القصة في شعر عنترة
إنَّ عنترة بن شدَّاد كان يعيش مأساة، هي حبُّهُ لعبلة، لا يَجرؤ أن يتقدَّم للزَّواج منها، حتى ظهر شأنُه فأظهر حُبَّه، وظلَّ وفيًّا على هذا الحبِّ ما امتدَّتْ به الحياة.
وقبلَ أن نعرِضَ للقصة في شِعر عنترة لا بُدَّ لنا أن نتعرَّف على لونٍ من القصة القصيرة وهي تحبو إلى مكانتها في عالم الأدب.
تلك هي القصة الوصفيَّة التي تَعتمِد على تقديم الصورة الفنية دُون كبيرِ عِنايةٍ بالتمهيد والعُقدة والحل، وقد طالَعَنا الأدبُ العربي والغربيُّ على السواء بنماذجَ شتَّى من هذا النوع من القصص.
فإذا قرأنا معًا بعضًا من شِعر عنترةَ وجدناهُ غنيًّا بهذا اللون. والعجيب أننا نجِد نفس هذا القصص عند المُتنبي، مع الفارق الزمني الضخم الذي يفصل بين الشاعرين.
وظاهرة أُخرى غريبة عند عنترة، هي أننا نجِد شِعره سهلًا قريبَ المنال، الأمر الذي نفتقِدُه فلا نجِده عند شُعراء مُتأخِّرين عنه كثيرًا مثل الشاعر العِملاق أبي تمام، والآخَر الشهير ابن هانئ الأندلسي. فمن أين تأتَّتْ هذه السهولة لعنترة، وهو ابن الجاهلية؟ ما أحسَب إلَّا أنه كان شاعرًا مَطبوعًا لا يبحثُ عن الغريب، فقد كانت الألفاظ الشعرية بين يدَيهِ هي التي تؤدِّي المعنى الذي يُريد من أقرب طريق.
عَودًا إلى مأساةِ عنترة والقصة الوصفية في شعره:
ألمحُ ظلَّ ابتسامةٍ على شفتيك. أتِلك هي السُّهولة؟ والواقِع أنها بالنسبة لعنترة سهلة. ثم ابتعَدَ عَنَّا استعمالها، فصارتْ إلى ما صارتْ إليه من صعوبة. ولا بأسَ عليه إنْ ألغَزَ في بيت، فلو قد نظرتَ إلى الأبيات السابقة لتبيَّنتَ مدى السهولة عنده على أيَّةِ حال، فالشَّدْنِيَّة مَوضِعٌ باليمن يُعرَف بالإبل الجيدة. والهمَلَّقة الخفيفة السريعة، والهَمْلَجَةُ السرعة في تبختُر. ونواصل السَّير مع الصورة:
آنَ لي أن أبتسِم أنا. أرأيتَ هذه الأوصاف الأخيرة وتلاحُقَها وليس بينها كلمة إلَّا سمعناها من الشعراء المُحدثين؟ وقبل هذا، أرأيتَ هذه الصورة الوصفية للورود والأزهار وحنينِهِ إلى عبيلة يُمازحها هناك وتُمازِحُه؟ ولعلَّ أروعَ ما قدَّمه عنترة إلى الشعر العربي عامَّةً وإلى الشعر القصصي خاصَّةً مُعلَّقتُهُ الشهيرة التي يبدؤها ببيتٍ ما زلتُ أذهل كلما فكرتُ فيه:
كيف لم يُغادِر الشعراء من مُتردَّم وهو بعدُ في الجاهلية؟ فماذا نقول نحن بعد ألفي عامٍ من مُعلَّقته؟ إذا كان عنترة يقول إن الشعراء لم يتركوا شيئًا لأحد يقوله، فماذا يفعل المُشتغلون بالفنِّ الأدبي بعد ألفي عام؟ ظلَّ الشعراء وقد انضمَّ إليهم الناثِرون والروائيُّون والقصَّاصون يقولون ولا ينقطِعون عن القول. ألستَ ترى معي أن المُهمَّ في العمل الفني لم يُصبِحِ المعنى؟!
فلنقرأ معًا بعضًا من هذه القصيدة الرائعة:
•••
قصة وصفية جاهلية كاملة هذه الأبيات الثلاثة، وامضِ معي قليلًا:
أرأيتَ قصة هذا الحصان، ورأيتَ هذه اللَّمحة العبقرية: لو كان يدري ما المُحاورة اشتكى، ثم أرأيتَ أسَفَه وسُقمَهُ من أجل حصانه الذي لم يَشفِهِ إلَّا قَيلُ الفوارس، وَيك عَنترة أقدم؟
قصة كاملة النَّبض، كاملة الأحداث، أخَّاذة الوصف.