القصة في شعر ابن الرومي
كان ابن الرومي أهجى شُعراء عصره، وكان لا يقِف به شيء، حتى لقد كان يَتطاوَل على الجميع. وكان في عصره وزير قاسٍ هو أبو الحسن القاسم بن عبيد الله، وكان هذا الوزير معروفًا ببطشِه وجَبروته. ولكن هذا البطش وذلك الجبروت لم يَمنعا ابن الرومي من هِجائه، فهجاهُ وأبى الوزير أن يُفلِته دون عقاب، وعقاب الوزير لا يَجوز أن يَقلَّ عن القتل؛ فهو يدسُّ إليه أحد أعوانِهِ فيدعُوه في مجلس الوزير إلى طعام، ويُقدِّم إليه الطعام مَسمومًا، ويُحسُّ ابن الرومي بالسُّمِّ يَسري في جسمه فيهمُّ بالقيام، فيقول الوزير مُتشفِّيًا: إلى أين تذهب؟ فيقول ابن الرومي: «ما طريقي عليَّ حار.» ويخرُج لينتظِر المَوت في منزله، وما هي إلَّا أيام حتى يُوافيه. ولابن الرُّومي قصص في شِعره كثير، وغالبًا ما يُنهيها بِحِكمة. وهذه القصص فيها القصص القصيرة كلَّ القِصر، ومنها القصص التي تَطول وتجمُل في طولها غاية الجمال. ومن قِصصه القصيرة المُعجزة قصته عن شَعرتَين بيضاوَين. ولابن الرُّومي أحاديثُ كثيرة عن الشَّيب، ولكن لعلَّ هذه الأبيات من أجمل ما قال، فهي تكون قصة فيها الومْضةُ السريعة واللفتة الذِّهنية الذكية، وفيها أيضًا الحِكمة التي يُحبُّ ابن الرومي أن يُنهي بها قِصصه القصيرة وكأنَّهُ كان ينظُر إلى مَطالِع القصة في بواكيرها الأولى. يقول:
ويروي لك في قصة قصيرة أخرى ما وقَع له مع العِمامة:
وننتقِل من هذه القصص البالِغة القِصَر التي نرى مِثلها في عالم القصص اليوم مُنتشِرة على صفحات الجرائد، وكأنِّي بكُتَّابها أعجِبوا بهذه الآثار لابن الرومي، ولو أني أشكُّ في ذلك شكًّا يكادُ يبلُغُ درجة اليقين، فكُتَّاب القصة اليوم في أغلبِ أمرِهم لا ينظُرون إلى تُراثِهم العربي، ويأنَفون أن يَنسِبوا أدبَهم إليه لأنهم يَخشَون أن يُتَّهموا بالرجعية، فالتقدُّمية عندهم هي البُعد عن الأدب العربي والتُّراث العربي، وإني لأعجَبُ ماذا يَبقى لهم إن هم فعلوا! لا علينا، بين يدي قصة لابن الرومي كامِلة لا أشكُّ في أنه قصَدَ بكتابتها أن تكون قصة، بل هو يُنهيها كما تنتهي القصة الحديثة دُون أن يُقدِّم إليك حِكمة أو مَوعظة، فهي قصة تُنسَب إلى مذهب الفن للفن، يقول:
قِصَّةٌ كامِلة كما ترى، أشبَهُ ما تكون بقصص المُراهِقين الذين يَدلُّون على رِفاقِهم بأنَّ مَن يُحبُّون لا يَطعَمونَ النوم من شدَّةِ الحب، فإذا عرفتَ أنَّ ابن الرومي لم يكن جميلًا ولا وَضيئًا ولا حتى أنيقًا، أدركتَ أن القصة جميعها تُمثِّلُ أحلام المُراهقة، ومن هنا تُحسُّ فيها بنبْضَةِ الصِّدْق.
فالصِّدقُ الفنيُّ شيء آخَرُ غَير الصدق الأخلاقي، فإن الرغبة الضَّعيفة التي تَثُور في نفس الفنان، فيُعبِّر عنها في عملٍ فني تُصبِحُ صادِقَةً لأنها تُعبِّر عن حالة نفسية صادقة، ولا شأن لي إذا كان ما يرويه الفنان وقعَ حقًّا أو لم يقَع. وهكذا نجِد أنَّ ابن الرومي قد أفرَغ في هذه القصيدة كلَّ ما كان يتمنَّاه ولا يستطيع أن يصِل إليه؛ فتاتُه واقِفةٌ تَستقبِله في مَوكبٍ من فتيات أُخرَيات، وهي لا تتحدَّثُ إلَّا عن أمَلِها أن يرِقَّ ابن الرومي لما بها وهي تقول له: ألا ترعى الله في طول هِجرتي واجتنابي؟ ولا ينسى ابن الرومي أيضًا أن يرسُم نفسه في صُورةِ البطَل الصِّنديد، فتجشَّمتُ نَحوَها الهَول والحرَّاس قد هوَّمُوا على الأبواب. ولا ينسى أن يُومئ إلينا أنَّها كريمة المَنبَت، عريقة المَحتِد، من دونها يقِف الحرَّاس على الأبواب.
كلُّ هذه آمال ساقَها لنا ابن الرومي في هذه القصة الشعرية الرائعة. ترى هل نظَرَ ابن الرومي إلى عمر بن أبي ربيعة في قصيدته «أمِن آل نُعم»، لا عليه إن فعل، فالفنُّ أداء، والمَعاني قال عنها عنترة: