قصص قصيرة في شعر عُمر
إنَّ الناظر إلى شِعر عمر يجِد عنده مجموعة من القصص القصيرة المُمتعة، ومعروف أنه يَجمُل بالقصة القصيرة أن تكون قليلة الأشخاص، مُتَّحِدة في الزمن، أي لا يتباعَد الزمن بين أطرافها، ويَجمُل بها أن تُركِّز تركيزًا يُوشِك أن يكون كاملًا على الوَمْضة التي لمعَتْ في ذِهن الكاتب. لننظُر معًا هل فيما وقعتُ عليه من القصص القصيرة عند عُمر بن أبي ربيعة مثل هذا؟
يُقال إنَّ عمر حين عَلتْ به السنُّ أقسمَ لا يقول بيتًا من الشعر إلَّا أطلقَ جاريةً من جواريه. وفي يومٍ وجَدَ حبيبَين يَتناجَيان فسألَهُما: لماذا لا تتزوَّجان؟ فقال الشابُّ: إن أبا الفتاة يطلُبُ مَهرًا كبيرًا، فقال عمر: بنا إليه. ودفع مهر الفتاة، وتزوَّج الحبيبان، وأحسَّ عمر بالشِّعر يَثور به، فتوزَّعتْ نفسُه بين أن يقول فيحنَثُ بالقَسَم وبين أن يكتُم هذا المِرجَل الذي يَغلي في صدره.
ورأتْ جاريتُهُ المُقرَّبة ما هو فيه من حيرة، فسألته عمَّا به، فلم يُطِق صبرًا وانفجَرَ بالشِّعر:
وأطلقَ تِسعَ جوارٍ. لقد كان يُريد أن يعيش للفن، بل إنني أحسَبُ أنه ما أحبَّ ولا غامَرَ إلَّا ليقول الشعر.
تُراك هل لاحظتَ القُرشيَّ الأصيل يعفُّ عن أن يَذكُر ما قدَّمه من المال إلى العاشِقين.
وإنما يذكُر هذه النَّبضاتِ التي تَذكَّر بها بعضَ زمانه، ثم هذا البيت الذي ما زال صَداهُ يرنُّ في سمْعِ الأجيال حتى اليوم:
معي إذًا إلى قصةٍ أخرى، وهي لا تحتاج إلى مُقدِّمات:
وتستطع أن ترى في هذه الأبيات صورةً من أوضح الصور للقصة الحِوارية، فلقد سرَدتِ الأبيات مَوقِفَهُ الذي تأخُذُه عليه حبيبتُهُ وغَضبها ثم حُبَّها، فهي قائلةٌ له إنَّ الأرض واسِعةٌ وبها مَناديح كثيرة سواه، ولكنها لا تُحبُّ من الأرض، ومن هذه المنادِيح إلَّا هو، ويَعطِف هو على هوى حَبيبتِهِ.
ولا أستطيع أن أترُك عُمر بن أبي ربيعة، ولا أذكُر قصيدته الرائعة التي يتعلَّق بها — فيما يروي الرواة — حدَثٌ من أهمِّ الأحداث في حياة الدولة العبَّاسية، وما إخالك إلَّا عرفتَ الأبيات:
أليستْ هذه مجموعة قصص كاملة؛ قصة الغيرة بين الفتيات، وقصة الحب ونشأته؟ أتُراك لاحظتَ ما يقوله عن صِلته بأهلها؟ ألا تَرى مثل هذا في حياتنا العادية حين يُحاول الفتى أن يتقرَّب من فتاة، فيخلُق صِلاتٍ بينهما قديمة، ويقول لها إن أهله وأهلها شيء واحد؟! ثم أترى إلى قرير الشاعر وكيف يذكُر أن حبيبته تَستعين عليه بالسِّحر، وهو سعيدٌ بِسِحرها هذا، ثُمَّ البيت الأخير الذي يُشبِهُ قصة صاحِب المَطعم الذي علق لافتة تقول: من يأكل اليوم ويدفع يأكل غدًا مجَّانًا، وترك اللافتة معلقةً فلم يأتِ هذا الغد أبدًا. كلَّما قلتُ متى مِيعادُنا ضحكت هندٌ وقالت بعد غد.
أمَّا ما قيل عن أثَر هذه القصيدة في التاريخ فإنه يُروى أن إسحاق المَوصِلي غنَّى أمام هارون الرشيد: «واستبدَّتْ مرةً واحدة، إنما العاجِزُ من لا يَستبد». وظلَّ يطرَبُ فيها ويُعيدُ ويَزيد، ثُمَّ يُروى أنَّ الرشيد ظلَّ يُردِّد «إنما العاجِزُ من لا يستبِد» حتى أنزلَ بالبرامكة ما أنزله.
أليس عجيبًا أن يكون هذا الشِّعر الرقيقُ الغَزِل العذْبُ سببًا في نكبة؟ ولكن الناس لا يستطيعون في شرِّهم أن يَنأوا عن مواطن الجمال في الحياة، فإذا هُمْ يجعلون منها ظُلمًا واستبدادًا، علم الله لو كان عُمر يدري أنه يقول هذا الشطر لِغَير الفن والجمال ما قاله، فما قصَدَ استبداد الكارِهِ بل استبداد المُحب، وما قصد استبداد الرشيد، بل استبداد هند.