القصة في شعر امرئ القيس
وماذا علينا لو ضربْنا في أغوارِ الزمن البعيد ننظُر معًا، هل استطاعتِ الجاهلية أيضًا أن تُقدِّم شعرًا؟ وماذا عليها إنْ فعلت؟ فلا الجاهلية ولا الشُّعراء الذين جاءوا بعد الدِّين الحَنيف قَصَدوا أن يكتُبوا قصةً فيما يَنظُمون من شعر، بل إنَّ فكرة القصَّة لم تكن لتَرِدَ على أذهانهم جميعًا.
فلنُلْقِ نظرةً على بعضٍ من شعر امرئ القيس، ولعلَّ قصة امرئ القيس نفسها جديرة بأن تُروى؛ فهي من أمتع ما جاء به تاريخ الشعراء العرب. فأبو امرئ القيس هو حَجَر بن الحارث، وقد كان ملِكًا على بني أسدٍ وغَطفان، وكان امرؤ القيس يُحِبُّ أن يشرَب الخمر ويصحَبَ النساء ويقول الشعر. وكان أبوه يكرَهُ منه هذا جميعه ويَضيقُ به، حتى لقد أمرَ أحدَ أتباعِه آخِرَ الأمر أن يذهب به، فيذبَحه ويأتي له بِعَينَيه. ولكن التابِع كان أحْصَفَ مِن أن يُنفِّذَ أمر الملك. فترَكَ امرأ القَيس خبيئًا، وذبَحَ جُؤذرًا وجاء بعَينِهِ إلى الملِك، فندِمَ حَجَر على ذلك فبَشَّرَه التابِع أنه لم يقتُلْ ولدَه. فأمره بأن يأتِيَه به من فَورِه. فأتى به، وصفَحَ الأب، ولكن الابنَ ظلَّ على قولِ الشعر، وصُحبة النساء، وشُربِ الخمر، فأمر به أبوه وطُرِد. وعاش حياةً نَكِدَة، وقاسى الأهوال حتى قُتِلَ أبوه، ولم يَهبَّ أحدٌ من أبنائه الآخَرين لِينالَ الثأر. فوقَعَ الثأرُ على امرئ القيس، وقد قِيل إنه حين وَجدَ نفسه مُطالبًا بنَيل الثأر لأبيه، قال: «ضيَّعَني صغيرًا، وحمَّلَني دمَهُ كبيرًا. لأصحوَ اليوم، ولا سُكْر غدًا. اليوم خمر وغدًا أمر.» وآلى ألَّا يأكُلَ لحمًا، ولا يَشرَبَ خمرًا، ولا يَدَّهِنَ بِدُهن، ولا يُصيبَ امرأة، ولا يَغسِلَ رأسَهُ حتى يَقتُلَ من بني أسد — الذين قتلوا أباه — مائة.
وقد استطاع امرؤ القَيس أن يَنال ثأره، ولكنه قُتِلَ عن طريقٍ آخر، غير طريق الثأر؛ فقد قِيل إنه خرَج إلى أرض الرُّوم يطلُب الحِماية من القَيصر بوستنيانوس، ولكنه أحبَّ ابنتَه، وسمِع القيصر، فأجمَع أمرَه على قتلِه، فهرَب امرؤ القيس، ولكن تابِع القيصر أدرَكَه عند أنقرة، وقال له إن المَلِك كان يُريدُه ليُنعِم عليه بحُلَّةٍ جديدة، وقدَّمَ رسولُ القيصر الحُلَّةَ إلى امرئ القَيس فإذا هي مُسمَّمة، وكان الجوُّ حارًّا فساعَدَ العرَقُ السُّمَّ أن يَسري سريعًا، ومات امرؤ القيس.
ألستَ ترى في حكاية أمْرِ المَلِكِ أن يقتل ابنه، فيعدِل التابِع عن تنفيذ الأمر، مَلامح القصص الغربي العالمي، الذي جعل من هذه الواقعة أساسًا لكثيرٍ من الأعمال القصصية العالمية، بل من قصص الأطفال أيضًا؟ تُرى هل تكرَّرتِ القصة في حياة مُلوك الغرب، فاستلْهَمَها كُتَّاب القصة، أو هم نظروا إلى تاريخنا العربي واستَوحَوا منه؟ لا أدري.
بنا الآن إلى شِعر امرئ القيس نتتبَّع أثَرَ القصة فيه، وما أظنُّك ستنتَظِرُ من امرئ القيس قِصَّةً ذات بداية وعُقدة ونهاية؛ فهو أوَّلًا وأخيرًا لم يقصِدْ أن يَروى لك قصة، وإنما هو يحكي لك شيئًا مِمَّا وقع له، في أسلوبٍ قصصي. ونأتي في عصرِنا هذا لنَجِدَ فيما حكى أثرًا لفنِّ القصص، ونستخلِص أن هذا الفن جُزء من النفس الإنسانية، تُنشِئُهُ إنشاءً إن لم تكن تعرفه. وقد تطوَّر هذا الفن في الشعر العربي حتى أصبح قصصًا مُكتملًا في العصور التي تلتْ عصر امرئ القيس.
يقول امرؤ القيس:
وأعتقِد أنه لا بُدَّ لنا أن نُقدِّم هذه الألفاظ التي اعترضتْ طريقَنا ونحن نقرأ القصة، فالكلام لامرئ القيس، وليس بالهَيِّن أن تقرأ امرأ القيس ولا تتعثَّر في ألفاظه، أمَّا الثُّرُيَّا فهي نجم، ونضَّتِ الثوبَ خلَعَتْه، وأمَّا لبسة المُتفضِّل، فهي ما يُلبَسُ عند النوم، ولعلَّها مِن أجمل التعبيرات العربية، وأمَّا المرْطُ الذي يُجرجر فهو الثوب من الحرير والمرجَّل هو المُخطَّط، وانتحى معناها قَصَدَ، والقِفافُ ما خَشُنَ مِن الأرضِ وارتفع، وأمَّا العَقنقَلُ التي لا شكَّ صكَّتِ البصر، فهي الرمل الكثير المُنعقِد بعضه على بعض، ولعلَّك لاحظتَ معي أن جرسَ اللفظة العربية قريبٌ دائمًا ممَّا تؤديه من معنى، وفي هذَين اللفظين الأخيرين خَير دليل على ذلك. أمَّا المُهفهفة فهي ذات البطنِ الضامِر، ولعلَّها أيضًا تُذكِّرنا بجرسِ اللفظة ومعناها، والمُفاضَة هي ذات البطنِ الكبير، والترائب هي النَّحْر، وهو مَوضع القلائد، أمَّا السَّجنجَل فهي المرآة.
أين القصَّة إذن؟ إنه يروي عن مُغامرة غرامية له، وهو يُبالِغ في الوصف شأنَ الفنِّ الواقِعي الذي لم يظهر في الأدب إلَّا في القرن التاسِع عشر. وبطبيعة الحال لا تَنتظِر أن يكون واقعيًّا في الأحداث، إنما لا بُدَّ له أن يقول إنَّ المرأة مهما يكن من جمالها، فهي لا تستطيع أن تُقاوِم أسرَهُ وفِتنتَه. وأنتَ لا شكَّ تعرِف أن الأغلبية الكاثرة من الشِّعر العربي، كانت تكتسِب جمالها من مِقدار الكذِب الذي كان يُضفيه الشاعر على ما يَنظُمُه، وقد عاشت الأجيال تستمتع بهذا الكذِب المَنظوم، بل إنها عاشتْ لا تقبلُهُ إلَّا منظومًا.