إلى
الشعر العربي، ولكن عزَّ عليَّ أن أترُك قصيدة أحببتُها وحفظتُها في يومٍ من الأيام،
وتُمثِّل الحياة وقصة الحياة، دون أن أنقُل منها، إنها قصيدة «مصاير الأيام» وهي قصيدة
طويلة تربُو على الثمانين بيتًا أو قد تزيد، ولكنني سأحاوِلُ أن أقدِّم القصة منها، في
نقلاتٍ سريعة، إنِ استطعتُ إلى ذلك سبيلًا:
ألا حبَّذا صُحبة المكتبِ
وأحبِبْ بأيامِهِ أحبِبِ
ويا حبَّذا صِبية يَمرحون
عنان الحياة عليهم صَبِي
يُراحُ ويُغدى بهم كالقطيع
على مشرقِ الشمسِ والمَغرِبِ
إلى مَرتَعٍ ألِفُوا غَيره
وراعٍ غريبِ العصا أجنَبِي
ومُستقبلٍ مِن قيودِ الحياةِ
شديدٍ على النفسِ مُستصعَبِ
توارتْ بهم ساعةٌ للزَّمانِ
على الناسِ دائرةُ العقربِ
تشولُ بِإبرتِها للشَّبابِ
وتقذِفُ بالسُّمِّ في الشُّيَّبِ
يدقُّ بِمطرقَتَيها القضاءُ
وتَجري المقاديرُ في اللَّولبِ
وتلك الأواعي بأيْمانِهِم
حقائبُ فيها الغدُ المُختَبِي
ففيها الذي إن يَقُمْ لا يَعُدْ
من الناس أو يمضِ لا يُحْسَبِ
وفيها اللواء وفيها المنارُ
وفيها التبيعُ وفيها النَّبي
وفيها المؤخَّرُ خلفَ الزِّحامِ
وفيها المُقدَّم في الموكبِ
أليست هذه بواكير قصة الحياة في الطفولة، فلننتقِلْ معه إلى الصبا:
جميلٌ عليهم قَشيبُ الثِّيابِ
وما لم يُجمَّلْ ولم يُقشِبِ
كساهم بنانُ الصِّبا حُلَّةً
أعزَّ مِن المُخمَلِ المُذهَبِ
وأبهى من الوردِ تحت النَّدَى
إذا رفَّ في فرعِهِ الأهدَبِ
وأطهرَ من ذَيلِها لم يَلُمَّ
من الناسِ ماشٍ ولم يَسْحبِ
ثمَّ انظُر إلى هذا الهَول الذي تُحيط به الحياة أبناءها، وأمسِك قلبك أن يَطير من
مكانه:
قطيعٌ يُزجِّيهِ راعٍ من الدهـ
ـرِ ليس يلينُ ولا صُلَّبِ
أهابتْ هراوَتُهُ بالرِّفاقِ
ونادتْ على الحُيَّدِ الهُرَّبِ
وصرَّفَ قُطعانَهُ فاستَبَدَّ
ولم يخشَ شيئًا ولم يَرهبِ
أرادَ لِمن شاءَ رَعْيَ الجَديبِ
وأنزلَ من شاءَ بالمُخصِبِ
وروَّى على ريِّها النَّهِلاتُ
وردَّ الظِّماءَ فلم تَشربِ
وألقى رِقابًا إلى الضَّارِبينَ
وضَنَّ بأُخرى فلمْ تُضرَبِ
وليس يُبالي رِضا المُستريحِ
ولا ضَجَرَ الناقِمِ المُتعَبِ
وليس بِمُبقٍ على الحاضِرين
وليس بِباكٍ على الغُيَّبِ
فيا وَيحَهُم هل أحَسُّوا الحياةَ
لقد لَعِبوا وهي لم تَلعَبِ
تُجرِّبُ فيهم وما يَعلمون
كتجربةِ الطبِّ في الأرنبِ
سقَتْهم بِسُمٍّ جرى في الأصول
وروَّى الفروعَ ولم ينضبِ
لا بدَّ أنْ أقِف، أحسُّ قلبي يتقافَزُ في صدري؛ ما هذه الحياة؟ ولكنها الحياة. وما
هذا
الهول؟ ولكنها الحقيقة. ذلك هو الفنان يضَع أمامك الحقيقة التي تعرفها فتَروعُكَ وكأنك
لم
تكن تعرفها.
أنمضي معًا في قصة الحياة؟ وكيف نستطيع التوقُّف؟! وهل تَسمح لنا الحياة أن نتوقَّف؟
فلنمض؛ فإنَّ الحياة تُريد لنا أن نمضي:
ودار الزمان فدالَ الصِّبا
وشَبَّ الصِّغار عن المَكتَبِ
وجدَّ الطِّلابُ وكدَّ الشبابُ
وأوْغَلَ في الصَّعبِ فالأصعبِ
وعُذِّبَ بِالعلم طُلَّابُهُ
وغَصُّوا بِمنهَلِهِ الأعذَبِ
رمَتْهُم به شَهوات الحياةِ
وحبُّ النباهةِ والمَكسبِ
وزَهْو الأبُوَّةِ مِن مُنجبٍ
يُفاخِرُ مَن ليس بِالمُنجِبِ
تُؤلِّفُهم في ظِلالِ الرَّخاءِ
وفي كنَفِ النَّسبِ الأقرَبِ
وتَكسِرُ فيهم غُرورَ الثراءِ
وزَهْوَ الولادةِ والمَنصِبِ
بيوتٌ مُنزَّهةٌ كالعَتيقِ
وإن لم تُستَّرْ ولم تُحجَبِ
يُداني ثَراها ثَرى مَكَّةٍ
ويَقرُبُ في الطُّهرِ مِن يَثربِ
إذا ما رأيتَهُمُو حَولَها
يَمُوجون كالنَّحلِ عِند الرُّبِي
رأيتَ الحضارةَ في حِصْنها
هناك وفي جُندها الأغلَبِ
وبعد أن رَسَم لك في دِرامية باذخة دَور القدر في حياة الإنسان يصِل إلى نهاية
القصة:
وخدَّشَ ظفرُ الزَّمان الوُجُوهَ
وغَيَّضَ مِن بِشرِها المُعجبِ
وغالَ الحداثةَ شَرْخُ الشباب
ولو شِيَتِ المُردُ في الشُّيَّبِ
سَرى الشَّيبُ مُتَّئدًا في الرُّءوسِ
سُرى النارِ في المَوضِعِ المُعشِبِ
حريقٌ أحاطَ بِخَيطِ الحياة
تَعجَّبتُ كيف عليهم غَبِي
ومن تَظهَرُ النارُ في دَارِهِ
وفي زَرعِهِ مِنهم يُرعَبِ
حياةٌ يُغامِرُ فيها امرؤ
تَسلَّحَ بالنَّابِ والمِخلَبِ
وصارَ إلى الفاقَةِ ابنُ الغَنيِّ
ولاقى الغِنى وَلَدُ المُترِبِ
وقد ذهب المُمتَلي صِحَّةً
وصحَّ السَّقيمُ فلمْ يَذهَبِ
وكمْ مُنجبٍ في تلقِّي الدُّروسِ
تلَقَّى الحياةَ فلم يُنْجِبِ
وغابَ الرِّفاق كأنْ لم يَكُنْ
بِهم لكَ عهدٌ ولم تَصْحَبِ
إلى أنْ فَنَوا ثُلَّةً ثُلَّةً
فَناءَ السَّراب على السَّبْسَبِ